19- أو حالهم في حيرتهم وشدة الأمر عليهم وعدم إدراكهم لما ينفعهم ويضرهم ، كحال قوم نزل عليهم مطر من السماء ورعد وصواعق ، يضعون أطراف أصابعهم في آذانهم كي لا يسمعوا أصوات الصواعق خائفين من الموت ، زاعمين أن وضع الأصابع يمنعهم منه .
وهؤلاء إذا نزل القرآن - وفيه بيان لظلمات الكفر والوعيد عليه ، وبيان الإيمان ونوره المتألق ، وبيان النذر وألوان العذاب - أعرضوا عنه وحاولوا الخلاص منه زاعمين أن إعراضهم عنه سيعفيهم من العقاب ولكن الله عليم بالكافرين مسيطر عليهم من كل جهة بعلمه وقدرته .
ثم ساق-سبحانه-المثل الثاني فقال : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } .
" أو " للتسوية بين الشيئين وهي مفيدة أن التمثيل بأيهما أو بمجموعهما يؤدى إلى المقصود ، فهي مانعة خلو مجوزة للجمع بينهما .
و ( الصيب ) - كسيد - المطر ، من الصوب وهو النزول . يقال : صاب صوباً ، إذا نزل أو انحدر ، سمى به المطر لنزوله ، وفي الجملة الكريمة إيجاز بحذف ما دل عليه المقام دلالة واضحة .
والتقدير : أو كمثل ذوي صيب . والمعنى أن قصة هؤلاء المنافقين مشبهة بقصة الذي استوقد ناراً ، أو بقصة ذوي صيب .
والسماء : كل ما علاك من سقف ونحوه ، والمراد بها السحاب .
والرعد : الصوت الذي يسمع بسبب اصطدام سحابتين محملتين بشحنتين كهربيتين أحداهما موجبة والأخرى سالبة .
والبرق : هو الضوء الذي يحدث بسبب الاصطدام ذاته .
وإيراد هذه الألفاز بصفة التنكير للتهويل ، ويكون المعنى : أو أن مثل هؤلاء المنافقين كمثل قوم نزل بهم المطر من السماء تصحبه ظلمات كأنها سواد الليل ، ورعد بصم الآذان ، وبرق يخطف الأبصار ؛ وصواعق تحرق ما تصيبه .
ثم قال - تعالى - : { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت } .
ِالصواعق : جمع صاعقة من الصعق وهو شدة الصوت الذي يصحبه - غالباً - قطعة من نار لا تأتي على شيء إلا أهلكته .
( ومن ) في قوله - تعالى - : { مِّنَ الصواعق } للعليل . وإنما كانت الصواعق داعية إلى سدهم آذانهم بأصابعهم ، من جهة أنها قد تفضى بصوتها لهائل إلى الموت ، وجاء هذا مصرحا به في قوله - تعالى - { حَذَرَ الموت } يدل على أنهم لم يموتوا من تلك المفزعات وهذه المروعات . إمدادا في عذابهم . ومطاولة في نكالهم .
وقوله - تعالى - : { والله مُحِيطٌ بالكافرين } جملة معترضة في أثناء ضرب المثل بذوي الصيب . وإحاطته - سبحانه - بالكافرين على معنى أنهم لا مهرب لهم منه ، فهو محيط بهم إحاطة تامة وهو قادر على النكال بهم متى شاء وكيف شاء . ولم يقل محيط بهم مع تقدم مرجع الضمير وهو أصحاب الصيب ، إيذاناً بأنهم إنما استحقوا ذلك العذاب بكفرهم .
ومثل آخر يصور حالهم ويرسم ما في نفوسهم من اضطراب وحيرة وقلق ومخافة :
( أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت . والله محيط بالكافرين . يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا ، ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم . إن الله على كل شيء قدير ) . .
إنه مشهد عجيب ، حافل بالحركة ، مشوب بالاضطراب . فيه تيه وضلال ، وفيه هول ورعب ، وفيه فزع وحيرة ، وفيه أضواء وأصداء . . صيب من السماء هاطل غزير ( فيه ظلمات ورعد وبرق ) . . ( كلما أضاء لهم مشوا فيه ) . . ( وإذا أظلم عليهم قاموا ) . . أي وقفوا حائرين لا يدرون أين يذهبون . وهم مفزعون : ( يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ) .
