180- وكما شرع الله القصاص لصلاح الأمة وحفظ المجتمع ، كذلك شرع الله شريعة فيها صلاح الأسرة وحفظ كيانها وهي شريعة الوصية ، فعلى من ظهرت أمامه إمارات الموت وعلم أنه ميت لا محالة ، وكان ذا مال يعتد به أن يجعل من ماله نصيباً لمن يدرك من والديه وأقاربه - الأقربين غير الوارثين - وليراع في ذلك ما يحسن ويقبل في عرف العقلاء فلا يعطى الغنى ويدع الفقير ، بل يؤثر ذوي الحاجة ولا يسوي إلا بين المتساوين في الفاقة ، وكان ذلك الفرض حقاً واجباً على من آثر التقوى واتبع أوامر الدين .
وبعد أن بين - سبحانه - ما يتعلق بالقصاص أتبعه بالحديث عن الوصية ، ليرشد الناس إلى ما ينبغي أن تكون عليه ، وليبطل ما كان من عوائد الجاهلية من وصايا جائرة فقال - تعالى - :
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت . . . }
قوله - تعالى - : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ } قد استفاض في عرض الشرع بمعنى وجب عليكم .
و " حضور الموت " يقع عند معاينة الإِنسان للموت ولعجزه في هذا الوقت عن الإِيصاء فسر بحضور أسبابه ، وظهور أماراته ، من نحو العلل المخوفة والهرم البالغ . وقد شاع عند العرب استعمال السبب كناية عن المسبب ، ومن ذلك قول شاعرهم :
يأيها الراكب المزجي مطيته . . . سائل بني أسد ما هذه الصوت
وقل لهم ادروا بالعذر والتمسوا . . . قولا يبرئكم إني أنا الموت
والخير : المال ، وقالوا إنه هنا مختص بالمال الكثير ، لأن مقام الوصية يشعر بذلك ، ولم يرد نص من الشارع في تقدير ما يسمى مالا كثيراً ، وإنما وردت آثار من بعض الصحابة والتابعين في تقديره بحسب اجتهادهم ، وبالنظر إلى ما يسمى بحسب العرف مالا كثيراً فقال بعضهم : من ألف درهم إلى خمسمائة درهم ، وقال بعضهم : من ألف درهم إلى ثمانمائة درهم . والحق أن هذا التقدير يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والعرف .
ويرى بعض العلماء أن الوصية مشروعة في المال قليلة وكثيرة .
قال القرطبي : والوصية عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة بعد الموت ، وخصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية . والوصي يكون الموصى والموصى إليه . وأصله من وصى مخففاً . وتواصيى النبت تواصياً إذا اتصل وأرض واصية : متصلة النبات . وأوصيت له بشيء . وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك . والاسم الوصاية والوصاية - بالفتح وبالكسر - وتواصي القوم : أوصى بعضهم بعضاً .
والمعنى : كتب عليكم أيها المؤمنون أنه إذا ظهرت على أحدكم أمارات الموت : من مرض ثقيل ، أو شيخوخة مضعفة ، وكان عنده مال كثير قد جمعه عن طريق حلال ، أن يوصي بجانب منه لوالديه وأقاربه رعاية لحقهم وحاجتهم ، وأن تكون وصيته لهم بالعدل الذي لا مضارة فيه بين الأقارب ، والوصية على هذا الوجه تعتبر حقاً واجباً على المتقين الذين اتخذوا التقوى والخشية من الله طريفاً لهم .
فالآية الكريمة استئناف لبيان الوصية بعد الحديث عن القصاص ، وفصل القرآن الحديث عن الوصية عن سابقه للإِشعار بأنه حكم مستقل جدير بالأهمية .
وقد جاء الحديث عن الوصية بتلك الطريقة الحكيمة ، لتغيير ما كان من عادات بعض أهل الجاهلية . فإنهم كانوا كثيراً مانعون القريب من الإِرث توهما منهم أنه يتمنى موت قريبة ليرثه ، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض فيؤدي ذلك إلى التباغض والتحاسد ، وربما فضلوا - أيضاً - الوصية لغير الأقارب للفخر والتباهي . فشرع الإِسلام لأتباعه ما يقوى الروابط ويمنع التحاسد والتعادي .
قال الجمل : وكتب فعل ماض مبني للمجهول ، وحذف الفاعل للعلم به وهو الله - تعالى - وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون الوصية ، أي : كتب عليكم الوصية ، وجاز تذكير الفعل لكون القائم مقام الفاعل مؤنثاً مجازياً ولوجود الفصل بينه وبين مرفوعه .
والثاني : أنه الإِيصاء المدلول عليه بقوله : " الوصية " للوالدين ، أي : كتب هو ، أي الإِيصاء .
