المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلٗا كَرِيمٗا} (31)

31- إن تبتعدوا عن الذنوب العظيمة التي ينهاكم الله عنها نمنع عنكم ما دونها من السيئات والصغائر ما دمتم باذلين جهدكم في الاستقامة ، وننزلكم في الدنيا والآخرة منزلاً فيه إحسان لكم وتكريم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلٗا كَرِيمٗا} (31)

{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } .

واجتناب الشئ معناه : المباعدة عنه وتركه جانبا بحيث تكون أنت فى جانب وهو فى جانب آخر ولا تلاقى بينكما .

وكبائر الذنوب : ما عظم منها ، وعظمت العقوبة عليه . كالشرك ، وقتل النفس بغير حق ، وأكل مال اليتيم ونحو ذلك من المحرمات .

والسيئات : جمع سيئة وهى الفعلة القبيحة ، وسميت بذلك ؛ لأنها تسوء صاحبها عاجلا أو آجلا .

والمراد بالسيئات هنا : صغائر الذنوب بدليل مقابلتها بالكبائر .

والمعنى : إن تتركوا - يا معشر المؤمنين - كبائر الذنوب التى نهاكم الشرع عن اقترافها ، { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } أى نسترها عليكم ، ونمحها عنكم حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل فضلا من الله عليكم ، ورحمة بكم .

{ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } أى وندخلكم فى الآخرة مدخلا حسنا وهو الجنة التى وعد الله بها عباده الصالحين . فهى مكان طيب يجد من يحل فيه الكثير من كرم الله ورضاه .

والمدخل - بضم الميم - كما قرأه الجمهور مصدر بمعنى الإِدخال ومفعول ندخلكم محذوف أى نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم إدخالا كريما .

ويصح أن يكون اسم مكان منصوبا على الظرفية عند سيبويه ، وعلى المفعولية عند الأخفش .

وقرأ نافع { مَّدْخَلاً } - بفتح الميم - على أنه اسم مكان للدخول ، ويجوز أن يكون مصدرا ميما . أى ندخلكم مكانا كريما أو ندخلكم دخولا كريما .

هذا ، وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن صغائر الذنوب يغفرها الله - تعالى - لعباده رحمة منه وكرما متى اجتنبوا كبائر الذنوب ، وصدقوا فى توبتهم إليه .

كما استدلوا بها على أن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر ؛ لأن هذه الآية قد فصلت بين كبائر الذنوب وبين ما يكفر باجتنابها وهو صغار الذنوب المعبر عنها بقوله - تعالى - : { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } . ولأن الله - تعالى - يقول فى موضع آخر { وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة } قال الآلوسى ما ملخصه : واختلفوا فى حد الكبيرة على أقوال منها : أنها كل معصية أوجبت الحد . ومنها : أنها كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وبضعف ديانته .

وقال الواحدى : الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به ، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها . ولكن الله - تعالى - أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا فى اجتناب المنهى عنه رجاء أن تجنب الكبائر . ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى ، وليلة القدر . وساعة الإِجابة .

وذهب جماعة إلى ضبطها بالعد من غير ضبط بحد . فعن ابن عباس وغيره أنها ما ذكره الله - تعالى - من أول هذه السورة إلى هنا . وقيل هى سبع بدليل ما جاء فى الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :

" اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : وما هو يا رسول الله ؟ قال : الشرك بالله - تعالى - والسحر ، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق ، وأكل ما اليتيم ، وأكل الربا ، والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " .

فإن قيل : جاء فى روايات أخرى أن من الكبائر " اليمين الغموس " و " قول الزور " و " عقوق الوالدين " ؟ قلنا فى الجواب : إن ذلك محمول على أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر ما ذكر منها قصدا لبيان المحتاج منها وقت الذكر وليس لحصره الكبائر فيه - فإن النص على هذه السيع بأنهن كبائر لا ينفى ما عداهن .

