المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)

97- وفيه دلائل واضحات على حرمته ومزيد فضله ، منها مكان قيام إبراهيم للصلاة فيه ، ومن دخله يكون آمناً لا يتعرض له بسوء ، وحج هذا البيت واجب على المستطيع من الناس ، ومن أبى وتمرد على أمر الله وجحد دينه فالخسران عائد عليه ، وأن الله غني عن الناس كلهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)

ثم مدحه - ثالثا - بقوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } أى فيه علامات ظاهرات ، ودلائل واضحات تدل على شرف منزلته ، وعلو مكانته .

وهذه الجملة الكريمة مستأنفة لبيان وتفسير بركته وهداه .

ثم بين - سبحانه - بعض هذه الآيات البينات الدالة على عظمه وشرفه فقال : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } .

فالآية الأولى الدالة على عظم وشرف البيت الحرام { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } أى المقام المعروف بهذا الاسم . وهو الموضع الذى كان يقوم فيه إبراهيم تجاه الكعبة لعبادة الله - تعالى - ولإتمام بناء الكعبة ومعنى أن فى البيت مقام إبراهيم أى أنه فى فنائه ومتصل به .

قال ابن كثير : عن جابر - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ، ثم قرأ { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين .

والمراد بالمقام إنما هو الحجر الذى كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة ، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل بهذا الحجر ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار . . .

ثم قال : وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما . ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلى الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك . وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى ناحية المشرق حيث هو الآن . ليتمكن الطائفون من الطواف ، وليصلى المصلون عنده دون تشويش عليهم من الطائفين .

وقوله : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } مبتدأ محذوف الخبر أى مقام إبراهيم منها أى من هذه الآيات البينات . أو خبر لمبتدأ محذوف أى فيه آيات بينات أحدها مقام إبراهيم .

وقد رجح ابن جرير أن قوله - تعالى - { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } هو بعض الآيات البينات التى فى البيت الحرام فقال : وأولى الأقوال فى تأويل ذلك بالصواب قول من قال : الآيات البينات منهن مقام إبراهيم . وهو قول قتادة ومجاهد الذى رواه معمر عنهما فيكون الكلام مرادا فيه منهن فترك ذكره اكتفاء بدلالة الكلام عليها . فإن قال القائل : فهذا المقام من الآيات البينات فما سائر الآيات التى من أجلها قيل { آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } ؟ قيل : منهن المقام ، ومنهن الحجر ، ومنهن الحطيم " .

وقال ابن عطية : والراجح عندى أن المقام وآمن الداخلين جعلا مثالا لما فى حرم الله من الآيات ، وخصا بالذكر لعظمهما وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم .

وأما الآية الثانية التى تدل على فضل هذا البيت وشرفه فقد بينها القرآن بقوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } .

أى من التجأ إليه أمن من التعرض له بالأذى أو القتل قال - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } وفي ذلك إجابة لسيدنا إبراهيم حيث قال - كما حكى القرآن عنه - : { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } ولا شك أن فى أمن من دخل هذا البيت أكبر آية على تعظيمه وعلى علو مكانته عند الله ؛ لأنه موضع أمان الناس فى بيئة تغرى بالاعتداء لخلوها من الزرع والنبات .

وفى الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن أبى شريح العدوى أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث لمكة - يعنى لقتال عبد الله بن الزبير - : ائذن لى أيها الأمير أن أحدثك قولا قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح ، - سمعته أذناى ووعاه قلبى ، وأبصرته عيناى - حين تكلم به - : إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها - أى أخذ فيه بالرخصة - فقولوا له : إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لى فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب .

فقيل لأبى شريح : ما قال لك عمرو ؟ فقال أبو شريح : قال لى يا أبا شريح أنا أعلم بذلك منك . إن الحرم لا يعيذ عاصيا - أى لا يجيره ولا يعصم دمه - ولا فاراً بدم - أى أن الحرم لا يجير إنساناً هارباً إليه لسبب من الأسباب الموجبة للتقل - ولا فاراً بخربة - أى بسبب سرقة أو خيانة .

ولقد كان أهل الجاهلية يعظمون المسجد الحرام - وخصوصا أهل مكة - فلما جاء الإسلام أقر له هذه الميزة وزكاها ، ووضع لها الضوابط والأحكام التى تضمن استعمالها فى الوجوه التى شرعها الله .

فقد اتفق الفقهاء على أن من جنى فى الحرم جناية فهو مأخوذ بجنايته سواء أكانت فى النفس أم فيما دونها .

واختلفوا فيمن جنى فى غير الحرم ثم لاذ إليه . فقال أبو حنيفة وابن حنبل : إذا قتل فى غير الحرم ثم دخل الحرم لا يقتص منه ما دام فيه ، ولكن لا يجالس ولا يعامل ولا يؤاكل غلى أن يخرج منه فيقتص منه . وإن كانت جنايته فيما دون النفس فى غير الحرم ثم دخل الحرم اقتص منه .

وقال مالك والشافعي يقتص منه فى الحرم لذلك كله كما يقتص منه فى الحل . ولكل فريق أدلته المبسوطة فى كتب الفقه .