والثالث : أنه الجار والمجرور ، وهذا يتجه على رأي الأخفش والكوفيين وعليه فيكون قوله : { عَلَيْكُمْ } في محل رفع ، ويكون في محل النصب على القولين الأولين وجواب كل من { إِذَا } و { إِن } محذوف . أي : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً فليوص .
والباء في قوله : { بالمعروف } للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال من الوصية .
والمراد بالمعروف هنا العدل الذي جاءت به الشريعة ، بأن لا يتجاوز بالوصية الثلث ، وأن لا يوصى للاغنياء ويترك الفقراء أو يوصي للقريب ويترك الأقرب مع أنه أشد فقراً ومسكنة .
وقوله : { حَقّاً } مصدر مؤكد للحدث الذي دل عليه { كُتِبَ } وعامله إما { كُتِبَ } أو فعل محذوف تقديره حق أي : حق ذلك حقاً .
وقوله : { عَلَى المتقين } صفة له . أي حقاً كائناً على المتقين .
وخص هذا الحق بالمتقين ترغيباً في الرضا به ، لأن ما كان من شأن المتقي فهو أمر نفيس جدير أن يتأسى به الناس ، ومن أهمله فقد حرم من الدخول في زمرتهم ، وخسر بذلك خسارة عظيمة .
قال بعض العلماء : وقد وردت هذه الآية في الوصية للوالدين والأقربين ، والمعروف عند الأمة منذ عهد السلف أن الوصية لا تصح لوارث ، والوالدان لهما نصيب مفروض في المواريث ومقتضاه عدم صحة الوصية لهما ؟
ويريزح هذا الإشكال من طريق التفسير أن فريقاً من أهل العمل وهم جمهور المفسرين ذهبوا إلى أن الآية قد نسخ منها حكم الوصية للوارث . وإيضاح وجه النسخ أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية فقامت مقامها في الوصية للوارث ودل على هذا المعنى صراحة الحديث الشريف وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله أعطى كل ذي حق حقه ، ألا لا وصية لوارث " .
وهذا الحديث وإن لم يبلغ مبلغ الحديث المتواتر الذي يصح نسخه للقرآن بنفسه ، فقد امتاز عن بقية أخبار الآحاد بأن الأمة تلقته بالقبول ، وأخذوا في العمل به من غير مخالف ، فأخذ بهذا قوة الحديث المتوار في الرواية واعتمدوا عليه في بيان أن آية المواريث قامت بتقدير الأنصباء في الميراث مقام آية { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت } في الوصية للوارث . وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين ، فنسخ الله من ذلك ما أحب ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس ، وجعل للمرأة الثمن والربع ، وللزوج الشطر الربع .
ومن أهل العلم من لم يستطيعوا أن يهملوا حديث " لا وصية لوارث " لاستفاضيته بين الأمة وتلقيهم له بالقبول ، فقرروا العمل به وأبطلوا الوصية لوارث ولكنهم ذهبوا مع هذا إلى أن آية الوصية للوالدين محكمة غير منسوخة وتأولوها على وجوه منها أن المراد من قوله : { لِلْوَالِدَيْنِ } الوالدان اللذان لا يرثان لمانع من الإِرث كالكفر والاسترقاق ، وقد كانوا حيثي عهد الإِسلام يسلم الرجل ولا يسلم أبواه وقد أوصى الله بالإِحسان إليهما .
ثم يجيء تشريع الوصية عند الموت . . والمناسبة في جوها وجو آيات القصاص حاضرة :
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت - إن ترك خيرا - الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين . فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه . إن الله سميع عليم . فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم . .
وهذه كذلك كانت فريضة . الوصية للوالدين والأقربين . إن كان سيترك وراءه خيرا . وفسر الخير بأنه الثروة . واختلف في المقدار الذي تجب عنده الوصية . والأرجح أنها مسألة اعتبارية بحسب العرف . فقال بعضهم لا يترك خيرا من يترك أقل من ستين دينارا ، وقيل ثمانين وقيل أربعمائة . وقيل ألف . . والمقدار الذي يعتبر ثروة تستحق الوصية لا شك يختلف من زمان إلى زمان ، ومن بيئة إلى بيئة .
وقد نزلت آيات المواريث بعد نزول آيات الوصية هذه . وحددت فيها أنصبة معينة للورثة ، وجعل الوالدان وارثين في جميع الحالات . ومن ثم لم تعد لهما وصية لأنه لا وصية لوارث . لقوله [ ص ] : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث " . أما الأقربون فقد بقي النص بالقياس إليهم على عمومه . فمن ورثته آيات الميراث فلا وصية له ؛ ومن لم يرث بقي نص الوصية هنا يشمله . . وهذا هو رأي بعض الصحابة والتابعين نأخذ به .
