24- يا أيها الذين صدَّقوا بالحق وأذعنوا له ، أجيبوا الله في اتجاه قلبي إلى ما يأمركم به ، وأجيبوا الرسول في تبليغه ما يأمر به الله إذا دعاكم إلى أوامر الله بالأحكام التي فيها حياة أجسامكم وأرواحكم وعقولكم وقلوبكم ، واعلموا علم اليقين أن الله تعالى قائم على قلوبكم ، يوجهها كما يشاء فيحول بينكم وبين قلوبكم إذا أقبل عليها الهوى ، فهو منقذكم منه إن اتجهتم إلى الطريق المستقيم ، وإنكم جميعاً ستجمعون يوم القيامة فيكون الجزاء .
ثم وجه - سبحانه - إلى المؤمنين نداء ثالثا أمرهم فيه بالاستجابة لتعاليمه ، وحذرهم من الأقوال والأعمال التي تكون سبباً في عذابهم ، وذكرهم بجانب من منته عليهم ، فقال - تعالى - : { ياأيها الذين . . . لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
قال القرطبى : قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ . . } هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف ، والاستجابة :
وداع داع يا من يجيب إنى الندى . . . فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وكان الإِمام القرطبى يرى أن السين والتاء في قوله : " استجيبوا " زائدتان .
ولعل الأحسن من ذلك أن تكون السين والتاء للطلب ، لأن الاستجابة هى الإِجابة بنشاط وحسن استعداد .
وقوله { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي لما يصلحكم من أعمال البر والخير والطاعة ، التي توصلكم متى تمسكتم بها إلى الحياة الكريمة الطيبة في الدنيا ، وإلى السعادة التي ليس بعدها سعادة في الآخرة .
وهذا المعنى الذي ذكرناه لقوله { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أدق مما ذكره بعضهم من أن المراد بما يحييهم القرآن ، أو الجهاد ، أو العلم . . إلخ .
وذلك ، لأن أعمال البر والخير والطاعة تشمل كل هذا .
والمعنى : { ياأيها الذين آمَنُواْ } بالله حق الإِيمان ، { استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ } عن طواعية واختيار ، ونشاط وحسن استعداد { إِذَا دَعَاكُم } الرسول - صلى الله عليه وسلم - { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أى : إلى ما يصلح أحوالكم ، ويرفع درجاتكم ، من الأقوال النافعة ، والأعمال الحسنة ، التي بالتمسك بها تحيون حياة طيبة : وتظفرون بالسعادتين : الدنيوية والأخروية .
والضمير في قوله { دَعَاكُم } يعود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله ، ولأن في الاستجابة له استجابة لله - تعالى - .
قال - سبحانه - : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } وقوله : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } تحذير لهم من الغفلة عن ذكر الله ، وبعث لهم على مواصلة الطاعة له - سبحانه -يَحُولُ .
وقوله : { يَحُولُ } من الحول بين الشئ والشئ ، بمعنى الحجز والفصل بينهما .
قال الراغب : أصل الحول تغير الشئ وانفصاله عن غيره ، وباعتبار التغير قيل حال الشئ يحول حولا واستحال تهيأ لأن يحول : وباعتبار الانفصال فيل حال بينى وبينك كذا أي فصل . .
هذا ، وللمفسرين في معنى هذه الجملة الكريمة أقوال متعددة أهمها قولان :
أما القول الأول فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه - كما يقول ابن جرير - : أنه - سبحانه - أملك لقلوب عباده منهم وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء ، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك شيئا من إيمان أو كفر ، أو أن يعى به شيئا ، أو أن يفهم إلا بإذنه ومشيئته ، وذلك أن الحول بين الشئ والشئ إما هو الحجز بينهما ، وإذا حجز - جل ثناؤه - بين عبد وقلبه في شئ أن يدركه أو يفهمه ، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيل ، وإذا كان ذلك معناه دخل في ذلك قول من قال : يحول بين المؤمن والكفر ، وبين الكافر والإِيمان .