ثم أخبر - سبحانه - عن وجوب الحج على كل قادر عليه فقال : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } .

أى أن الله - تعالى - فرض على الناس أن يحجوا بيته فى أوقات معينة وبكيفية مخصوصة متى كان فى استطاعتهم أداء هذه الفريضة .

{ وَمَن كَفَرَ } أى من جحد فرضية الحج وأنكرها ، ولم يؤدها مع استطاعته وقدرته على أدائها فإن الله غنى عنه وعن حجه وعن الناس جميعاً .

قال صاحب الكشاف : وفى هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد منها قوله : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } يعنى أنه حق واجب لله فى رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته . ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل منه من استطاع إليه سبيلا وفيه ضربان من التأكيد :

أحدهما : أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له .

والثاني : إن الإيضاح بعد الإيهام ، والتفصيل بعد الإجمال إيراد له فى صورتين مختلفتين . ومنها قوله : { وَمَن كَفَرَ } مكان ومن لم يحج تغليظا على تارك الحج ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يحج فليمت إن شاء الله يهودياً أو نصرانياً "

ومنها ذكر الاستغناء عنه ، لأن فيه الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ولأنه يدل على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط .

وقوله : { وَللَّهِ } خبر مقدم متعلق بمحذوف أى واجب . { عَلَى الناس } متعلق بهذا المحذوف . وقوله : { حِجُّ البيت } مبتدأ مؤخر .

والناس عام مخصوص بالمتسطيع ، وقد خصص ببدل البعض فى قوله : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } إذ هذه الجملة بدل من الناس بدل البعض من الكل . والضمير فى البدل مقدر أى من استطاع منهم إليه سبيلا .

و " من " فى قوله : { وَمَن كَفَرَ } يحتمل أن تكون شرطية وهو الظاهر ، وأن تكون موصولة ، وعلى الاحتمالين استغنى فيا بعد الفاء عن الرابط بإقامة الظاهر مقام المضمر إذ الأصل ومن كفر فغن الله غنى عنه فاستغنى بالظاهر عن المضمر .

قال ابن كثير : والجمهور يرى أن هذه الآية هى آية وجوب الحج . وقيل بل هى آية ( وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ ) والأول أظهر . وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقوائمه ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروياً وإنما يجب على المكلف فى العمرة مرة واحدة بالنص والإجماع فعن ابيى هريرة قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال : ذرونى ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، وإذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شىء فدعوه " .

وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : " قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما السبيل يا رسول الله ، فقال : الزاد والراحلة " .

وبذلك تكون هاتان الآيتان والآيات التى قبلهما قد ردت على اليهود فى دعواهم أن ما حرمه الله عليهم من طيبات لم يكن عقوبة لهم بسبب ظلمهم وبغيهم ، وكذبتهم فى دعواهم أن بيت المقدس أفضل من المسجد الحرام .

وقد اشتمل هذا الرد على ما يثبت افتراءهم من واقع التاريخ ، فقد أمر الله - تعالى - النبى صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بإحضار التوراة إن كانوا صادقين فى دعواهم ، فبهوتوا وانقلبوا صاغرين ، واثبت القرآن أن البيت الحرام أول بيت وضع فى الأرض لعبادة الله ، فهو يسبق بيت المقدس فى أولوية الشرف والزمان . وإذن فجدال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم فى هذه الأمور ما هو إلا نوع من عنادهم وجحودهم للحق ، والمعاند والجاحد لا ينفع معهما دليل أو برهان .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)

93

وفيه علامات بينة على أنه مقام إبراهيم . . [ ويقال : إن المقصود هو الحجر الأثري الذي كان إبراهيم - عليه السلام - يقف عليه في أثناء البناء . وكان ملصقا بالكعبة فأخره عنها الخليفة الراشد عمر - رضي الله عنه - حتى لا يشوش الذين يطوفون به على المصلين عنده .

وقد أمر المسلمون أن يتخذوه مصلى بقوله تعالى : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) . . ]

ويذكر من فضائل هذا البيت أن من دخله كان آمنا . فهو مثابة الأمن لكل خائف . وليس هذا لمكان آخر في الأرض . وقد بقي هكذا مذ بناه إبراهيم وإسماعيل . وحتى في جاهلية العرب ، وفي الفترة التي انحرفوا فيها عن دين إبراهيم ، وعن التوحيد الخالص الذي يمثله هذا الدين . . حتى في هذه الفترة بقيت حرمة هذا البيت سارية ، كما قال الحسن البصري وغيره : " كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ، ويدخل الحرم ، فيلقاه ابن المقتول ، فلا يهيجه حتى يخرج " . . وكان هذا من تكريم الله سبحانه لبيته هذا ، حتى والناس من حوله في جاهلية ! وقال - سبحانه - يمتن على العرب به : ( أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ؟ )وحتى إنه من جملة تحريم الكعبة حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره ، وحرمة قطع شجرها . . وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله [ ص ] يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة . وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار . فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاه . . . إلخ "

فهذا هو البيت الذي اختاره الله للمسلمين قبلة . . هو بيت الله الذي جعل له هذه الكرامة . وهو أول بيت أقيم في الأرض للعبادة . وهو بيت أبيهم إبراهيم ، وفيه شواهد على بناء إبراهيم له . والإسلام هو ملة إبراهيم . فبيته هو أولى بيت بأن يتجه إليه المسلمون . وهو مثابة الأمان في الأرض . وفيه هدى للناس ، بما أنه مثابة هذا الدين .

