219- ويسألونك - يا محمد - عن حكم الخمر والقمار ، فقل : إن فيهما ضرراً كبيراً من إفساد الصحة وذهاب العقل والمال وإثارة البغضاء والعدوان بين الناس ، وفيهما منافع وبعض المنافع الصحية والربح السهل ، ولكن ضررهما أكبر من نفعهما فاجتنبوهما . ويسألونك عمَّا ينفقون ، فأجبهم أن ينفقوا في ذات الله السهل اليسير الذي لا يشق عليكم إنفاقه ، كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون فيما يعود عليكم من مصالح الدنيا والآخرة{[18]} .
وبعد هذا الحديث الجامع عن البذل والتضحية ، ساق القرآن في آيتين ثلاثة أسئلة وأجاب عنها بما يشفي الصدور ، ويصلح النفوس .
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر . . . }
قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } . . السائلون هم المؤمنون وسؤالهم إنما هو عن الحكم الشرعي من حيث الحل والتحريم . لا عن الحقيقة والذات فإنهم يعرفون حقيقة الخمر والميسر وذاتهما .
قال القرطبي : والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر ، ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها - وكل شيء غطى شيئاً فقد خمره . ومنه { خمروا آنيتكم ، فالخمر تخمر العقل ، أي : تغطيه وتستره . . فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطيه سميت بذلك ، وقيل إنما سميت الخمر خمرا ؛ لأنها تركت حتى أدركت كما يقال : قد اختمر خمراً لأنها تخالط العقل من المخامرة وهي المخالطة ومنه قولهم : دخلت في خمار الناس - بفتح الخاء وضمها - أي : اختلطت بهم . فالمعاني الثلاثة متقاربة . فالخمر تركت وخمرت حتى أدركت ، ثم خالطت العقل . ثم خمرته ، والأصل الستر .
ويرى كثير من العلماء أن هذه الآية هي أول آية نزلت في الخمر . ثم نزلت الآية التي في سورة النساء { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } ثم نزلت الآية التي في سورة المائدة { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } والدليل على ذلك ما رواه أبو داود وغيره عن عمر بن الخطاب أنه قال " اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا " فنزلت هذه الآية { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر } فدعى عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا " .
فنزلت الآية التي في النساء { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة - نادى أن : لا يقربن الصلاة سكران . فدعى عمر فقرئت عليه ، فقال : " اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا " فنزلت الآية التي في المائدة ، فدعى عمر فقرئت عليه ، فلما بلغ { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } قال عمر : " انتهينا " .
وبهذا الرأي قال ابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
ويرى بعض العلماء أن أول آية نزلت في الخمر هي قوله - تعالى - في سورة النحل : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } وعلى هذا الرأي سار صاحب الكشاف وتبعه بعض العلماء فقد قال : نزلت في الخمر أربع آيات ، نزل بمكة قوله - تعالى - { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } فكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم . ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا : يا رسول الله ، أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت : { فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } فشربها قوم وتركها آخرون .
ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فقام بعضهم يصلي فقرأ : قل يأيها الكافرون أعبدما تعبدون فنزلت : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } فقل من يشربها ثم دعا عتبان بن مالك قوماً فيهم سعد بن أبي وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا شعر فيه هجاء للأنصار فضرب أحد الأنصار سعداً بلحى بعير فشجه ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك . فقال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت " إنما الخمر والميسر . . . إلخ الآية " . . فقال عمر : انتهينا يا رب " .
وأصحاب الرأي الأول يقولون : إن آية سروة النحل وهي قوله - تعالى - : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } ليس لها علاقة بموضوع الخمر ، ويفسرون السكر بأنه ما أحله الله مما لا يسكر وأنه هو الرزق الحسن وأن العطف بينهما من باب عطف التفسير .
ولقد كان موقف الصحابة من هذا التحريم لما يشتهونه ويحبونه من الخمر والميسر ، يمثل أسمى ألوان الطاعة والاستجابة لأوامر الله ونواهيه ، فعندما بلغهم تحريم الخمر أراقوا ما عندهم منها في الطرقات . بل وحطموا الأواني التي كانت توضع فيها الخمر امتثالا وطاعة لله - تعالى - .
وهكذا نرى قوة الإِيمان التي غرسها الإِسلام في نفوس أتباعه عن طريق تعاليمه السامية ، وتربيته الحكيمة . . تغلبت على ما أحبته النفوس وأزالت من القلوب ما ألفته الطبائع .
هذا وجمهور العلماء على أن كلمة " خمر " تشمل كل شراب مسكر سواء أكان من عصير العنب أم من الشعير أم من التمر أم من غير ذلك ، ولكها سواء في التحريم قل المشروب منها أو كثر سكر شاربه أو لم يسكر .
ومن أدلتهم ما وراه الإِمام مسلم عن ابن عمر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها لم يشربها في الآخرة " .
ومن أدلتهم أيضاً أصل الاشتقاق اللغوي لكلمة خمر ، فقد عرفنا أنها سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل وستره ، فكل ما خامر العقل من الأشربة وجب أن يطلق عليه لفظ خمر سواء أكان من العنب أم من غيره .
وقال الأحناف ووافقهم بعض العلماء كإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وابن أبي ليلى : إن كلمة خمر لا تطلق إلا على الشراب المسكر من عصير العنب فقط ، أما المسكر من غيره كالشراب من التمر أو السعير فلا يسمى خمرا بل يسمى نبيذاً . وقد بنوا على هذا أن المحرم قليله وكثيره إنما هو الخمر من العنب . أما الأنبذة فكثيرها حرام وقليلها حرام .
وقد رجح العلماء رأى الجمهور وضعفوا ما ذهب إليه الأحناف ومن وافقهم .
قال ابن العربي : وتعلق أبو حنيفة بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة فلا يلتفت إليها والصحيح ما روى الأئمة أن أنسا قال : " حرمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة خمر الأعناب إلا قليل ، وعامة خمرها البسر والتمر " . أخرجه البخاري ، واتفق الأئمة على رواية أن الصحابة إذ حرمت الخمر لم يكن عندهم يومئذ خمر عنب ، وإنما كانوا يشربون خمر النبيذ فكسروا دنانهم - أي أواني الخمر - وبادروا إلى الامتثال لا عتقادهم أن ذلك كله خمر " أي وأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك .
وقال الآلوسي : وعندي أن الحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأي اسم سمى متى كان بحيث يسكر من لم يتعوده حرام ، وقليله ككثيره ، ويحد شاربه ويقع طلاقه ونجاسته غليظة . وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن النقيع - وهو نبيذ العسل - فقال : " كل شراب أسكر فهو حرام " وروى أبو داود " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر " وصح " ما أسكر كثيرة فقليله حرام " والأحاديث متضافرة على ذلك . ولعمري إن اجتماع الفساق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا " الخمر " ورغبتهم فيها ، فوق اجتماعهم على شرب " الخمر " ورغبتهم فيه بكثير ، وقد وضعوا لها أسماء - كالعنبرية والإِكسير - ونحوهما ظنا منهم أن هذه الأسماء تخرجها من الحرمة وتبيح شربها للأمة - وهيهات هيهات - فالأمر وراء ما يظنون وإنا لله وإنا إليه راجعون .
بعد هذه الكلمة التمهيدية عن الآية ، وعن مدلول كلمة خمر ننتقل إلى معنى كلمة " الميسر " فنقول : الميسر : القمار - بكسر القاف - وهو في الأصل مصدر ميمي من يسر ، كالموعد من وعد . وهو مشتق من اليسر بمعنى السهولة ، لأن المال يجئ للكاسب من غير جهد ، أو هو مشتق من يسر بمعنى جزر . ثم أصبح علما على ما يتقامر عليه كالجزور ونحوه .
قال القرطبي نقلا عن الأزهري : الميسر : الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه ، سمي ميسراً ، لأنه أجزاء ، فكأنه موضع التجزئة ، وكل شيء جزأته فقد يسرته . والياسر : الجازر لأنه يجزئ لحم الجزور . . ويقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور : ياسرون ، لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك .
وصفة الميسر الذي كانت تستعمله العرب أنهم كانت لهم عشرة أقداح يقال لها الأزلام أو الأقلام ، فكانوا إذا أرادوا أن يقامروا أحضروا بعيرا وقسموه ثمانية وعشرين قسما وتترك ثلاثة من تلك الأقداح غفلا لا علامة عليها وكانت تسمى : السفيح ، والمنيح ، والوغد . ومن طلع له واحد منها لا يأخذ شيئاً من الجزور . أما السبعة الأخرى فهي الرابحة وهي الفذو له سهم واحد ، والتوأم وله سهمان ، والرقيب وله ثلاثة ، والحلس وله أربعة ، والنافس وله خمس والمسبل وله ستة ، والمعلي وله سبعة فيكون المجموع ثمانية وعشرين سهما .
تلك صورة تقريبية لقمار العرب كما أوردها بعض المفسرين ولا شك أنه يدخل في حكمها من حيث الحرمة ما كان مشابها لها في المخاطرة والرهان وأخذ الأموال بدون مقابل مشروع ، أو ضياعها فيما حرمه الله .
ومعنى الآية الكريمة : يسألك أصحابك يا محمد عن حكم شرب الخمر ولعب الميسر ، قل لهم على سبيل الإِرشاد والإِعلام : في تعاطيهما { إِثْمٌ كَبِيرٌ } أي : ذنب عظيم ، وضرر شديد وذلك لما فيهما من القبائح المنافية لمحاسن الشرع من الكذب ، والأذى ، وشيوع العداوة والبغضاء بين الناس ، واستلاب أموالهم بغير حق .
وقوله : { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أي وفيهما منافع دنيوية للناس إذ الخمر تعدر على المتاجرين فيها أرباحا مالية ، والميسر يؤدي إلى إصابة بعض الناس للمال بدون تعب .
وأطلق - سبحانه - الإِثم وقيد المنافع بأنها للناس ، للتبيه على أن الإِثم في الخمر والميسر ذاتي ، فهما في ذاتهما رجس كبير ، وخطر وبيل ، وأن ما فيهما من منافع ضئيل ولا يتجاوز بعض الناس ، فهي منافع خاصة وليست عامة ، ويشهد لهذا قوله - تعالى - بعد ذلك .
{ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } أي أن المفاسد والأضرار التي تترتب على تعاطيهما ، أعظم من المنافع التي تنشأ عن تعاطيهما ، إذ تعاطيهما يؤدي إلى منفعة بعض الناس ، أما مضارهما فكثيرة ، من ذلك أن تعاطي الخمر يضعف الضمير ، ويفسد الأخلاق ، ويميت الحياء ، ويفقد الرشد ويتلف المال ، ويغري بالتنازع بين الناس ، ويتسبب - كما قال الأطباء الثقاة - في كثير من الأمراض كأمراض الكبد والرئتين والقلب . . إلخ .
وإن شئت المزيد من معرفة مضار الخمر فراجع ما كتبه العلماء والمتخصصون في ذلك .
أما تعاطي الميسر فمن مضاره - كما يقول الأستاذ الإِمام محمد عبده - إفساد التربية بتعويد النفس الكسل ، وانتظار الرزق من الأسباب الوهمية ، وإضعفا القوة العقلية ، بترك الأعمال المفيدة في طرق الكسب الطبيعية ، وإهمال المقامرين للزراعة والتجارة والصناعة التي هي أركان العمران ، وتخريب البيوت فجأة بالانتقال من الغني إلى الفقر في ساعة واحدة ، فكم من عشيرة كبيرة نشأت في العز والغني وانحصرت ثروتها في جرل أضاعها عليها في ليلة واحدة ؛ فأصبحت عنية وأمست فقيرة " .
إّن فالمنافع الدنيوية التي تعود إلى بعض الناس من تعاطي الخمر والميسر لا تساو شيئاً بجانب تلك المضار الجسمية التي تعود على أفراد الأمة في دينهم وعقولهم وأجسامهم وأموالهم وترابطهم ، وصدق الله إذ يقول : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } ثم يأتي بعد ذلك السؤال الثاني الذي ورد في هاتين الآيتين وهو قوله - تعالى - : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } .
ومناسبة هذا السؤال لما قبله أنهم بعد أن نهوا عن إنفاق أموالهم في الوجوه المحرمة كتعاطي الخمر والميسر ، سألوا عن وجوه الإِنفاق الحلال ، وعن مقدار ما ينفقون فأجيبوا بهذا الجواب الحكيم .
قال الآلوسي : أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس أن نفراً من الصحابة حين أمرو بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا وما الذي ننفقه منها فأنزل الله - تعالى- { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } وكان الرجل قبل ذلك ينفق ماله حتى لا يجد ما يتصدق ولا ما يأكل " .
