المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

219- ويسألونك - يا محمد - عن حكم الخمر والقمار ، فقل : إن فيهما ضرراً كبيراً من إفساد الصحة وذهاب العقل والمال وإثارة البغضاء والعدوان بين الناس ، وفيهما منافع وبعض المنافع الصحية والربح السهل ، ولكن ضررهما أكبر من نفعهما فاجتنبوهما . ويسألونك عمَّا ينفقون ، فأجبهم أن ينفقوا في ذات الله السهل اليسير الذي لا يشق عليكم إنفاقه ، كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون فيما يعود عليكم من مصالح الدنيا والآخرة{[18]} .


[18]:هذه الآية تقرر حقيقة ثابتة هي أن الخمر والميسر منافع عرضية، كما أن فيهما إثما كبيرا، وأن هذا الإثم أكبر مما يتراءى فيهما من منافع، فشارب الخمر ينتفع ببعض النشوة التي تنقلب إلى خمود يؤدي شربها بعد ذلك إلى إصابته بمختلف الأمراض التي تقود شاربها إلى الإدمان عليها ويتعدى ضررها ذلك إلى الإضرار بكثير من أجهزة الجسم المختلفة كالجهاز الهضمي والعصبي والدوري والدموي، وفي تجارتها منافع مادية ولكن هذه المنافع لا تعتبر شيئا بجانب الأضرار الجسمية التي يحدثها ترويجها بين الناس. والميسر كالخمر، فالنشوة التي يشعر بها المقامر هي على حساب أعصابه واربح الذي يربحه قد يضيع في جلسة واحدة أو في مرات تالية بل قد يصيبه إدمانه بالإفلاس، والفوائد المادية التي يربحها أصحاب دور القمار لا تساوي شيئا بجانب الأضرار الجسمية التي تنجم عن نشر هذه الجريمة بين الناس.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

وبعد هذا الحديث الجامع عن البذل والتضحية ، ساق القرآن في آيتين ثلاثة أسئلة وأجاب عنها بما يشفي الصدور ، ويصلح النفوس .

فقال تعالى :

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر . . . }

قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } . . السائلون هم المؤمنون وسؤالهم إنما هو عن الحكم الشرعي من حيث الحل والتحريم . لا عن الحقيقة والذات فإنهم يعرفون حقيقة الخمر والميسر وذاتهما .

قال القرطبي : والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر ، ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها - وكل شيء غطى شيئاً فقد خمره . ومنه { خمروا آنيتكم ، فالخمر تخمر العقل ، أي : تغطيه وتستره . . فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطيه سميت بذلك ، وقيل إنما سميت الخمر خمرا ؛ لأنها تركت حتى أدركت كما يقال : قد اختمر خمراً لأنها تخالط العقل من المخامرة وهي المخالطة ومنه قولهم : دخلت في خمار الناس - بفتح الخاء وضمها - أي : اختلطت بهم . فالمعاني الثلاثة متقاربة . فالخمر تركت وخمرت حتى أدركت ، ثم خالطت العقل . ثم خمرته ، والأصل الستر .

ويرى كثير من العلماء أن هذه الآية هي أول آية نزلت في الخمر . ثم نزلت الآية التي في سورة النساء { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } ثم نزلت الآية التي في سورة المائدة { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } والدليل على ذلك ما رواه أبو داود وغيره عن عمر بن الخطاب أنه قال " اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا " فنزلت هذه الآية { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر } فدعى عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا " .

فنزلت الآية التي في النساء { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة - نادى أن : لا يقربن الصلاة سكران . فدعى عمر فقرئت عليه ، فقال : " اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا " فنزلت الآية التي في المائدة ، فدعى عمر فقرئت عليه ، فلما بلغ { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } قال عمر : " انتهينا " .

وبهذا الرأي قال ابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .

ويرى بعض العلماء أن أول آية نزلت في الخمر هي قوله - تعالى - في سورة النحل : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } وعلى هذا الرأي سار صاحب الكشاف وتبعه بعض العلماء فقد قال : نزلت في الخمر أربع آيات ، نزل بمكة قوله - تعالى - { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } فكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم . ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا : يا رسول الله ، أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت : { فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } فشربها قوم وتركها آخرون .

ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فقام بعضهم يصلي فقرأ : قل يأيها الكافرون أعبدما تعبدون فنزلت : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } فقل من يشربها ثم دعا عتبان بن مالك قوماً فيهم سعد بن أبي وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا شعر فيه هجاء للأنصار فضرب أحد الأنصار سعداً بلحى بعير فشجه ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك . فقال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت " إنما الخمر والميسر . . . إلخ الآية " . . فقال عمر : انتهينا يا رب " .

وأصحاب الرأي الأول يقولون : إن آية سروة النحل وهي قوله - تعالى - : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } ليس لها علاقة بموضوع الخمر ، ويفسرون السكر بأنه ما أحله الله مما لا يسكر وأنه هو الرزق الحسن وأن العطف بينهما من باب عطف التفسير .

ولقد كان موقف الصحابة من هذا التحريم لما يشتهونه ويحبونه من الخمر والميسر ، يمثل أسمى ألوان الطاعة والاستجابة لأوامر الله ونواهيه ، فعندما بلغهم تحريم الخمر أراقوا ما عندهم منها في الطرقات . بل وحطموا الأواني التي كانت توضع فيها الخمر امتثالا وطاعة لله - تعالى - .

وهكذا نرى قوة الإِيمان التي غرسها الإِسلام في نفوس أتباعه عن طريق تعاليمه السامية ، وتربيته الحكيمة . . تغلبت على ما أحبته النفوس وأزالت من القلوب ما ألفته الطبائع .

هذا وجمهور العلماء على أن كلمة " خمر " تشمل كل شراب مسكر سواء أكان من عصير العنب أم من الشعير أم من التمر أم من غير ذلك ، ولكها سواء في التحريم قل المشروب منها أو كثر سكر شاربه أو لم يسكر .

ومن أدلتهم ما وراه الإِمام مسلم عن ابن عمر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ، ومن شرب الخمر في الدنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها لم يشربها في الآخرة " .

ومن أدلتهم أيضاً أصل الاشتقاق اللغوي لكلمة خمر ، فقد عرفنا أنها سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل وستره ، فكل ما خامر العقل من الأشربة وجب أن يطلق عليه لفظ خمر سواء أكان من العنب أم من غيره .

وقال الأحناف ووافقهم بعض العلماء كإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وابن أبي ليلى : إن كلمة خمر لا تطلق إلا على الشراب المسكر من عصير العنب فقط ، أما المسكر من غيره كالشراب من التمر أو السعير فلا يسمى خمرا بل يسمى نبيذاً . وقد بنوا على هذا أن المحرم قليله وكثيره إنما هو الخمر من العنب . أما الأنبذة فكثيرها حرام وقليلها حرام .

وقد رجح العلماء رأى الجمهور وضعفوا ما ذهب إليه الأحناف ومن وافقهم .

قال ابن العربي : وتعلق أبو حنيفة بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة فلا يلتفت إليها والصحيح ما روى الأئمة أن أنسا قال : " حرمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة خمر الأعناب إلا قليل ، وعامة خمرها البسر والتمر " . أخرجه البخاري ، واتفق الأئمة على رواية أن الصحابة إذ حرمت الخمر لم يكن عندهم يومئذ خمر عنب ، وإنما كانوا يشربون خمر النبيذ فكسروا دنانهم - أي أواني الخمر - وبادروا إلى الامتثال لا عتقادهم أن ذلك كله خمر " أي وأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك .

وقال الآلوسي : وعندي أن الحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأي اسم سمى متى كان بحيث يسكر من لم يتعوده حرام ، وقليله ككثيره ، ويحد شاربه ويقع طلاقه ونجاسته غليظة . وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن النقيع - وهو نبيذ العسل - فقال : " كل شراب أسكر فهو حرام " وروى أبو داود " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر " وصح " ما أسكر كثيرة فقليله حرام " والأحاديث متضافرة على ذلك . ولعمري إن اجتماع الفساق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا " الخمر " ورغبتهم فيها ، فوق اجتماعهم على شرب " الخمر " ورغبتهم فيه بكثير ، وقد وضعوا لها أسماء - كالعنبرية والإِكسير - ونحوهما ظنا منهم أن هذه الأسماء تخرجها من الحرمة وتبيح شربها للأمة - وهيهات هيهات - فالأمر وراء ما يظنون وإنا لله وإنا إليه راجعون .