وحكمة الوصية لغير الورثة تتضح في الحالات التي توجب فيها صلة القرابة البر ببعض الأقارب ، على حين لا تورثهم آيات الميراث لأن غيرهم يحجبهم . وهي لون من الوان التكافل العائلي العام في خارج حدود الوراثة . ومن ثم ذكر المعروف وذكر التقوى :
( بالمعروف حقا على المتقين ) . .
فلا يظلم فيها الورثة ، ولا يهمل فيها غير الورثة ؛ ويتحرى التقوى في قصد واعتدال ، وفي بر وإفضال . . ومع هذا فقد حددت السنة نسبة الوصية ، فحصرتها في الثلث لا تتعداه والربع أفضل . كي لا يضار الوارث بغير الوارث . وقام الأمر على التشريع وعلى التقوى ، كما هي طبيعة التنظيمات الاجتماعية التي يحققها الإسلام في تناسق وسلام .
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( 180 )
وقوله تعالى : { كتب عليكم } الآية ، كأن الآية متصلة بقوله { يا أيها الذين آمنوا } فلذلك سقطت واو العطف( {[1630]} ) ، و { كتب } معناه فرض وأثبت ، وقال بعض أهل العلم : الوصية فرض ، وقال قوم : كانت فرضاً ونسخت ، وقال فريق : هي مندوب إليها ، و { كتب } عامل في رفع { الوصية } على المفعول الذي لم يسم فاعله في بعض التقديرات( {[1631]} ) ، وسقطت علامة التأنيث من { كتب } لطول الكلام فحسن سقوطها ، وقد حكى سيبويه : قام امرأة ، ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل ، ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل { الوصية } في { إذا } لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو { الوصية } ، وقد تقدمت فلا يجوز أن يعمل فيها متقدمة( {[1632]} ) ، ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون { كتب }( {[1633]} ) هو العامل في { إذا } والمعنى توجه إيجاب الله عليكم ومقتضى كتابه إذا حضر ، فعبر عن توجه الإيجاب ب { كتب } لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل ، و { الوصية } مفعول لم يسم فاعله ب { كتب } وجواب الشرطين { إذا } و { إن } مقدّر( {[1634]} ) ، يدل عليه ما تقدم من قوله { كتب عليكم } ، كما تقول شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا ، ويتجه في إعرابها أن يكون التقدير : كتب عليكم الإيصاء ، ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد هو العامل في { إذا } ، وترتفع { الوصية } بالابتداء وفيه جواب الشرطين( {[1635]} ) على نحو ما أنشد سيبويه : [ البسيط ]
مَنْ يَفْعَلِ الصَّالِحَاتِ اللَّهُ يَحْفظُهَا( {[1636]} ) . . . أو يكون رفعها بالابتداء بتقدير : فعليه الوصية ، أو بتقدير الفاء فقط ، كأنه قيل : فالوصية للوالدين ، ويتجه في إعرابها أن تكون { الوصية } مرتفعة ب { كتب } على المفعول الذي لم يسم فاعله ، وتكون { الوصية } هي العامل في { إذا } ، وهذا على مذهب أبي الحسن الأخفش فإنه يجيز أن يتقدم ما في الصلة الموصول بشرطين هما في هذه الآية ، أحدهما أن يكون الموصول ليس بموصول محض بل يشبه الموصول ، وذلك كالألف واللام حيث توصل( {[1637]} ) ، أو كالمصدر ، وهذا في الآية مصدر وهو { الوصية } ، والشرط الثاني أن يكون المتقدم ظرفاً فإن في الظرف يسهل الاتساع ، و { إذا } ظرف ، وهذا هو رأي أبي الحسن في قول الشاعر : [ الطويل ]
تَقُولُ وَصَكَّتْ وَجْهَهَا بِيَمِينِهَا . . . أبَعْلِيَ هذا بِالرَّحَا المُتَقَاعِس( {[1638]} )
فإنه يرى أن «بالرحا » متعلق بقوله المتقاعس ، كأنه قال : أبَعلي هذا المتقاعس بالرحا ، وجواب الشرطين في هذا القول كما ذكرناه في القول الأول ، وفي قوله تعالى { إذا حضر } مجاز لأن المعنى إذا تخوف وحضرت علاماته ، والخير في هذه الآية المال .
واختلف موجبوا الوصية في القدر الذي تجب منه( {[1639]} ) ، فقال الزهري وغيره : تجب فيما قل وفيما كثر ، وقال النخعي : تجب في خمسمائة درهم فصاعداً ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة : في ألف فصاعداً .