وأصل العفو في اللغة الزيادة . قال- تعالى - : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ } أي زادوا على ما كانوا عليه من العدد . ويطلق على ما سهل وتيسر مما يكون فاضلا عن الكفاية . يقال : خذ ما عفا لك . أي ما تيسر . كما يطلق على الترك قال - تعالى - { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } أي تركه وتجاوز عنه .
والمراد هنا : ما يفضل عن الأهل ويزيد عن الحاجة ، إذ هذا القدر الذي يتيسر إخراجه ويسهل بذله ، ولا يتضرر صاحبه بتركه .
والمعنى : ويسألونك ما الذي يتصدقون به من أموالهم في وجوه البر ، فقل لهم تصدقوا بما زاد عن حاجتكم ، وسهل عليكم إخراجه ، ولا يشق عليكم بذله .
وفي هذه الجملة الكريمة إرشاد حكيم إلى التعاون والتراحم بين أفراد المجتمع ، وتوجيه إلى المنهاج الوسط الذي يأبى التبذير وينفر من التقتير ، وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يؤيد هذا الإِرشاد والتوجيه ، ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خير الصدقة ما كان عن ظهر غني وابدأ بمن تعول " .
وأخرج مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إبدأ بنفسك فتصدق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل عن أهلك شيء فلذى قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا " .
إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في هذا المعنى .
وللأستاذ الإِمام كلام جيد في هذا المقام ، فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه : إن الأمة المؤلفة من مليون فرد إذا كانت تبذل من فضل مالها في مصالحها العامة كإعداد القوة وتربية الناشئة . . تكون أعز وأقوى من أمة مؤلفة من مائة مليون فرد لا يبذلون شيئا في مثل ذلك ؛ لأن الواحد من الأمة الأولى يعد بأمة ، إذ هو يعتبر نفسه جزءاً منها وهي كل له ، بينما الأمة الثانية لا تعد بواحد لأن كل فرد من أفرادها يخذل الآخر . . وفي الحقيقة أن مثل هذا الجمع لا يسمى أمة ، لأن كل واحد من أفراده يعيش وحده وإن كان في جانبه أهل الأرض ، فهو لا يتصل بمن معه ليمدهم ويستمد منهم " .
ثم يمضي السياق ، يبين للمسلمين حكم الخمر والقمار . . وكلتاهما لذة من اللذائذ التي كان العرب غارقين فيها . يوم أن لم تكن لهم اهتمامات عليا ينفقون فيها نشاطهم ، وتسغرق مشاعرهم وأوقاتهم :
( يسألونك عن الخمر والميسر . قل : فيهما إثم كبير ومنافع للناس . وإثمهما أكبر من نفعهما )
وإلى ذلك الوقت لم يكن قد نزل تحريم الخمر والميسر . ولكن نصا في القرآن كله لم يرد بحلهما . إنما كان الله يأخذ بيد هذه الجماعة الناشئة خطوة خطوة في الطريق الذي أراده لها ، ويصنعها على عينه للدور الذي قدره لها . وهذا الدور العظيم لا تتلاءم معه تلك المضيعة في الخمر والميسر ، ولا تناسبه بعثرة العمر ، وبعثرة الوعي ، وبعثرة الجهد في عبث الفارغين ، الذين لا تشغلهم إلا لذائذ أنفسهم ، أو الذين يطاردهم الفراغ والخواء فيغرقونه في السكر بالخمر والانشغال بالميسر ؛ أو الذين تطاردهم أنفسهم فيهربون منها في الخمار والقمار ؛ كما يفعل كل من يعيش في الجاهلية . أمس واليوم وغدا ! إلا أن الإسلام على منهجه في تربية النفس البشرية كان يسير على هينة وفي يسر وفي تؤدة . .
وهذا النص الذي بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم . فالأشياء والأعمال قد لا تكون شرا خالصا . فالخير يتلبس بالشر ، والشر يتلبس بالخير في هذه الأرض . ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير أو غلبة الشر . فإذا كان الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع ، فتلك علة تحريم ومنع . وإن لم يصرح هنا بالتحريم والمنع .
هنا يبدو لنا طرف من منهج التربية الإسلامي القرآني الرباني الحكيم . وهو المنهج الذي يمكن استقراؤه في الكثير من شرائعه وفرائضه وتوجيهاته . ونحن نشير إلى قاعدة من قواعد هذا المنهج بمناسبة الحديث عن الخمر والميسر .
عندما يتعلق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور الإيماني ، أي بمسألة اعتقادية ، فإن الإسلام يقضي فيها قضاء حاسما منذ اللحظة الأولى .
ولكن عندما يتعلق الأمر أو النهي بعادة وتقليد ، أو بوضع اجتماعي معقد ، فإن الإسلام يتريث به ويأخذ المسألة باليسر والرفق والتدرج ، ويهيء الظروف الواقعية التي تيسر التنفيذ والطاعة .
فعندما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك : أمضى أمره منذ اللحظة الأولى . في ضربة حازمة جازمة . لا تردد فيها ولا تلفت ، ولا مجاملة فيها ولا مساومة ، ولا لقاء في منتصف الطريق . لأن المسألة هنا مسألة قاعدة أساسية للتصور ، لا يصلح بدونها إيمان ولا يقام إسلام .
فأما في الخمر والميسر فقد كان الأمر أمر عادة وإلف . والعادة تحتاج إلى علاج . . فبدأ بتحريك الوجدان الديني والمنطق التشريعي في نفوس المسلمين ، بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع . وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى . . ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) . . والصلاة في خمسة أوقات ، معظمها متقارب ، لا يكفي ما بينها للسكر والإفاقة ! وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب ، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي ؛ إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله . فإذا تجاوز هذا الوقت وتكرر هذا التجاوز فترت حدة العادة وأمكن التغلب عليها . . حتى إذا تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الحازم الأخير بتحريم الخمر والميسر : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ) . .
وأما في الرق مثلا ، فقد كان الأمر أمر وضع اجتماعي اقتصادي ، وأمر عرف دولي وعالمي في استرقاق الأسرى وفي استخدام الرقيق ، والأوضاع الاجتماعية المعقدة تحتاج إلى تعديل شامل لمقوماتها وارتباطاتها قبلتعديل ظواهرها وآثارها . والعرف الدولي يحتاج إلى اتفاقات دولية ومعاهدات جماعية . . ولم يأمر الإسلام بالرق قط ، ولم يرد في القرآن نص على استرقاق الأسرى . ولكنه جاء فوجد الرق نظاما عالميا يقوم عليه الاقتصاد العالمي . ووجد استرقاق الأسرى عرفا دوليا ، يأخذ به المحاربون جميعا . . فلم يكن بد أن يتريث في علاج الوضع الاجتماعي القائم والنظام الدولي الشامل .
وقد اختار الإسلام أن يجفف منابع الرق وموارده حتى ينتهي بهذا النظام كله - مع الزمن - إلا الإلغاء ، دون إحداث هزة إجتماعية لا يمكن ضبطها ولا قيادتها . وذلك مع العناية بتوفير ضمانات الحياة المناسبة للرقيق ، وضمان الكرامة الإنسانية في حدود واسعة .
بدأ بتجفيف موارد الرق فيما عدا أسرى الحرب الشرعية ونسل الأرقاء . . ذلك أن المجتمعات المعادية للإسلام كانت تسترق أسرى المسلمين حسب العرف السائد في ذلك الزمان . وما كان الإسلام يومئذ قادرا على أن يجبر المجتمعات المعادية على مخالفة ذلك العرف السائد ، الذي تقوم عليه قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي في أنحاء الأرض . ولو أنه قرر إبطال استرقاق الأسرى لكان هذا إجراء مقصورا على الأسرى الذين يقعون في أيدي المسلمين ، بينما الأسارى المسلمون يلاقون مصيرهم السييء في عالم الرق هناك . وفي هذا إطماع لأعداء الإسلام في أهل الإسلام . . ولو أنه قرر تحرير نسل الأرقاء الموجود فعلا قبل أن ينظم الأوضاع الاقتصادية للدولة المسلمة ولجميع من تضمهم لترك هؤلاء الأرقاء بلا مورد رزق ولا كافل ولا عائل ، ولا أواصر قربى تعصمهم من الفقر والسقوط الخلقي الذي يفسد حياة المجتمع الناشيء . . لهذه الأوضاع القائمة العميقة الجذور لم ينص القرآن على استرقاق الأسرى ، بل قال : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق . فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ) . . ولكنه كذلك لم ينص على عدم استرقاقهم . وترك الدولة المسلمة تعامل أسراها حسب ما تقتضيه طبيعة موقفها . فتفادي من تفادي من الأسرى من الجانبين ، وتتبادل الأسرى من الفريقين ، وتسترق من تسترق وفق الملابسات الواقعية في التعامل مع أعدائها المحاربين .
وبتجفيف موارد الرق الأخرى - وكانت كثيرة جدا ومتنوعة - يقل العدد . . وهذا العدد القليل أخذ الإسلام يعمل على تحريره بمجرد أن ينضم إلى الجماعة المسلمة ويقطع صلته بالمعسكرات المعادية . فجعل للرقيق حقه كاملا في طلب الحرية بدفع فدية عنه يكاتب عليها سيده . ومنذ هذه اللحظة التي يريد فيها الحرية يملك حرية العمل وحرية الكسب والتملك ، فيصبح أجر عمله له ، وله أن يعمل في غير خدمة سيده ليحصل على فديته - أي إنه يصبح كيانا مستقلا ويحصل على أهم مقومات الحرية فعلا - ثم يصبح له نصيبه من بيت مال المسلمين في الزكاة . والمسلمون مكلفون بعد هذا أن يساعدوه بالمال على استرداد حريته . . وذلك كله غير الكفارات التي تقتضي عتق رقبة . كبعض حالات القتل الخطأ ، وفدية اليمين ، وكفارة الظهار . . وبذلك ينتهي وضع الرق نهاية طبيعية مع الزمن ، لأن إلغاءه دفعة واحدة كان يؤدي إلى هزة لا ضرورة لها ، وإلى فساد في المجتمع أمكن اتقاؤه .
فأما تكاثر الرقيق في المجتمع الإسلامي بعد ذلك ؛ فقد نشأ من الانحراف عن المنهج الإسلامي ، شيئافشيئا . وهذه حقيقة . . ولكن مباديء الإسلام ليست هي المسؤولة عنه . . ولا يحسب ذلك على الإسلام الذي لم يطبق تطبيقا صحيحا في بعض العهود لانحراف الناس عن منهجه ، قليلا أو كثيرا . . ووفق النظرية الإسلامية التاريخية التي أسلفنا . . لا تعد الأوضاع التي نشأت عن هذا الانحراف أوضاعا إسلامية ، ولا تعد حلقات في تاريخ الإسلام كذلك . فالإسلام لم يتغير . ولم تضف إلى مبادئه مباديء جديدة . إنما الذي تغير هم الناس . وقد بعدوا عنه فلم يعد له علاقة بهم . ولم يعودوا هم حلقة من تاريخه .
وإذا أراد أحد أن يستأنف حياة إسلامية ، فهو لا يستأنفها من حيث انتهت الجموع المنتسبة إلى الإسلام على مدى التاريخ . إنما يستأنفها من حيث يستمد استمدادا مباشرا من أصول الإسلام الصحيحة . .
وهذه الحقيقة مهمة جدا . سواء من وجهة التحقيق النظري ، أو النمو الحركي ، للعقيدة الإسلامية وللمنهج الإسلامي . ونحن نؤكدها للمرة الثانية في هذا الجزء بهذه المناسبة ، لما نراه من شدة الضلال والخطأ في تصور النظرية التاريخية الإسلامية ، وفي فهم الواقع التاريخي الإسلامي . ومن شدة الضلال والخطأ في تصور الحياة الإسلامية الحقيقية والحركة الإسلامية الصحيحة . وبخاصة في دراسة المستشرقين للتاريخ الإسلامي . ومن يتأثرون بمنهج المستشرقين الخاطيء في فهم هذا التاريخ ! وفيهم بعض المخلصين المخدوعين !
ثم نمضي مع السياق في تقرير المباديء الإسلامية في مواجهة الأسئلة الاستفهامية :
( ويسألونك ماذا ينفقون ؟ قل العفو . كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) . .