بعد هذه الكلمة التمهيدية عن الآية ، وعن مدلول كلمة خمر ننتقل إلى معنى كلمة " الميسر " فنقول : الميسر : القمار - بكسر القاف - وهو في الأصل مصدر ميمي من يسر ، كالموعد من وعد . وهو مشتق من اليسر بمعنى السهولة ، لأن المال يجئ للكاسب من غير جهد ، أو هو مشتق من يسر بمعنى جزر . ثم أصبح علما على ما يتقامر عليه كالجزور ونحوه .

قال القرطبي نقلا عن الأزهري : الميسر : الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه ، سمي ميسراً ، لأنه أجزاء ، فكأنه موضع التجزئة ، وكل شيء جزأته فقد يسرته . والياسر : الجازر لأنه يجزئ لحم الجزور . . ويقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور : ياسرون ، لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك .

وصفة الميسر الذي كانت تستعمله العرب أنهم كانت لهم عشرة أقداح يقال لها الأزلام أو الأقلام ، فكانوا إذا أرادوا أن يقامروا أحضروا بعيرا وقسموه ثمانية وعشرين قسما وتترك ثلاثة من تلك الأقداح غفلا لا علامة عليها وكانت تسمى : السفيح ، والمنيح ، والوغد . ومن طلع له واحد منها لا يأخذ شيئاً من الجزور . أما السبعة الأخرى فهي الرابحة وهي الفذو له سهم واحد ، والتوأم وله سهمان ، والرقيب وله ثلاثة ، والحلس وله أربعة ، والنافس وله خمس والمسبل وله ستة ، والمعلي وله سبعة فيكون المجموع ثمانية وعشرين سهما .

تلك صورة تقريبية لقمار العرب كما أوردها بعض المفسرين ولا شك أنه يدخل في حكمها من حيث الحرمة ما كان مشابها لها في المخاطرة والرهان وأخذ الأموال بدون مقابل مشروع ، أو ضياعها فيما حرمه الله .

ومعنى الآية الكريمة : يسألك أصحابك يا محمد عن حكم شرب الخمر ولعب الميسر ، قل لهم على سبيل الإِرشاد والإِعلام : في تعاطيهما { إِثْمٌ كَبِيرٌ } أي : ذنب عظيم ، وضرر شديد وذلك لما فيهما من القبائح المنافية لمحاسن الشرع من الكذب ، والأذى ، وشيوع العداوة والبغضاء بين الناس ، واستلاب أموالهم بغير حق .

وقوله : { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أي وفيهما منافع دنيوية للناس إذ الخمر تعدر على المتاجرين فيها أرباحا مالية ، والميسر يؤدي إلى إصابة بعض الناس للمال بدون تعب .

وأطلق - سبحانه - الإِثم وقيد المنافع بأنها للناس ، للتبيه على أن الإِثم في الخمر والميسر ذاتي ، فهما في ذاتهما رجس كبير ، وخطر وبيل ، وأن ما فيهما من منافع ضئيل ولا يتجاوز بعض الناس ، فهي منافع خاصة وليست عامة ، ويشهد لهذا قوله - تعالى - بعد ذلك .

{ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } أي أن المفاسد والأضرار التي تترتب على تعاطيهما ، أعظم من المنافع التي تنشأ عن تعاطيهما ، إذ تعاطيهما يؤدي إلى منفعة بعض الناس ، أما مضارهما فكثيرة ، من ذلك أن تعاطي الخمر يضعف الضمير ، ويفسد الأخلاق ، ويميت الحياء ، ويفقد الرشد ويتلف المال ، ويغري بالتنازع بين الناس ، ويتسبب - كما قال الأطباء الثقاة - في كثير من الأمراض كأمراض الكبد والرئتين والقلب . . إلخ .

وإن شئت المزيد من معرفة مضار الخمر فراجع ما كتبه العلماء والمتخصصون في ذلك .

