24- يا أيها الذين صدَّقوا بالحق وأذعنوا له ، أجيبوا الله في اتجاه قلبي إلى ما يأمركم به ، وأجيبوا الرسول في تبليغه ما يأمر به الله إذا دعاكم إلى أوامر الله بالأحكام التي فيها حياة أجسامكم وأرواحكم وعقولكم وقلوبكم ، واعلموا علم اليقين أن الله تعالى قائم على قلوبكم ، يوجهها كما يشاء فيحول بينكم وبين قلوبكم إذا أقبل عليها الهوى ، فهو منقذكم منه إن اتجهتم إلى الطريق المستقيم ، وإنكم جميعاً ستجمعون يوم القيامة فيكون الجزاء .
ثم وجه - سبحانه - إلى المؤمنين نداء ثالثا أمرهم فيه بالاستجابة لتعاليمه ، وحذرهم من الأقوال والأعمال التي تكون سبباً في عذابهم ، وذكرهم بجانب من منته عليهم ، فقال - تعالى - : { ياأيها الذين . . . لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
قال القرطبى : قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ . . } هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف ، والاستجابة :
وداع داع يا من يجيب إنى الندى . . . فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وكان الإِمام القرطبى يرى أن السين والتاء في قوله : " استجيبوا " زائدتان .
ولعل الأحسن من ذلك أن تكون السين والتاء للطلب ، لأن الاستجابة هى الإِجابة بنشاط وحسن استعداد .
وقوله { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي لما يصلحكم من أعمال البر والخير والطاعة ، التي توصلكم متى تمسكتم بها إلى الحياة الكريمة الطيبة في الدنيا ، وإلى السعادة التي ليس بعدها سعادة في الآخرة .
وهذا المعنى الذي ذكرناه لقوله { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أدق مما ذكره بعضهم من أن المراد بما يحييهم القرآن ، أو الجهاد ، أو العلم . . إلخ .
وذلك ، لأن أعمال البر والخير والطاعة تشمل كل هذا .
والمعنى : { ياأيها الذين آمَنُواْ } بالله حق الإِيمان ، { استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ } عن طواعية واختيار ، ونشاط وحسن استعداد { إِذَا دَعَاكُم } الرسول - صلى الله عليه وسلم - { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أى : إلى ما يصلح أحوالكم ، ويرفع درجاتكم ، من الأقوال النافعة ، والأعمال الحسنة ، التي بالتمسك بها تحيون حياة طيبة : وتظفرون بالسعادتين : الدنيوية والأخروية .
والضمير في قوله { دَعَاكُم } يعود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله ، ولأن في الاستجابة له استجابة لله - تعالى - .
قال - سبحانه - : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } وقوله : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } تحذير لهم من الغفلة عن ذكر الله ، وبعث لهم على مواصلة الطاعة له - سبحانه -يَحُولُ .
وقوله : { يَحُولُ } من الحول بين الشئ والشئ ، بمعنى الحجز والفصل بينهما .
قال الراغب : أصل الحول تغير الشئ وانفصاله عن غيره ، وباعتبار التغير قيل حال الشئ يحول حولا واستحال تهيأ لأن يحول : وباعتبار الانفصال فيل حال بينى وبينك كذا أي فصل . .
هذا ، وللمفسرين في معنى هذه الجملة الكريمة أقوال متعددة أهمها قولان :
أما القول الأول فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه - كما يقول ابن جرير - : أنه - سبحانه - أملك لقلوب عباده منهم وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء ، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك شيئا من إيمان أو كفر ، أو أن يعى به شيئا ، أو أن يفهم إلا بإذنه ومشيئته ، وذلك أن الحول بين الشئ والشئ إما هو الحجز بينهما ، وإذا حجز - جل ثناؤه - بين عبد وقلبه في شئ أن يدركه أو يفهمه ، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيل ، وإذا كان ذلك معناه دخل في ذلك قول من قال : يحول بين المؤمن والكفر ، وبين الكافر والإِيمان .
وقول من قال : يحول بينه وبين عقله . وقول من قال : يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه . . فالخبر على العموم حتى يخصصه ما يجب التسليم له .
وقد رجح ابن جرير هذا القول بعد أن ذكر قبله بعض الأقوال الأخرى .
وقال ابن كثير - بعد أن لخص القول الذي رجحه ابن جرير - : وقد وردت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله علي وسلم - يقول : " إن قلوب بنى آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يصرفها كيف شاء " ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك " .
وروى : الإِمام أحمد والنسائى وابن ماجه عن النواس بن سمعان الكلابى قال : سمعت النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه " .
أما القول الثانى فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه - كما يقول الزمخشرى - " أنه - سبحانه - يميت المرء فتفوته الفرصة التي هى واجدها ، وهى التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ، ورده سليما كما يريده الله ، فاغتنموا هذه الفرصة ، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله .
أو - كما يقول الفخر الرازى - بعبارة أوضح : " أن المراد أنه - تعالى - يحول بين المرء وبين ما يتماه ويريده بقلبه ، فإن الأجل يحول دون الأمل . فكأنه قال : بادروا إلى الأعمال . الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء ، فإن ذلك غير موثوق به ، وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأمانى الحاصلة في القلب ، لأن تسمية الشئ باسم ظرفه جائزة كقولهم : سال الوادى .
والذى نراه أن القول الثانى أولى بالقبول ، لأن الآية الكريمة ساقته لحض المؤمنين على سرعة الاستجابة للحق الذي دعاهم إليه رسوله صلى الله عليه وسلم والذى باتباعه يحيون حياة طيبة ، وتذكيرهم بيوم الحساب وما فيه من ثواب وعقاب ، كما قال - تعالى - في ختامها { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
وليست مسوقة لإِثبات قدرة الله ، وأنه أملك لقلوب عباده منهم : وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء .
فالمعنى الذي ذكره ابن جرير - وتابعه عليه ابن كثير وغيره ، معنى وجيه في ذاته ، إذ لا ينكر أحد أن الله مقلب القلوب ومالكها . . ولكن ليس مناسبا هنا مناسبة المعنى الذي ذكره الزمخشرى والرازى . لأن الآية الكريمة التي معنا والتى بعدها صريحتان في دعوة المؤمنين إلى الاستجابة للحق قبل أن يفاجئهم الموت ، وقبل أن تحل بهم مصيبة لا تصيب الظالمين منهم خاصة .
والمعنى الإِجمال للآية الكريمة { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ } بعزيمة صادقة ، وسرعة فائقة ، { إِذَا دَعَاكُم } الرسول - صلى الله عليه وسلم - { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي لما به تحيون حياة طيبة من الأقوال والأعمال الصالحة { وَاعْلَمُواْ } علما يقينا { أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } أي يحول بين المرء وبين ما يتمناه قلبه من شهوات الدنيا ومتعها : فكم من إنسان يؤمل أنه سيفعل كذا غدا ، وسيجمع كذا غدا ، وسيجمع كذا في المستقبل ، وسيحصل على كذا قريبا . . ثم يحول الموت ويفصل بينه وبين آماله وأمانيه . . فبادروا إلى اغتنام الأعمال الصالحة من قبل أن يفاجئكم الموت .
وقوله : { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } تذييل قصد به تذكيرهم بأهوال يوم القيامة . والضمير في قوله { وَأَنَّهُ } يعود إلى الله تعالى - أو هو ضمير الشأن . أى : وأنه - سبحانه - إليه وحده ترجعون لا إلى غيره ، فيحاسبكم على ما قدمتم وما أختم ، ويجاز كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد جمعت بين الترغيب . في العمل الصالح بسرعة ونشاط ، وبين الترهيب من التكاسل والغفلة عن طاعة الله .
قال البخاري : { اسْتَجِيبُوا } أجيبوا ، { لِمَا يُحْيِيكُمْ } لما يصلحكم . حدثنا إسحاق ، حدثنا روح ، حدثنا شعبة ، عن خبيب{[12792]} بن عبد الرحمن قال : سمعت حفص بن عاصم يحدث عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي ، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاني فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته فقال : " ما منعك أن تأتيني ؟ " ألم يقل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } ثم قال : " لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج " ، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج ، فذكرت له - وقال معاذ : حدثنا شعبة ، عن خُبَيْب{[12793]} بن عبد الرحمن ، سمع حفص بن عاصم ، سمع أبا سعيد رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا - وقال : " هي { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } السبع المثاني " {[12794]}
هذا لفظه بحروفه ، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث بذكر طرقه في أول تفسير الفاتحة .
وقال مجاهد في قوله : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } قال : الحق .
وقال قتادة { لِمَا يُحْيِيكُمْ } قال : هو هذا القرآن ، فيه النجاة والتقاة{[12795]} والحياة .
وقال السُّدِّيّ : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } ففي الإسلام إحياؤهم بعد موتهم بالكفر .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عُرْوَةَ بن الزبير : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي : للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل ، وقواكم بها بعد الضعف ، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم .
وقوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } قال ابن عباس : يحول بين المؤمن وبين الكفر ، وبين الكافر وبين الإيمان .
رواه الحاكم في مستدركه موقوفا ، وقال : صحيح ولم يخرجاه{[12796]} ورواه ابن مَرْدُوَيه من وجه آخر مرفوعا{[12797]} ولا يصح لضعف إسناده ، والموقوف أصح . وكذا قال مجاهد ، وسعيد ، وعكرمة ، والضحاك ، وأبو صالح ، وعطية ، ومُقَاتِل بن حيَّان ، والسُّدِّيّ .