لقد سألوا مرة : ماذا ينفقون ؟ فكان الجواب عن النوع والجهة . فأما هنا فجاء الجواب عن المقدار والدرجة . . والعفو : الفضل والزيادة . فكل ما زاد على النفقة الشخصية - في غير ترف ولا مخيلة - فهو محل للإنفاق . الأقرب فالأقرب . ثم الآخرون على ما أسلفنا . . والزكاة وحدها لا تجزيء . فهذا النص لم تنسخه آية الزكاة ولم تخصصه فيما أرى : فالزكاة لا تبريء الذمة إلا بإسقاط الفريضة . ويبقى التوجيه إلى الإنفاق قائما . إن الزكاة هي حق بيت مال المسلمين تجبيها الحكومة التي تنفذ شريعة الله ، وتنفقها في مصارفها المعلومة ، ولكن يبقى بعد ذلك واجب المسلم لله ولعباد الله . والزكاة قد لا تستغرق الفضل كله ، والفضل كله محل للإنفاق بهذا النص الواضح ؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام : " في المال حق سوى الزكاة " . . حق قد يؤديه صاحبه ابتغاء مرضاة الله - وهذا هو الأكمل والأجمل - فإن لم يفعل واحتاجت إليه الدولة المسلمة التي تنفذ شريعة الله ، أخذته فأنفقته فيما يصلح الجماعة المسلمة . كي لا يضيع في الترف المفسد . أو يقبض عن التعامل ويخزن ويعطل .
( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ) . .
فهذا البيان لاستجاشة التفكر والتدبر في أمر الدنيا والآخرة . فالتفكر في الدنيا وحدها لا يعطي العقل البشري ولا القلب الإنساني صورة كاملة عن حقيقة الوجود الإنساني . وحقيقة الحياة وتكاليفها وارتباطاتها . ولا ينشىء تصورا صحيحا للأوضاع والقيم والموازين . فالدنيا شطر الحياة الأدنى والأقصر . وبناء الشعور والسلوك على حساب الشطر القصير لا ينتهي أبدا إلى تصور صحيح ولا إلى سلوك صحيح . . ومسألة الإنفاق بالذات في حاجة إلى حساب الدنيا والآخرة . فما ينقص من مال المرء بالإنفاق يرد عليها طهارة لقلبه ، وزكاة
لمشاعره . كما يرد عليه صلاحا للمجتمع الذي يعيش فيه ووئاما وسلاما . ولكن هذا كله قد لا يكون ملحوظا لكل فرد . وحينئذ يكون الشعور بالآخرة وما فيها من جزاء ، وما فيها من قيم وموازين ، مرجحا لكفة الإنفاق ، تطمئن إليه النفس ، وتسكن له وتستريح . ويعتدل الميزان في يدها فلا يرجح بقيمة زائفة ذات لألاء وبريق .
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ ) يعني بذلك جل ثناؤه : يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر وشربها . والخمر : كل شراب خامر العقل فستره وغطى عليه ، وهو من قول القائل : خَمَرت الإناء إذا غطيته ، وخَمِرَ الرجل : إذا دخل في الخَمَرِ ، ويقال : هو في خُمار الناس وغُمارهم ، يراد به : دخل في عُرض الناس ، ويقال للضبع : خامري أم عامر ، أي استتري . وما خامر العقل من داء وسكر فخالطه وغمره فهو خمر ، ومن ذلك أيضا خِمار المرأة ، وذلك لأنها تستر به رأسها فتغطيه ، ومنه يقال : هو يمشي لك الخَمَر ، أي مستخفيا ، كما قال العجاج :
فِي لامِعِ الِعقْبانِ لا يأتي الخَمَرْ *** يُوجّهُ الأرْضَ ويَسْتاقُ الشّجَرْ
ويعني بقوله : لا يأتي الخمر : لا يأتي مستخفيا ولا مسارقة ، ولكن ظاهرا برايات وجيوش والعقبان جمع عقاب ، وهي الرايات .
وأما «الميسر » فإنها «المفعِل » من قول القائل : يسَر لي هذا الأمر : إذا وجب لي فهو يَيْسِر لي يَسَرا ومَيْسِرا ، والياسر : الواجب ، بقداح وجب ذلك أو مباحه أو غير ذلك ، ثم قيل للمقامر : ياسر ، ويَسَر ، كما قال الشاعر :
فَبِتّ كأنّنِي يَسَرٌ غَبِينٌ *** يُقَلّبُ بَعْدَما اخْتُلِعَ القِدَاحا
أوْ ياسِرٌ ذَهَبَ القِداحُ بوَفْرِه *** أسِفٌ تآكَلَهُ الصّديقُ مُخَلّعُ
يعني بالياسر : المقامر ، وقيل للقمار : ميسر ، وكان مجاهد يقول نحو ما قلنا في ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : يَسألُونَكَ عَن الخَمْرِ وَالمَيْسِر قال : القمار ، وإنما سمي الميسر لقولهم أيسروا واجزروا ، كقولك ضع كذا وكذا .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : كل القمار من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي الأحوص ، قال : قال عبد الله : إياكم وهذه الكعاب الموسومة التي تزجرون بها زجرا فإنهن من الميسر .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي الأحوص ، مثله .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن نافع ، قال : حدثنا شعبة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله أنه قال : إياكم وهذه الكعاب التي تزجرون بها زجرا ، فإنها من الميسر .
حدثني عليّ بن سعيد الكندي ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، عن عاصم ، عن محمد بن سيرين ، قال : القمار : ميسر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن محمد بن سيرين ، قال : كل شيء له خطر ، أو في خطر أبو عامر شك فهو من الميسر .
حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، عن عاصم ، عن محمد بن سيرين ، قال : كل قمار ميسر حتى اللعب بالنرد على القيام والصياح والريشة يجعلها الرجل في رأسه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عاصم ، عن ابن سيرين ، قال : كل لعب فيه قمار من شرب أو صياح أو قيام فهو من الميسر .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا خالد بن الحرث ، قال : حدثنا الأشعث ، عن الحسن ، أنه قال : الميسر : القمار .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا المعتمر ، عن ليث ، عن طاوس وعطاء قالا : كل قمار فهو من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد ، قال : الميسر : القمار .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك بن عمير ، عن أبي الأحوص ، عن عبيد الله قال : إياكم وهاتين الكعبتين يزجر بهما زجرا فإنهما من الميسر .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، قال : أما قوله والميسر ، فهو القمار كله .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم ، عن عبيد الله بن عمر أنه سمع عمر بن عبيد الله يقول للقاسم بن محمد : النرد : ميسر ، أرأيت الشطرنج ميسر هو ؟ فقال القاسم : كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهو ميسر .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : الميسر : القمار ، كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله ، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : الميسر القمار .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : الميسر القمار .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الليث ، عن مجاهد وسعيد بن جبير ، قالا : الميسر : القمار كله ، حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : سمعت عبيد بن سليمان يحدث عن الضحاك قوله : الميسر : قال : القمار .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الميسر : القمار .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد ، قال : حدثنا موسى بن عقبة ، عن نافع أن ابن عمر كان يقول : القمار من الميسر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : الميسر قداح العرب ، وكعاب فارس . قال : وقال ابن جريج ، وزعم عطاء بن ميسرة أن الميسر : القمار كله .
حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن عبد العزيز ، قال : قال مكحول : الميسر : القمار .
حدثنا الحسين بن محمد الذارع ، قال : حدثنا الفضل بن سليمان وشجاع بن الوليد ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : الميسر : القمار .
وأما قوله : قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ فإنه يعني بذلك جل ثناؤه : قل يا محمد لهم فيهما ، يعني في الخمر والميسر إثم كبير . فالإثم الكبير الذي فيهما ما ذكر عن السدي فيما :
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ فإثم الخمر أن الرجل يشرب فيسكر فيؤذي الناس . وإثم الميسر أن يقامر الرجل فيمنع الحق ويظلم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ قال : هذا أول ما عيبت به الخمر .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ يعني ما ينقص من الدين عند من يشربها .
والذي هو أولى بتأويل الآية ، الإثم الكبير الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في الخمر والميسر ، فالخمر ما قاله السدي : زوال عقل شارب الخمر إذا سكر من شربه إياها حتى يعزب عنه معرفة ربه ، وذلك أعظم الاَثام ، وذلك معنى قول ابن عباس إن شاء الله . وأما في الميسر فما فيه من الشغل به عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، ووقوع العداوة والبغضاء بين المتياسرين بسببه ، كما وصف ذلك به ربنا جل ثناؤه بقوله : إنّمَا يُريدُ الشّيْطانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَعَنِ الصّلاةِ .
وأما قوله : وَمَنافِعُ للنّاسِ فإن منافع الخمر كانت أثمانها قبل تحريمها ، وما يصلون إليه بشربها من اللذة ، كما قال الأعشى في صفتها :
لنَا مِنْ ضُحاها خُبْثُ نَفْسٍ وكأْبَةٌ **** وَذِكْرَى هَمُومٍ ما تَفُكّ أذَاتُها
وَعِندَ العِشاءِ طِيبُ نَفْسٍ وَلَذّةٌ *** ومالٌ كَثِيرٌ عِدّةٌ نَشَوَاتُها
فَنَشْرَبُها فتترُكُنا مُلُوكا *** وأُسْدا ما يُنَهْنِهُنا اللّقاءُ
وأما منافع الميسر فيما يصيبون فيه من أنصباء الجزور ، وذلك أنهم كانوا يياسرون على الجزور ، وإذا أفلج الرجل منهم صاحبه نحره ، ثم اقتسموا أعشارا على عدد القداح ، وفي ذلك يقول أعشى بني ثعلبة :
وجَزُورِ أيْسارٍ دَعَوْتُ إلى النّدَى *** ونِياطِ مُقْفِرَةٍ أخافُ ضَلاَلهَا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : المنافع ههنا : ما يصيبون من الجزور .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي : أما منافعهما فإن منفعة الخمر في لذته وثمنه ، ومنفعة الميسر فيما يصاب من القمار .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ قال : منافعهما قبل أن يحرّما .
حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَمَنافعُ للنّاسِ قال : يقول فيما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوها .
واختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأه عظم أهل المدينة وبعض الكوفيين والبصريين قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ بالباء ، بمعنى : قل في شرب هذه والقمار هذا كبير من الاَثام . وقرأه آخرون من أهل المصرين ، البصرة والكوفة : «قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ » بمعنى الكثرة من الاَثام ، وكأنهم رأوا أن الإثم بمعنى الاَثام ، وإن كان في اللفظ واحدا فوصفوه بمعناه من الكثرة .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه بالباء : قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ لإجماع جميعهم على قوله : وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وقراءته بالباء وفي ذلك دلالة بينة على أن الذي وصف به الإثم الأول من ذلك هو العظم والكبر ، لا الكثرة في العدد . ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة ، لقيل وإثمهما أكثر من نفعهما .
القول في تأويل قوله تعالى : وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا .
يعني بذلك عزّ ذكره : والإثم بشرب هذه والقمار هذا ، أعظم وأكبر مضرّة عليهم من النفع الذي يتناولون بهما . وإنما كان ذلك كذلك ، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض وقاتل بعضهم بعضا ، وإذا ياسروا وقع بينهم فيه بسببه الشرّ ، فأدّاهم ذلك إلى ما يأثمون به .
ونزلت هذه الآية في الخمر قبل أن يصرّح بتحريمها ، فأضاف الإثم جل ثناؤه إليهما ، وإنما الإثم بأسبابهما ، إذ كان عن سببهما يحدث .
وقد قال عدد من أهل التأويل : معنى ذلك : وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قال : منافعهما قبل التحريم ، وإثمهما بعدما حرّما .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع : وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ينزل المنافع قبل التحريم ، والإثم بعد ما حرّم .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرني عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا يقول : إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا يقول : ما يذهب من الدين والإثم فيه أكبر مما يصيبون في فرحها إذا شربوها .
وإنما اخترنا ما قلنا في ذلك من التأويل لتواتر الأخبار وتظاهرها بأن هذه نزلت قبل تحريم الخمر والميسر ، فكان معلوما بذلك أن الإثم الذي ذكر الله في هذه الآية فأضافه إليهما إنما عنى به الإثم الذي يحدث عن أسبابهما على ما وصفنا ، لا الإثم بعد التحريم .
ذكر الأخبار الدالة على ما قلنا من أن هذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا قيس ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما نزلت : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ فكرهها قوم لقوله : فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وشربها قوم لقوله : وَمَنافِعُ للنّاسِ ، حتى نزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حّتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ قال : فكانوا يدعونها في حين الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة ، حتى نزلت : إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ فقال عمر : ضيعةً لك اليوم قرنت بالميسر .