والذى نراه أن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر ، وأن الصغائر يغفرها الله لعاده متى اجتنبوا الكبائر وأخلصوا دينهم لله ، وأن الكبائر هى ما حذر الشرع من ارتكابها تحذيرا شديدا ، وتوعد مرتكبها بسوء المصير ، كالإشراك بالله ، وقتل النفس بغير حق وغير ذلك من الفواحش التى يؤدى ارتكابها إلى إفساد شأن الأفراد والجماعات والتى ورد النهى عنها فى كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية . وأن الصغائر ، هى الذنوب اليسيرة التى يتركبها الشخص من غير إصرار عليها ولا استهانة بها أو مداومة عليها ، بل يعقبها بالتوبة الصادقة والعمل الصالح وصدق الله إذ يقول : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ } ولقد فتح الله - تعالى - لعباده باب التوبة من الذنوب صغيرها وكبيرها حتى لا ييأسوا من رحمته فقال - سبحانه - : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلٗا كَرِيمٗا} (31)

24

وفي مقابل اجتناب " الكبائر " - ومنها أكل الأموال بينهم بالباطل - يعدهم الله برحمته ، وغفرانه ، وتجاوزه عما عدا الكبائر ؛ مراعاة لضعفهم الذي يعلمه - سبحانه - وتيسيرًا عليهم ، وتطمينًا لقلوبهم ؛ وعونًا لهم على التحاجز عن النار ؛ باجتناب الفواحش الكبار :

( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ، نكفر عنكم سيئاتكم ، وندخلكم مدخلا كريما ) .

ألا ما أسمح هذا الدين ! وما أيسر منهجه ! على كل ما فيه من هتاف بالرفعة والسمو والطهر والنظافة ، والطاعة . وعلى كل ما فيه من التكاليف والحدود ، والأوامر والنواهي ، التي يراد بها إنشاء نفوس زكية طاهرة ؛ وإنشاء مجتمع نظيف سليم .

إن هذا الهتاف ، وهذه التكاليف ، لا تغفل - في الوقت ذاته - ضعف الإنسان وقصوره ؛ ولا تتجاوز به حدود طاقته وتكوينه ؛ ولا تتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها ؛ ولا تجهل كذلك دروب نفسه ومنحنياتها الكثيرة .

ومن ثم هذا التوازن بين التكليف والطاقة . وبين الأشواق والضرورات . وبين الدوافع والكوابح . وبين الأوامر والزواجر . وبين الترغيب والترهيب . وبين التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة . .

إنه حسب هذا الدين من النفس البشرية أن يتم اتجاهها لله ؛ وأن تخلص حقًا في هذا الاتجاه ، وأن تبذل غاية الجهد في طاعته ورضاه . . فأما بعد ذلك . . فهناك رحمة الله . . هناك رحمة الله ترحم الضعف ، وتعطف على القصور ؛ وتقبل التوبة ، وتصفح عن التقصير ؛ وتكفر الذنب وتفتح الباب للعائدين ، في إيناس وفي تكريم . .

وآية بذل الطاقة اجتناب كبائر ما نهى الله عنه . أما مقارفة هذه الكبائر - وهي واضحة ضخمة بارزة ؛ لا ترتكبها النفس وهي جاهلة لها أو غير واعية ! فهي دليل على أن هذه النفس لم تبذل المحاولة المطلوبة ؛ ولم تستنفد الطاقة في المقاومة . . وحتى هذه فالتوبة منها في كل وقت مع الإخلاص مقبولة برحمة الله التي كتبها على نفسه . . وقد قال فيها : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) . . وعدهم من " المتقين " .

إنما الذي نحن بصدده هنا هو تكفير السيئات والذنوب مباشرة من الله ، متى اجتنبت الكبائر ؛ وهذا هو وعد الله هنا وبشراه للمؤمنين .

أما ما هي الكبائر . . فقد وردت أحاديث تعدد أنواعًا منها - ولا تستقصيها - وذلك بدليل احتواء كل حديث على مجموعة تزيد أو تنقص ؛ مما يدل على أن هذه الأحاديث كانت تعالج حالات واقعة ؛ فتذكر من الكبائر - في كل حديث - ما يناسب الملابسة الحاضرة ، والمسلم لا يعسر عليه أن يعلم " الكبائر " من الذنوب . وإن كانت تختلف عددًا ونوعًا بين بيئة وبيئة ، وبين جيل وجيل !