إن الحركة التي تغمر المشهد كله : من الصيب الهاطل ، إلى الظلمات والرعد والبرق ، إلى الحائرين المفزعين فيه ، إلى الخطوات المروعة الوجلة ، التي تقف عندما يخيم الظلام . . إن هذه الحركة في المشهد لترسم - عن طريق التأثر الإيحائي - حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون . . بين لقائهم للمؤمنين ، وعودتهم للشياطين . بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة . بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام . . فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ؛ ويجسم صورة شعورية . وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس .
وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين ، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ، ويشكّون تارة أخرى ، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم { كَصَيِّبٍ } والصيب : المطر ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وناس من الصحابة ، وأبو العالية ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والحسن البصري ، وقتادة ، وعطية العَوْفِي ، وعطاء الخراساني ، والسُّدي ، والرّبيع بن أنس .
والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات ، وهي الشكوك والكفر والنفاق . { وَرَعْدٌ } وهو ما يزعج القلوب من الخوف ، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع ، كما قال تعالى : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [ هُمُ الْعَدُوُّ ] {[1322]} } [ المنافقون : 4 ] وقال : { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } [ التوبة : 56 ، 57 ] .
والبرق : هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان ، من نور الإيمان ؛ ولهذا قال : { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } أي : ولا يُجْدي عنهم حذرهم شيئًا ؛ لأن الله محيط [ بهم ]{[1323]} بقدرته ، وهم تحت مشيئته وإرادته ، كما قال : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ } [ البروج : 17 - 20 ] .
[ والصواعق : جمع صاعقة ، وهي نار تنزل من السماء وقت الرعد الشديد ، وحكى الخليل بن أحمد عن بعضهم صاعقة ، وحكى بعضهم صاعقة وصعقة وصاقعة ، ونقل عن الحسن البصري أنه : قرأ " من الصواقع حذر الموت " بتقديم القاف وأنشدوا لأبي النجم :
يحكوك بالمثقولة القواطع *** شفق البرق عن الصواقع{[1324]}
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ( 19 )
{ أو } للتخيير ( {[301]} ) ، معناه مثلوهم بهذا أو بهذا ، لا على الاقتصار( {[302]} ) على أحد الأمرين ، وقوله : { أو كصيّب } معطوف على { كمثل الذي } . وقال الطبري : { أو } بمعنى( {[303]} ) الواو .
قال القاضي أبو محمد وهذه عجمة ، والصيب المطر من صاب يصوب إذا انحط من علو إلى سفل ، ومنه قول علقمة بن عبدة( {[304]} ) : [ الطويل ]
كأنهمُ : صابتْ عليهمْ سحابةٌ . . . صواعقها لطيرِهِنَّ دبيبُ
وقول الآخر( {[305]} ) : [ الطويل ]
فلستِ لإنسيٍّ ولكن لملأكٍ . . . تنّزلَ من جوِّ السماءِ يصوبُ( {[306]} )
وأصل صيّب صَيْوب اجتمع الواو والياء وسبقت إحدهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت ، كما فعل في سَيّد ومَيّت .
وقال بعض الكوفيين : أصل صيّب صَوِيب على مثال فعيل وكان يلزمه أن لا يعل كما لم يعل طويل( {[307]} ) ، فبهذا يضعف هذا القول .
وقوله تعالى : { ظلمات } بالجمع ، إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدجن( {[308]} ) ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت ، وكون الدجن مظلماً هول وغم للنفس ، بخلاف السحاب والمطر إذا انجلى دجنه ، فإنه سارٌّ جميل ، ومنه قول قيس بن الخطيم : [ المتقارب ]
فما رَوْضةٌ من رياضِ القطا *** كأَنَّ الْمَصَابِيحَ حوذانها
بأحسنَ مِنْها ولا مَزنةٌ *** دلوحٌ تَكشّفُ أدجانُها( {[309]} )
واختلف العلماء في الرعد : فقال ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب وغيرهم : هو ملك يزجر السحاب بهذا الصوت المسموع كلما خالفت سحابة صاح بها ، فإذا اشتد غضبه طار النار من فيه ، فهي { الصواعق } ، واسم هذا الملك الرعد ، وقيل الرعد ملك ، وهذا الصوت تسبيحه ، وقيل الرعد اسم الصوت المسموع ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهذا هو المعلوم في لغة العرب ، وقد قال لبيد في جاهليته : [ المنسرح ]
فجعني الرعدُ والصواعقُ بال . . . فارسِ يومَ الكريهةِ النجدِ( {[310]} )
وروي عن ابن عباس أنه قال : «الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت » . وقيل : «الرعد اصطكاك أجرام السحاب »( {[311]} ) . وأكثر العلماء على أن الرعد ملك ، وذلك صوته يسبح ويزجر السحاب . ( {[312]} )
فقال علي بن أبي طالب : «هو مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب » .
وقال ابن عباس : «هو سوط نور بيد الملك يزجي به السحاب » .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن البرق يتراءى ، وقال قوم : «البرق ماء » ، وهذا قول ضعيف .
والصاعقة : قال الخليل : «هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد يكون معها أحياناً نار ، يقال إنها من المخراق الذي بيد الملك ، وقيل في قطعة النار إنها ماء يخرج من فم الملك عند غضبه » .
وحكى الخليل عن قوم من العرب «الساعقة » بالسين .
وقال النقاش : «يقال صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد » .
وقرأ الحسن بن أبي الحسن «من الصواقع » بتقديم القاف . قال أبو عمرو : «وهي لغة تميم » .
وقرأ الضحاك بن مزاحم «حذار الموت » بكسر الحاء وبألف . واختلف المتأولون في المقصد بهذا المثل وكيف تترتب أحوال المنافقين الموازنة لما في المثل من الظلمات والرعد والبرق والصواعق .
فقال جمهور المفسرين : «مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم . والعمى : هو الظلمات ، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد ، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أن تبهرهم هو البرق وتخوفهم وروعهم وحذرهم هو جعل أصابعهم في آذانهم ، وفضح نفاقهم ، واشتهار كفرهم ، وتكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوه هي الصواعق » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا كله صحيح بين .
وروي عن ابن مسعود أنه قال : «إن رجلين من المنافقين هربا من النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله وأيقنا بالهلاك ، فقالا : ليتنا أصبحنا فنأتي محمداً ونضع أيدينا في يده ، فأصبحا وأتياه وحسن إسلامهما ، فضرب الله ما نزل بهما مثلاً للمنافقين »( {[313]} ) .
وقال أيضاً ابن مسعود : «إن المنافقين في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعون القرآن ، فضرب الله المثل لهم » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وفاق لقول الجمهور الذي ذكرناه .
وقل قوم : «الرعد والبرق هما بمثابة زجر القرآن ، ووعيده » .
و { محيط بالكافرين } معناه بعقابه وأخذه( {[314]} ) ، يقال أحاط السلطان بفلان إذا أخذه حاصراً من كل جهة ، ومنه قوله تعالى : { وأحيط بثمره }( {[315]} ) [ الكهف : 42 ] ففي الكلام حذف مضاف .
{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظلمات وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } .
عطف على التمثيل السابق وهو قوله : { كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] أعيد تشبيه حالهم بتمثيل آخر وبمراعاة أوصاف أخرى فهو تمثيل لحال المنافقين المختلطة بين جواذب ودوافع حين يجاذب نفوسهم جاذب الخير عند سماع مواعظ القرآن وإرشاده ، وجاذب الشر من أعراق النفوس والسخرية بالمسلمين ، بحال صيب من السماء اختلطت فيه غيوث وأنوار ومزعجات وأكدار ، جاء على طريقة بلغاء العرب في التفنن في التشبيه وهم يتنافسون فيه لا سيما التمثيلي منه وهي طريقة تدل على تمكن الواصف من التوصيف والتوسع فيه .