حدثني محمد بن معمر ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا محمد بن أبي حميد ، عن أبي توبة المصري ، قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاثا ، فكان أول ما أنزل : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ الآية ، فقالوا : يا رسول الله ننتفع بها ونشربها ، كما قال الله جل وعز في كتابه . ثم نزلت هذه الآية : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى . . . الآية ، قالوا : يا رسول الله لا نشربها عند قرب الصلاة قال : ثم نزلت : إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ الآية ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حُرّمَتِ الخَمْرُ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن قالا : قال الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حّتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ويَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعٌ للنّاسٍ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا فنسختها الآية التي في المائدة ، فقال : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ الآية .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا عوف ، عن أبي القموص زيد بن عليّ ، قال : أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاث مرات فأول ما أنزل قال الله : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قال : فشربها من المسلمين من شاء الله منهم على ذلك ، حتى شرب رجلان ، فدخلا في الصلاة ، فجعلا يهجران كلاما لا يدري عوف ما هو ، فأنزل الله عز وجل فيهما : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حّتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فشربها من شربها منهم ، وجعلوا يتقونها عند الصلاة ، حتى شربها فيما زعم أبو القموص رجلٌ ، فجعل ينوح على قتلى بدر :
تُحَيّي بالسّلامَةِ أُمّ عَمرو *** وهلْ لكِ بعدَ رَهْطِكِ من سَلامِ
ذَرِيِني أصْطَبِحْ بَكْرا فإنّي *** رأيْتُ المَوْتَ نَقّبَ عَنْ هِشامِ
وَوَدّ بَنُو المَغِيرَةِ لَوْ فَدَوْهُ *** بألْفٍ مِنْ رجالٍ أوْ سَوَامِ
كأيَ بالطّوِيّ طَوِيّ بَدْرٍ *** مِنَ الشيّزَى يُكَلّلُ بالسّنامِ
كأيَ بالطّوِيّ طَوِيّ بَدْرٍ *** مِنَ الفِتْيانِ والحُلَل الكِرَامِ
قال : فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء فزعا يجرّ رداءه من الفزع حتى انتهى إليه ، فلما عاينه الرجل ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا كان بيده ليضربه ، قال : أعوذ بالله من غضب الله ورسوله ، والله لا أطعَمُها أبدا فأنزل الله تحريمها : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ والأنْصَابُ وَالأزْلامُ رجْسٌ . . . إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : انتهينا انتهينا .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق الأزرق ، عن زكريا عن سماك ، عن الشعبي ، قال : نزلت في الخمر أربع آيات : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعٌ للنّاسِ فتركوها ، ثم نزلت : تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا فشربوها . ثم نزلت الاَيتان في المائدة إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : نزلت هذه الآية : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ الآية ، فلم يزالوا بذلك يشربونها ، حتى صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما ، فدعا ناسا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم عليّ بن أبي طالب ، فقرأ : قُلْ يا أيّها الكافِرُونَ ولم يفهمها ، فأنزل الله عز وجل يشدّد في الخمر : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصلاَة وأنْتُمْ سُكارَى حّتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فكانت لهم حلالاً ، يشربون من صلاة الفجر حتى يرتفع النهار أو ينتصف ، فيقومون إلى صلاة الظهر وهم مُصْحون ، ثم لا يشربونها حتى يصلوا العتمة وهي العشاء ، ثم يشربونها حتى ينتصف الليل وينامون ، ثم يقومون إلى صلاة الفجر وقد صحوا . فلم يزالوا بذلك يشربونها ، حتى صنع سعد بن أبي وقاص طعاما ، فدعا ناسا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم رجل من الأنصار ، فشوى لهم رأس بعير ثم دعاهم عليه ، فلما أكلوا وشربوا من الخمر سكروا وأخذوا في الحديث ، فتكلم سعد بشيء ، فغضب الأنصاري ، فرفع لحى البعير فكسر أنف سعد ، فأنزل الله نسخ الخمر وتحريمها وقال : إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، وعن رجل عن مجاهد في قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ قال : لما نزلت هذه الآية شربها بعض الناس وتركها بعض ، حتى نزل تحريمها في سورة المائدة .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ قال : هذا أوّل ما عيبت به الخمر .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعٌ للنّاسِ فذمهما الله ولم يحرّمهما لما أراد أن يبلغ بهما من المدة والأجل ، ثم أنزل الله في سورة النساء أشدّ منها : لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حّتى تَعْلَمُوا ما تَقُوُلونَ فكانوا يشربونها ، حتى إذا حضرت الصلاة سكتوا عنها ، فكان السكر عليهم حراما . ثم أنزل الله جل وعز في سورة المائدة بعد غزوة الأحزاب : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ إلى : لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ فجاء تحريمها في هذه الآية قليلها وكثيرها ، ما أسكر منها وما لم يسكر ، وليس للعرب يومئذ عيش أعجب إليهم منها .
وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا . قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ رَبّكُمْ يُقَدّمُ فِي تَحْريمِ الخَمْرِ » . قال : ثم نزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حّتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّ رَبّكُمْ يُقَدّمُ فِي تَحْرِيمِ الخَمْرِ » . قال : ثم نزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ فحرّمت الخمر عند ذلك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ الآية كلها ، قال نسخت ثلاثةً : في سورة المائدة ، وبالحدّ الذي حدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم . قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يضربهم بذلك حدّا ، ولكنه كان يعمل في ذلك برأيه ، ولم يكن حدّا مسمى وهو حد . وقرأ : إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ الآية .
القول في تأويل قوله تعالى : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ .
يعني جل ذكره بذلك : ويسألك يا محمد أصحابك : أيّ شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به ، فقل لهم يا محمد أنفقوا منها العفو .
واختلف أهل التأويل في معنى : العَفْو في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناه : الفضل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن عليّ الباهلي ، قال : حدثنا وكيع ح ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : العفو : ما فضل عن أهلك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قل العفو : أي الفضل .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : هو الفضل .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء في قوله : العفو ، قال : الفضل .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : العفو ، يقول : الفضل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : كان القوم يعملون في كل يوم بما فيه ، فإن فضل ذلك اليوم فضل عن العيال قدموه ولا يتركون عيالهم جوعا ، ويتصدقون به على الناس .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا يونس ، عن الحسن في قوله : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : هوالفضل فضل المال .
وقال آخرون : معنى ذلك ما كان عفوا لا يبين على من أنفقه أو تصدق به . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُل العَفْوَ يقول : ما لا يتبين في أموالكم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن جريج ، عن طاوس في قول الله جل وعز : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : اليسير من كل شيء .
وقال آخرون : معنى ذلك : الوسط من النفقة ما لم يكن إسرافا ولا إقتارا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، عن عوف ، عن الحسن في قوله : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ يقول : لا تجهد مالك حتى ينفد للناس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء ، عن قوله : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُل العَفْوَ قال : العفو في النفقة أن لا تجهد مالك حتى ينفد ، فتسأل الناس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء ، عن قوله يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : العفو : ما لم يسرفوا ، ولم يقتروا في الحقّ . قال : وقال مجاهد : العفو صدقة عن ظهر غنى .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن في قوله : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : هو أن لا تجهد مالك .
وقال آخرون : معنى ذلك قُلِ العَفْوَ خذ منهم ما أتوك به من شيء قليلاً أو كثيرا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قَلِ العَفْوَ يقول : ما أتوك به من شيء قليل أو كثير ، فاقبله منهم .
وقال آخرون : معنى ذلك ما طاب من أموالكم . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقونَ قُلِ العَفْوَ قال : يقول الطيب منه ، يقول : أفضل مالك وأطيبه .
حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، قال : كان يقول : العفو : الفضل . يقول : أفضل مالك .
وقال آخرون : معنى ذلك : الصدقة المفروضة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد ، أو عيسى عن قيس ، عن مجاهد شك أبو عاصم قول الله جل وعز : قُلِ العَفْوَ قال : الصدقة المفروضة .
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى العفو : الفضل من مال الرجل عن نفسه وأهله في مئونتهم وما لا بدّ لهم منه . وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإذن في الصدقة ، وصدقته في وجه البرّ .
ذكر بعض الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك :
3حدثنا عليّ بن مسلم ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن عجلان ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، قال : قال رجل : يا رسول الله عندي دينار قال : «أنْفِقْهُ على نَفْسِكَ ؟ » قال : عندي آخر قال : «أنْفِقْهُ على أهْلِكَ » قال : عندي آخر قال : «أنْفِقْهُ على وَلَدِكَ » قال : عندي آخر قال : «فأنْتَ أبْصَرُ » .
حدثني محمد بن معمر البحراني ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذَا كانَ أحَدُكُمَ فَقِيرا فَلْيَبَدأ بِنَفْسِهِ ، فإنْ كانَ لَهُ فَضْلٌ فَلْيَبْدأ مَعَ نَفْسِهِ بِمَنْ يَعُولُ ، ثُمّ إنْ وَجَدَ فَضْلاً بَعْدَ ذَلِكَ فَلْيَتَصَدّقْ على غَيْرِهِمْ » .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عاصم ، عن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن جابر بن عبد الله ، قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن ، فقال : يا رسول الله ، خذ هذه مني صدقة ، فوالله ما أصبحت أملك غيرها فأعرض عنه ، فأتاه من ركنه الأيمن ، فقال له مثل ذلك ، فأعرض عنه . ثم قال له مثل ذلك فأعرض عنه . ثم قال له مثل ذلك ، فقال : «هاتها » مغضبا ، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجه أو عقره ، ثم قال : «يَجِيءُ أحَدُكُمْ بِمَالِهِ كُلّهِ يَتَصَدّقُ بِهِ وَيجْلِسُ يَتَكَفّفُ النّاسَ إنّمَا الصّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غَنِى » .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن إبراهيم المخرمي ، قال : سمعت أبا الأحوص يحدث عن عبد الله ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ارْضَخْ مِنَ الفَضْلِ ، وَابْدأ بِمَنْ تَعُولُ ، وَلا تُلامُ على كَفافٍ » .
وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستقصاء ذكرها الكتاب . فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم لأمته الصدقة من أموالهم بالفضل عن حاجة المتصدق الفضل من ذلك ، هو العفو من مال الرجل إذ كان العفو في كلام العرب في المال وفي كل شيء هو الزيادة والكثرة ، ومن ذلك قوله جل ثناؤه : حَتى عَفَوْا بمعنى : زادوا على ما كانوا عليه من العدد وكثروا ، ومنه قول الشاعر :
وَلَكِنّا يَعضّ السّيْفُ مِنّا *** بأسْوُقِ عافِياتِ الشّحْمِ كُومِ
يعني به كثيرات الشحوم . ومن ذلك قيل للرجل : خذ ما عفا لك من فلان ، يراد به : ما فضل فصفا لك عن جهده بما لم تجهده . كان بينا أن الذي أذن الله به في قوله قُلِ العَفْوَ لعباده من النفقة ، فأذنهم بإنفاقه إذا أرادوا إنفاقه هو الذي بين لأمته رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : «خَيْرُ الصّدَقة ما أَنْفقت عن غِنًى » وأذنهم به .
فإن قال لنا قائل : وما تنكر أن يكون ذلك العفو هو الصدقة المفروضة ؟ قيل : أنكرنا ذلك لقيام الحجة على أن من حلت في ماله الزكاة المفروضة ، فهلك جميع ماله إلا قدر الذي لزم ماله لأهل سهمان الصدقة ، أن عليه أن يسلمه إليهم ، إذا كان هلاك ماله بعد تفريطه في أداء الواجب كان لهم ( في ) ماله إليهم ، وذلك لا شك أنه جهده إذا سلمه إليهم لا عفوه ، وفي تسمية الله جل ثناؤه ما علم عباده وجه إنفاقهم من أموالهم عفوا ، ما يبطل أن يكون مستحقا اسم جهد في حالة ، وإذا كان ذلك كذلك فبّين فساد قول من زعم أن معنى العفو هو ما أخرجه ربّ المال إلى إمامه ، فأعطاه كائنا ما كان من قليل ماله وكثيره ، وقول من زعم أنه الصدقة المفروضة .
وكذلك أيضا لا وجه لقول من يقول : إن معناه ما لم يتبين في أموالكم ، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو لبابة : إن من توبتي أن أنخلع إلى الله ورسوله من مالي صدقة ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ الثّلُثُ » وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له نحوا من ذلك . والثلث لا شك أنه بين فقده من مال ذي المال ، ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه : وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلم يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما وكما قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولةً إلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوما مَحْسُورا وذلك هو ما حده صلى الله عليه وسلم فيما دون ذلك على قدر المال واحتماله .
ثم اختلف أهل العلم في هذه الآية : هل هي منسوخة ، أم ثابتة الحكم على العباد ؟ فقال بعضهم : هي منسوخة نسختها الزكاة المفروضة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : كان هذا قبل أن تفرض الصدقة .
3حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : لم تفرض فيه فريضة معلومة ، ثم قال : خُذِ العَفْوَ وأمُرْ بالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ ثم نزلت الفرائض بعد ذلك مسماة .
3حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قوله : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ هذه نسختها الزكاة .