ثم يقرر أن الله فرض على الناس أن يحجوا إلى هذا البيت ما تيسر لهم ذلك . وإلا فهو الكفر الذي لا يضر الله شيئا :

( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا . ومن كفر فإن الله غني عن العالمين )

ويلفت النظر - في التعبير - هذا التعميم الشامل في فرضية الحج : ( على الناس ) . . ففيه أولا إيحاء بأن هذا الحج مكتوب على هؤلاء اليهود الذين يجادلون في توجه المسلمين إليه في الصلاة . على حين أنهم هم أنفسهم مطالبون من الله بالحج إلى هذا البيت والتوجه إليه ، بوصفه بيت أبيهم إبراهيم ، وبوصفه أول بيت وضع للناس للعبادة . فهم - اليهود - المنحرفون المقصرون العاصون ! وفيه ثانيا إيحاء بأن الناس جميعا مطالبون بالإقرار بهذا الدين ، وتأدية فرائضه وشعائره ، والاتجاه والحج إلى بيت الله الذي يتوجه إليه المؤمنون به . . هذا وإلا فهو الكفر . مهما ادعى المدعون أنهم على دين ! والله غني عن العالمين . فما به من حاجة - سبحانه - إلى إيمانهم وحجهم . إنما هي مصلحتهم وفلاحهم بالإيمان والعبادة . .

والحج فريضة في العمر مرة ، عند أول ما تتوافر الاستطاعة . من الصحة وإمكان السفر وأمن الطريق . . ووقت فرضها مختلف فيه . فالذين يعتمدون رواية أن هذه الآيات نزلت في عام الوفود - في السنة التاسعة - يرون أن الحج فرض في هذه السنة . ويستدلون على هذا بأن حجة رسول الله [ ص ] كانت فقط بعد هذا التاريخ . . وقد قلنا عند الكلام على مسألة تحويل القبلة في الجزء الثاني من الظلال : إن حجة الرسول [ ص ] لا دليل فيها على تأخر فرضية الحج . فقد تكون لملابسات معينة . منها أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عرايا ، ما يزالون يفعلون هذا بعد فتح مكة . فكره رسول الله [ ص ] أن يخالطهم ، حتى نزلت سورة براءة في العام التاسع ، وحرم على المشركين الطواف بالبيت . . ثم حج [ ص ] حجته في العام الذي يليه . . ومن ثم فقد تكون فرضية الحج سابقة على ذلك التاريخ ، ويكون نزول هذه الآية في الفترة الأولى من الهجرة بعد غزوة أحد أو حواليها .

وقد تقررت هذه الفريضة على كل حال بهذا النص القاطع ، الذي يجعل لله - سبحانه - حق حج البيت على " الناس " من استطاع إليه سبيلا .

والحج مؤتمر المسلمين السنوي العام . يتلاقون فيه عند البيت الذي صدرت لهم الدعوة منه . والذي بدأت منه الملة الحنيفية على يد أبيهم إبراهيم . والذي جعله الله أول بيت في الأرض لعبادته خالصا . فهو تجمع له مغزاه ، وله ذكرياته هذه ، التي تطوف كلها حول المعنى الكريم ، الذي يصل الناس بخالقهم العظيم . . معنى العقيدة . استجابة الروح لله الذي من نفخة روحه صار الإنسان إنسانا . وهو المعنى الذي يليق بالأناسي أن يتجمعوا عليه ، وأن يتوافدوا كل عام إلى المكان المقدس الذي انبعث منه النداء للتجمع على هذا المعنى الكريم . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)

الضمير في قوله : { فيه } عائد على البيت ، وساغ ذلك مع كون «الآيات » خارجة عنه لأن البيت إنما وضع بحرمه وجميع فضائله ، فهي فيه وإن لم تكن داخل جدرانه ، وقرأ جمهور الناس : «آيات بينات » بالجمع ، وقرأ أبي بن كعب وعمر وابن عباس : «آية بينة » على الإفراد ، قال الطبري : يريد علامة -واحدة المقام وحده ، وحكي ذلك عن مجاهد .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يراد بالآية اسم الجنس فيقرب من معنى القراءة الأولى ، واختلفت عبارة المفسرين عن «الآيات البينات » فقال ابن عباس : من الآيات المقام ، يريد الحجر المعروف والمشعر وغير ذلك .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا يدل على أن قراءته «آية » بالإفراد إنما يراد بها اسم الجنس ، وقال الحسن بن أبي الحسن : «الآيات البينات » مقام إبراهيم ، وإن من دخله كان آمناً ، وقال مجاهد : المقام الآية ، وقوله : { ومن دخله كان آمناً } كلام آخر .

