156- ولأنك يا رب خير من يغفر نسألك أن تقدّر لنا في هذه الدنيا حياة طيبة ، وتوفيقا للطاعة ، وفي الآخرة مثوبة حسنة ورحمة ، لأننا رجعنا إليك وتبنا إليك ، فقال له ربه : عذابي أصيب به من أشاء ممن لم يتب ، ورحمتي وسعت كل شيء ، وسأكتبها للذين يتقون الكفر والمعاصي من قومك ، ويؤدون الزكاة المفروضة ، والذين يصدقون بجميع الكتب المنزلة .
ثم أضاف موسى إلى هذه الدعوات الطيبات دعوات أخرى فقال - كما حكى القرآن فيه - { واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة } أى : وأثبت لنا في هذه الدنيا ما يحسن من نعمة وطاعة وعافية وتوفيق ، وأثبتت لنا في الآخرة - أيضا - ما يحسن من مغفرة ورحمة وجنة عرضها السموات والأرض .
وقوله { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } استئناف مسوق لتعليل الدعاء فإن التوبة الصادقة تجعل الدعاء جديرا بالإجابة ، أى : لأنا تبنا إليك من المعاصى التي جئناك للاعتذار منها . فاكتب لنا الحسنات في الدارين ، ولا تحرمنا من عطائك الجزيل .
وهدنا : بمعنى تبنا . يقال : هاد يهود إذا رجع وتاب .
وصدرت الجملة الكريمة ب " إن " المفيدة للتحقيق لإظهار كمال النشاط والرغبة في مضمونها . وقوله : { قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق إليه الجواب ، كأنه قيل : فماذا قال الله - تعالى - عند دعاء موسى ، فكان الجواب : قال عذابى . . . الخ .
ثم قال الله - تعالى - لموسى ردا على دعائه : يا موسى إن عذابى الذي تخشى أن يصيب قومك أصيب به من اشاء تعذيبه من العصاة ، فلا يتعين أن يكون قومك محلا له بعد توبتهم ، فقد اقتضت حكمتى ان اجازى الذين اساءوا بما عملوا واجازى الذين احسنوا بالحسنى .
{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } فلا تضيق عن قومك ، ولا عن غيرهم من خلقى ممن هم أهل لها .
وقد استفاضت الآيات والأحاديث التي تصرح بأن رحمة الله - تعالى - قد وسعت كل شىء ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " إن لله عز وجل مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق ، وبها تعطف الوحوش على أولادها ، وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة " .
ثم بين - سبحانه - من هم أهل لرحمته فقال : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } .
أى : فسأكتب رحمتى للذين يصونون أنفسهم عن كل ما يغضب الله ويؤدون الزكاة المفروضة عليهم في أموالهم .
وتخصيص إيتاء الزكاة بالذكر مع اقتضاء التقوى له للتعريض بقوم موسى . لأن إيتاءها كان شاقاً على نفوسهم لحرصهم الشديد على المال .
ولعل الصلاة لم تذكر مع أنها مقدمة على سائر العبادات . اكتفاء عنها بالاتقاء الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها . وترك المنهيات عن آخرها .
وسأكتبها كذلك للذين هم بآياتنا يؤمنون إيمانا تاما خالصاً لا رياء فيه . ولا نقص معه .
( واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ، إنا هدنا إليك ) .
رجعنا إليك ، والتجأنا إلى حماك ، وطلبنا نصرتك .
وهكذا قدم موسى - عليه السلام - لطلب المغفرة والرحمة ، بالتسليم لله والاعتراف بحكمة ابتلائه ، وختمه بإعلان الرجعة إلى الله والالتجاء إلى رحابه . فكان دعاؤه نموذجاً لأدب العبد الصالح في حق الرب الكريم ؛ ونموذجاً لأدب الدعاء في البدء والختام .
( قال : عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء ) . .