واختلف العلماء في هذه الآية ، فقال فريق : محكمة ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين ، وفي القرابة غير الوارثة( {[1640]} ) ، وقال ابن عباس والحسن وقتادة : الآية عامة( {[1641]} ) وتقرر الحكم بها برهة ونسخ منها كل من يرث بآية الفرائض ، وفي هذه العبارة يدخل قول ابن عباس والحسن وغيرهما إنه نسخ منها الوالدان وثبت الأقربون الذين لا يرثون ، وبين أن آية الفرائض في سورة النساء ناسخة ، لهذا الحديث المتواتر : «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث »( {[1642]} ) .
وقال ابن عمر وابن عباس أيضاً وابن زيد : الآية كلها منسوخة وبقيت الوصية ندباً ، ونحو هذا قول مالك رحمه الله ، وقال الربيع بن خثيم( {[1643]} ) وغيره : لا وصية لوارث ، وقال عزْوة( {[1644]} ) بن ثابت للربيع بن خثيم : أوصِ لي بمصحفك ، فنظر الربيع إلى ولده وقرأ : { وأولو الأرحام بعضَهم أولى ببعض في كتاب الله }( {[1645]} ) [ الأحزاب : 6 ] ، ونحو هذا صنع ابن عمر رضي الله عنه( {[1646]} ) .
وقال بعض أهل العلم : إن الناسخ لهذه الآية هي السنة المتواترة في الحديث المذكور قبل ، وقد تقدم توجيه نسخ السنة للكتاب في تفسير قوله تعالى { ما ننسخ من آية }( {[1647]} ) [ البقرة : 106 ] .
وقال قوم من العلماء : الوصية للقرابة أولى ، فإن كانت لأجنبي ، ولا تجوز لغيرهم مع تركهم .
وقال الناس حين مات أبو العالية( {[1648]} ) : عجباً له أعتقته امرأة من رياح وأوصى بماله لبني هاشم .
وقال الشعبي : «لم يكن ذلك له ولا كرامة » .
وقال طاوس : «إذا أوصى لغير قرابة ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله » وقاله جابر بن زيد .
وقال الحسن وجابر بن زيد أيضاً وعبد الملك بن يعلى : يبقى ثلث الوصية حيث جلعها ، ويرد ثلثاها إلى قرابته .
وقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء : الوصية ماضية حيث جعلها الميت ، والأقربون : جمع أقرب ، و { بالمعروف } معناه بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة ولا تنزير( {[1649]} ) للوصية ، و { حقاً } مصدر مؤكد( {[1650]} ) ، وخص المتقون بالذكر تشريفاً للرتبة ليتبادر الناس إليها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إذا حضر أحدكم الموت إن ترك}: بعد موته.
{الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف}: يعني تفضيل الوالدين على الأقربين في الوصية، وليوص للأقربين بالمعروف، والذين لا يرثون.
{حقا على المتقين}: فمن لم يوص لقرابته عند موته، فقد ختم عمله بالمعصية. ثم نزلت آية الميراث بعد هذه الآية، فنسخت للوالدين، وبقيت الوصية للأقربين الذين لا يرثون، ما بينه وبين ثلث ماله...
- يحيى: سمعت مالكا، يقول في هذه الآية: إنها منسوخة، قول الله تبارك وتعالى: {إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين} [البقرة: 180] نسخها ما نزل من قسمة الفرائض في كتاب الله عز وجل. قال مالك: السنة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها أنه لا تجوز وصية لوارث إلا أن يجيز له ذلك ورثة الميت، وأنه إن أجاز له بعضهم وأبى بعض جاز له حق من أجاز منهم، ومن أبى أخذ حقه من ذلك...
القرطبي: قال مالك: من أوصى لغير قرابة، وترك القرابة محتاجين فبئس ما صنع! وفعله مع ذلك جائز ماض لكل من أوصى له من غني وفقير، قريب وبعيد، مسلم وكافر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"كتب عليكم": فرض عليكم أيها المؤمنون الوصية إذا حضر أحدكم الموت "إنْ تَرَكَ خَيْرا"، والخير: المال، "للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبينَ "الذين لا يرثونه، "بالمَعْرُوفِ "وهو ما أذن الله فيه وأجازه في الوصية مما لم يجاوز الثلث، ولم يتعمد الموصي ظلم ورثته، "حَقّا على المُتّقين": فرض عليكم هذا وأوجبه، وجعله حقّا واجبا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به.
فإن قال قائل: أَوَ فرض على الرجل ذي المال أن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه؟ قيل: نعم.
فإن قال: فإن هو فرّط في ذلك فلم يوص لهم أيكون مضيعا فرضا يحرج بتضييعه؟ قيل: نعم.
