ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بما كان من بعضهم بعد أن اضطربت أحوالهم وجاءهم أعداؤهم من أمامهم ومن خلفهم بسبب ترك معظم الرماة لأماكنهم ، فقال - تعالى - { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } .
وقوله : { تُصْعِدُونَ } من الإصعاد وهو الذهاب فى صعيد الأرض والإبعاد فيه .
يقال : أصعد فى الأرض إذا أبعد فى الذهاب وأمعن فيه ، فهو الصعد .
قال القرطبى : الإصعاد : السير فى مستو من الأرض وبطون الأودية والشعاب .
والصعود : الارتفاع على الجبال والدرج .
وقوله { إِذْ تُصْعِدُونَ } متعلق بقوله { صَرَفَكُمْ } أو بقوله { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أو بمحذوف تقديره اذكروا .
أى اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن كنتم مصعدين تهرولون بسرعة فى بطن الوادى بعد أن اختلت صفوفكم - واضطرب جمعكم . وصرتم لا يعرج بعضكم على بعض ولا يتلفت أحدكم إلى غيره من شدة الهرب ، والحال أن رسولكم صلى الله عليه وسلم { يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } أى يناديكم فى أخراكم أو فى جماعتكم الأخرى أو من خلفكم يقال .
جاء فلان فى آخر الناس وأخراهم إذا جاء خلفهم ، كما يقال : جاء فى أولهم وأولاهم .
والمراد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو المنهزمين إلى الثبات وإلى ترك الفرار من الأعداء وإلى معاودة الهجوم عليهم وهو ثابت لم يتزعزع ومعه نفر من أصحابه .
قال ابن جرير لما اشتد المشكرون على المسلمين بأحد فهزموهم ، دخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس : " إلىَّ عباد الله " ! فذكر الله صعودهم إلى الجبل ، ثم ذكر دعاء النبى صلى الله عليه وسلم إياهم فقال : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } .
ففى هذه الجملة الكريمة تصوير بديع معجز لحال المسلمين عندما اضطربت صفوفهم فى غزوة أحد ، فهى تصور حالهم وهم مصعدون فى الوادى بدون تمهل أو تثبت ، وتصور حالهم وقد أخذ منهم الدهش مأخذه بحيث أصبح بعضهم لا يلتفت إلى غيره أو يسمع له نداء ، أو يجيب له طلبا وتصور حال النبى صلى الله عليه وسلم وقد ثبت كالطود الأشم بدون اضطراب أو وجل ومعه صفوة من أصحابه وقد أخذ ينادى الفارين بقوله : " إلى عباد الله ، إلى عباد الله أنا رسول الله ، من يكر فله الجنة " .
وقوله - تعالى - { فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ } .
بيان للنتيجة التى ترتبت على هذا الاضطراب وهو معطوف على قوله { صَرَفَكُمْ } أو على قوله { تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ } ولا يضر كونهما مضارعين فى اللفظ لأن إذ المضافة إليهما صيرتهما ماضيين فى المعنى .
وأصل الإثابة إعطاء الثواب ، وهو شىء يكون جزاء على عطاء أو فعل ولفظ الثواب لا يستعمل فى الأعم الأغلب إلا في الخير ، والمراد به هنا العقوبة التى نزلت بهم . وسميت العقوبة التى نزلت بهم ثوابا على سبيل الاستعارة التهكمية كما فى قوله { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ويجوز أن يكون اللفظ مستعملا فى حقيقته ، لأن لفظ الثواب فى أصل اللغة معناه ما يعود على الفاعل من جزاء فعله ، سواء أكان خيراً أو شراً .
قال القرطبى : قوله - تعالى - { فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ } الغم فى اللغة التغطية . يقال : غممت الشىء أى غطيته . ويوم غم وليلة غمة إذا كانا مظلمين .
قال مجاهد وقتادة وغيرهما ، والغم الأول القتل والجراح والغم الثانى الإرجاف بمقتل النبى صلى الله عليه وسلم وقيل الغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة والثانى : استعلاء المشركين عليهم . وعند ذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم
والباء فى { بِغَمٍّ } على هذا بمعنى على . وقيل هى على بابها والمعنى أنهم غموا النبى صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم إياه فأثابهم بذلك غمهم بمن أصيب منهم " .
ويجوز أن يكون الكلام لمجرد التكثير أى جازاكم بغموم وأحزان كثيرة متصل بعضها ببعض بأن منع عنكم نصره وحرمكم الغنيمة وأصابتكم الجراح الكثيرة وأشيع بينكم أن نبيكم قد قتل . . وكل ذلك بسبب أنكم خالفتم وصية نبيكم صلى الله عليه وسلم وتغلب حب الدنيا وشهواتها على قلوب بعضكم فلم تخلصوا لله الجهاد فأصابكم ما أصابكم .