تقريراً لطلاقة المشيئة ، التي تضع الناموس اختياراً ، وتجريه اختياراً : وإن كانت لا تجريه إلا بالعدل والحق على سبيل الاختيار أيضاً ، لأن العدل صفة من صفاته تعالى لا تتخلف في كل ما تجري به مشيئته ، لأنه هكذا أراد . . فالعذاب يصيب به من يستحق عنده العذاب . . وبذلك تجري مشيئته . . أما رحمته فقد وسعت كل شيء ؛ وهي تنال من يستحقها عنده كذلك . . وبذلك تجري مشيئته ، ولا تجري مشيئته - سبحانه - بالعذاب أو بالرحمة جزافاً أو مصادفة . تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
وبعد تقرير القاعدة يطلع الله نبيه موسى على طرف من الغيب المقبل ، إذ يطلعه على نبأ الملة الأخيرة التي سيكتب الله لها رحمته التي وسعت كل شيء . . بهذا التعبير الذي يجعل رحمة الله أوسع من ذلك الكون الهائل الذي خلقه ، والذي لا يدرك البشر مداه . . فيالها من رحمة لا يدرك مداها إلا الله !
( فسأكتبها للذين يتقون ، ويؤتون الزكاة ، والذين هم بآياتنا يؤمنون ) .
{ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ } هناك الفصل الأول من الدعاء دفع المحذور ، وهذا لتحصيل المقصود { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ } أي : أوجب لنا وأثبت لنا فيهما حسنة ، وقد تقدم [ تفسير ]{[12173]} ذلك في سورة البقرة . [ الآية : 201 ]
{ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } أي : تبنا ورجعنا وأنبنا إليك . قاله ابن عباس ، وسعيد بن جُبَير ، ومجاهد ، وأبو العالية ، والضحاك ، وإبراهيم التيمي ، والسُّدِّي ، وقتادة ، وغير واحد . وهو كذلك لُغَة .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن شريك ، عن جابر ، عن عبد الله بن نُجيَّ{[12174]} عن علي [ رضي الله عنه ]{[12175]} قال : إنما سميت اليهود لأنهم قالوا : { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ }
جابر - هو ابن يزيد الجُعْفي - ضعيف .
قال تعالى مجيبا لموسى في قوله : { إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ [ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ ] }{[12176]} الآية : { عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ] }{[12177]} أي : أفعل ما أشاء ، وأحكم ما أريد ، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك ، سبحانه لا إله إلا هو .
وقوله تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } آية عظيمة الشمول والعموم ، كقوله إخبارًا عن حَمَلة العرش ومن حوله أنهم يقولون : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [ غافر : 7 ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا الجُرَيري ، عن أبي عبد الله الجُشَمي ، حدثنا جُنْدُب - هو ابن عبد الله البَجَلي ، رضي الله عنه - قال : جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عَقَلها ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلق عقالها ، ثم ركبها ، ثم نادى : اللهم ، ارحمني ومحمدًا ، ولا تشرك في رحمتنا أحدًا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتقولون هذا أضل أم بعيره ؟ ألم تسمعوا ما قال ؟ " قالوا : بلى . قال : " لقد حَظَرْت{[12178]} رحمةً واسعة ؛ إن الله ، عز وجل ، خلق مائة رحمة ، فأنزل رحمة واحدة يتعاطف بها الخلق ؛ جنّها وإنسها وبهائمها ، وأخَّرَ عنده تسعًا وتسعين{[12179]} رحمة ، أتقولون هو أضل أم بعيره ؟ " .
رواه أبو داود عن علي بن نصر ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث ، به{[12180]}
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا يحيى بن سعيد عن سليمان ، عن أبي عثمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله عز وجل ، مائة رحمة ، فمنها رحمة يتراحمُ بها الخلق ، وبها تعطف الوحوش على أولادها ، وأخر تسعًا وتسعين إلى يوم القيامة " .