وفي رواية عن مجاهد في قوله : { يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } حتى تركه لا يعقل .
وقال السدي : يحول بين الإنسان وقلبه ، فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه .
وقال قتادة هو كقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] .
وقد وردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يناسب هذه الآية .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : " يا مُقَلِّب القلوب ، ثبت قلبي على دينك " . قال : فقلنا : يا رسول الله ، آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ قال{[12798]} نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها " .
وهكذا رواه الترمذي في " كتاب القدر " من جامعه ، عن هناد بن السري ، عن أبي معاوية محمد بن حازم الضرير ، عن الأعمش - واسمه سليمان بن مهران - عن أبي سفيان - واسمه طلحة بن نافع - عن أنس{[12799]} ثم قال : حسن . وهكذا روي عن غير واحد عن الأعمش ، رواه بعضهم عنه ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحديث أبي سفيان عن أنس أصح{[12800]}
حديث آخر : قال عبد بن حميد{[12801]} في مسنده : حدثنا عبد الملك بن عمرو ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى ، عن بلال ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو : " يا مُقَلِّب القلوب ثَبِّت قلبي على دينك " .
هذا حديث جيد الإسناد إلا أن فيه انقطاعا وهو - مع ذلك - على شرط أهل السنن ولم يخرجوه{[12802]}
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم قال : سمعت ابن جابر يقول : حدثني بسر بن عبد الله{[12803]} الحضرمي : أنه سمع أبا إدريس الخولاني يقول : سمعت النواس بن سَمْعَان الكلابي ، رضي الله عنه ، يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه " . وكان يقول : " يا مقلب القلوب ، ثبت قلوبنا{[12804]} على دينك " . قال : " والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه " .
وهكذا رواه النسائي وابن ماجه ، من حديث عبد الرحمن بن يزيد{[12805]} بن جابر{[12806]} فذكر مثله .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا حماد بن زيد ، عن المعلى بن زياد ، عن الحسن ؛ أن عائشة قالت : دعوات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بها : " يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك " . قالت : فقلت : يا رسول الله ، إنك تكثر{[12807]} تدعو بهذا الدعاء . فقال : " إن قلب الآدمي بين إصبعين{[12808]} من أصابع الله ، فإذا شاء أزاغه{[12809]} وإذا شاء أقامه{[12810]} {[12811]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا عبد الحميد ، حدثني شهر ، سمعت أم سلمة تحدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه يقول : " اللهم يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك " . قالت : فقلت{[12812]} يا رسول الله ، أو إن القلوب لتقلب{[12813]} ؟ قال : " نعم ، ما{[12814]} خلق الله من بشر من بني آدم إلا أن قلبه بين إصبعين من أصابع الله ، عز وجل ، فإن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه . فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب " . قالت : قلت : يا رسول الله ، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال : " بلى ، قولي : اللهم رب النبي محمد ، اغفر لي ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي ، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني " {[12815]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا حيوة ، أخبرني أبو هانئ ، أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبَلي{[12816]} أنه سمع عبد الله بن عمرو ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ، كقلب واحد يُصَرِّف{[12817]} كيف شاء{[12818]} . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم مُصَرِّف القلوب ، صَرِّف قلوبنا إلى طاعتك " .
انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري ، فرواه مع النسائي من حديث حَيْوَة بن شُرَيْح المصري ، به . {[12819]}
{ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } بالطاعة . { إذا دعاكم } وحد الضمير فيه لما سبق ولان دعوة الله تسمع من الرسول . وروي أنه عليه الصلاة والسلام مر على أبي وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال : ما منعك عن إجابتي قال : كنت أصلي ، قال : " ألم تخبر فيما أوحي إلي " { استجيبوا لله وللرسول } . واختلف فيه فقيل هذا لأن إجابته لا تقطع الصلاة فإن الصلاة أيضا إجابة . وقيل لأن دعاءه كان لأمر لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله وظاهر الحديث يناسب الأول . { لما يحييكم } من العلوم الدينية فإنها حياة القلب والجهل موته . قال :
لا تعجبن الجهول حلّته *** فذاك ميتٌ وثوبه كفن
أو مما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد والأعمال ، أو من الجهاد فإنه سبب بقائكم إذ لو تركوه لغلبهم العدو وقتلهم ، أو الشهادة لقوله تعالى : { بل أحياء عند ربهم يرزقون } . { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله تعالى : { ونحن اقرب إليه من حبل الوريد } وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب مما عسى يغفل عنه صاحبها ، أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره ، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويحول بينه وبين الكفر إن أراد سعادته ، وبينه وبين الإيمان إن قضى شقاوته . وقرئ " بين المرِّ " بالتشديد على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الراء وإجراء الوصل الوقف على لغة من يشدد فيه . { وأنه إليه تحشرون } فيجازيكم بأعمالكم .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } الآية ، هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف ، و { استجيبوا } بمعنى أجيبوا ، ولكن عرف الكلام أن يتعدى استجاب بلام ويتعدى أجاب دوم لام ، وقد يجيء تعدي استجاب بغير لام والشاهد قول الشاعر : [ الطويل ]
وداعٍ دعا يا من يجيبُ إلى النِّدا*** فلم يستجبْه عند ذاك مجيب{[5275]}
وقوله { لما يحييكم } قال مجاهد والجمهور : المعنى للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواه ، وهذا إحياء مستعار لأنه من موت الكفر والجهل ، وقيل الإسلام وهذا نحو الأول ويضعف من جهة أن من آمن لا يقال له ادخل في الإسلام ، وقيل { لما يحييكم } معناه للحرب وجهاد العدو وهو يحي بالعزة والغلبة والظفر ، فسمي ذلك حياة كما تقول حييت حال فلان إذا ارتفعت ، ويحيي أيضاً كما يحيي الإسلام والطاعة وغير ذلك بأنه يؤدي إلى الحياة الدائمة في الآخرة ، وقال النقاش : المراد إذا دعاكم للشهادة .
قال القاضي أبو محمد : فهذه صلة حياة الدنيا بحياة الآخرة ، وقوله { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } يحتمل وجوهاً ، ومنها أنه لما أمرهم بالاستجابة في الطاعة حضهم على المبادرة والاستعجال فقال : { واعلموا أن الله يحول بين المراء وقلبه } بالموت والقبض أي فبادروا بالطاعات ، ويلتئم مع هذا التأويل قوله { وأنه إليه تحشرون } ، أي فبادروا الطاعات وتزودوها ليوم الحشر ، ومنها أن يقصد بقوله { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } إعلامهم أن قدرة الله وإحاطته وعلمه والجة بين المرء وقلبه حاصلة هناك حائلة بينه وبين قلبه .
قال القاضي أبو محمد : فكأن هذا المعنى يحض على المراقبة والخوف لله المطلع على الضمائر ، ويشبه على هذا التأويل هذا المعنى قوله تعالى : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }{[5276]} ، حكي هذا التأويل عن قتادة ، ويحتمل أن يريد تخويفهم إن لم يمتثلوا الطاعات ويستجيبوا لله وللرسول بما حل بالكفار الذين أرادهم بقوله { ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } ، لأن حتمه عليهم بأنهم لو سمعوا وفهموا لم ينتفعوا يقتضي أنه قد كان حال بينهم وبين قلوبهم ، فكأنه قال للمؤمنين في هذه الأخرى استجيبوا لله وللرسول ولا تأمنوا إن تفعلوا أن ينزل بكم ما نزل بالكفار من الحول بينهم وبين قلوبهم ، فنبه على ما جرى على الكفار بأبلغ عبارة وأعلقها بالنفس ، ومنها أن يكون المعنى ترجية لهم بأن الله يبدل الخوف الذي في قلوبهم من كثرة العدو فيجعله جرأة وقوة وبضد ذلك الكفار فإن الله هو مقلّب القلوب كما كان قسم النبي صلى الله عليه وسلم{[5277]} ، قال بعض الناس ومنه لا حول ولا قوة إلا بالله أي لا حول على معصية ولا قوى على طاعة إلا بالله ، وقال المفسرون في ذلك أقوالاً هي أجنبية من ألفاظ الآية حكاها الطبري ، منها أن الله يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان ونحو هذا{[5278]} ، وقرأ ابن أبي إسحاق «بين المِرء » بكسر الميم ذكره أبو حاتم ، قال أبو الفتح : وقرأ الحسن والزبيدي{[5279]} «بين المَرِّ » بفتح الميم وشد الراء المكسورة{[5280]} .
و { تحشرون } أي تبعثون يوم القيامة ، وروي عن طريق مالك بن أنس والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أبيّ بن كعب وهو في الصلاة فلم يجب وأسرع في بقية صلاته ، فلما جاءه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما سمعت فيما يوحى إلي { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } فقال أبيّ : لا جرم يا رسول الله لا تدعوني أبداً إلا أجبتك ، الحديث بطوله واختلاف ألفاظه{[5281]} ، وفي البخاري ومسلم أن ذلك وقع مع أبي سعيد بن المعلى{[5282]} ، وروي أنه وقع نحوه مع حذيفة بن اليمان في غزوة الخندق .