وقوله { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ } تعليل لقوله { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } أى : ولقد عفا الله - تعالى - عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم ونصر ، ولا على ما أصابكم من جراح وآلام ، فإن عفو الله - تعالى - يذهب كل حزن ويمسح كل ألم .
وير صاحب الكشاف أن معنى " لكى لا تحزنوا " لتتمرنوا على تجرع الغموم فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، ولا على مصيب من المضار .
ثم قال : ويجوز أن يكون الضمير فى { فَأَثَابَكُمْ } للرسول . أى : فآساكم فى الاغتمام - أى فصار أسوتكم - لأنه كما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرها فقد غمه ما نزل بكم . فأثابكم غما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم لأمره ، وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله ولا على ما أصابكم من غلبة العدو " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أى : والله - تعالى - عليم بأعمالكم ونياتكم علما كاملا ، وخير بما انطوت عليه نفوسكم فهو - سبحانه - لا تخفى عليه خافية مهما صغرت ، فاتقوه وراقبوه واتبعوا ما كلفكم به لتنالوا الفوز والسادة .
ويستحضر صورة الهزيمة حية متحركة :
( إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، والرسول يدعوكم في أخراكم ) . .
كي يعمق وقع المشهد في حسهم ؛ ويثير الخجل والحياء من الفعل ، ومقدماته التي نشأ عنها ، من الضعف والتنازع والعصيان . . والعبارة ترسم صورة حركتهم الحسية وحركتهم النفسية في الفاظ قلائل . . فهم مصعدون في الجبل هربا ، في اضطراب ورعب ودهش ، لا يلتفت أحد منهم إلى أحد ! ولا يجيب أحد منهم داعي أحد ! والرسول [ ص ] يدعوهم ، ليطمئنهم على حياته بعد ما صاح صائح : إن محمدا قد قتل ، فزلزل ذلك قلوبهم وأقدامهم . . إنه مشهد كامل في الفاظ قلائل . .
وكانت النهاية أن يجزيهم الله على الغم الذي تركوه في نفس الرسول [ ص ] بفرارهم ، غما يملأ نفوسهم على ما كان منهم ، وعلى تركهم رسولهم الحبيب يصيبه ما أصابه - وهو ثابت دونهم ، وهم عنه فارون - ذلك كي لا يحفلوا شيئا فاتهم ولا أذى أصابهم . فهذه التجربة التي مرت بهم ، وهذا الألم الذي أصاب نبيهم - وهو أشق عليهم من كل ما نزل بهم - وذلك الندم الذي ساور نفوسهم ، وذلك الغم الذي أصابهم . . كل ذلك سيصغر في نفوسهم كل ما يفوتهم من عرض ، وكل ما يصيبهم من مشقة :
( فأثابكم غما بغم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ) . .
والله المطلع على الخفايا ، يعلم حقيقة أعمالكم ، ودوافع حركاتكم :
{ إذ تصعدون } متعلق بصرفكم ، أو ليبتليكم أو بمقدر كاذكروا . والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض يقال : أصعدنا من مكة إلى المدينة . { ولا تلوون على أحد } لا يقف أحد لأحد ولا ينتظره . { والرسول يدعوكم } كان يقول إلي عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة . { في أخراكم } في ساقتكم أو في جماعتكم الأخرى { فأثابكم غما بغم } عطف على صرفكم ، والمعنى فجازاكم الله عن فشلكم وعصيانكم غما متصلا بغم ، من الاغتمام بالقتل والجرح وظفر المشركين والإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو فجازاكم غما بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم له . { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم } لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت ولا ضر لاحق . وقيل { لا } مزيدة والمعنى لتأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجرح والهزيمة عقوبة لكم . وقيل الضمير في فأثابكم للرسول صلى الله عليه وسلم أي فآساكم في الاغتمام فاغتم بما نزل عليكم ، كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يثر بكم على عصيانكم تسلية لكم كيلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر ولا على ما أصابكم من الهزيمة { والله خبير بما تعملون } عليم بأعمالكم وبما قصدتم بها .
{ إذ تصعدون } متعلّق بقوله : { ثم صرفكم عنهم } [ آل عمران : 152 ] أي دفعكم عن المشركين حين أنتم مصعدون .
والإصْعاد : الذهاب في الأرض لأنّ الأرض تسمّى صعيداً ، قال جعفر بن عُلْبة :
* هَوَاي مَع الرَكْب اليَمَانِينَ مُصْعِد *
والإصعاد أيضاً السَّير في الوادي ، قال قتادة والربيع : أصعدوا يوم أحُد في الوادي . والمعنى : تفرّون مصعدين ، كأنَّه قيل : تذهبون في الأرض أي فراراً ، فـ ( إذ ) ظرف للزمان الَّذي عقب صرف الله إيّاهم وكان من آثاره .