تفرد{[12181]} بإخراجه مسلم ، فرواه من حديث سُلَيمان - هو ابن طِرْخان - وداود بن أبي هند كلاهما ، عن أبي عثمان - واسمه عبد الرحمن بن مل{[12182]} - عن سلمان ، هو الفارسي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، به{[12183]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، عن عاصم بن بَهْدَلَة ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ؛ أن النبي{[12184]} صلى الله عليه وسلم قال : " لله مائة رحمة ، عنده تسعة وتسعون ، وجعل عندكم واحدة تتراحمون بها بين{[12185]} الجن والإنس وبين الخلق ، فإذا كان يوم القيامة ضمها إليه " . تفرد به أحمد من هذا الوجه{[12186]}
وقال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لله مائة رحمة ، فقسم منها جزءًا واحدًا بين الخلق ، فيه يتراحم الناس والوحش والطير " .
ورواه ابن ماجه من حديث أبي معاوية ، عن الأعمش ، به{[12187]}
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا سعد أبو غَيْلان الشيباني ، عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم ، عن صلة بن زُفَر ، عن حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، ليدخلن الجنة الفاجرُ في دينه ، الأحمق في معيشته . والذي نفسي بيده ، ليدخلن الجنة الذي قد مَحَشته النار بذنبه . والذي نفسي بيده ، ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه " .
هذا حديث غريب{[12188]} جدا ، " وسعد " هذا لا أعرفه{[12189]}
وقوله : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الآية ، يعني : فسأوجب حُصُول رحمتي مِنَّةً مني وإحسانا إليهم ، كما قال تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [ الأنعام : 54 ]
وقوله : { لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي : سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يتقون ، أي : الشرك والعظائم من الذنوب .
{ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } قيل : زكاة النفوس . وقيل : [ زكاة ]{[12190]} الأموال . ويحتمل أن تكون عامة لهما ؛ فإن الآية مكية { وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } أي : يصدقون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هََذِهِ الدّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاَخِرَةِ إِنّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِيَ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلّذِينَ يَتّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَالّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } . .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن دعاء نبيه موسى عليه السلام أنه قال فيه : وَاكْتُبْ لَنا : أي اجعلنا ممن كتبت له فِي هَذِهِ الدّنْيا حَسَنَةً وهي الصالحات من الأعمال ، وَفي الاَخِرَةِ ممن كتبت له المغفرة لذنوبه . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَاكْتُبْ لَنا فِي هَذِهِ الدّنْيا حَسَنَةً قال : مغفرة .
وقوله : إنّا هُدْنا إلَيْكَ يقول : إنا تبنا إليك .
وبنحو ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير وابن فضيل وعمران بن عيينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير وقال عمران ، عن ابن عباس : إنّا هُدْنا إلَيْكَ قال : إنا تبنا إليك .
قال : حدثنا زيد بن حباب ، عن حماد بن سلمة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، قال : تبنا إليك .
قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن أبي رَوْق عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : تبنا إليك .
قال : حدثنا عبد الله بن بكر ، عن حاتم بن أبي مغيرة ، عن سِماك : أن ابن عباس قال في هذه الاَية : إنّا هُدْنا إلَيْكَ قال : تبنا إليك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : أحسبه عن ابن عباس : إنّا هُدْنا إلَيْكَ قال : تبنا إليك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : إنّا هُدْنا إلَيْكَ يقول : تبنا إليك .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثني يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن الأصبهانيّ عن سعيد بن جبير ، في قوله : إنّا هُدْنا إلَيْكَ قال : تبنا إليك .
قال : حدثنا عبد الرحمن ووكيع بن الجراح ، قالا : حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن الأصبهانيّ ، عن سعيد بن جبير بمثله .
حدثني ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن الأصبهاني ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : تبنا إليك .
قال : حدثنا محمد بن زيد ، عن العوام ، عن إبراهيم التيميّ ، قال : تبنا إليك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن العوّام ، عن إبراهيم التيمي مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : إنّا هُدْنا إلَيْكَ أي إنا تبنا إليك .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : هُدْنا إلَيْكَ قال : تبنا .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : إنّا هُدْنا إلَيْكَ يقول : تبنا إليك .
قال : حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إنّا هُدْنا إلَيْكَ يقول : تبنا إليك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : هُدْنَا إلَيْكَ قال : تبنا إليك .