وقال آخرون : بل مثبتة الحكم غير منسوخة . ذكر من قال ذلك :
3حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد أو عيسى ، عن قيس ، عن مجاهد شك أبو عاصم ، قال قال : العفو : الصدقة المفروضة .
والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس على ما رواه عنه عطية من أن قوله : قُلِ العَفْوَ ليس بإيجاب فرض فرض من الله حقا في ماله ، ولكنه إعلام منه ما يرضيه من النفقة مما يسخطه جوابا منه لمن سأل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عما فيه له رضا ، فهو أدب من الله لجميع خلقه على ما أدبهم به في الصدقة غير المفروضات ثابت الحكم غير ناسخ لحكم كان قبله بخلافه ، ولا منسوخ بحكم حدث بعده ، فلا ينبغي لذي ورع ودين أن يتجاوز في صدقات التطوّع وهباته وعطايا النفل وصدقته ما أدبهم به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : «إذَا كانَ عِنْدَ أحَدِكُمْ فَضْلٌ فَلْيَبْدأ بِنَفْسِهِ ، ثُمّ بأهْلِه ، ثُمّ بِوَلَدِهِ » ثُمّ يَسْلُكُ حِينَئذٍ فِي الفَضْلِ مَسالِكَهُ الّتِي تُرْضِي اللّهَ ويُحِبّها . وذلك هو القوام بين الإسراف والإقتار الذي ذكره الله عز وجلّ في كتابه إن شاء الله تعالى . ويقال لمن زعم أن ذلك منسوخ : ما الدلالة على نسخه ؟ وقد أجمع الجميع لا خلاف بينهم على أن للرجل أن ينفق من ماله صدقة وهبة ووصية الثلث ، فما الذي دلّ على أن ذلك منسوخ ؟ فإن زعم أنه يعني بقوله : إنه منسوخ أن إخراج العفو من المال غير لازم فرضا ، وأن فرض ذلك ساقط بوجود الزكاة في المال قيل له : وما الدليل على أن إخراج العفو كان فرضا ، فأسقطه فرض الزكاة ؟ ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان فرضا ، إذ لم يكن أمر من الله عز ذكره ، بل فيها الدلالة على أنها جواب ما سأل عنه القوم على وجه التعرف لما فيه لله الرضا من الصدقات ، ولا سبيل لمدعي ذلك إلى دلالة توجب صحة ما ادّعى .
وأما القراء فإنهم اختلفوا في قراءة العفو ، فقرأته عامة قراء الحجاز وقراء الحرمين وعظم قراء الكوفيين : قُلِ العَفْوَ نصبا ، وقرأه بعض قراء البصريين : قُلِ العَفْوُ رفعا . فمن قرأه نصبا جعل «ماذا » حرفا واحدا ، ونصبه بقوله : يُنْفِقُونَ على ما قد بينت قبل ، ثم نصب العفو على ذلك فيكون معنى الكلام حينئذٍ : ويسألونك أيّ شيء ينفقون ؟ ومن قرأه رفعا جعل «ما » من صلة «ذا » ورفعوا العفو فيكون معنى الكلام حينئذٍ : ما الذي ينفقون ، قل الذي ينفقون العفو . ولو نصب العفو ، ثم جعل «ماذا » حرفين بمعنى : يسألونك ماذا ينفقون ؟ قل ينفقون العفو ، ورفع الذين جعلوا «ماذا » حرفا واحدا بمعنى : ما ينفقون ؟ قل الذي ينفقون خبرا كان صوابا صحيحا في العربية . وبأيّ القراءتين قرىء ذلك عندي صواب لتقارب معنييهما مع استفاضة القراءة بكل واحدة منهما . غير أن أعجب القراءتين إليّ وإن كان الأمر كذلك قراءة من قرأه بالنصب ، لأن من قرأ به من القراء أكثر وهو أعرف وأشهر .
القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ يُبَينُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِي الدّنْيا والاَخِرَةِ .
يعني بقول عز ذكره : كَذَلِكَ يُبَينُ اللّهُ لَكُمْ الاَياتِ هكذا يبين أي ما بينت لكم أعلامي وحججي ، وهي آياته في هذه السورة ، وعرفتكم فيها ما فيه خلاصكم من عقابي ، وبينت لكم حدودي وفرائضي ، ونبهتكم فيها على الأدلة على وحدانيتي ، ثم على حجج رسولي إليكم ، فأرشدتكم إلى ظهور الهدى ، فكذلك أبين لكم في سائر كتابي الذي أنزلته على نبيي محمد صلى الله عليه وسلم آياتي وحججي ، وأوضحها لكم لتتفكروا في وعدي ووعيدي وثوابي وعقابي ، فتجاوزوا طاعتي التي تنالون بها ثوابي في الدار الاَخرة ، والفوز بنعيم الأبد على القليل من اللذات ، واليسير من الشهوات ، بركوب معصيتي في الدنيا الفانية التي من ركبها ، كان معاده إليّ ، ومصيره إلى ما لا قبل له به من عقابي وعذابي .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
3حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس : كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِي الدّنْيا والاَخِرَة قال : يعني في زوال الدنيا وفنائها ، وإقبال الاَخرة وبقائها .
3حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِي الدّنْيا والاَخِرَةِ يقول : لعلكم تتفكرون في الدنيا والاَخرة ، فتعرفون فضل الاَخرة على الدنيا .
3حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قوله : كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِي الدّنْيا والاَخِرَةِ قال : أما الدنيا فتعلمون أنها دار بلاء ثم فناء ، والاَخرة دار جزاء ثم بقاء ، فتتفكرون ، فتعملون للباقية منهما . قال : وسمعت أبا عاصم يذكر نحو هذا أيضا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ في الدّنْيا والاَخِرَة وإنه من تفكر فيهما عرف فضل إحداهما على الأخرى وعرف أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء ، وأن الاَخرة دار جزاء ثم دار بقاء ، فكونوا ممن يَصْرم حاجة الدنيا لحاجة الاَخرة .
استئناف لإبطال عملين غالبين على الناس في الجاهلية وهما شرب الخمر والميسر وهذا من عداد الأحكام التي بينها في هاته السورة مما يرجع إلى إصلاح الأحوال التي كان عليها الناس في الجاهلية ، والمشروع في بيانها من قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } [ البقرة : 178 ] إلى آخر السورة ، عدا ما تخلل ذلك من الآداب والزواجر والبشائر والمواعظ والأمثال والقصص ؛ على عادة القرآن في تفنن أساليبه تنشيطاً للمخاطبين والسامعين والقارئين ومن بلغ ، وقد تناسقت في هذه الآية .
والسائلون هم المسلمون ؛ قال الواحدي : نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل متلفة للمال ، فنزلت هذه الآية ، قال في « الكشاف » : فلما نزلت هذه الآية ترك الخمر قوم وشربها آخرون ثم نزلت بعدها آية المائدة ( 90 ) : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } وشرب الخمر عمل متأصل في البشر قديماً لم تحرمه شريعة من الشرائع لا القدر المسكر بله ما دونه ، وأما ما يذكره علماء الإسلام أن الإسكار حرام في الشرائع كلها فكلام لا شاهد لهم عليه بل الشواهد على ضده متوافرة ، وإنما جرأهم على هذا القول ما قعدوه في أصول الفقه من أن الكليات التشريعية وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال والعرض هي مما اتفقت عليه الشرائع ، وهذا القول وإن كنا نساعد عليه فإن معناه عندي أن الشرائع كلها نظرت إلى حفظ هاته الأمور في تشريعاتها ، وأما أن تكون مراعاة باطراد في غير شريعة الإسلام فلا أحسب ذلك يتم ، على أن مراعاتها درجات ، ولا حاجة إلى البحث في هذا بيد أن كتب أهل الكتاب ليس فيها تحريم الخمر ولا التنزيه عن شربها ، وفي التوراة التي بيد اليهود أن نوحاً شرب الخمر حتى سكر ، وأن لوطاً شرب الخمر حتى سكر سكراً أفضى بزعمهم إلى أمر شنيع ، والأخير من الأكاذيب ؛ لأن النبوءة تستلزم العصمة ، والشرائع وإن اختلفت في إباحة أشياء فهنالك ما يستحيل على الأنبياء مما يؤدي إلى نقصهم في أنظار العقلاء ، والذي يجب اعتقاده : أن شرب الخمر لا يأتيه الأنبياء ؛ لا يشربها شاربوها إلا للطرب واللهو والسكر ، وكل ذلك مما يتنزه عنه الأنبياء ولأنها يشربونها لقصد التقوي لقلة هذا القصد من شربها .
وفي سفر اللاويين من التوراة وكلم الله هارون قائلاً : خمراً ومسكراً لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا . فرضاً دهرياً في أجيالكم وللتمييز بين المقدس والمحلَّل وبين النجس والطاهر .
وشيوع شرب الخمر في الجاهلية معلوم لمن علم أدبهم وتاريخهم فقد كانت الخمر قوام أود حياتهم ، وقصارى لذَّاتهم ومسرة زمانهم وملهى أوقاتهم ، قال طرفة :
ولولا ثلاثٌ هُنَّ من عِيشة الفتى *** وجدك لم أحفل متى قام عُوَّدِي
فمنهن سبقي العاذلات بشَربـة *** كُمَيْتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ
وعن أنس بن مالك : حرمت الخمر ولم يكن يومئذٍ للعرب عيش أعجب منها ، وما حرم عليهم شيء أشد عليهم من الخمر . فلا جرَم أن جاء الإسلام في تحريمها بطريقة التدريج فأقر حقبةً إباحة شربها وحسبكم في هذا الامتنانُ بذلك في قوله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } [ النحل : 67 ] على تفسير من فسر السَّكَر بالخمر . وقيل السَّكَر : هو النبيذ غير المسكر ، والأظهر التفسير الأول . وآية سورة النحل نزلت بمكة ، واتفق أهل الأثر على أن تحريم الخمر وقع في المدينة بعد غزوة الأحزاب بأيام ، أي في آخر سنة أربع أو سنة خمس على الخلاف في عام غزوة الأحزاب . والصحيح الأول ، فقد امتن الله على الناس بأن اتخذوا سكراً من الثمرات التي خلقها لهم ، ثم إن الله لم يهمل رحمته بالناس حتى في حملهم على مصالحهم فجاءهم في ذلك بالتدريج ، فقيل : إن آية سورة البقرة هذه هي أول آية آذنت بما في الخمر من علة التحريم ، وأن سبب نزولها ما تقدم ، فيكون وصفها بما فيها من الإثم والمنفعة تنبيهاً لهم ، إذ كانوا لا يذكرون إلاّ محاسنها فيكون تهيئة لهم إلى ما سيرد من التحريم ، قال البغوي : إنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تَقَدَّم في تحريم الخمر " أي ابتدأَ يُهيىء تحريمها يقال : تقدمت إليك في كذا أي عرضتُ عليك ، وفي « تفسير ابن كثير » : أنها ممهدة لتحريم الخمر على البتات ولم تكن مصرحة بل معرضة أي معرضة بالكف عن شربها تنزهاً . وجمهور المفسرين على أن هذه الآية نزلت قبل آية سورة النساء وقبل آية سورة المائدة ، وهذا رأي عمر بن الخطاب كما روى أبو داود ، وروَى أيضاَ عن ابن عباس أنّه رأى أن آية المائدة نسخت { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] ، ونسخت آية { يسألونك عن الخمر والميسر } ، ونُسب لابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زين بن أسلم .
وذهب بعض المفسرين إلى أن آية البقرة هذه ثبت بها تحريم الخمر فتكون هذه الآية عندهم نازلة بعد آية سورة النساء { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وإذ كانت سورة البقرة قد نزلت قبل سورة النساء وسورة المائدة ، فيجيء على قول هؤلاء أن هذه الآية نزلت بعد نزول سورة البقرة وأنها وضعت هنا إلحاقاً بالقضايا التي حكى سؤالهم عنها .
وأن معنى { فيهما إثم كبير } في تعاطيهما بشرب أحدهما واللعب بالآخر ذنب عظيم ، وهذا هو الأظهر من الآية ؛ إذ وُصف الإثم فيها بوصف كبير فلا تكون آية سورة العقود إلاّ مؤكدة للتحريم ونصاً عليه ؛ لأن ما في آيتنا هذه من ذكر المنافع ما قد يتأوّله المتأوّلون بالعذر في شربها ، وقد روي في بعض الآثار أنّ ناساً شربوا الخمر بعد نزول هذه الآية فصلّى رجلان فجعلا يهجران كلاماً لا يُدْرَى ما هو ، وشرِبها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر من المشركين ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه فزعاً ورفع شيئاً كان بيده ليضربه فقال الرجل : أعوذ بالله من غضب الله ورسوله وآلى : لا أطعمها أبداً ، فأنزل الله تحريمها بآية سورة المائدة .