قال القاضي أبو محمد : فرفع { مقام } على قول الحسن ومجاهد على البدل من { آيات } ، أو على خبر ابتداء تقديره هن مقام إبراهيم ، وعلى قول ابن عباس ومن نحا نحوه : هو مرتفع بالابتداء وخبره محذوف مقدم تقديره : منهن { مقام إبراهيم } .

قال القاضي : والمترجح عندي أن المقام وأمن الداخل جعلا مثالاً مما في حرم الله من الآيات ، وخصا بالذكر لعظمهما ، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم ، ومن آيات الحرم والبيت التي تقوم بها الحجة على الكفار أمر الفيل ، ورمي طير الله عنه بحجارة السجيل ، وذلك أمر لم تختلف كافة العرب في نقله وصحته إلى أن أنزله الله في كتابه ، ومن آياته كف الجبابرة عنه على وجه الدهر ، ومن آياته الحجر الأسود ، وما روي فيه أنه من الجنة وما أشربت قلوب العالم من تعظيمه قبل الإسلام ، ومن آياته حجر المقام ، وذلك أنه قام عليه إبراهيم عليه السلام ، وقت رفعه القواعد من البيت ، لما طال له البناء فكلما علا الجدار ، ارتفع الحجر به في الهواء ، فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى أكمل الجدار ، ثم إن الله تعالى ، لما أراد إبقاء ذلك آية للعالمين لين الحجر ، فغرقت فيه قدما إبراهيم عليه السلام كأنها في طين ، فذلك الأثر العظيم باق في الحجر إلى اليوم ، وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الأعصار ، وقال أبو طالب{[3340]} : [ الطويل ]

ومَوْطِىءُ إبراهيمَ في الصَّخرِ رطْبَةٌ . . . على قَدَمِيهِ حافياً غيرَ ناعِلِ

فما حفظ أن أحداً من الناس نازع في هذا القول ، ومن آياته البينات زمزم في نبعها لهاجر بهمز جبريل عليه السلام الأرض بعقبه ، وفي حفر عبد المطلب لها آخراً بعد دثورها بتلك الرؤيا المشهورة ، وبما نبع من الماء تحت خف ناقته في سفره ، إلى منافرة قريش ومخاصمتها في أمر زمزم ، ذكر ذلك ابن إسحاق مستوعباً ، ومن آيات البيت نفع ماء زمزم لما شرب له ، وأنه يعظم ماؤها في الموسم ، ويكثر كثرة خارقة للعادة في الآبار ، ومن آياته ، الأمنة الثابتة فيه على قديم الدهر ، وأن العرب كانت تغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل ، وأخذ الأموال وأنواع الظلم إلا في الحرم ، وتركب على هذا أمن الحيوان فيه ، وسلامة الشجر ، وذلك كله للبركة التي خصه الله بها ، والدعوة من الخليل عليه السلام في قوله ، { اجعل هذا بلداً آمناً }{[3341]} ، وإذعان نفوس العرب وغيرهم قاطبة لتوقير هذه البقعة دون ناه ، ولا زاجر ، آية عظمى تقوم بها الحجة ، وهي التي فسرت بقوله تعالى : { ومن دخله كان آمناً } ومن آياته كونه بواد غير ذي زرع ، والأرزاق من كل قطر تجيء إليه عن قرب وعن بعد ، ومن آياته ، ما ذكر ابن القاسم العتقي رحمه الله ، قال في النوادر ، وغيرها : سمعت أن الحرم يعرف بأن لا يجيء سيل من الحل فيدخل الحرم .

قال القاضي أبو محمد : هذا والله أعلم ، لأن الله تعالى جعله ربوة أو في حكمها ليكون أصون له ، والحرم فيما حكى ابن أبي زيد في الحج الثاني من النوادر . مما يلي المدينة نحو من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم ، ومما يلي العراق نحو من ثمانية أميال إلى مكان يقال له المقطع ، ومما يلي عرفة تسعة أميال ، ومما يلي طريق اليمن سبعة أميال ، إلى موضع يقال له أضاة ، ومما يلي جدة عشرة أميال إلى منتهى الحديبية ، قال مالك في العتبية : والحديبية في الحرم ، ومن آياته فيما ذكر مكي وغيره ، أن الطير لا تعلوه ، وإن علاه طائر فإنما ذلك لمرض به ، فهو يستشفي بالبيت ، وهذا كله عندي ضعيف ، والطير تعاين تعلوه ، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره ، وتلك كانت من آياته ومن آياته فيما ذكر الناس قديماً وحديثاً ، أنه إذا عمه المطر من جوانبه الأربعة في العام الواحد ، أخصبت آفاق الأرض ، وإن لم يصب جانباً منه لم يخصب ذلك الأفق الذي يليه ذلك العام ، واختلف الناس في { مقام إبراهيم } ، فقال الجمهور : هو الحجر المعروف ، وقال قوم : البيت كله مقام إبراهيم لأنه بناه وقام في جميع أقطاره ، وقال قوم من العلماء مكة كلها مقام إبراهيم ، وقال قوم : الحرم كله مقام إبراهيم ، والضمير في قوله : { ومن دخله } عائد على الحرم في قول من قال : مقام إبراهيم هو الحرم ، وعائد على البيت في قول الجمهور ، إذ لم يتقدم ذكر لغيره ، إلا أن المعنى يفهم منه أن من دخل الحرم فهو في الأمن ، إذا الحرم جزء من البيت ، إذ هو بسببه ولحرمته .