{ ولا تلوون على أحد } أي في هذه الحالة . واللَّيُّ مجاز بمعنى الرّحمة والرفق مثل العطف في حقيقته ومجازه ، فالمعنى ولا يلوي أحد عن أحد فأوجز بالحذف ، والمراد على أحد منكم ، يعني : فررتم لا يرحم أحد أحداً ولا يرفق به ، وهذا تمثيل للجدّ في الهروب حتَّى إنّ الواحد ليدوس الآخر لو تعرّض في طريقه .
وجملة { والرسول يدعوكم في أُخراكم } حال ، والأخرى آخر الجيش أي من ورائكم . ودعاء الرسول دعاؤه إيّاهم للثبات والرجوع عن الهزيمة ، وهذا هو دعاء الرسول النَّاس بقوله : « إليّ عباد الله من يَكُر فله الجنَّة » .
وقوله : { فأثابكم غما } إن كان ضمير { فأثابكم } ضميرَ اسم الجلالةَ ، وهو الأظهر والموافق لقوله بعده : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم } [ آل عمران : 154 ] فهو عطف على { صَرَفكم } [ آل عمران : 152 ] أي ترتّب على الصرف إثابتكم . وأصلُ الإثابة إعطاء الثَّواب وهو شيء يكون جزاء على عطاء أو فعل . والغمّ ليس بخير ، فيكونُ أثابكم إمّا استعارة تهكمية كقول عمرو بن كلثوم :
قَرَينَاكُم فَعَجَّلْنَا قِراكم *** قبيلَ الصبح مِرداة طحونا
أي جازاكم الله على ذلك الإصعاد المقارن للصرف أن أثابكم غمّاً أي قلقَا لكم في نفوسكم ، والمراد أن عاقبكم بغمّ كقوله : { فبشّرهم بعذاب أليم } [ آل عمران : 21 ] وفي هذا الوجه بعد : لأنّ المقام مقام ملام لا توبيخ ، ومقام لا تنديم . وإمّا مشاكلةً تقديرية لأنَّهم لما خرجوا للحرب خرجوا طالبين الثَّواب ، فسلكوا مسالك باءوا معها بعقاب فيكون كقول الفرزدق :
أخاف زياداً أن يكون عطاؤُه *** أدَاهِم سوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمرا
قلتُ : اطبُخوا لي جُبَّةً قميصاً .
ونكتة هذه المشاكلة أن يتوصّل بها إلى الكلام على ما نشأ عن هذا الغمّ من عبرة ، ومن توجّه عناية الله تعالى إليهم بعده .
والباء في قوله : { بغمّ } للمصاحبة أي غمّاً مع غمّ ، وهو جملة الغموم الَّتي دخلت عليهم من خيبة الأمل في النَّصر بعد ظهور بَوارقه ، ومن الانهزام ، ومن قتل من قُتل ، وجرح من جرح ، ويجوز كون الباء للعوض ، أي : جازاكم الله غمّاً في نفوسكم عوضاً عن الغمّ الَّذي نسبتم فيه للرسول وإن كان الضّمير في قوله : { فأثابكم } عائداً إلى الرسول في قوله : { والرسول يدعوكم } ، وفيه بعد ، فالإثابة مجاز في مقابلة فعل الجميل بمثله أي جازاكم بغمّ .
والباء في قوله : { بغمّ } باء العوض . والغمّ الأوّل غمّ نفس الرسول ، والغمّ الثَّاني غمّ المسلمين ، والمعنى أنّ الرسول اغتمّ وحزن لما أصابكم ، كما اغتممتم لما شاع من قتله فكان غمّه لأجلكم جزاءاً على غمّكم لأجله .
وقوله : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } تعليل أوّل ل ( أثابكم ) أي ألهاكم بذلك الغمّ لئلاّ تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة ، وما أصابكم من القتل والجراح ، فهو أنساهم بمصيبة صغيرة مصيبة كبيرة ، وقيل : ( لا ) زائدة والمعنى : لتحزنوا ، فيكون زيادة في التوبيخ والتنديم إن كان قوله : { أثابكم } تهكّماً أو المعنى فأثابكم الرسول غمّاً لكيلا تحزنوا على ما فاتكم : أي سكت عن تثريبكم ، ولم يظهر لكم إلاّ الاغتمام لأجلكم ، لكيلا يذكّركم بالتثريب حزناً على ما فاتكم ، فأعرض عن ذكره جَبراً لخواطركم . وقيل : المعنى أصابكم بالغمّ الَّذي نشأ عن الهزيمة لتعتادوا نزول المصائب ، فيذهب عنكم الهلع والجزع عند النوائب .
وفي الجمع بين { ما فاتكم } و { ما أصابكم } طباق يؤذن بطباق آخر مقدّر ، لأنّ ما فات هو النافع وما أصاب هو من الضّار .