وقول من قال : يحول بينه وبين عقله . وقول من قال : يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه . . فالخبر على العموم حتى يخصصه ما يجب التسليم له .
وقد رجح ابن جرير هذا القول بعد أن ذكر قبله بعض الأقوال الأخرى .
وقال ابن كثير - بعد أن لخص القول الذي رجحه ابن جرير - : وقد وردت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله علي وسلم - يقول : " إن قلوب بنى آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يصرفها كيف شاء " ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك " .
وروى : الإِمام أحمد والنسائى وابن ماجه عن النواس بن سمعان الكلابى قال : سمعت النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه " .
أما القول الثانى فهو أن المراد بالحيلولة بين المرء وقلبه - كما يقول الزمخشرى - " أنه - سبحانه - يميت المرء فتفوته الفرصة التي هى واجدها ، وهى التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ، ورده سليما كما يريده الله ، فاغتنموا هذه الفرصة ، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله .
أو - كما يقول الفخر الرازى - بعبارة أوضح : " أن المراد أنه - تعالى - يحول بين المرء وبين ما يتماه ويريده بقلبه ، فإن الأجل يحول دون الأمل . فكأنه قال : بادروا إلى الأعمال . الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء ، فإن ذلك غير موثوق به ، وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأمانى الحاصلة في القلب ، لأن تسمية الشئ باسم ظرفه جائزة كقولهم : سال الوادى .
والذى نراه أن القول الثانى أولى بالقبول ، لأن الآية الكريمة ساقته لحض المؤمنين على سرعة الاستجابة للحق الذي دعاهم إليه رسوله صلى الله عليه وسلم والذى باتباعه يحيون حياة طيبة ، وتذكيرهم بيوم الحساب وما فيه من ثواب وعقاب ، كما قال - تعالى - في ختامها { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
وليست مسوقة لإِثبات قدرة الله ، وأنه أملك لقلوب عباده منهم : وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء .
فالمعنى الذي ذكره ابن جرير - وتابعه عليه ابن كثير وغيره ، معنى وجيه في ذاته ، إذ لا ينكر أحد أن الله مقلب القلوب ومالكها . . ولكن ليس مناسبا هنا مناسبة المعنى الذي ذكره الزمخشرى والرازى . لأن الآية الكريمة التي معنا والتى بعدها صريحتان في دعوة المؤمنين إلى الاستجابة للحق قبل أن يفاجئهم الموت ، وقبل أن تحل بهم مصيبة لا تصيب الظالمين منهم خاصة .
والمعنى الإِجمال للآية الكريمة { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ } بعزيمة صادقة ، وسرعة فائقة ، { إِذَا دَعَاكُم } الرسول - صلى الله عليه وسلم - { لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي لما به تحيون حياة طيبة من الأقوال والأعمال الصالحة { وَاعْلَمُواْ } علما يقينا { أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } أي يحول بين المرء وبين ما يتمناه قلبه من شهوات الدنيا ومتعها : فكم من إنسان يؤمل أنه سيفعل كذا غدا ، وسيجمع كذا غدا ، وسيجمع كذا في المستقبل ، وسيحصل على كذا قريبا . . ثم يحول الموت ويفصل بينه وبين آماله وأمانيه . . فبادروا إلى اغتنام الأعمال الصالحة من قبل أن يفاجئكم الموت .
وقوله : { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } تذييل قصد به تذكيرهم بأهوال يوم القيامة . والضمير في قوله { وَأَنَّهُ } يعود إلى الله تعالى - أو هو ضمير الشأن . أى : وأنه - سبحانه - إليه وحده ترجعون لا إلى غيره ، فيحاسبكم على ما قدمتم وما أختم ، ويجاز كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد جمعت بين الترغيب . في العمل الصالح بسرعة ونشاط ، وبين الترهيب من التكاسل والغفلة عن طاعة الله .