واختلف الناس في معنى قوله { كان آمناً } فقال الحسن وقتادة وعطاء ومجاهد وغيرهم : هذه وصف حال كانت في الجاهلية أن الذي يجر جريرة ثم يدخل الحرم ، فإنه كان لا يتناول ولا يطلب فأما في الإسلام وأمن جميع الأقطار ، فإن الحرم لا يمنع من حد من حدود الله ، من سرق فيه قطع ، ومن زنى رجم ، ومن قتل قتل ، واستحسن كثير ممن قال هذا القول أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحل فيقتل هنالك ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من أحدث حدثاً ثم استجار بالبيت فهو آمن ، وإن الأمن في الإسلام كما كان في الجاهلية ، والإسلام زاد البيت شرفاً وتوقيراً ، فلا يعرض أحد بمكة لقاتل وليه ، إلا أنه يجب على المسلمين ألا يبايعوا ذلك الجاني ولا يكلموه ولا يؤوه حتى يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد ، وقال بمثل هذا عبيد بن عمير والشعبي وعطاء بن أبي رباح والسدي وغيرهم ، إلا أن أكثرهم قالوا هذا فيمن يقتل خارج الحرم ثم يعوذ بالحرم ، فأما من يقتل في الحرم ، فإنه يقام عليه الحد في الحرم .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وإذا تؤمل أمر هذا الذي لا يكلم ولا يبايع ، فليس بآمن ، وقال يحيى بن جعدة{[3342]} : معنى الآية ومن دخل البيت كان آمناً من النار ، وحكى النقاش عن بعض العباد قال : كنت أطوف حول الكعبة ليلاً فقلت : يا رب إنك قلت : { ومن دخله كان آمناً } ، فمن ماذا هو آمن يا رب ؟ فسمعت مكلماً يكلمني وهو يقول : من النار ، فنظرت وتأملت فما كان في المكان أحد .

وقوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت } الآية ، هو فرض الحج في كتاب الله بإجماع ، وقال مالك رحمه الله : الحج كله في كتاب الله ، فأما الصلاة والزكاة فهي من جملة الذي فسره النبي عليه السلام ، والحج من دعائم الإسلام التي بني عليها حسب الحديث{[3343]} ، وشروط وجوبه خمسة ، البلوغ ، والعقل ، والحرية ، والإسلام ، واستطاعة السبيل ، والحج في اللغة ، القصد لكنه في بيت الله مخصص بأعمال وأقوال ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عصام : «حِج البيت » بكسر الحاء ، وقرأ الباقون : «حَج البيت » قالوا غزاة فأرادوا عمل وجه واحد ، كما قيل حجة .

قال القاضي : بكسر الحاء يريدون عمل سنة واحدة ، ولم يجيئوا به على الأصل لكنه اسم له{[3344]} ، قال أبو علي : قوله لم يجيئوا به على الأصل يريد على الفتح الذي هو الدفعة من الفعل ، ولكن كسروه فجعلوه اسماً لهذا المعنى ، كما أن غزاة كذلك ، ولم تجىء فيه الغزوة وكان القياس .

قال القاضي : وأكثر ما التزم كسر الحاء في قولهم ذو الحِجة ، وأما قولهم حجة الوداع ونحوه فإنها على الأصل ، وقال الزجّاج وغيره ، «الحَج » : بفتح الحاء المصدر ، وبكسرها اسم العمل ، وقال الطبري : هما لغتان الكسر لغة نجد ، والفتح لغة أهل العالية .

وقوله تعالى : { من استطاع إليه سبيلاً } ، { من } في موضع خفض بدل من { الناس } ، وهو بدل البعض من الكل وقال الكسائي وغيره : هي شرط في موضع رفع بالابتداء ، والجواب محذوف تقديره : من استطاع فعليه الحج ، ويدل عليه عطف الشرط الآخر بعده في قوله : { ومن كفر } ، وقال بعض البصريين : { من } رفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو { حج البيت } ويكون المصدر مضافاً إلى المفعول ، واختلف الناس في حال مستطيع السبيل كيف هي ؟ فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير : هي حال الذي يجد زاداً وراحلة ، وروى الطبري عن الحسن من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي{[3345]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال له رجل : يا رسول الله ما السبيل ؟ قال :( الزاد والراحلة ) {[3346]} ، وأسند الطبري إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من ملك زاداً وراحلة فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً »{[3347]} ، وروى عبد الرزاق وسفيان عن إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر{[3348]} عن ابن عمر قال : قام رجل إلى النبي عليه السلام ، فقال : ما السبيل ؟ قال : الزاد والراحلة .