ونذكر هنا قصة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو المتحرج المتشدد الشديد الحساسية بالمعصية . تبين - مع ذلك كله - كيف قوم الإسلام حسه المرهف ، وكيف جعل الميزان الحساس يعتدل في يده ويستقيم ؛ وهو يعالج أمور المجتمع وأمور النفوس :

قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ؛ عن الحسن أن ناسًا سألوا عبدالله بن عمرو بمصر ، فقالوا : نرى أشياء من كتاب الله - عز وجل - أمر أن يعمل بها ، لا يعمل بها ؛ فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك . فقدم وقدموا معه . فلقي عمر - رضي الله عنه - فقال : متى قدمت ؟ فقال : منذ كذا وكذا . قال : أبإذن قدمت ؟ قال : فلا أدري كيف رد عليه . فقال : أمير المؤمنين إن ناسًا لقوني بمصر ، فقالوا : إنا نرى أشياء في كتاب الله ، أمر أن يعمل بها ، فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك . قال : فاجمعهم لي . قال فجمعتهم له . قال أبو عون : أظنه قال : في بهو . . فأخذ أدناهم رجلاً ؛ فقال أنشدك الله ، وبحق الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله ! قال : نعم . قال : فهل أحصيته في نفسك ؟ فقال : اللهم لا - ولو قال : نعم ، لخصمه ! قال : فهل أحصيته في بصرك ؟ فهل أحصيته في لفظك ؟ هل أحصيته في أثرك . . ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال : ثكلت عمر أمه ! أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات . قال وتلا : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) . . . الآية . ثم قال : هل علم أهل المدينة ؟ أو قال : هل علم أحد بما قدمتم ؟ قالوا : لا . قال : لو علموا لوعظت بكم ! " .

فهكذا كان عمر - المتحرج الشديد الحساسية - يسوس القلوب والمجتمع ؛ وقد قوم القرآن حسه ؛ وأعطاه الميزان الدقيق . . " وقد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات ! " ولن نكون غير ما علم ربه أن نكون ! إنما المعول عليه هو القصد والتصويب والمحاولة والرغبة في الوفاء بالالتزامات ، وبذل الجهد في هذا الوفاء . . إنه التوازن والجد واليسر والاعتدال .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلٗا كَرِيمٗا} (31)

{ تجتنبوا } معناه : تدعون جانباً ، وقرأ ابن مسعود وابن جبير «إن تجتنبوا كبير » وقرأ المفضل عن عاصم «يكفّر » و «يدخلكم » على علامة الغائب ، وقرأ الباقون بالنون والقراءتان حسنتان ، وقرأ ابن عباس «عنكم من سيئاتكم » بزيادة «من » وقرأ السبعة سوى نافع «مُدخلاً » بضم الميم ، وقرأ نافع : «مدخلاً » بالفتح وقد رواه أيضاً أبو بكر عن عاصم ها هنا وفي الحج ، ولم يختلف في سورة بني إسرائيل في { مدخل ومخرج صدق }{[3978]} أنهما بضم الميم ، قال أبو علي : «مَدخلاً » بالفتح يحتمل أن يكون مصدراً ، والعامل فيه فعل يدل عليه الظاهر ، التقدير : ويدخلكم فتدخلون مدخلاً ، ويحتمل أن يكون مكاناً ، فيعمل فيه الفعل الظاهر ، وكذلك يحتمل «مُدخلاً » بضم الميم للوجهين ، وإذا لم يعمل الفعل الظاهر فمعموله الثاني محذوف ، تقديره : ويدخلكم الجنة ، واختلف أهل العلم في «الكبائر » فقال علي بن أبي طالب : ( هي سبع ، الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا والفرار يوم الزحف والتعرب بعد الهجرة ){[3979]} . وقال عبيد بن عمير : الكبائر سبع في كل واحدة منها آية في كتاب الله عز وجل .

قال القاضي أبو محمد : وذكر كقول علي ، وجعل الآية في التعرب قوله تعالى : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى }{[3980]} ، ووقع في البخاري في كتاب الحدود في باب رمي المحصنات «اتقوا السبع الموبقات ، الإشراك بالله ، والسحر ، وقتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات »{[3981]} .