ومرة أخرى يتكرر الهتاف للذين آمنوا . الهتاف بهم ليستجيبوا لله والرسول ، مع الترغيب في الاستجابة والترهيب من الإعراض ؛ والتذكير بنعمة الله عليهم حين استجابوا لله وللرسول :
( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه . وأنه إليه تحشرون . واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، واعلموا أن الله شديد العقاب . واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس ، فآواكم وأيدكم بنصره ، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) . .
إن رسول الله [ ص ] إنما يدعوهم إلى ما يحييهم . . إنها دعوة إلى الحياة بكل صور الحياة ، وبكل معاني الحياة . .
إنه يدعوهم إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول ، وتطلقها من أوهاق الجهل والخرافة ؛ ومن ضغط الوهم والأسطورة ، ومن الخضوع المذل للأسباب الظاهرة والحتميات القاهرة ، ومن العبودية لغير الله والمذلة للعبد أو للشهوات سواء . .
ويدعوهم إلى شريعة من عند الله ؛ تعلن تحرر " الإنسان " وتكريمه بصدورها عن الله وحده ، ووقوف البشر كلهم صفا متساوين في مواجهتها ؛ لا يتحكم فرد في شعب ، ولا طبقة في أمة ، ولا جنس في جنس ، ولا قوم في قوم . . ولكنهم ينطلقون كلهم أحراراً متساوين في ظل شريعة صاحبها الله رب العباد .
ويدعوهم إلى منهج للحياة ، ومنهج للفكر ، ومنهج للتصور ؛ يطلقهم من كل قيد إلا ضوابط الفطرة ، المتمثلة في الضوابط التي وضعها خالق الإنسان ، العليم بما خلق ؛ هذه الضوابط التي تصون الطاقة البانية من التبدد ؛ ولا تكبت هذه الطاقة ولا تحطمها ولا تكفها عن النشاط الإيجابي البناء .
ويدعوهم إلى القوة والعزة والاستعلاء بعقيدتهم ومنهجهم ، والثقة بدينهم وبربهم ، والانطلاق في " الأرض " كلها لتحرير " الإنسان " بجملته ؛ وإخراجه من عبودية العباد إلى عبودية الله وحده ؛ وتحقيق إنسانيته العليا التي وهبها له الله ، فاستلبها منه الطغاة !
ويدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله ، لتقرير ألوهية الله سبحانه - في الأرض وفي حياة الناس ؛ وتحطيم ألوهية العبيد المدعاة ؛ ومطاردة هؤلاء المعتدين على ألوهية الله - سبحانه - وحاكميته وسلطانه ؛ حتى يفيئوا إلى حاكمية الله وحده ؛ وعندئذ يكون الدين كله لله . حتى إذا أصابهم الموت في هذا الجهاد كان لهم في الشهادة حياة .
ذلك مجمل ما يدعوهم إليه الرسول [ ص ] وهو دعوة إلى الحياة بكل معاني الحياة .
إن هذا الدين منهج حياة كاملة ، لا مجرد عقيدة مستسرة . منهج واقعي تنمو الحياة في ظله وتترقى . ومن ثم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 24 ) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 25 )
هو دعوة إلى الحياة في كل صورها وأشكالها . وفي كل مجالاتها ودلالاتها . والتعبير القرآني يجمل هذا كله في كلمات قليلة موحية :
( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) . .
استجيبوا له طائعين مختارين ؛ وإن كان الله - سبحانه - قادراً على قهركم على الهدى لو أراد :
( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) . .
ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة . . ( يحول بين المرء وقلبه )فيفصل بينه وبين قلبه ؛ ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه ، ويصرفه كيف شاء ، ويقلبه كما يريد . وصاحبه لا يملك منه شيئا وهو قلبه الذي بين جنبيه !
إنها صورة رهيبة حقاً ؛ يتمثلها القلب في النص القرآني ، ولكن التعبير البشري يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب ، ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس !
إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة ، والحذر الدائم ، والاحتياط الدائم . اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته ؛ والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقا ؛ والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس . . والتعلق الدائم بالله - سبحانه - مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته ، أو غفلة من غفلاته ، أو دفعة من دفعاته . .
ولقد كان رسول الله [ ص ] وهو رسول الله المعصوم يكثر من دعاء ربه : " اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " . . فكيف بالناس ، وهم غير مرسلين ولا معصومين ? !
إنها صورة تهز القلب حقا ؛ ويجد لها المؤمن رجفة في كيانه حين يخلو إليها لحظات ، ناظرا إلى قلبه الذي بين جنبيه ، وهو في قبضة القاهر الجبار ؛ وهو لا يملك منه شيئا ، وإن كان يحمله بين جنبيه ويسير !
صورة يعرضها على الذين آمنوا وهو يناديهم :
( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) . .
ليقول لهم : إن الله قادر على أن يقهركم على الهدى - لو كان يريد - وعلى الاستجابة التي يدعوكم إليها هذه الدعوة ، ولكنه - سبحانه - يكرمكم ؛ فيدعوكم لتستجيبوا عن طواعية تنالون عليها الأجر ؛ وعن إرادة تعلو بها إنسانيتكم وترتفع إلى مستوى الأمانة التي ناطها الله بهذا الخلق المسمى بالإنسان . . أمانة الهداية المختارة ؛ وأمانة الخلافة الواعية ، وأمانة الإرادة المتصرفة عن قصد ومعرفة .
فقلوبكم بين يديه . وأنتم بعد ذلك محشورون إليه . فما لكم منه مفر . لا في دنيا ولا في آخرة . وهو مع هذا يدعوكم لتستجيبوا استجابة الحر المأجور ، لا استجابة العبد المقهور .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّهِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } . .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ فقال بعضهم : معناه : استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم للإيمان . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وللرّسُولِ إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ قال : أما يحييكم فهو الإسلام ، أحياهم بعد موتهم ، بعد كفرهم .
وقال آخرون : للحقّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : لِمَا يُحْيِيكُمْ قال : الحقّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ قال : الحقّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله : اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وللرّسُولِ إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ قال : للحقّ .
وقال آخرون : معناه : إذا دعاكم إلى ما في القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وللرّسُولِ إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ قال : هو هذا القرآن فيه الحياة والعفة والعصمة في الدنيا والاَخرة .
وقال آخرون : معناه : إذا دعاكم إلى الحرب وجهاد العدوّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وللرّسُولِ إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ : أي للحرب الذي أعزّكم الله بها بعد الذلّ ، وقوّاكم بعد الضعف ، ومنعكم بها من عدوّكم بعد القهر منهم لكم .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : استجيبوا لله وللرسول بالطاعة إذا دعاكم الرسول لِما يحييكم من الحقّ . وذلك أن ذلك إذا كان معناه كان داخلاً فيه الأمر بإجابتهم لقتال العدوّ والجهاد ، والإجابة إذا دعاكم إلى حكم القرآن ، وفي الإجابة إلى كلّ ذلك حياة المجيب . أما في الدنيا ، فيقال : الذكر الجميل ، وذلك له فيه حياة . وأما في الاَخرة ، فحياة الأبد في الجنان والخلود فيها .
وأما قول من قال : معناه الإسلام ، فقول لا معنى له لأن الله قد وصفهم بالإيمان بقوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وللرّسُولِ إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ فلا وجه لأن يقال للمؤمن استجب لله وللرسول إذا دعاك إلى الإسلام والإيمان .