فإن قال: وما الدلالة على ذلك؟ قيل: قول الله تعالى ذكره: "كُتِبَ عَلَيكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْنِ والأقْرَبِين"؛ فأعلم أنه قد كتبه علينا وفرضه، كما قال: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيامُ"؛ ولا خلاف بين الجميع أن تارك الصيام وهو عليه قادر مضيع بتركه فرضا لله عليه، فكذلك هو بترك الوصية لوالديه وأقربيه وله ما يوصي لهم فيه، مضيعٌ فرض الله عز وجل.
فإن قال: فإنك قد علمت أن جماعة من أهل العلم قالوا: "الوَصِيّةُ للْوَالِدَيْن وَالأقْرَبينَ" منسوخة بآية الميراث؟ قيل له: وخالفهم جماعة غيرهم فقالوا: هي محكمة غير منسوخة: وإذا كان في نسخ ذلك تنازع بين أهل العلم لم يكن لنا القضاء عليه بأنه منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها، إذ كان غير مستحيل اجتماع حكم هذه الآية وحكم آية المواريث في حال واحدة على صحة بغير مدافعة حكم إحداهما حكم الأخرى، وكان الناسخ والمنسوخ هما المعنيان اللذان لا يجوز اجتماع حكمهما على صحة في حالة واحدة لنفي أحدهما صاحبه.
وبما قلنا في ذلك قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين... عن الضحاك أنه كان يقول: من مات ولم يوصِ لذوي قرابته فقد ختم عمله بمعصية.
[وعن] مسروق: إن الله قد قسم بينكم فأحسن القسم، وإنه من يرغب برأيه عن رأي الله يضله، أوص لذي قرابتك ممن لا يرثك، ثم دع المال على ما قسمه الله عليه. [و] عن الضحاك، قال: لا تجوز وصية لوارث ولا يوصي إلا لذي قرابة، فإن أوصى لغير ذي قرابة فقد عمل بمعصية، إلا أن لا يكون قرابة فيوصي لفقراء المسلمين.
واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية، فقال بعضهم: لم ينسخ الله شيئا من حكمها، وإنما هي آية ظاهرها ظاهر عموم في كل والد ووالدة والقريب، والمراد بها في الحكم البعض منهم دون الجميع، وهو من لا يرث منهم الميت دون من يرث. وذلك قول من ذكرت قوله، وقول جماعة آخرين غيرهم معهم.
وقال آخرون: بل هي آية قد كان الحكم بها واجبا وعمل به برهة، ثم نسخ الله منها بآية المواريث الوصية لوالدي الموصي وأقربائه الذين يرثونه، وأقرّ فرض الوصية لمن كان منهم لا يرثه... ولا تجوز وصية لوارث.
وقال آخرون: بل نسخ الله ذلك كله، وفرض الفرائض والمواريث، فلا وصية تجب لأحد على أحد قريب ولا بعيد.
وأما الخير الذي إذا تركه تارك وجب عليه الوصية فيه لوالديه وأقربيه الذين لا يرثون فهو المال.
ثم اختلفوا في مبلغ المال الذي إذا تركه الرجل كان ممن لزمه حكم هذه الآية، فقال بعضهم: ذلك ألف درهم فما فوقه.
وقال بعضهم: ذلك ما بين الخمسمائة درهم إلى الألف.
وقال بعضهم: الوصية واجبة من قليل المال وكثيره... عن الزهري، قال: جعل الله الوصية حقا مما قل منه أو كثر.
وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله: "كُتِبَ عَلَيكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرا الوَصِيّةُ" ما قال الزهري، لأن قليل المال وكثيره يقع عليه خير، ولم يحدّ الله ذلك بحدّ ولا خصّ منه شيئا، فيجوز أن يحال ظاهر إلى باطن، فكل من حضرته منيته وعنده مال قلّ ذلك أو كثر، فواجب عليه أن يوصى منه لمن لا يرثه من آبائه وأمهاته وأقربائه الذين لا يرثونه بمعروف، كما قال الله جل ذكره وأمره به.
واختلفوا في المقدار المراد بالمال الذي أوجب الله الوصية فيه حين كانت الوصية فرضاً... وكل هؤلاء القائلين فإنما تأوّلوا تقدير المال على وجه الاستحباب لا على وجه الإيجاب للمقادير المذكورة، وكان ذلك منهم على طريق الاجتهاد فيما تلحقه هذه الصفة من المال، ومعلوم في العادة أن مَنْ ترك درهماً لا يقال ترك خيراً، فلما كانت هذه التسميةُ موقوفةً على العادة وكان طريقُ التقدير فيها على الاجتهاد وغالب الرأي مع العلم بأن القدر اليسير لا تلحقه هذه التسمية وأن الكثير تلحقه، فكان طريق الفصل فيها الاجتهادَ وغالِبَ الرأي، مع ما كانوا عرفوا من سنّة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله:"الثُلْثَ والثَلُثُ كَثِيرٌ" و "أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أنْ تَدَعَهُمْ عالَةً يتكَفَّفُونَ الناس"...