والخمر اسم مشتق من مصدر خَمَر الشيءَ يخمرُه من باب نصر إذا ستَره ، سمي به عصير العنب إذا غلَى واشتد وقذف بالزبد فصار مسكراً ؛ لأنه يَستر العقل عن تصرفه الخَلْقي تسمية مجازية وهي إما تسمية بالمصدر ، أو هو اسم جاء على زِنة المصدر وقيل : هو اسم لكل مشروب مسكر سواء كان عصير عنب أوْ عصير غيره أو ماء نبذ فيه زبيب أو تمر أو غيرهما من الأنبذة وتُرك حتى يختمر ويُزبد ، واستظهره صاحب « القاموس » . والحق أن الخمر كل شراب مسكر إلا أنه غلب على عصير العنب المسكر ؛ لأنهم كانوا يتنافسون فيه ، وأن غيره يطلق عليه خَمر ونبيذ وفضيخ ، وقد وردت أخبار صحيحة تدل على أن معظم شراب العرب يوم تحريم الخمر من فضيخ التمر ، وأن أشربة أهل المدينة يومئذ خمسة غير عصير العنب ، وهي من التمر والزبيب والعسل والذرة والشعير وبعضها يسمى الفضيخ ، والنقيع ، والسُّكَرْكَةَ ، والبِتْع . وما ورد في بعض الآثار عن ابن عمر : نزل تحريم الخمر وبالمدينة خمسة أشربة ما فيها شراب العنب ، معناه ليس معدوداً في الخمسة شرابُ العنب لقلة وجوده وليسر المراد أن شراب العنب لا يوجد بالمدينة . وقد كان شراب العنب يجلب إلى الحجاز ونجد من اليمن والطائف والشام قال عَمرو ابن كلثوم :
* ولا تُبِقي خُمور الأَنْدَرِين *
وقد انبنى على الخلاف في مسمى الخمر في كلام العرب خلاف في الأحكام ، فقد أجمع العلماء كلهم على أن خمر العنب حرام كثيرها إجماعاً وقليلها عند معظم العلماء ويحد شارب الكثير منها عند الجمهور وفي القليل خلاف كما سيأتي في سورة المائدة إن شاء الله تعالى ، ثم اختلفوا فيما عداها فقال الجمهور : كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام وحكمه كحكم الخمر في كل شيء أخذاً بمسمى الخمر عندهم ، وبالقياس الجلي الواضح أن حكمة التحريم هي الإسكار وهو ثابت لجميعها وهذا هو الصواب .
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وسفيان الثوري : يختص شراب العنب بتلك الأحكام أما ما عداه فلا يحرم منه إلا القدر المسكر ، هكذا ينقل المخالفون عن أبي حنيفة ، وكان العلماء في القديم ينقلون ذلك مطلقاً حتى ربما أوهم نقلهم أنه لا يرى على من سكر بغير الخمر شيئاً ، ويزيد ذلك إيهاماً قاعدة أن المأذون فيه شرعاً لا يتقيد بالسلامة وربما عضدوا ذلك بمنقول قصص وحوادث كقول أبي نواس :
أباح العراقي النبيذ وشربه *** وقال حَرامان المدامة والسَّكْرُ
ولكن الذي استقر عليه الحنفية هو أن الأشربة المسكرة قسمان ، أحدهما محرم شربه وهو أربعة : ( الخمر ) وهو النيء من عصير العنب إذا غلَى واشتد وقذَف بالزبد ، ( والطِلاء ) بكسر الطاء وبالمد وهو عصير العنب إذا طبخ حتى ذهب أقل من ثلثيه ثم ترك حتى صار مسكراً ، ( والسَّكَر ) بفتح السين والكاف وهو النيء من ماء الرطب أي من الماء الحار المصبوب على الرطب ثم يصير مسكراً ، ( والنقيع ) وهو النيء من نبيذ الزبيب ، وهذه الأربعة حرام قليلها وكثيرها ونجسة العين لكن الخمر يكفر مستحلها ويحد شارب القليل والكثير منها ، وأما الثلاثة الباقية فلا يكفر مستحلها ولا يحد شاربها إلا إذا سكر .
القسم الثاني الأشربة الحلال شربها وهي نبيذ التمر والزبيب إذا طبخ ولو أدنى طبخة ، ونبيذ الخليطين منهما إذا طبخ أدنى طبخة ، ونبيذ العسل والتين والبُرّ والشعير والذُّرة طُبخ أم لم يطبخ . والمثلث وهو ما طبخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه ، فهذه الأربعة يحل شربها ؛ إذا لم يقصد به اللهو والطرب بل التقوي على العبادة ( كذا ) أو إصلاح هضم الطعام أو التداوي وإلا حرمت ولا يحد شاربها إلا إذا سكر .
وهذا التفصيل دليله القياس ، لأن هذه الأشربة لم يبق فيها الإسكار المعتاد ، وأما الحد فلا وجه للتفصيل فيه لأنه إن كان على السكر فالجميع سواء في الإسكار ، على أنه يلزم ألاّ يكون الحد إلا عند حصول السكر وليس في الآثار ما يشهد لغير ذلك ، وإن كان الحد لسد الذريعة فلا أرى أن قاعدة سد الذريعة تبلغ إلى حد مرتكب الذريعة قبل حصول المتذرع إليه . وتَمسكُّ الحنفية لهذا التفصيل بأن الأنبذة شربها الصحابة هو تمسك أوهى مما قبله ، إذ الصحابة يحاشون عن شرب المسكرات وإنما شربوا الأنبذة قبل اختمارها ، واسم النبيذ يطلق على الحلو والمختمر فصار اللفظ غير منضبط ، وقد خالف محمد بن الحسن إمامه في ذلك فوافق الجمهور . وربما ذكر بعضهم في الاستدلال أن الخمر حقيقة في شراب العنب النيء مجاز في غيره من الأنبذة والشراب المطبوخ ، وقد جاء في الآية لفظ الخمر فيحمل على حقيقته وإلحاقُ غيره به إثبات اللغة بالقياس ، وهذا باطل ، لأن الخلاف في كون الخمر حقيقة في شراب العنب أو في الأعم خلاف في التسمية اللغوية والإطلاق ، فبقطع النظر عنه كيف يظن المجتهد بأن الله تعالى يحرم خصوص شراب العنب ويترك غيره مما يساويه في سائر الصفات المؤثرة في الأحكام .
فإن قالوا : إن الصفة التي ذكرت في القرآن قد سوينا فيها جميع الأشربة وذلك بتحريم القدر المسكر وبقيت للخمر أحكام ثبتت بالسنة كتحريم القليل والحد عليه أو على السُّكر فتلك هي محل النظر ، قلنا : هذا مصادرة لأننا استدللنا عليهم بأنه لا يظن بالشارع أن يفرق في الأحكام بين أشياء متماثلة في الصفات ، على أنه قد ثبت في « الصحيح » ثبوتاً لا يدع للشك في النفوس مجالاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة " رواه النعمان بن بشير وهو في « سنن أبي داود » وقال : " الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة " رواه أبو هريرة وهو في « سنن أبي داود » ، وقال : " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام " رواه ابن عمر في « سنن الترمذي » ، وقال أنس : لقد حُرِّمت الخمر وما نجد شراب العنب إلا قليلاً ، وعامة شرابنا فضيخ التمر . كما في « سنن الترمذي » . وأما التوسع في الخمر بعد الطبخ ، فهو تشويه للفقه ولطخ ، وماذا يفيد الطبخ إن كان الإسكار لم يزل موجوداً .
وصف الله الخمر بأن فيها إثماً كبيراً ومنافع . والإثم : معصية الله بفعل ما فيه فساد ولا يرضى الله ، وأشار الراغب إلى أن في اشتقاق الإثم معنى الإبطاء عن الخير ، وقال ابن العربي في تفسير سورة الأعراف : الإثم عبارة عن الذم الوارد في الفعل ، فكأنه يشير إلى أن الإثم ضد الثواب ، وظاهر اصطلاح الشريعة أن الإثم هو الفعل المذموم في الشرع ، فهو ضد القربة فيكون معنى { فيهما إثم كبير } أنهما يتسبب منهما ما هو إثم في حال العربدة وحال الربح والخسارة من التشاجر .
وإطلاق الكبير على الإثم مجاز ، لأنه ليس من الأجسام ، فالمراد من الكبير : الشديد في نوعه كما تقدم آنفاً .
وجيء بفي الدالة على الظرفية لإفادة شدة تعلق الإثم والمنفعة بهما ؛ لأن الظرفية أشد أنواع التعلق ، وهي هنا ظرفية مجازية شائعة في كلام العرب ، وجعلت الظرفية متعلقة بذات الخمر والميسر للمبالغة ، والمراد في استعمالهما المعتاد .
واختير التعبير بالإثم للدلالة على أنه يعود على متعاطي شربها بالعقوبة في الدنيا والآخرة .
وقرأ الجمهور { إثم كبير } بموحَّدَة بعد الكاف وقرأه حمزة والكسائي ( كثير ) بالثاء المثلثة ، وهو مجازاً استعير وصف الكثير للشديد تشبيهاً لقوة الكيفية بوفرة العدد .
والمنافع : جمع منفعة ، وهي اسم على وزن مَفعلة وأصله يحتمل أن يكون مصدراً ميمياً قصد منه قوة النفع ، لأن المصدر الميمي أبلغ من جهة زيادة المبنى . ويحتمل أن يكون اسم مكان دالاً على كثرة ما فيه كقولهم مَسْبَعة ومَقْبَرة أي يكثر فيهما النفع من قبيل قولهم مَصْلَحة ومَفْسَدة ، فالمنفعة على كل حال أبلغ من النفع .
والإثم الذي في الخمر نشأ عما يترتب على شربها تارة من الإفراط فيه والعربدة من تشاجر يجر إلى البغضاء والصد عن سبيل الله وعن الصلاة ، وفيها ذهاب العقل والتعرض للسخرية ، وفيها ذهاب المال في شربها ، وفي الإنفاق على الندامى حتى كانوا ربما رهنوا ثيابهم عند الخمارين قال عُمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي :
ولسنا بشَرْبٍ أمَّ عمرو إذَا انْتَشَوْا *** ثِيابُ الندامَى عندهم كالمغانم
ولكننا يا أمَّ عمرو نديمنــــا *** بمنزلة الريَّان ليس بعائــم
وإذا سَكِرْتُ فإنني مُستهلك *** مالي وعِرضي وافِرٌ لم يُكْلَمِ
وكانوا يشترون الخمر بأثمان غالية ويعدون المماكسة في ثمنها عيباً ، قال لبيد :
أُغْلِي السِّبَاءَ بكل أَدْكَنَ عَاتِقٍ *** أَوْ جَوْنَةٍ قُدِحَتْ وفُضَّ خِتَامُها
ومن آثامها ما قرره الأطباء المتأخرون أنها تورث المدمنين عليها أضراراً في الكبد والرئتين والقلب وضعفاً في النَّسل ، وقد انفرد الإسلام عن جميع الشرائع بتحريمها ، لأجل ما فيها من المضار في المروءة حرمها بعض العرب على أنفسهم في الجاهلية ، فممن حرمها على نفسه في الجاهلية قَيْس بن عاصم المِنْقَري بسبب أنه شرب يوماً حتى سكر فجذب ابنته وتناول ثوبها ، ورأى القمر فتكلم معه كلاماً ، فلما أخبر بذلك حين صحا آلى لا يذوق خمراً ما عاش وقال :
رأيتُ الخمرَ صالحة وفيها *** خصال تُفسد الرجلَ الحليما
فلا واللَّه أَشْرَبُها صَحِيحـا *** ولا أُشْفَى بها أَبدا سَقيمـا
ولا أعطي بها ثَمنا حياتـي *** ولا أَدعو لها أبداً نديـماً
فإنَّ الخمر تفضح شاربيها *** وتُجنيهم بها الأمر العظيما
وفي « أمالي القالي » نسبة البيتين الأولين لصفوان بن أمية ، ومنهم عامر بن الظَّرِب العَدْواني ، ومنهم عفيف بن معد يكرب الكندي عم الأشعث بن قيس ، وصفوان بن أمية الكناني ، وأسلوم البالي ، وسويد بن عدي الطائي ، ( وأدرك الإسلام ) وأسد بن كُرْز القَسْري البَجَلي الذي كان يلقب في الجاهلية برب بجيلة ، وعثمان بن عفان ، وأبو بكر الصديق ، وعباس بن مرداس ، وعثمان بن مظعون ، وأمية بن أبي الصلت ، وعبد الله بن جُدْعان .