حدثنا أحمد بن المقدام العجلي ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا روح بن القاسم ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ وهو يصلي ، فدعاه : «أي أبيّ » فالتفت إليه أبيّ ، ولم يجبه . ثم إن أبيّا خفف الصلاة ، ثم انصرف إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليك أي رسول الله قال : «وَعَلَيْكَ ما مَنَعَكَ إذْ دَعَوْتُكَ أنْ تُجِيبَنِي ؟ » قال : يا رسول الله كنت أصلي . قال : «أفَلَمْ تَجِدْ فِيما أُوحِيَ إليّ اسْتَجُيبُوا لِلّهِ وللرّسُولِ إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ؟ » قال : بلى يا رسول الله ، لا أعود .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا خالد بن مخلد ، عن محمد بن جعفر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ وهو قائم يصلي ، فصرخ به ، فلم يجبه ، ثم جاء فقال : «يا أبيّ ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك ، أليس الله يقول يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وللرّسُولِ إذَا دَعاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ؟ » قال أبيّ : لا جرم يا رسول الله ، لا تدعوني إلاّ أجبت ، وإن كنت أصلي .
ما يبين عن أن المعنيّ بالاَية هم الذين يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه حياتهم بإجابتهم إليه من الحقّ بعد إسلامهم ، لأن أبيّا لا شكّ أنه كان مسلما في الوقت الذي قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا في هذين الخبرين .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وأنّهُ إلَيْه تُحْشَرُونَ .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : يحول بين الكافر والإيمان وبين المؤمن والكفر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي ، عن سعيد بن جبير : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : بين الكافر أن يؤمن ، وبين المؤمن أن يكفر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قالا : حدثنا سفيان ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا الثوري ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن عبد الله الرازي ، عن سعيد بن جبير ، بنحوه .
حدثني أبو زائدة زكريا بن أبي زائدة ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
حدثني أبو السائب وابن وكيع ، قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بين المؤمن وبين الكفر ، وبين الكافر وبين الإيمان .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن عبد الله الرازي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ يحول بين الكافر والإيمان وطاعة الله .
قال : حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بين المؤمن والكفر ، وبين الكافر والإيمان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، وعبد العزيز بن أبي روّاد ، عن الضحاك ، في قوله : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بين الكافر وطاعته ، وبين المؤمن ومعصيته .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي روق ، عن الضحاك بن مزاحم ، بنحوه .
قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : يحول بين المرء وبين أن يكفر ، وبين الكافر وبين أن يؤمن .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا عبد العزيز بن أبي روّاد ، عن الضحاك بن مزاحم يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بين الكافر وبين طاعة الله ، وبين المؤمن ومعصية الله .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا بن أبي روّاد ، عن الضحاك ، نحوه .
وحُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم ، يقول : فذكر نحوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن منهال ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عبد العزيز بن أبي روّاد يحدّث عن الضحاك بن مزاحم ، في قوله : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بين المؤمن ومعصيته .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ يقول : يحول بين المؤمن وبين الكفر ، ويحول بين الكافر وبين الإيمان .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ يقول : يحول بين الكافر وبين طاعته ، ويحول بين المؤمن وبين معصيته .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن ليث ، عن مجاهد : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بين المؤمن وبين الكفر ، وبين الكافر وبين الإيمان .
قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي روّاد ، عن الضحاك : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ يقول : يحول بين الكافر وبين طاعته ، وبين المؤمن وبين معصيته .
قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ يحول بين المؤمن والمعاصي ، وبين الكافر والإيمان .
قال : حدثنا عبيدة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بينه وبين المعاصي .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : يحول بين المرء وعقله ، فلا يدري ما يعمل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي ، قال : حدثنا عبد المجيد ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بين المرء وعقله .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ حتى يتركه لا يعقل .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : هي يحول بين المرء وقلبه حتى يتركه لا يعقل .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا معقل بن عبيد الله ، عن حميد ، عن مجاهد : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : إذا حال بينك وبين قلبك كيف تعمل .
قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بين قلب الكافر ، وأن يعمل خيرا .
وقال آخرون : معناه يحول بين المرء وقلبه أن يقدر على إيمان أو كفر إلاّ بإذنه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : يحول بين الإنسان وقلبه ، فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلاّ بإذنه .
وقال آخرون : معنى ذلك أنه قريب من قلبه لا يخفى عليه شيء أظهره أو أسرّه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ قال : هي كقوله أقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ .
وأولى الأقوال بالصواب عندي في ذلك أن يقال : إن ذلك خبر من الله عزّ وجلّ أنه أملك لقلوب عباده منهم ، وإنه يحول بينهم وبينها إذا شاء ، حتى لا يقدر ذو قلب أن يدرك به شيئا من إيمان أو كفر ، أو أن يعي به شيئا ، أو أن يفهم إلاّ بإذنه ومشيئته . وذلك أن الحول بين الشيء والشيء إنما هو الحجز بينهما ، وإذا حجز جلّ ثناؤه بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه ، لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبه إدراكه سبيل ، وإذا كان ذلك معناه ، دخل في ذلك قول من قال : يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان ، وقول من قال : يحول بينه وبين عقله ، وقول من قال : يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلاّ بإذنه لأن الله عزّ وجلّ إذا حال بين عبد وقلبه ، لم يفهم العبد بقلبه الذي قد حيل بينه وبينه ما منع إدراكه به على ما بينت . غير أنه ينبغي أن يقال : إن الله عمّ بقوله : وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ يَحُولُ بينَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ الخبر عن أنه يحول بين العبد وقلبه ، ولم يخصص من المعاني التي ذكرنا شيئا دون شيء ، والكلام محتمل كلّ هذه المعاني ، فالخبر على العموم حتى يخصه ما يحب التسليم له .
وأما قوله : وأنّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ فإن معناه : واعلموا أيها المؤمنون أيضا مع العلم بأن الله يحول بين المرء وقلبه ، أن الله الذي يقدر على قلوبكم ، وهو أملك بها منكم ، إليه مصيركم ومرجعكم في القيامة ، فيوفيكم جزاء أعمالكم ، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته ، فاتقوه وراقبوه فيما أمركم ونهاكم هو ورسوله أن تضيعوه ، وأن لا تستجيبوا لرسوله إذا دعاكم لما يحييكم ، فيوجب ذلك سخطه ، وتستحقوا به أليم عذابه حين تحشرون إليه .
{ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } بالطاعة . { إذا دعاكم } وحد الضمير فيه لما سبق ولان دعوة الله تسمع من الرسول . وروي أنه عليه الصلاة والسلام مر على أبي وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال : ما منعك عن إجابتي قال : كنت أصلي ، قال : " ألم تخبر فيما أوحي إلي " { استجيبوا لله وللرسول } . واختلف فيه فقيل هذا لأن إجابته لا تقطع الصلاة فإن الصلاة أيضا إجابة . وقيل لأن دعاءه كان لأمر لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله وظاهر الحديث يناسب الأول . { لما يحييكم } من العلوم الدينية فإنها حياة القلب والجهل موته . قال :
لا تعجبن الجهول حلّته *** فذاك ميتٌ وثوبه كفن
أو مما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد والأعمال ، أو من الجهاد فإنه سبب بقائكم إذ لو تركوه لغلبهم العدو وقتلهم ، أو الشهادة لقوله تعالى : { بل أحياء عند ربهم يرزقون } . { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله تعالى : { ونحن اقرب إليه من حبل الوريد } وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب مما عسى يغفل عنه صاحبها ، أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره ، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويحول بينه وبين الكفر إن أراد سعادته ، وبينه وبين الإيمان إن قضى شقاوته . وقرئ " بين المرِّ " بالتشديد على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الراء وإجراء الوصل الوقف على لغة من يشدد فيه . { وأنه إليه تحشرون } فيجازيكم بأعمالكم .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } الآية ، هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف ، و { استجيبوا } بمعنى أجيبوا ، ولكن عرف الكلام أن يتعدى استجاب بلام ويتعدى أجاب دوم لام ، وقد يجيء تعدي استجاب بغير لام والشاهد قول الشاعر : [ الطويل ]
وداعٍ دعا يا من يجيبُ إلى النِّدا*** فلم يستجبْه عند ذاك مجيب{[5275]}
وقوله { لما يحييكم } قال مجاهد والجمهور : المعنى للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواه ، وهذا إحياء مستعار لأنه من موت الكفر والجهل ، وقيل الإسلام وهذا نحو الأول ويضعف من جهة أن من آمن لا يقال له ادخل في الإسلام ، وقيل { لما يحييكم } معناه للحرب وجهاد العدو وهو يحي بالعزة والغلبة والظفر ، فسمي ذلك حياة كما تقول حييت حال فلان إذا ارتفعت ، ويحيي أيضاً كما يحيي الإسلام والطاعة وغير ذلك بأنه يؤدي إلى الحياة الدائمة في الآخرة ، وقال النقاش : المراد إذا دعاكم للشهادة .