قال أبو بكر: ولا دلالة فيما ذكره هذا القائل على نَفْي وجوبها، لأن إيجابها بالمعروف لا ينفي وُجُوبَها، لأن المعروف معناه العَدْلُ الذي لا شَطَطَ فيه ولا تقصير، كقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة: 233] ولا خلاف في وجوب هذا الرزق والكسوة، وقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} [النساء: 19] بل المعروف هو الواجب، قال الله تعالى: {وأمر بالمعروف وانهَ عن المنكر} [لقمان: 17] وقال: {يأمرون بالمعروف} [التوبة: 71]. فذِكْرُ المعروف فيما أوجب الله تعالى من الوصية؛ لا ينفي وجوبها؛ بل هو يؤكد وجوبها، إذ كان جميع أوامِر الله معروفاً غير مُنْكَرٍ. ومعلوم أيضاً أن ضِدَّ المعروف هو المنكر، وأن ما ليس بمعروف هو منكر، والمنكر مذمومٌ مزجورٌ عنه، فإذاً المعروف واجب.
وأما قوله: {حقاً على المتقين} ففيه تأكيد لإيجابها، لأن على الناس أن يكونوا متّقين، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} [البقرة: 187] ولا خلاف بين المسلمين أن تَقْوَى الله فرضٌ، فلما جعل تنفيذ هذه الوصية من شرائط التقوى فقد أبان عن إيجابها. وأما تخصيصه المتّقين بالذكر فلا دلالة فيه على نَفْي وُجُوبها، وذلك لأن أقلَ ما فيه اقتضاء الآية وجوبها على المتقين، وليس فيه نفيها عن غير المتّقين، كما أنه ليس في قوله: {هدى للمتقين} [البقرة: 2] نفْي أن يكون هُدًى لغيرهم. وإذا وجبت على المتقين بمقتضى الآية وجبت على غيرهم؛ وفائدة تخصيصه المتقين بالذكر أن فِعْلَ ذلك مِنْ تقوى الله، وعلى الناس أن يكونوا كلهم متّقين، فإذاً عليهم فعل ذلك...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَيْسَ يُرِيدُ حُضُورَ الْمَوْتِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ، وَلَا لَهُ فِي الدُّنْيَا حِصَّةٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَنْظِمَ مِنْ كَلَامِهَا لَفْظَةً، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ لَكَانَ تَكْلِيفٌ مُحَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ؛ وَلَكِنْ يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إذَا قَرُبَ حُضُورُ الْمَوْتِ، وَأَمَارَةُ ذَلِكَ كِبَرُهُ فِي السِّنِّ أَوْ سَفَرٍ، فَإِنَّهُ غَرَرٌ. أَوْ تَوَقُّعُ أَمْرٍ طَارِئٍ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ تَحَقُّقُ النَّفْسِ لَهُ بِأَنَّهَا سَبِيلٌ هُوَ آتِيهَا لَا مَحَالَةَ، إذِ الْمَوْتُ رُبَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا...
[و] الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا مَرِضَ؛ فَإِنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ...
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَأْخِيرُ الْوَصِيَّةِ إلَى الْمَرَضِ مَذْمُومٌ شَرْعًا، رَوَى مُسْلِمٌ وَالْأَئِمَّةُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ تَأْمُلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِل حَتَّى إذَا بَلَغَت الْحُلْقُومَ قُلْت: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ كَذَا»...
{إنْ تَرَكَ خَيْرًا}: يَعْنِي مَالًا، وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي تَقْدِيرِهِ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ والأحْكامِيُّونَ أَقْوَالًا كُلُّهَا دَعَاوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَخْتَلِفْ وَلَا يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ، بَلْ يُوصِي مِن الْقَلِيلِ قَلِيلًا، وَمِن الْكَثِيرِ كَثِيرًا، وَحَيْثُ وَرَدَ ذِكْرُ الْمَالِ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ يُسَمَّى بِالْخَيْرِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ. رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَةِ الدُّنْيَا. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَو َيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إلَّا بِالْخَيْرِ، وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ، إلَّا آكِلَةُ الْخَضِرِ، أَكَلَتْ حَتَّى إذَا امْتَلَأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ الشَّمْسَ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ؛ ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَت...