قال القاضي : وضعّف قوم هذا الحديث ، لأن إبراهيم بن يزيد الخوزي تكلم فيه ابن معين{[3349]} وغيره ، والحديث مستغن عن طريق إبراهيم ، وقال بعض البغداديين ، هذا الحديث مشير إلى أن الحج لا يجب مشياً .

قال القاضي : والذي أقول : إن هذا الحديث إنما خرج على الغالب من أحوال الناس وهو البعد عن مكة واستصعاب المشي على القدم كثيراً ، فأما القريب الدار فلا يدخل في الحديث ، لأن القرب أغناه عن زاد وراحلة ، وأما الذي يستطيع المشي من الأقطار البعيدة ، فالراحلة عنده بالمعنى والقوة التي وهب ، وقد ذكره الله تعالى في قوله : { يأتوك رجالاً } [ الحج : 27 ] وكذلك أيضاً معنى الحديث : الزاد والراحلة لمن لم يكن له عذر في بدنه ، من مرض أو خوف على أقسامه أو استحقاق بأجرة أو دين وهو يحاول الأداء ويطمع فيه بتصرفه في مال بين يديه ، وأما العديم فله أن يحج إذا تكلف واستطاع ، فمقصد الحديث : أن يتحدد موضع الوجوب على البعيد الدار ، وأما المشاة وأصحاب الأعذار فكثير منهم من يتكلف السفر ، وإن كان الحج غير واجب عليه ، ثم يؤديه ذلك التكلف إلى موضع يجب فيه الحج عليه ، وهذه مبالغة في طلب الأجر ونيله إن شاء الله تعالى ، وذهبت فرقة من العلماء إلى قوله تعالى : { من استطاع إليه سبيلاً } كلام عام لا يتفسر بزاد وراحلة ولا غير ذلك ، بل إذا كان مستطعياً غير شاق على نفسه فقد وجب عليه الحج ، قال ذلك ابن الزبير والضحاك ، وقال الحسن : من وجد شيئاً يبلغه فقد استطاع إليه سبيلاً ، وقال عكرمة : استطاعة السبيل الصحة ، وقال ابن عباس : من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل إليه ، وقال مالك بن أنس رضي الله عنه ، في سماع أشهب من العتبية ، وفي كتاب محمد ، وقد قيل له : أتقول إن السبيل الزاد والراحلة ؟ فقال : لا والله ، قد يجد زاداً وراحلة ولا يقدر على مسير ، وآخر يقدر أن يمشي راجلاً ، وربَّ صغير أجلد من كبير فلا صفة في هذا أبين مما قال الله تعالى .

قال القاضي : وهذا أنبل كلام ، وجميع ما حكي عن العلماء لا يخالف بعضه بعضاً ، الزاد والراحلة على الأغلب من أمر الناس في البعد ، وأنهم أصحاء غير مستطيعين للمشي على الأقدام ، والاستطاعة - متى تحصلت- عامة في ذلك وغيره ، فإذا فرضنا رجلاً مستطيعاً للسفر ماشياً معتاداً لذلك ، وهو ممن يسأل الناس في إقامته ويعيش من خدمتهم وسؤالهم ووجد صحابة ، فالحج عليه واجب دون زاد ولا راحلة ، وهذه من الأمور التي يتصرف فيها فقه الحال ، وكان الشافعي يقول : الاستطاعة على وجهين : بنفسه أولاً ، فمن منعه مرض أو عذر وله مال فعليه أن يجعل من يحج عنه وهو مستطيع لذلك .

واختلف الناس هل وجوب الحج على الفور أو على التراخي ؟ على قولين ، ولمالك رحمه الله مسائل تقتضي القولين ، قال في المجموعة فيمن أراد الحج ومنعه أبواه : لا يعجل عليهما في حجة الفريضة وليستأذنهما العام والعامين ، فهذا على التراخي ، وقال في كتاب ابن المواز : لا يحج أحد إلا بإذن أبويه إلا الفريضة ، فليخرج وليدعهما ، فهذا على الفور ، وقال مالك في المرأة يموت عنها زوجها فتريد الخروج إلى الحج : لا تخرج في أيام عدتها ، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي{[3350]} : فجعله على التراخي .

قال القاضي : وهذا استقراء فيه نظر ، واختلف قول مالك رحمه الله فيمن يخرج إلى الحج على أن يسأل الناس جائياً وذاهباً ممن ليست تلك عادته في إقامته ، فروى عنه ابن وهب أنه قال : لا بأس بذلك ، قيل له فإن مات في الطريق قال : حسابه على الله ، وروى عنه ابن القاسم أنه قال : لا أرى اللذين لا يجدون ما ينفقون أن يخرجوا إلى الحج والغزو ، ويسألوا وإني لأكره ذلك ، لقول الله سبحانه ، { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج }{[3351]} قال ابن القاسم : وكره مالك أن يحج النساء في البحر لأنها كشفة ، وكره أن يحج أحد في البحر إلا مثل أهل الأندلس الذين لا يجدون منه بداً ، وقال في كتاب محمد وغيره : قال الله تعالى : { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق }{[3352]} وما أسمع للبحر ذكراً .