قال : ثنا أبي ، عن أبي جحير ، عن الضحاك ، قال : تبنا إليك .
قال : ثنا المحاربي ، عن جويير ، عن الضحاك ، قال : تبنا إليك .
وحُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول ، فذكر مثله .
قال : ثنا أبي وعبيد الله ، عن شريك ، عن جابر ، عن مجاهد ، قال : تبنا إليك .
قال : ثنا حبوية أبو يزيد ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
قال : ثنا أبي ، عن شريك ، عن جابر ، عن عبد الله بن يحيى ، عن عليّ عليه السلام ، قال : إنما سميت اليهود لأنهم قالوا هُدْنا إلَيْكَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : إنّا هُدْنا إلَيْكَ يعني : تبنا إليك .
حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو ، قال : سمعت رجلاً يسأل سعيدا : إنّا هُدْنا إلَيْكَ قال : إنا تبنا إليك .
وقد بيّنا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى : قالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أشاءُ وَرَحْمَتي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ فَسأَكْتُبُها لِلّذِينَ يَتّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزّكاةَ والّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ .
يقول تعالى ذكره : قالَ الله لموسى : هذا الذي أصبت به قومك من الرجفة عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أشاءُ من خلقي ، كما أصيب به هؤلاء الذين أصبتهم به من قومك . وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ يقول : ورحمتي عمت خلقي كلهم .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم مخرجه عامّ ومعناه خاصّ ، والمراد به : ورحمتي وسعت المؤمنين بي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . واستشهد بالذي بعده من الكلام ، وهو قوله : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ . . . الاَية . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو سلمة المنقري ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قرأ : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ قال : جعلها الله لهذه الأمة .
حدثني عبد الكريم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : قال سفيان ، قال أبو بكر الهذليّ : فلما نزلت : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ قال إبليس : أنا من الشيء . فنزعها الله من إبليس ، قال : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزّكاةَ وَالّذِينَ هُمْ بآياتِنا يُؤْمِنُونَ فقال اليهود : نحن نتقي ونؤتي الزكاة ، ونؤمن بآيات ربنا . فنزعها الله من اليهود ، فقال : الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النّبِيّ الأُمّيّ . . . الاَيات كلها . قال : فنزعها الله من إبليس ومن اليهود وجعلها لهذه الأمة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما نزلت : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ قال إبليس : أنا من كلّ شيء ، قال الله : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ وَيُؤْتَونَ الزّكاةَ وَالّذِينَ هُمْ بآياتِنا يُؤْمِنُونَ . . . الاَية . فقالت اليهود : ونحن نتقي ونؤتي الزكاة . فأنزل الله : الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النّبِيّ الأُمّيّ قال : نزعها الله عن إبليس وعن اليهود ، وجعلها لأمة محمد ، سأكتبها للذين يتقون من قومك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : عَذَابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ فقال إبليس : أنا من ذلك الشيء ، فأنزل الله : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ معاصي الله ، والّذِينَ هُمْ بآياتِنا يُؤْمِنُونَ . فتمنتها اليهود والنصارى . فأنزل الله شرطا وثيقا بينا ، فقال : الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النّبِيّ الأُمّيّ فهو نبيكم كان أميا لا يكتب ، صلى الله عليه وسلم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا خالد الحذّاء ، عن أنيس بن أبي العريان ، عن ابن عباس ، في قوله : وَاكْتُبْ لَنا فِي الدّنْيا حَسَنَةً وفِي الاَخِرَةِ إنّا هُدْنا إلَيْكَ قال : فلم يعطها ، فقال : عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ فَسأكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ إلى قوله : الرّسُولَ النّبِيّ الأُمّيّ .