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: {حَقًّا}: يَعْنِي ثَابِتًا ثُبُوتَ نَظَرٍ وَتَخْصِيصٍ، لَا ثُبُوتَ فَرْضٍ وَوُجُوبٍ، وَهَكَذَا وَرَدَ عَنْ عُلَمَائِنَا حَيْثُ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الثَّابِتُ، وَقَدْ ثَبَتَ الْمَعْنَى فِي الشَّرِيعَةِ نَدْبًا، وَقَدْ ثَبَتَ فَرْضًا، وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي الْمَعْنَى.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {عَلَى الْمُتَّقِينَ}: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ نَدْبًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَكَانَ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَتَّقِي، أَيْ يَخَافُ تَقْصِيرًا، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَمَا يُتَوَقَّعُ تَلَفُهُ إنْ مَاتَ فَتَلْزَمُهُ فَرْضًا الْمُبَادَرَةُ بِكَتْبِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَمِمَّا صَحَّ مِنْ النَّظَرِ، وَأَنَّهُ إنْ سَكَتَ عَنْهُ كَانَ تَضْيِيعًا لَهُ.
أما قوله: {بالمعروف} فيحتمل أن يكون المراد منه قدر ما يوصي به، ويحتمل أن يكون المراد منه تمييز من يوصي له من الأقربين ممن لا يوصي، لأن كلا الوجهين يدخل في المعروف، فكأنه تعالى أمره في الوصية أن يسلك الطريق الجميلة، فإذا فاضل بينهم، فبالمعروف وإذا سوى فكمثل، وإذا حرم البعض فكمثل لأنه لو حرم الفقير وأوصى للغني لم يكن ذلك معروفا، ولو سوى بين الوالدين مع عظم حقهما وبين بني العم لم يكن معروفا، ولو أوصى لأولاد الجد البعيد مع حضور الأخوة لم يكن ما يأتيه معروفا فالله تعالى كلفه الوصية على طريقة جميلة خالية عن شوائب الإيحاش وذلك من باب ما يعلم بالعادة فليس لأحد أن يقول: لو كانت الوصية واجبة لم يشترط تعالى فيه هذا الشرط، الذي لا يمكن الوقوف عليه لما بينا...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
الوصية عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة وبعد الموت. وخصصها العرب بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت، والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية. والوصي يكون الموصي والموصى إليه، وأصله من وصى مخففا. وتواصى النبت تواصيا إذا اتصل. وأرض واصية: متصلة النبات. وأوصيت له بشيء وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك. والاسم الوصاية والوصاية (بالكسر والفتح). وأوصيته ووصيته أيضا توصية بمعنى، والاسم الوصاة. وتواصى القوم أوصى بعضهم بعضا. وفي الحديث: (استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم). ووصيت الشيء بكذا إذا وصلته به...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وفي تسميته هنا وجعله خيراً إشارة لطيفة إلى أنه مال طيب لا خبيث، فإن الخبيث يجب رده إلى أربابه، ويأثم بالوصية فيه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما حث سبحانه وتعالى على بذل المال ندباً وإيجاباً في حال الصحة والشح وتأميل الغنى وخشية الفقر تصديقاً للإيمان، وأتبعه بذل الروح التي هو عديلها بالقتل الذي هو أحد أسباب الموت. أتبع ذلك بذله في حال الإشراف على النقلة والأمن من فقر الدنيا والرجاء لغنى الآخرة، استدراكاً لما فات من بذله على حبه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وجه التناسب والاتصال بين هذه الآيات وما قبلها هو أن القصاص في القتل ضرب من ضروب الموت يذكر بما يطلب ممن يحضره الموت وهو الوصية. والخطاب فيه موجه إلى الناس كلهم بأن يوصوا بشيء من الخير، ولاسيما في حال حضور أسباب الموت وظهور أماراته لتكون خاتمة أعمالهم خيرا، وهو على نسق ما تقدم في الخطاب بالقصاص من اعتبار الأمة متكافلة يخاطب المجموع منها بما يطلب من الأفراد، وقيام الأفراد بحقوق الشريعة لا يتم إلا بالتعاون والتكافل والائتمار والتناهي، فلو لم يأتمر البعض وجب على الباقين حمله على الائتمار ـ
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[الوصية] لون من الوان التكافل العائلي العام في خارج حدود الوراثة. ومن ثم ذكر المعروف وذكر التقوى: (بالمعروف حقا على المتقين)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي لبيان حكم المال بعد موت صاحبه، فإنه لم يسبق له تشريع ولم يفتتح ب {يا أيها الذين آمنوا} لأن الوصية كانت معروفة قبل الإسلام فلم يكن شرعها إحداث شيء غير معروف، لذلك لا يحتاج فيها إلى مزيد تنبيه لتلقي الحكم،
ومناسبة ذكره أنه تغيير لما كانوا عليه في أول الإسلام من بقايا عوائد الجاهلية في أموال الأموات فإنهم كانوا كثيراً ما يمنعون القريب من الإرث بتوهم أنه يتمنى موت قريبه ليرثه، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض، ولما كان هذا مما يفضي بهم إلى الإحن وبها تختل الحالة الاجتماعية بإلقاء العداوة بين الأقارب، كان تغييرها إلى حال العَدل فيها من أهم مقاصد الإسلام...