وقد استقريْتُ من استعمالهم فرأيتهم قد يسلكون طريقة عطف تشبيه على تشبيه كقول امرىء القيس في معلقته :
أصاحِ ترى برقاً أُريك وميضَه *** كلمعِ اليدين في حَبِيٍّ مُكَلَّل
يُضيءُ سَناه أو مصابيحِ راهب *** أَمال السليطَ بالذُّبال المُفَتَّل
وقوللِ لَبيد في معلقته يصف راحلته :
فلها هِبَاب في الزمام كأنها *** صهباءُ خفَّ مع الجَنوب جَهَامها{[89]}
أو مُلْمِعٌ وسَقَتْ لأَحْقَبَ لاَحَه *** طَرْدُ الفُحول وضَرْبُها وكِدَامُها
وكثر أن يكون العطف في نحوه بأو دون الواو ، وأو موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فيتولد منها معنى التسوية وربما سلكوا في إعادة التشبيه مسلك الاستفهام بالهمزة أي لتختار التشبيه بهذا أم بذلك وذلك كقول لبيد عقب البيتين السابق ذكرهما :
أَفتلك أم وحْشية مسبوعة *** خذلت وهادية الصِّوار قِوامها{[90]}
وقال ذو الرمة في تشبيه سير ناقته الحثيث :
وثْبَ المُسَحَّجِ من عَانَاتِ مَعْقُلَةٍ *** كأنَّه مستبان الشَّكِّ أو جَنِـبُ
ثم قال : أذاك أم نَمِشٌ بالوشْي أَكْرُعُـه *** مسفَّع الخَد غَادٍ نَاشِعٌ شَبَـبُ
ثم قال : أَذاك أم خاضب بالسَّيِّ مَرْتَعُه *** أبو ثلاثين أَمسى وهو مُنْقلب{[91]}
وربما عطفوا بالواو كما في قوله تعالى : { ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون } [ الزمر : 29 ] الآية ثم قال : { وضرب الله مَثَلاً رجلين } [ النحل : 76 ] الآية . وقوله : { ما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور } [ فاطر : 19 21 ] الآية بل وربما جمعوا بلا عطف كقوله تعالى : { حتى جعلناهم حصيداً خامدين } [ الأنبياء : 15 ] وهذه تفننات جميلة في الكلام البليغ فما ظنك بها إذا وقعت في التشبيه التمثيلي فإنه لعزته مفرداً تعز استطاعةُ تكريره .
و { أو } عطفت لفظ { صيب } على { الذي استوقد } [ البقرة : 17 ] بتقدير مَثَل بين الكاف وصيب . وإعادةُ حرف التشبيه مع حرف العطف المغني عن إعادة العامل ، وهذا التكرير مستعمل في كلامهم وحسَّنه هنا أن فيه إشارة إلى اختلاف الحالين المشبهين كما سنبينه وهم في الغالب لا يكررونه في العطف .
والتمثيل هنا لحال المنافقين حين حضورهم مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماعهم القرآن وما فيه من آي الوعيد لأمثالهم وآي البشارة ، فالغرض من هذا التمثيل تمثيل حالة مغايرة للحالة التي مُثِّلتْ في قوله تعالى : { مَثَلُهم كمَثَل الذي استوقد } [ البقرة : 17 ] بنوع إطلاق وتقييد .
فقوله : { أَو كصيب } تقديره أو كفريق ذي صيب أي كقوم على نحو ما تقدم في قوله : { كمثل الذي استوقد } دل على تقدير قوم قوله : { يجعلون أصابعهم في آذانهم } وقولُه : { يخطف أبصارهم } [ البقرة : 20 ] . الآية ، لأن ذلك لا يصح عوده إلى المنافقين فلا يَجيء فيه ما جازَ في قوله : { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] الخ . فشبهت حال المنافقين بحال قوم سائرين في ليل بأرض قوم أصابها الغيث وكان أهلها كانِّين في مساكنهم كما عُلم ذلك من قوله : { كلَّما أضاءَ لهم مشَوْا فيه } [ البقرة : 20 ] فذلك الغيث نفع أهل الأرض ولم يصبهم مِمَّا اتصل به من الرعد والصواعف ضُر ولم ينفع المارين بها وأضرَّ بهم ما اتصل به من الظلمات والرعد والبرق ، فالصيب مستعار للقرآن وهدى الإسلام وتشبيهه بالغَيث وارد . وفي الحديث الصحيح : " مَثَل ما بَعثني الله به من الهُدى كمثل الغيث أصابَ أرضاً فكان منها نَقِيَّةٌ " الخ . وفي القرآن : { كمثل غيث أعجب الكفار نباته } [ الحديد : 20 ] . ولا تَجد حالة صالحة لتمثيل هيئة اختلاط نفع وضر مثل حالة المطر والسحاب وهو من بديع التمثيل القرآني ، ومنه أخذ أبو الطيب قوله :
فتى كالسحاب الجَوْن يُرجَى ويُتَّقَى *** يُرَجَّى الحَيَا منه وتُخْشى الصواعق
والظلمات مستعار لما يعتري الكافرين من الوحشة عند سماعه كما تعتري السائر في الليل وحشة الغيم لأنه يحجب عنه ضوء النجوم والقمر ، والرعد لقوارع القرآن وزواجره ، والبَرْق لظهور أنوار هديه من خلال الزواجر فظهر أن هذا المركب التمثيلي صالح لاعتبارات تفريق التشبيه وهو أعلى التمثيل .