قال الفقيه القاضي : وهذا تأنيس من مالك رحمه الله لسقوط لفظة البحر ، وليس تقتضي الآية سقوط البحر ، وسيأتي تفسير ذلك في موضعه إن شاء الله ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ناس من أمتي عرضوا عليَّ ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة ، يركبون ثبج هذا البحر الأخضر غزاة في سبيل الله »{[3353]} .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : ولا فرق بين الغزو والحج ، واختلف في حج النساء ماشيات مع القدرة على ذلك ، فقال في المدونة في المرأة تنذر مشياً فتمشي وتعجز في بعض الطريق : إنها تعود ثانية ، قال : والرجال والنساء في ذلك سواء ، فعلى هذا ، يجب الحج إذا كانت قادرة على المشي لان حجة الفريضة آكد من النذر ، وقال في كتاب محمد : لا أرى على المرأة الحج ماشية وإن قويت عليه ، لأن مشيهن عورة ، إلا أن يكون المكان القريب من مكة .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا ينظر بفقه الحال الى رائعة ومتجالة{[3354]} ، ولا حج على المرأة إلا إذا كان معها ذو محرم ، واختلف إذا عدمته ، هل يجب الحج بما هو في معناه من نساء ثقات يصطحبن في القافلة أو رجال ثقات ؟ فقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي وابن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو حنيفة وأصحابه : المحرم من السبيل ، ولا حج عليها إلا مع ذي محرم .

قال القاضي : وهذا وقوف مع لفظ الحديث ، وقال مالك : تخرج مع جماعة نساء ، وقال الشافعي : تخرج مع حرة ثقة مسلمة ، وقال ابن سيرين : تخرج مع رجل ثقة من المسلمين ، وقال الأوزاعي : تخرج مع قوم عدول وتتخذ سلماً تصعد عليه وتنزل ولا يقربها رجل .

قال القاضي : وهذه الأقوال راعت معنى الحديث : وجمهور الأمة على أن للمرأة أن تحج الفريضة وإن كره زوجها وليس له منعها ، واضطرب قول الشافعي في ذلك ، واختلف الناس في وجوب الحج مع وجود المكوس والغرامة ، فقال سفيان الثوري : إذا كان المكس ولو درهماً سقط فرض الحج عن الناس ، وقال عبد الوهاب ، إذا كانت الغرامة كثيرة مجحفة سقط الفرض ، فظاهر هذا أنها إذا كانت كثيرة غير مجحفة لسعة الحال أن الفرض لا يسقط ، وعلى هذا المنزع جماعة أهل العلم وعليه مضت الأعصار ، وهذه نبذة من فقه الاستطاعة ، وليس هذا الجمع بموضع لتقصي ذلك والله المستعان .

والسبيل - تذكر وتؤنث ، والأغلب والأفصح التأنيث ، قال الله تعالى : { تبغونها عوجاً }{[3355]} وقال : { قل هذه سبيلي }{[3356]} ومن التذكير قول كعب بن مالك{[3357]} .

قضى يوم بدر أن تلاقي معشراً . . . بغوا وسبيل البغي بالناس جائز

والضمير في { إليه } ، عائد على البيت ، ويحتمل أن يعود على الحج ، وقوله تعالى : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } قال ابن عباس : المعنى ، من زعم أن الحج ليس بفرض عليه ، وقال مثله الضحاك وعطاء وعمران القطان{[3358]} والحسن ومجاهد ، وروي عن النبي عليه السلام أنه قرأ الآية ، فقال له رجل من هذيل : يا رسول الله ( من تركه كفر ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من تركه لا يخاف عقوبته ، ومن حجه لا يرجو ثوابه فهو ذلك ){[3359]} وقال بمعنى هذا الحديث ابن عباس ومجاهد أيضاً ، وهذا والذي قبله يرجع إلى كفر الجحد والخروج عن الملة ، وقال ابن عمر وجماعة من العلماء معنى الآية ، من كفر بالله واليوم الآخر وهذا قريب من الأول ، وقال ابن زيد : معنى الآية من كفر بهذه الآيات التي في البيت ، وقال السدي وجماعة من أهل العلم : معنى الآية : ومن كفر بأن وجد ما يحج به ثم لم يحج ، قال السدي : من كان بهذه الحال فهو كافر .

قال القاضي أبو محمد : فهذا كفر معصية ، كقوله عليه السلام ، ( من ترك الصلاة فقد كفر ) {[3360]} وقوله : ( لا ترجعوا بعدي كفاراً ، يضرب بعضكم رقاب بعض ) {[3361]} ، على أظهر محتملات هذا الحديث . وبيّن أن من أنعم الله عليه بمال وصحة ولم يحج فقد كفر النعمة ، ومعنى قوله تعالى : { غني عن العالمين } الوعيد لمن كفر ، والقصد بالكلام ، فإن الله غني عنهم ، ولكن عمم اللفظ ليبرع المعنى ، وينتبه الفكر على قدرة الله وسلطانه واستغنائه من جميع الوجوه حتى ليس به افتقار إلى شيء ، لا رَبَّ سواه .