حدثني ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن علية وعبد الأعلى ، عن خالد ، عن أنيس بن أبي العربان قال عبد الأعلى : عن أنيس أبي العريان وقال : قال ابن عباس : وَاكْتُبْ لَنا فِي هَذِهِ الدّنْيا حَسَنَةً وفِي الاَخِرَةِ إنّا هُدْنا إلَيْكَ قال : فلم يعطها موسى . قالَ عَذَابِي أُصيبُ بِهِ مَنْ أشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ فَسأكْتُبُها . . . إلى آخر الاَية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : كان الله كتب في الألواح ذكر محمد وذكر أمته وما ادخر لهم عنده وما يسّر عليهم في دينهم وما وسّع عليهم فيما أحلّ لهم ، فقال : عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ فَسأكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ يعني الشرك ، الاَية .
وقال آخرون : بل ذلك على العموم في الدنيا وعلى الخصوص في الاَخرة . ذكر من قال ذلك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن وقتادة ، في قوله : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ قالا : وسعت في الدنيا البرّ والفاجر ، وهي يوم القيامة للذين اتقوا خاصة .
وقال آخرون : هي على العموم ، وهي التوبة . ذكر من قال ذلك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أنْتَ وَلِيّنا فاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنا فِي هَذِهِ الدّنْيا حَسَنَةً وفِي الاَخِرَةِ إنّا هُدْنا إلَيْكَ فقال : سأل موسى هذا ، فقال الله : عَذَابي أُصِيبُ به مَنْ أَشَاءُ العذاب الذي ذكر ورَحْمتي التوبةُ وَسِعَتْ كُلّ شَيءٍ فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ . قال : فرحمته : التوبة التي سأل موسى عليه السلام كتبها الله لنا .
وأما قوله : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ فإنه يقول : فسأكتب رحمتي التي وسعت كلّ شيء . ومعنى «أكتب » في هذا الموضع : أكتب في اللوح الذي كتب فيه التوراة للّذين يَتّقُونَ يقول : للقوم الذين يخافون الله ويخشون عقابه على الكفر به والمعصية له في أمره ونهيه ، فيؤدون فرائضه ، ويجتنبون معاصيه .
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصف الله هؤلاء القوم بأنهم يتقونه ، فقال بعضهم : هو الشرك . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ يعني الشرك .
وقال آخرون : بل هو المعاصي كلها . ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ معاصي الله .
وأما الزكاة وإيتاؤها ، فقد بيّنا صفتها فيما مضى بما أغنى عن إعادته .
وقد ذُكر عن ابن عباس في هذا الموضع أنه قال في ذلك ما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَيُؤْتُونَ الزّكاةَ قال : يطيعون الله ورسوله .
فكأن ابن عباس تأوّل ذلك بمعنى أنه العمل بما يزكي النفس ويطهّرها من صالحات الأعمال .
وأما قوله : وَالّذِينَ هُمْ بآياتِنا يُؤْمِنُونَ فإنه يقول : وللقوم الذين هم بأعلامنا وأدلتنا يصدّقون ويقرّون .
{ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة } حسن معيشة وتوفيق طاعة . { وفي الآخرة } الجنة . { إنا هدنا إليك } تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع . وقرئ بالكسر من هاده يهيده إذا أماله ، ويحتمل أن يكون مبنيا للفاعل وللمفعول بمعنى أملنا أنفسنا وأملنا إليك ، ويجوز أن يكون المضموم أيضا مبنيا للمفعول منه على لغة من يقول عود المريض . { قال عذابي أصيب به من أشاء } تعذيبه . { ورحمتي وسعت كل شيء } في الدنيا المؤمن والكافر بل المكلف وغيره . { فسأكتبها } فسأثبتها في الآخرة ، أو فسأكتبها كتبة خاصة منكم يا بني إسرائيل . { للذين يتقون } الكفر والمعاصي . { ويؤتون الزكاة } خصها بالذكر لإنافتها ولأنها كانت أشق عليهم . { والذين هم بآياتنا يؤمنون } فلا يكفرون بشيء منها .