وقال عبد الله بن عمر : هي تسع «الإشراك بالله ، والقتل ، والفرار ، والقذف ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وإلحاد في المسجد الحرام ، والذي يستسحر ، وبكاء الوالدين من العقوق »{[3982]} قال عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي : هي في جميع ما نهى عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها وهي { إن تجتنبوا } وقال عبد الله بن مسعود : هي أربع أيضاً الإشراك بالله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ، وروي أيضاً عن ابن مسعود : هي ثلاث : القنوط ، واليأس ، والأمن المتقدمة ، وقال ابن عباس أيضاً وغيره : «الكبائر » كل ما ورد عليه وعيد بنار أو عذاب أو لعنة أو ما أشبه ذلك{[3983]} ، وقالت فرقة من الأصوليين : هي في هذا الموضع أنواع الشرك التي لا تصلح معها الأعمال ، وقال رجل لابن عباس : أخبرني عن الكبائر السبع ، فقال : هي إلى السبعين أقرب ، وقال ابن عباس : كل ما نهى الله عنه فهو كبير{[3984]} ، فهنا يدخل الزنا ، وشرب الخمر ، والزور ، والغيبة ، وغير ذلك مما قد نص عليه في أحاديث لم يقصد الحصر للكبائر بها ، بل ذكر بعضها مثالاً ، وعلى هذا القول أئمة الكلام : القاضي ، وأبو المعالي ، وغيرهما : قالوا : وإنما قيل : صغيرة بالإضافة إلى أكبر منها وهي في نفسها كبيرة من حيث المعصي بالجميع واحد ، وهذه الآية يتعاضد معها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الوضوء من مسلم ، عن عثمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

«ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ، ما لم يأت كبيرة ، وذلك الدهر كله »{[3985]} .

واختلف العلماء في هذه المسألة فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث يرون أن الرجل إذا اجتنب الكبائر وامتثل الفرائض ، كفرت صغائره كالنظر وشبهه قطعاً بظاهر هذه الآية وظاهر الحديث ، وأما الأصوليون فقالوا : لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ، وإنما يحمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء ، والمشيئة ثابتة ، ودل على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض بتكفير صغائره قطعاً لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بأنه لا تباعة فيه ، وذلك نقض لعرى الشريعة ، ومحمل الكبائر عند الأصوليين في هذه الآية أجناس الكفر ، والآية التي قيدت الحكم فترد إليها هذه المطلقات كلها : قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }{[3986]} و { كريماً } يقتضي كرم الفضيلة ونفي العيوب ، كما تقول : ثوب كريم ، وكريم المحتد ، وهذه آية رجاء ، روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : خمس آيات من سورة النساء هي أحب إليّ من الدنيا جميعاً ، قوله : { إن تجتنبوا } الآية ، وقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [ النساء : 48 و 116 ] وقوله : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم } [ النساء : 110 ] وقوله أيضاً : { يضاعفها } [ النساء : 40 ] وقوله : { والذين آمنوا بالله ورسله } الآية{[3987]} .


[3978]:- من قوله تعالى في الآية (80) من سورة الإسراء: {وقل رب أدخلني مدخل صدق، وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا}
[3979]:- قال الأزهري: ويكون التعرب أن يرجع إلى البادية بعد ما كان مقيما بالحضر، فيلحق بالأعراب، ويكون التعرب المقام بالبادية، ومنه قول الشاعر: تعرب آبائي، فهلا وقاهم من الموت رملا عالج وزرود يقول: أقام آبائي بالبادية،ولم يحضروا القرى. اللسان- (عرب).
[3980]:- الآية (25) من سورة (محمد).
[3981]:- أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة. الدر المنثور 2/146.
[3982]:- أخرجه علي بن الجعد في الجعديات عن طيسلة قال: سألت ابن عمر عن الكبائر فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هن تسع... الخ. مع اختلاف في بعض الألفاظ. الدر المنثور 2/146.
[3983]:- أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: (الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب.) الدر المنثور 2/ 146، وابن كثير 2/ 266.
[3984]:- أخرجه ابن جرير عن أبي الوليد مع اختلاف يسير في اللفظ. الدر المنثور 2/ 146، وابن كثير 2/ 266.
[3985]:- الحديث في مسلم، وصححه في الجامع الصغير.
[3986]:- من الآية (116) من سورة (النساء). وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بقول الله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}، وهي في كتب السنة الصحيحة، وفي كثير من التفاسير.
[3987]:- أخرج أبو عبيد، وسعيد بن منصور في فضائله، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: "إن في سورة النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها- قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} الآية. وقوله: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} الآية، وقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} الآية، وقوله: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك} الآية، وقوله: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه} الآية" عن (الدر المنثور) 2/ 145، وقوله تعالى: [يضاعفها] هي من الآية الكريمة: {وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما} وهي الآية رقم (40) من هذه السورة. وقال ابن عباس: ثماني آيات في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت: {يريد الله ليبين لكم}، {والله يريد أن يتوب عليكم}، {يريد الله أن يخفف عنكم}، {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} الآية، {إن الله لا يغفر أن يشرك به}، {إن الله لا يظلم مثقال ذرة}، {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه}، {وما يفعل الله بعذابكم} الآية.