[3340]:- أبو طالب هو عم النبي وناصره، ولد قبل النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وثلاثين سنة، ولما حضرت الوفاة عبد المطلب وصّى بالنبي صلى الله عليه وسلم إليه فكفله، وأحسن تربيته، وسافر به إلى الشام وهو شاب، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قام بنصره، وذبّ عنه من عاداه، ومدحه عدة مدائح، توفي في السنة العاشرة من النبوة. "خزانة الأدب: 1/ 261". وموطئ إبراهيم عليه السلام هو موضع قدمه في الصخرة التي اعتمد عليها حين أمال رأسه ليغسل فأبقى الله فيها أثر قدمه آية، قال تعالى: [فيه آيات بينات مقام إبراهيم] وقيل: بل هو أثر قدمه حين رفع القواعد من البيت وهو قائم عليه.
[3341]:- من الآية (35) من سورة إبراهيم.
[3342]:- يحيى بن جعدة بن هبيرة القرشي المخزومي، روى عن جدته أم هانئ بنت أبي طالب، وعن أبي الدرداء، وزيد بن أرقم، وابن مسعود، وغيرهم، وروى عنه عمرو بن دينار، ومجاهد، وحبيب بن ثابت، وغيرهم، ثقة، ذكره ابن حبان في الثقات (تهذيب التهذيب. 11/192).
[3343]:- يشير إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (بني الإسلام على خمس) والحديث أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، والإمام أحمد، (الجامع الصغير: 1/428).
[3344]:- قوله: (ولم يجيئوا ... اسم له): هذا تتمة كلام سيبويه.
[3345]:- إبراهيم بن يزيد الخوزي الأموي أبو إسماعيل المكي، مولى عمر بن عبد العزيز روى عن طاوس وأبي الزبير ومحمد بن عباد وغيرهم..وروى عنه عبد الرزاق، ووكيع، ومعتمر بن سلمان، وغيرهم، قال البخاري: سكتوا عنه. قال ابن سعد: مات سنة 151. "تهذيب التهذيب" 1/179.
[3346]:- أخرجه الشافعي، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن ماجة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عدي، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن ابن عمر مرفوعا، كما أخرجه الدارقطني بعدة روايات مختلفة. "تفسير الشوكاني 1/332".
[3347]:- أخرجه الترمذي والبيهقي من رواية الحارث عن علي. "الترغيب والترهيب: 2/211".
[3348]:- محمد بن عباد بن جعفر المخزومي المكي، روى عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عمر، وغيرهم، وروى عنه ابنه جعفر، والزهدي، والأوزاعي وغيرهم، ثقة، قليل الحديث. "تهذيب التهذيب 9/243".
[3349]:- هو يحيى بن معين الإمام الفرد، سيد الحفاظ أبو زكرياء مولاهم البغدادي، سمع هشيما، وابن المبارك وغيرهما، وروى عنه أحمد، والبخاري، وغيرهما، توفي سنة 233هـ "تذكرة الحفاظ: 2/229"
[3350]:- هو الشيخ أبو الحسن علي بن محمد الربعي اللخمي القيرواني، تفقه بابن محرز وغيره من علماء وقته، ظهر في أيامه وطارت فتاويه، حاز رياسة أفريقية جملة، وتفقه به جماعة من أهل صفاقس، أخذ عنه أبو عبد الله المازري، له تعليق كبير على المدونة (الديباج المذهب: 203).
[3351]:- من الآية 591- من سورة التوبة.
[3352]:- الآية (27) من سورة الحج.
[3353]:- أخرجه البخاري ومسلم (عن أنس رضي الله عنه)- انظر: (الترغيب والترهيب 2//305)
[3354]:التجال: التعاظم؛ وفي العبارة غموض.
[3355]:- من الآية 99- من سورة آل عمران.
[3356]:- من الآية (108) من سورة يوسف.
[3357]:- من قصيدة له يجاوب فيها ضرار بن الخطاب، انظر ديوانه (جمع سامي العاني): 200 والبداية والنهاية 3/335.
[3358]:- عمران بن داود العمى أبو العوام القطان البصري، روى عن قتادة، ومحمد بن سيرين، وأبي جمرة الضبعي، وغيرهم، وعنه ابن مهدي، وأبو داود الطيالسي، وآخرون، ذكره يحيى فأحسن الثناء عليه، وابن حبان ذكره في الثقات. وقال النسائي: ضعيف. وقال الحاكم: صدوق، كان من أخص الناس بقتادة. "تهذيب التهذيب 8/ 130".
[3359]:- أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، عن أبي داود نفيع. (تفسير الشوكاني 1/334).
[3360]:- أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس. (الجامع الصغير 2/509).
[3361]:-أخرجه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجة عن جرير، كما أخرجه الإمام أحمد، والبخاري وأبو داود، والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر، كما أخرجه البخاري والنسائي، عن أبي بكرة، وأخرجه البخاري، والترمذي عن ابن عباس. (الجامع الصغير 2/632).