أما مناسبة ذكره عقب حكم القصاص فهو جريان ذكر موت القتيل وموت القاتل قصاصاً... وقد شمل قوله {بالمعروف} تقدير ما يوصي به وتمييز من يوصي له ووكل ذلك إلى نظر الموصي فهو مؤتمن على ترجيح من هو أهل للترجيح في العطاء كما أشار إليه قوله تعالى: {على المتقين}...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ولا يستغربن السامع ذكر الوالدين هنا في سياق الوصية دون الإرث، فهناك من الوالدين من لا حق له في الإرث، وهناك من الأقارب من لا حق لهم فيه أيضا، مثال ذلك الأم الكتابية التي ليست على دين ابنها المسلم، والزوجة الكتابية التي ليست على دين زوجها المسلم، فهذه الأم لا ترث ابنها، وهذه الزوجة لا ترث زوجها، وإنما أباح الله في حق مثلهما الوصية دون الإرث، فيمكن لولد الأولى أو لزوج الثانية أن يوصي لها قبل وفاته بنصيب من ثروته، لكن يجب أن تكون هذه الوصية
{بالمعروف} كما قال الله تعالى، أي بحيث لا تؤدي إلى الإجحاف بحقوق الورثة الشرعيين، وتكون في حدود الثلث الجائز فما دونه. والوصية لهؤلاء ومن في حكمهم ليست في درجة الوجوب، وإنما هي أمر مرغب فيه ومطلوب، وذلك بالنسبة لمن يرغب في صلة رحمه، وستر ذويه من بعده، جزاء ما بذلوا في سبيله من اعتناء وبرور، وجهد مشكور، حتى لا يوصم بالتقصير في حقهم ونكران جميلهم، ولهذا المعنى يشير قوله تعالى: {حَقّاً عَلَى المُتَّقِينَ}.
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليعالج قضية اجتماعية أخرى. إن الحق بعد أن عالج قضية إزهاق الحياة ينتقل بنا إلى قضية أخرى من أقضية الحياة، إنها قضية الموت الطبيعي. كأن الحق بعد أن أوضح لنا علاج قضية الموت بالجريمة يريد أن يوضح لنا بعضاً من متعلقات الموت حتفا من غير سبب مزهق للروح.
إن الحق يعالج في الآية القادمة بعضاً من الأمور المتعلقة بالموت ليحقق التوازن الاقتصادي في المجتمع كما حقق بالآية السابقة التوازن العقابي والجنائي في المجتمع. يقول الحق: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين 180}...
ولأن الإله الحق يريد بالناس الخير لم يحدّد قدر الخير أو قيمته، وعندما يحضر الموت الإنسان الذي عنده فائض من الخير لابد أن يوصي من هذا الخير. ولنا أن نلحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن انتظار لحظة الموت ليقول الإنسان وصيته، أو ليبلغ أسرته بالديون التي عليه، لأن الإنسان لحظة الموت قد لا يفكر في مثل هذه الأمور. ولذلك فعلينا أن نفهم أن الحق ينبهنا إلى أن يكتب الإنسان ما له وما عليه في أثناء حياته. فيقول ويكتب وصيته التي تنفذ من بعد حياته. يقول المؤمن: إذا حضرني الموت فلوالدي كذا وللأقربين كذا.
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
6 ومن فوايد الآية: أهمية صلة الرحم، حيث أوجب الله الوصية للوالدين والأقربين بعد الموت؛ لأن صلة الرحم من أفضل الأعمال المقربة إلى الله؛ فهذه إحدى أمهات المؤمنين أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم: أنها أعتقت جارية لها؛ فقال: «أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك»؛ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم صلة الرحم أعظم أجراً من العتق...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[كُتِبَ] بمعنى قضى من القضاء، وهو الحكم الذي قد يوحي بالإلزام، فلا بُدَّ من الالتزام به إلاَّ أن يدل دليل من كتاب أو سنة أو إجماع على خلاف ذلك، لأنَّ اللفظ لا يخلو من قابلية لذلك، فالحكم بشيء على شخص قد يقترن بالظروف التخفيفية التي تجعل المضمون اختيارياً، وقد لا يقترن بذلك فيبقى على حاله. ولما كان إجماع المسلمين قائماً على عدم وجوب الوصية للوالدين والأقربين، فلا بُدَّ من أن نلتزم بذلك فنحمل الكتابة على أصل التشريع والجعل... وعلى هذا يكون قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي: سجل عليكم تأكيد الوصية...