{ اكتب } معناه أثبت واقض ، والكتب مستعمل في ما يخلد ، و { حسنة } لفظ عام في كل ما يحسن في الدنيا من عافية وغنى وطاعة لله تعالى وغير ذلك وحسنة الآخرة الجنة لا حسنة دونها ولا مرمى وراءها و { هُدنا } بضم الهاء معناه تبنا ، وقرأ أبو وجزة «هِدنا » بكسر الهاء ومعناه حركنا أنفسنا وجذبناها لطاعتك ، وهو مأخوذ من هاد يهيد إذا حرك ، وقوله تعالى : { قال عذابي أصيب به من أشاء } الآية ، قال الله عز وجل : إن الرجفة التي أنزلت بالقوم هي عذابي أصيب به من شئت ثم أخبر عن رحمته ، ويحتمل وهو الأظهر أن الكلام قصد به الخبر عن عذابه وعن رحمته من أول ما ابتدأ ، ويندرج أمر أصحاب الرجفة في عموم قوله عند { عذابي أصيب به من أشاء } وقرأ الحسنَ وطاوس وعمرو بن فائد «من أساء » من الإساءة أي من عمل غير صالح ، وللمعتزلة بهذه القراءة تعلق من وجهين : أحدهما إنفاذ الوعيد ، والآخر خلق المرء أفعاله وأن أساء لا فعل فيه لله ، وهذان التعلقان فيهما احتمال ينفصل عنه كما ينفصل عن سائر الظواهر إلا أن القرأة أطنبوا في التحفظ من هذه القراءة ، وقال أبو عمرو الداني : لا تصح هذه القراءة عن الحسن وطاوس ، وعمرو بن فائد رجل سوء ، وذكر أبو حاتم أن سفيان بن عيينة قرأها مرة واستحسنها فقام إليه عبد الرحمن المقبري وصاح به وأسمعه فقال سفيان : لم أدر ولم أفطن لما يقول أهل البدع ، وهذا إفراط من المقربين وحملهم على ذلك شحهم على الدين وظنهم أن الانفصال عن تعلق المعتزلة متعذر .
ثم وصف الله تعالى رحمته بأنها { وسعت كل شيء } فقال بعض العلماء : هو عموم في الرحمة وخصوص في قوله { كل شيء } والمراد من قد سبق في علم الله أن يرحمه دون من سواهم ، وقال بعضهم : هو عموم في رحمة الدنيا لأن الكافر والمؤمن والحيوان كله متقلب في رحمة الله الدنياوية ، وقالت فرقة : قوله : { ورحمتي } يراد به التوبة وهي خاصة على هذا في الرحمة وفي الأشياء لأن المراد من قد تقع منه التوبة ، وقال نوف البكالي : إن إبليس لما سمع قول الله تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء } طمع في رحمة الله فلما سمع { فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } يئس إبليس وبقيت اليهود والنصارى ، فلما تمادت الصفة تبين أن المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويئس اليهود والنصارى من الآية ، وقال نحوه قتادة ، وقوله : { فسأكتبها } أي أقدرها وأقضيها ، وقال نوف البكالي : إن موسى عليه السلام قال يا رب جعلت وفادتي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال نوف البكالي : فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم ، وقوله : { يتقون } في هذه الآية قالت فرقة : معناه يتقون الشرك ، وقالت فرقة : يتقون المعاصي .
قال القاضي أبو محمد : ومن قال : الشرك لا غير خرج إلى قول المرجئة ، ويرد عليه من الآية شرط الأعمال بقوله : { ويؤتون الزكاة } ، ومن قال المعاصي ولا بد خرج إلى قول المعتزلة ، والصواب بأن تكون اللفظة عامة ولكن ليس بأن نقول ولا بد من اتقاء المعاصي بل بأن نقول مع أن مواقع المعاصي في مشيئة الله تعالى ، ومعنى : { يتقون } يجعلون بينهم وبين المتقى وقاية وحجاباً ، فذكر الله تعالى الرتبة العالية ليتسابق السامعون إليها ، وقوله : { ويؤتون الزكاة } الظاهر من قوله { يؤتون } أنها الزكاة المختصة بالمال وخصها هنا بالذكر تشريفاً لها وجعلها مثالاً لجميع الطاعات ، وقال ابن عباس فيما روي عنه : ويؤتون الأعمال التي يزكون بها أنفسهم .