وأما المنافع فمنها منافع بدنية وهي ما تكسبه من قوة بدن الضعيف في بعض الأحوال وما فيها من منافع التجارة فقد كانت تجارة الطائف واليمن من الخمر ، وفيها منافع من اللذة والطرب ، قال طرفة :
ولولا ثلاث هُنَّ من عيشة الفتى *** وجدك لم أَحفل متى قام عُوَّدِي
فمنهن سَبْقِي العاذِلات بشَرْبَـة *** كُمَيْتٍ متـى ما تُعْلَ بالمَاء تُزْبِد
وذهب بعض علمائنا إلى أن المنافع مالية فقط فراراً من الاعتراف بمنافع بدنية للخمر وهو جحود للموجود ومن العجيب أن بعضهم زعم أن في الخمر منافع بدنية ولكنها بالتحريم زالت .
وذُكر في هذه الآية الميسر عطفاً على الخمر ومخبراً عنهما بأخبار متحدة فما قيل في مقتضى هذه الآية من تحريم الخمر أو من التنزيه عن شربها يقال مثله في الميسر ، وقد بان أن الميسر قرين الخمر في التمكن من نفوس العرب يومئذ وهو أكبر لهو يَلْهُون به ، وكثيراً ما يأتونه وقت الشراب إذا أعوزهم اللحم للشِّواء عند شرب الخمر ، فهم يتوسلون لنحر الجَزور ساعتئذ بوسائل قد تبلغ بهم إلى الاعتداء على جزر الناس بالنحر كما في قصة حمزة ، إذ نحر شارفاً لعليّ بن أبي طالب حين كان حمزة مع شَرْب فغنته قينته مغرية إياه بهذا الشارف :
ألا يا حَمْزَ للشُّرُف النِّوَاءِ *** وهُنَّ معقَّلاتٌ بالفِناء
فقام إليها فشق بطنها وأخرج الكبد فشواه في قصة شهيرة ، وقال طرفةُ يذكر اعتداءه على ناقة من إبل أبيه في حال سُكره :
فَمَرَّتْ كَهَاةٌ ذات خَيْفٍ جُلاَلَةٌ *** عَقِيلةُ شَيْخٍ كالوَبيل يَلَنْــدَدِ
يقول وقد تَرَّ الوَظيفَ وساقَها *** أَلَسْتَ ترى أن قد أتيتَ بمُؤْيِدِ
وقال ألا ماذا ترون بشـارب *** شديد علينا بغيه متعمِّـــدِ
فلا جرم أن كان الميسر أيسر عليهم لاقتناء اللحم للشرب ولذلك كثر في كلامهم قرنه بالشُّرب ، قال سبرة بن عمرو الفقعسي يذكر الإبل :
نُحَابي بها أَكْفَاءَنَا ونُهِينها *** ونَشْرَبُ في أثمانها ونُقَامِرُ
وذكر لبيد الخمر ثم ذكر الميسر في معلقته فقال :
أغلى السِّباءَ بكل أَدْكَنَ عَاتِقٍ *** أَوْ جَوْنَةٍ قُدِحَتْ وفُضَّ خِتَامُها
وجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ لِحَتْفِها *** بمَغَالِققٍ مُتَشَابِهٍ أَجْسَامُها
وذكرهما عنترة في بيت واحد فقال يذكر محاسن قرنه الذي صرعه في الحرب :
رَبِذٍ يَدَاهُ بالقِدَاحِ إذَا شَتَا *** هَتَّاككِ غَايَاتِ التِّجار مُلَوَّمَ
فلأجل هذا قُرن في هذه الآية ذكر الخمر بذكر الميسر ، ولأجله اقترنا في سؤال السائلين عنهما إن كان ثمة سؤال .
والميسر : اسم جنس على وزن مَفْعِل مشتق من اليُسر ، وهو ضد العسر والشدة ، أو من اليسار وهو ضد الإعسار ، كأنهم صاغوه على هذا الوزن مراعاة لزنة اسم المكان من يَسر يَيْسِر وهو مكان مجازي جعلوا ذلك التقامر بمنزلة الظرف الذي فيه اليسار أو اليسر ، لأنه يفضي إلى رفاهة العيش وإزالة صعوبة زمن المَحْل وكَلَب الشِّتَاء ، وقال صاحب « الكشاف » : هو مصدر كالمَوْعد ، وفيه أنه لو كان مصدراً لكان مفتوح السين ؛ إذ المصدر الذي على وزن المفعِل لا يكون إلا مفتوح العين ما عدا ما شذ ، ولم يذكروا الميسر في الشاذ ، إلا أن يجاب بأن العرب وضعوا هذا الاسم على وزن المصدر الشاذ ليعلم أنه الآن ليس بمصدر .
والميسر : قمار كان للعرب في الجاهلية ، وهو من القمار القديم المتوغل في القدم كان لعادٍ من قبل ، وأول من ورد ذكر لعب الميسر عنه في كلام العرب هو لقمان بن عَاد ويقال لقمان العادي ، والظاهر أنه ولد عاد بن عوص بن إرم بن سام ، وهو غير لقمان الحكيم ، والعرب تزعم أن لقمان كان أكثر الناس لعباً بالميسر حتى قالوا في المثل « أيسرُ من لقمان » وزعموا أنه كان له ثمانية أيسار لا يفارقونه هم من سادة عاد وأشرافهم ، ولذلك يشبِّهون أهلَ الميسر إذا كانوا من أشراف القوم بأَيْسار لقمان قال طرفة بن العبد :
وهُمُ أَيْسَار لقُمْانَ إذا *** أَغْلَتِ الشَّتْوة أَبْدَاءَ الجُزُرْ
وصفة الميسر أنهم كانوا يجعلون عشرة قِداح جمع قِدْح بكسر القاف وهو السهم الذي هو أصغر من النبل ومن السهم فهو سهم صغير مثل السهام التي تلعب بها الصبيان وليس في رأسه سنان وكانوا يسمونها الخِطاء جمع حَظْوَة وهي السهم الصغير وكلها من قصَب النبْعِ ، وهذه القداح هي : الفذ ، والتَّوْأم ، والرَّقِيبُ ، والحِلْس ، والنَّافِس ، والمُسْبل ، والمُعَلَّى ، والسَّفيح ، والمنيح ، والوَغْد ، وقيل النافسُ هو الرابع والحِلس خامس ، فالسبعة الأوَل لها حظوظ من واحد إلى سبعة على ترتيبها ، والثلاثة الأخيرة لا حظوظ لها وتسمى أَغفالاً جمع غُفْل بضم الغين وسكون الفاء وهو الذي أغفل من العَلامة ، وهذه العَلامات خُطُوط من واحد إلى سبعة ( كأرقام الحساب الروماني إلى الأربعة ) ، وقد خطُّوا العلامات على القِداح ذات العلامات بالشلط في القصَبة أو بالحرق بالنار فتسمى العلامة حينئذ قَرْمَة ، وهذه العلامات توضع في أسافل القداح . فإذا أرادوا التقامر اشتَرَوْا جزوراً بثمن مؤجل إلى ما بعد التقامر وقسموه أَبْدَاءً أي أجزَاء إلى ثمانية وعشرين جُزءاً أو إلى عشرة أجزاء على اختلاف بين الأصمعي وأبي عُبيدة ، والظاهر أن للعرب في ذلك طريقتين فلذلك اختلف الأصمعي وأبو عبيدة ، ثم يضعون تلك القِداح في خريطة من جِلْد تسمى الرِّبابة بكسر الراء هي مثل كنانة النبال وهي واسعة لها مخرج ضيق يضيق عن أن يخرج منه قِدحان أو ثلاثة ، ووكلوا بهذه الربابة رجلاً يُدعى عندهم الحُرْضة والضَّرِيب والمُجيل ، وكانوا يُغْشُون عينيه بمِغْمَضَة ، ويجعلون على يديه خِرقة بيضاء يسمونها المِجْوَل يعصبونها على يديه أو جلدةً رقيقة يسمونها السُّلْفة بضم السين وسكون اللام ، ويلتحق هذا الحُرْضة بثوب يُخْرِج رأسه منه ثم يجثو على ركبتيه ويضع الربابة بين يديه ، ويقوم وراءَه رجل يسمى الرقيب أو الوكيل هو الأمين على الحُرْضة وعلى الأَيسار كي لا يحتال أحد على أحد وهو الذي يأمر الحُرْضة بابتداء الميسر ، يجلسون والأيسارَ حول الحرضة جُثياً على رُكَبهم ، قال دريد بن الصمة :
دَفَعْتُ إلى المُجيل وقد تَجَاثَوْا *** على الرُّكبات مطلع كل شمس
ثم يقول الرقيب للحرْضة جَلْجِلْ القِداح أي حركها فيخضخضها في الرِبابة كي تختلط ثم يفيضها أي يدفعها إلى جهة مَخرج القِداح من الربابة دَفْعة واحدة على اسم واحد من الأيسار فيخرج قِدح فيتقدم الوكيل فيأخذه وينظره فإن كان من ذوات الأنصباء دفعه إلى صاحبه وقال له قم فاعتزِلْ فيقوم ويعتزل إلى جهة ثم تعاد الجلجلة ، وقد اغتفروا إذا خرج أول القداح غُفْلاً ألا يحسب في غُرم ولا في غُنْم بل يُرد إلى الربابة وتعاد الإحالة وهكذا ومن خَرَجت لهم القداح الأغفال يدفعون ثمن الجزور .
فأما على الوصف الذي وصفَ الأصمعي أن الجزور يقسم إلى ثمانية وعشرين جزءا فظاهر أن لجميع أهل القدح القامرة شيئاً من أَبْداء الجزور لأن مجموع ما على القداح الرابحة من العلامات ثمانية وعشرون ، وعلى أهل القداح الخاسرة غرم ثمنه .
وأما على الوصف الذي وصف أبو عبيدة أن الجزور يقسم إلى عشرة أبداء فذلك يقتضي أن ليس كل المتقامرين برابح ، لأن الربح يكون بمقدار عشرة سهام مما رقمت به القداح وحينئذ إذا نفدت الأجزاء انقطعت الإفاضة وغرم أهل السهام الأغفال ثمن الجزور ولم يكن لمن خرجت له سهام ذات حظوظ بعد الذين استوفوا أبداء الجزور شيءٌ إذ ليس في الميسر أكثر من جزور واحد قال لبيد :
* وجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ لِحَتْفِها * البيت
وإذْ لا غنم في الميسر إلا من اللحم لا من الدراهم أو غيرها ، ولعل كلاً من وصفي الأصمعي وأبي عبيدة كان طريقة للعرب في الميسر بحسب ما يصطلح عليه أهل الميسر ، وإذا لم يجمع العدد الكافي من المتياسرين أَخَذ بعض من حضر سهمين أو ثلاثة فكثر بذلك ربحه أو غُرمه وإنما يفعل هذا أهلُ الكرم واليسار لأنه معرض لخسارة عظيمة ، إذ لم يفز قدحه ، ويقال في هذا الذي يأخذ أكثر من سهم مُتَمِّمَ الأيسار قال النابغة :
إني أُتَمِّمُ أيْساري وأمنحُهم *** مثنى الأيادِي وأَكْسُو الجفنة الأدُما
ويسمُّون هذا الإتمام بمثْنى الأيادي كما قال النابغة ، لأنه يقصد منه تكرير المعروف عند الربح فالأيادي بمعنى النعم ، وكانوا يعطون أجر الرقيب والحرضة والجَزّار من لحم الجزور فأما أجر الرقيب فيعطاه من أول القسمة وأفضل اللحم ويسمونه بدءا ، وأما الحرضة فيعطى لحماً دون ذلك وأما الجزار فيعطى مما يبقى بعد القسم من عظم أو نصف عظم ويسمونه الريم .
ومن يحضر الميسر من غير المتياسرين يسمون الأعران جمع عرن بوزن كتف وهم يحضرون طمعاً في اللحم ، والذي لا يحب الميسر ولا يحضره لفقره سمي البرم بالتحريك .
وأصل المقصد من الميسر هو المقصد من القمار كله وهو الربح واللهو يدل لذلك تمدحهم وتفاخرهم بإعطاء ربح الميسر للفقراء ، لأنه لو كان هذا الإعطاء مطرداً لكل من يلعب الميسر لما كان تمدح به قال الأعشى :
المُطْعِمُو الضيفِ إذا ما شَتَوْا *** والجاعِلُو القُوتِ على اليَاسِر
ثم إن كرامهم أرادوا أن يظهروا الترفع عن الطمع في مال القمار فصاروا يجعلون الربح للفقراء واليتامَى ومَن يُلم بساحتهم من أضيافهم وجيرتهم ، قال لبيد :
أَدْعُو بهن لعَاقِرٍ أو مُطْفِلٍ *** بُذِلَتْ لجيرانِ الجميع لِحَامُها
فالضَّيفُ والجارُ الجَنيب كأنما *** هبَطا تَبالَةَ مخصِبا أَهْضَامُها
فصار الميسر عندهم من شعار أهل الجود كما تقدم في أبيات لبيد ، وقال عنترة كما تقدم :
رَبِذٍ يَداه بالقِداح إذا شَتَا *** هَتَّاكِ غَايَات التِّجار ملوح
أي خفيف اليد في الميسر لكثرة ما لعب الميسر في الشتاء لنفع الفقراء ، وقال عُمير ابن الجَعد :
يَسِرٍ إذا كان الشتاءُ ومُطْعمٍ *** للَّحْم غير كُبُنَّةٍ عَلْفُوفِ
الكُبُنَّة بضمتين المنقبض القليل المعروف والعلفوف كعصفور الجافي .