والصيب فيعل من صاب يصوب صوباً إذا نزل بشدة ، قال المرزوقي إن ياءه للنقل من المصدرية إلى الاسمية فهو وصف للمطر بشدة الظلمة الحاصلة من كثافة السحاب ومن ظلام الليل .
والظاهر أن قوله : { من السماء } ليس بقيد للصيب وإنما هو وصف كاشف جيء به لزيادة استحضار صورة الصيب في هذا التمثيل إذ المقام مقام إطناب كقول امرىء القيس :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كجلمود صخرٍ حَطَّه السيل من عَلٍ
إذ قد علم السامع أن السيل لا يحط جلمود صخر إلا من أعلى ولكنه أراد التصوير ، وكقوله تعالى : { ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] ، وقوله : { كالذي استهوته الشياطين في الأرض } [ الأنعام : 71 ] وقال تعالى : { فأَمْطِرْ علينا حجارة من السماء } [ الأنفال : 32 ] .
والسماء تطلق على الجو المرتفع فوقنا الذي نخاله قبة زرقاء ، وعلى الهواء المرتفع قال تعالى : { كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء } [ إبراهيم : 24 ] وتطلق على السحاب ، وتطلق على المطر نفسه ففي الحديث : " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إثر سماء " الخ ، ولما كان تكوُّن المطر من الطبقة الزمهريرية المرتفعة في الجو جعل ابتداؤه من السماء وتكرر ذلك في القرآن .
ويمكن أن يكون قوله : { من السماء } تقييداً للصيب إما بمعنى من جميع أقطار الجو إذا قلنا إن التعريف في السماء للاستغراق كما ذهب إليه في « الكشاف » على بعد فيه إذ لم يعهد دخول لام الاستغراق إلا على اسم كلي ذي أفراد دون اسم كل ذي أجزاء فيحتاج لتنزيل الأجزاء منزلة أفراد الجنس ولا يعرف له نظير في الاستعمال فالذي يظهر لي إن جعلنا قوله : { من السماء } قيداً للصيب أن المراد من السماء أعلى الارتفاع والمطر إذا كان من سمت مقابل وكان عالياً كان أدوم بخلاف الذي يكون من جوانب الجو ويكون قريباً من الأرض غير مرتفع .
وضمير { فيه } عائد إلى { صيب } والظرفية مجازية بمعنى معه ، والظلمات مضى القول فيه آنفاً .
والمراد بالظلمات ظلام الليل أي كسحاب في لونه ظلمة الليل وسحابة الليل أشد مطراً وبرقاً وتسمى سارية . والرعد أصوات تنشأ في السحاب . والبرق لامع ناري مضيء يظهر في السحاب ، والرعدُ والبرق ينشآن في السحاب من أثر كهربائي يكون في السحاب فإذا تكاثفت سحابتان في الجو إحداهما كهرباؤُها أقوى من كهرباء الأخرى وتحاكّتا جذبت الأقوى منهما الأضعف فحدث بذلك انشقاق في الهواء بشدة وسرعة فحدث صوت قوي هو المسمى الرعد وهو فرقعة هوائية من فعل الكهرباء ، ويحصل عند ذلك التقاء الكهرباءين وذلك يسبب انقداح البرق .
وقد علمت أن الصيب تشبيه للقرآن وأن الظلمات والرعد والبرق تشبيه لنوازع الوعيد بأنها تسر أقواماً وهم المنتفعون بالغيث وتسوء المسافرين غير أهل تلك الدار ، فكذلك الآيات تسر المؤمنين إذ يجدون أنفسهم ناجين من أن تحق عليهم وتسوء المنافقين إذ يجدونها منطبقة على أحوالهم .