أما تعاطي الميسر فمن مضاره - كما يقول الأستاذ الإِمام محمد عبده - إفساد التربية بتعويد النفس الكسل ، وانتظار الرزق من الأسباب الوهمية ، وإضعفا القوة العقلية ، بترك الأعمال المفيدة في طرق الكسب الطبيعية ، وإهمال المقامرين للزراعة والتجارة والصناعة التي هي أركان العمران ، وتخريب البيوت فجأة بالانتقال من الغني إلى الفقر في ساعة واحدة ، فكم من عشيرة كبيرة نشأت في العز والغني وانحصرت ثروتها في جرل أضاعها عليها في ليلة واحدة ؛ فأصبحت عنية وأمست فقيرة " .

إّن فالمنافع الدنيوية التي تعود إلى بعض الناس من تعاطي الخمر والميسر لا تساو شيئاً بجانب تلك المضار الجسمية التي تعود على أفراد الأمة في دينهم وعقولهم وأجسامهم وأموالهم وترابطهم ، وصدق الله إذ يقول : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } ثم يأتي بعد ذلك السؤال الثاني الذي ورد في هاتين الآيتين وهو قوله - تعالى - : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } .

ومناسبة هذا السؤال لما قبله أنهم بعد أن نهوا عن إنفاق أموالهم في الوجوه المحرمة كتعاطي الخمر والميسر ، سألوا عن وجوه الإِنفاق الحلال ، وعن مقدار ما ينفقون فأجيبوا بهذا الجواب الحكيم .

قال الآلوسي : أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس أن نفراً من الصحابة حين أمرو بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا وما الذي ننفقه منها فأنزل الله - تعالى- { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } وكان الرجل قبل ذلك ينفق ماله حتى لا يجد ما يتصدق ولا ما يأكل " .

وأصل العفو في اللغة الزيادة . قال- تعالى - : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ } أي زادوا على ما كانوا عليه من العدد . ويطلق على ما سهل وتيسر مما يكون فاضلا عن الكفاية . يقال : خذ ما عفا لك . أي ما تيسر . كما يطلق على الترك قال - تعالى - { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } أي تركه وتجاوز عنه .

والمراد هنا : ما يفضل عن الأهل ويزيد عن الحاجة ، إذ هذا القدر الذي يتيسر إخراجه ويسهل بذله ، ولا يتضرر صاحبه بتركه .

والمعنى : ويسألونك ما الذي يتصدقون به من أموالهم في وجوه البر ، فقل لهم تصدقوا بما زاد عن حاجتكم ، وسهل عليكم إخراجه ، ولا يشق عليكم بذله .

وفي هذه الجملة الكريمة إرشاد حكيم إلى التعاون والتراحم بين أفراد المجتمع ، وتوجيه إلى المنهاج الوسط الذي يأبى التبذير وينفر من التقتير ، وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يؤيد هذا الإِرشاد والتوجيه ، ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خير الصدقة ما كان عن ظهر غني وابدأ بمن تعول " .

وأخرج مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إبدأ بنفسك فتصدق عليها ، فإن فضل شيء فلأهلك ، فإن فضل عن أهلك شيء فلذى قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا " .

إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في هذا المعنى .

وللأستاذ الإِمام كلام جيد في هذا المقام ، فقد قال - رحمه الله - ما ملخصه : إن الأمة المؤلفة من مليون فرد إذا كانت تبذل من فضل مالها في مصالحها العامة كإعداد القوة وتربية الناشئة . . تكون أعز وأقوى من أمة مؤلفة من مائة مليون فرد لا يبذلون شيئا في مثل ذلك ؛ لأن الواحد من الأمة الأولى يعد بأمة ، إذ هو يعتبر نفسه جزءاً منها وهي كل له ، بينما الأمة الثانية لا تعد بواحد لأن كل فرد من أفرادها يخذل الآخر . . وفي الحقيقة أن مثل هذا الجمع لا يسمى أمة ، لأن كل واحد من أفراده يعيش وحده وإن كان في جانبه أهل الأرض ، فهو لا يتصل بمن معه ليمدهم ويستمد منهم " .