فالمنافع في الميسر خاصة وعامة وهي دنيوية كلها ، والإثم الذي فيه هو ما يوقعه من العداوة والبغضاء ومن إضاعة الوقت والاعتياد بالكسل والبطالة واللهو والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وعن التفقه في الدين وعن التجارة ونحوها مما به قوام المدنِيَّة وتلك آثام لها آثارها الضارة في الآخرة ، ولهذه الاعتبارات ألحق الفقهاء بالميسر كل لعب فيه قمار كالنّرد ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « إيَّاكم وهاتين الكعبتين فإنهما من ميسر العجم » يريد النرد ، وعن علي : النرد والشطرنج من الميسر ، وعلى هذا جمهور الفقهاء ومالك وأبو حنيفة وقال الشافعي : إذا خلا الشطرنج عن الرهان واللسانُ عن الطغيان والصلاة عن النسيان لم يكن حراماً وهو خارج عن الميسر لأن الميسر ما يوجب دفع المال وأخذه وهذا ليس كذلك وهو وجيه والمسألة مبسوطة في الفقه .
والناس مراد به العموم لاختلاف المنافع ، ولأنه لما وقع الإخبار بواسطة ( في ) المفيدة الظرفية لم يكن في الكلام ما يقتضي أن كل فرد من أفراد الناس ينتقع بالخمر والميسر ، بل الكلام يقتضي أن هاته المنافع موجودة في الخمر والميسر لمن شاء أن ينتفع كقوله تعالى : { فيه شفاء للناس } [ النحل : 69 ] . وليس المراد بالناس طائفة لعدم صلوحية أل هنا للعهد ولو أريد طائفة لما صح إلا أن يقال ومنافع الشاربين والياسرين كما قال : { وأنهار من خمر لذة للشاربين } [ محمد : 15 ] .
فإن قلت : ما الوجه في ذكر منافع الخمر والميسر مع أن سياق التحريم والتمهيد إليه يقتضي تناسي المنافع ، قلت إن كانت الآية نازلة لتحريم الخمر والميسر فالفائدة في ذكر المنافع هي بيان حكمة التشريع ليعتاد المسلمون مراعاة علل الأشياء ، لأن الله جعل هذا الدين ديناً دائماً وأودعه أمة أراد أن يكون منها مشرِّعون لمختلف ومتجددِ الحوادث ، فلذلك أشار لعلل الأحكام في غير موضع كقوله تعالى : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا } [ الحجرات : 12 ] ونحو ذلك ، وتخصيص التنصيص على العلل ببعض الأحكام في بعض الآيات إنما هو في مواضع خفاء العلل ، فإن الخمر قد اشتهر بينهم نفعها ، والميسر قد اتخذوه ذريعة لنفع الفقراء فوجب بيان ما فيهما من المفاسد إنباء بحكمة التحريم ، وفائدة أخرى وهي تأنيس المكلفين فطامهم عن أكبر لذائذهم تذكيراً لهم بأن ربهم لا يريد إلاَّ صلاحَهم دون نكايتهم كقوله : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } [ البقرة : 216 ] وقوله : { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } [ البقرة : 183 ] . وهنالك أيضاً فائدة أخرى وهي عذرهم عما سلف منهم حتى لا يستكينوا لهذا التحريم والتنديد على المفاسد كقوله : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم } [ البقرة : 187 ] .
{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }
كان سؤالهم عن الخمر والميسر حاصلاً مع سؤالهم { ماذا ينفقون } ، فعطفت الآية التي فيها جَوابُ سؤالهم { ماذا ينفقون } على آية الجواب عن سؤال الخمر والميسر ، ولذلك خولف الأسلوب الذي سلف في الآيات المختلفة بجمل { يسألونك } بدون عطف فجيء بهذه معطوفة بالواو على التي قبلها .
ومناسبة التركيب أن النهي عن الخمر والميسر يتوقع منه تعطل إنفاق عظيم كان ينتفع به المحاويج ، فبينت لهم الآية وجه الإنفاق الحق .
روى ابن أبي حاتم أن السائل عن هذا معاذ ابن جبل وثعلبة بن غَنَمَة ، وقيل هو رجوع إلى الجواب عن سؤال عمرو بن الجموح الذي قيل إنه المجاب عنه بقوله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين } [ البقرة : 215 ] إلخ ، وعليه فالجواب عن سؤاله موزع على الموضعين ليقع الجواب في كل مكان بما يناسبه .
ولإظهار ما يدفع توقعهم تعطيل نفع المحاويج وصلت هذه الآية بالتي قبلها بواو العطف .
والعفو : مصدر عَفَا يعفو إذا زاد ونَمَى قال تعالى : { ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا } [ الأعراف : 95 ] ، وهو هنا ما زاد على حاجة المرء من المال أي فَضلَ بعد نفقته ونفقة عياله بمعتاد أمثاله ، فالمعنى أن المرء ليس مطالباً بارتكاب المآثم لينفق على المحاويج ، وإنما ينفق عليهم مما استفضله من ماله وهذا أمر بإنفاق لا يشق عليهم وهذا أفضل الإنفاق ، لأن مقصد الشريعة من الإنفاق إقامة مصالح ضعفاء المسلمين ولا يحصل منه مقدار له بال إلا بتعميمه ودوامه لتستمر منه مقادير متماثلة في سائر الأوقات وإنما يحصل التعميم والدوام بالإنفاق من الفاضل عن حاجات المنفقين فحينئذ لا يشق عليهم فلا يتركه واحد منهم ولا يخلون به في وقت من أوقاتهم ، وهذه حكمة بالغة وأصل اقتصادي عمراني ، وفي الحديث : « خيرُ الصدقة ما كان عن ظَهْرِ غنى وابدأ بمن تَعول » فإن البداءة بمن يعول ضرب من الإنفاق ، لأنه إن تركهم في خصاصة احتاجوا إلى الأخذ من أموال الفقراء ، وفي الحديث : « إنك أنْ تَدَع ورثتَك أغنياء خير من أن تَدَعهم عالة يتكففون الناس » أي يمدون أكفهم للسؤال ، فتبين أن المنفق بإنفاقه على من ينفق عليه يخفف عن الفقراء بتقليل عدد الداخلين فيهم ، ولذلك جاء في الحديث : « وإنك لا تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك » . ولهذا أمر في هذه الآية بإنفاق العفو ، لأنها لعموم المنفقين ، فلا تنافي أن ينفق أحد من ماله المحتاج هو إليه أو جميع ماله إذا صبَر على ذلك ولم يكن له من تجب عليه هو نفقته .
وآل في العفو للجنس المعروف للسامعين ، والعفو مقول عليه بالتشكيك ؛ لأنه يتبع تعيينَ ما يحتاجه المنفق والناسُ في ذلك متفاوتون ، وجعل الله العفو كلَّه منفقاً ترغيباً في الإنفاق وهذا دليل على أن المراد من الإنفاق هنا الإنفاق المتطوع به ، إذ قد تضافرت أدلة الشريعة وانعقد إجماع العلماء على أنه لا يجب على المسلم إنفاق إلا النفقات الواجبة وإلا الزكوات وهي قد تكون من بعض ما يفضل من أموال أهل الثروة إلا ما شذ به أبو ذَر ، إذ كان يرى كنز المال حراماً وينادي به في الشام فشكاه معاوية لعثمان فأمر عثمان بإرجاعه من الشام إلى المدينة ثم إسكانه بالربذة بطلب منه ، وقد اجتهد عثمان ليسد باب فتنة ، وعن قيس بن سعد أن هذه الآية في الزكاة المفروضة ، وعلى قوله يكون ( أل ) في العفو للعهد الخارجي وهو نماء المال المقدر بالنصاب .
وقرأ الجمهور ( قل العفو ) بنصب العفو على تقدير كونه مفعولاً لفعل دل عليه { ماذا ينفقون } ، وهذه القراءة مبنية على اعتبار ذا بعد ( ما ) الاستفهامية ملغاة فتكون ( ما ) الاستفهامية مفعولاً مقدماً لينفقون فناسب أن يجيء مفسر ( ما ) في جواب السؤال منصوباً كمفسره .
وقرأ ابن كثير في إحدى روايتين عنه وأبو عمرو ويعقوب بالرفع على أنه خبر مبتدأ تقديره هو العفو ، وهذه القراءة مبنية على جعل ذا بعد ما موصولة أي يسألونك عن الذي ينفقونه ، لأنها إذا كانت موصولة كانت مبتدأ إذ لا تعمل فيها صلتها وكانت ما الاستفهامية خبراً عن ما الموصولة ، وكان مفسرها في الجواب وهو العفو فناسب أن يجاء به مرفوعاً كمفسره ليطابق الجوابُ السؤال في الاعتبارين وكلا الوجهين اعتبار عربي فصيح .
وقوله : { كذلك يبين الله لكم الآيات } ، أي كذلك البيان يبين الله لكم الآيات ، فالكاف للتشبيه واقعة موقع المفعول المطلق المبيِّن لنوع { يُبَيِّن } ، وقد تقدم القول في وجوه هذه الإشارة في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } [ البقرة : 143 ] .
أو الإشارة راجعة إلى البيان الواقع في قوله تعالى : { قل فيهما إثم كبير } إلى قوله { العفو } ، وقرن اسم الإشارة بعلامة البعد تعظيماً لشأن المشار إليه لكماله في البيان ، إذ هو بيان للحكم مع بيان علته حتى تتلقاه الأمة بطيب نفس ، وحتى يلحقوا به نظائره ، وبيان لقاعدة الإنفاق بما لا يشذ عن أحد من المنفقين ، ولكون الكاف لم يقصد بها الخطاب بل مجرد البعد الاعتباري للتعظيم لم يؤت بها على مقتضى الظاهر من خطاب الجماعة فلم يقل كذلكم على نحو قوله : { يبين الله لكم } .
واللام في { لكم } للتعليل والأجل وهو امتنان وتشريف بهذه الفضيلة لإشعاره بأن البيان على هذا الأسلوب مما اختصت به هاته الأمة ليتلقوا التكاليف على بصيرة بمنزلة الموعظة التي تلقى إلى كامل العقل موضحة بالعواقب ، لأن الله أراد لهاته الأمة أن يكون علماؤها مشرعين . وبين فائدة هذا البيان على هذا الأسلوب بقوله : { لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة } أي ليحصل للأمة تفكر وعلم في أمور الدنيا وأمور الآخرة ، لأن التفكر مظروف في الدنيا والآخرة ، فتقدير المضاف لازم بقرينة قوله { والآخرة } إذ لا معنى لوقوع التفكر يوم القيامة فلو اقتصر على بيان الحظر والوجوب والثواب والعقاب لكان بيانا للتفكر في أمور الآخرة خاصة ولو اقتصر على بيان المنافع والمضار بأن قيل : قل فيهما نفع وضر لكان بياناً للتفكر في أمور الدنيا خاصة ، ولكن ذكر المصالح والمفاسد والثواب والعقاب تذكير بمصلحتي الدارين ، وفي هذا تنويه بشأن إصلاح أمور الأمة في الدنيا ، ووقع في كلام لعلي بن أبي طالب وقد ذم رجل الدنيا عنده فقال له : « الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار نجاة لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها ومهبط وحي الله ومصلى ملائكته ومسجد أنبيائه فمن ذا الذي يذمها وقد آذنت ببينها الخ » .
ولا يخفى أن الذي يصلح للتفكر هو الحكم المنوط بالعلة وهو حكم الخمر والميسر ثم ما نشأ عنه قوله : { ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو } .
ويجوز أن تكون الإشارة بقوله { كذلك لكون الإنفاق من العفو وهو ضعيف ، لأن ذلك البيان لا يظهر فيه كمال الامتنان حتى يجعل نموذجاً لجليل البيانات الإلهية وحتى يكون محل كمال الامتنان وحتى تكون غايته التفكر في الدنيا والآخرة ، ولا يعجبكم كونه أقرب لاسم الإشارة ، لأن التعليق بمثل هاته الأمور اللفظية في نكت الإعجاز إضاعة للألباب وتعلق بالقشور .
وقوله : } لعلكم تتفكرون } غاية هذا البيان وحكمته ، والقول في لعل تقدم .