قال القاضي أبو محمد : فهذه صلة حياة الدنيا بحياة الآخرة ، وقوله { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } يحتمل وجوهاً ، ومنها أنه لما أمرهم بالاستجابة في الطاعة حضهم على المبادرة والاستعجال فقال : { واعلموا أن الله يحول بين المراء وقلبه } بالموت والقبض أي فبادروا بالطاعات ، ويلتئم مع هذا التأويل قوله { وأنه إليه تحشرون } ، أي فبادروا الطاعات وتزودوها ليوم الحشر ، ومنها أن يقصد بقوله { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } إعلامهم أن قدرة الله وإحاطته وعلمه والجة بين المرء وقلبه حاصلة هناك حائلة بينه وبين قلبه .
قال القاضي أبو محمد : فكأن هذا المعنى يحض على المراقبة والخوف لله المطلع على الضمائر ، ويشبه على هذا التأويل هذا المعنى قوله تعالى : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }{[5276]} ، حكي هذا التأويل عن قتادة ، ويحتمل أن يريد تخويفهم إن لم يمتثلوا الطاعات ويستجيبوا لله وللرسول بما حل بالكفار الذين أرادهم بقوله { ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } ، لأن حتمه عليهم بأنهم لو سمعوا وفهموا لم ينتفعوا يقتضي أنه قد كان حال بينهم وبين قلوبهم ، فكأنه قال للمؤمنين في هذه الأخرى استجيبوا لله وللرسول ولا تأمنوا إن تفعلوا أن ينزل بكم ما نزل بالكفار من الحول بينهم وبين قلوبهم ، فنبه على ما جرى على الكفار بأبلغ عبارة وأعلقها بالنفس ، ومنها أن يكون المعنى ترجية لهم بأن الله يبدل الخوف الذي في قلوبهم من كثرة العدو فيجعله جرأة وقوة وبضد ذلك الكفار فإن الله هو مقلّب القلوب كما كان قسم النبي صلى الله عليه وسلم{[5277]} ، قال بعض الناس ومنه لا حول ولا قوة إلا بالله أي لا حول على معصية ولا قوى على طاعة إلا بالله ، وقال المفسرون في ذلك أقوالاً هي أجنبية من ألفاظ الآية حكاها الطبري ، منها أن الله يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان ونحو هذا{[5278]} ، وقرأ ابن أبي إسحاق «بين المِرء » بكسر الميم ذكره أبو حاتم ، قال أبو الفتح : وقرأ الحسن والزبيدي{[5279]} «بين المَرِّ » بفتح الميم وشد الراء المكسورة{[5280]} .
و { تحشرون } أي تبعثون يوم القيامة ، وروي عن طريق مالك بن أنس والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أبيّ بن كعب وهو في الصلاة فلم يجب وأسرع في بقية صلاته ، فلما جاءه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما سمعت فيما يوحى إلي { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } فقال أبيّ : لا جرم يا رسول الله لا تدعوني أبداً إلا أجبتك ، الحديث بطوله واختلاف ألفاظه{[5281]} ، وفي البخاري ومسلم أن ذلك وقع مع أبي سعيد بن المعلى{[5282]} ، وروي أنه وقع نحوه مع حذيفة بن اليمان في غزوة الخندق .