219

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ ) يعني بذلك جل ثناؤه : يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر وشربها . والخمر : كل شراب خامر العقل فستره وغطى عليه ، وهو من قول القائل : خَمَرت الإناء إذا غطيته ، وخَمِرَ الرجل : إذا دخل في الخَمَرِ ، ويقال : هو في خُمار الناس وغُمارهم ، يراد به : دخل في عُرض الناس ، ويقال للضبع : خامري أم عامر ، أي استتري . وما خامر العقل من داء وسكر فخالطه وغمره فهو خمر ، ومن ذلك أيضا خِمار المرأة ، وذلك لأنها تستر به رأسها فتغطيه ، ومنه يقال : هو يمشي لك الخَمَر ، أي مستخفيا ، كما قال العجاج :

فِي لامِعِ الِعقْبانِ لا يأتي الخَمَرْ *** يُوجّهُ الأرْضَ ويَسْتاقُ الشّجَرْ

ويعني بقوله : لا يأتي الخمر : لا يأتي مستخفيا ولا مسارقة ، ولكن ظاهرا برايات وجيوش والعقبان جمع عقاب ، وهي الرايات .

وأما «الميسر » فإنها «المفعِل » من قول القائل : يسَر لي هذا الأمر : إذا وجب لي فهو يَيْسِر لي يَسَرا ومَيْسِرا ، والياسر : الواجب ، بقداح وجب ذلك أو مباحه أو غير ذلك ، ثم قيل للمقامر : ياسر ، ويَسَر ، كما قال الشاعر :

فَبِتّ كأنّنِي يَسَرٌ غَبِينٌ *** يُقَلّبُ بَعْدَما اخْتُلِعَ القِدَاحا

وكما قال النابغة :

أوْ ياسِرٌ ذَهَبَ القِداحُ بوَفْرِه *** أسِفٌ تآكَلَهُ الصّديقُ مُخَلّعُ

يعني بالياسر : المقامر ، وقيل للقمار : ميسر ، وكان مجاهد يقول نحو ما قلنا في ذلك .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : يَسألُونَكَ عَن الخَمْرِ وَالمَيْسِر قال : القمار ، وإنما سمي الميسر لقولهم أيسروا واجزروا ، كقولك ضع كذا وكذا .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : كل القمار من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي الأحوص ، قال : قال عبد الله : إياكم وهذه الكعاب الموسومة التي تزجرون بها زجرا فإنهن من الميسر .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي الأحوص ، مثله .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن نافع ، قال : حدثنا شعبة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله أنه قال : إياكم وهذه الكعاب التي تزجرون بها زجرا ، فإنها من الميسر .

حدثني عليّ بن سعيد الكندي ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، عن عاصم ، عن محمد بن سيرين ، قال : القمار : ميسر .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن محمد بن سيرين ، قال : كل شيء له خطر ، أو في خطر أبو عامر شك فهو من الميسر .

حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، عن عاصم ، عن محمد بن سيرين ، قال : كل قمار ميسر حتى اللعب بالنرد على القيام والصياح والريشة يجعلها الرجل في رأسه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عاصم ، عن ابن سيرين ، قال : كل لعب فيه قمار من شرب أو صياح أو قيام فهو من الميسر .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا خالد بن الحرث ، قال : حدثنا الأشعث ، عن الحسن ، أنه قال : الميسر : القمار .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا المعتمر ، عن ليث ، عن طاوس وعطاء قالا : كل قمار فهو من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد ، قال : الميسر : القمار .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك بن عمير ، عن أبي الأحوص ، عن عبيد الله قال : إياكم وهاتين الكعبتين يزجر بهما زجرا فإنهما من الميسر .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، قال : أما قوله والميسر ، فهو القمار كله .

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم ، عن عبيد الله بن عمر أنه سمع عمر بن عبيد الله يقول للقاسم بن محمد : النرد : ميسر ، أرأيت الشطرنج ميسر هو ؟ فقال القاسم : كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهو ميسر .

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : الميسر : القمار ، كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله ، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : الميسر القمار .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : الميسر القمار .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الليث ، عن مجاهد وسعيد بن جبير ، قالا : الميسر : القمار كله ، حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : سمعت عبيد بن سليمان يحدث عن الضحاك قوله : الميسر : قال : القمار .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الميسر : القمار .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد ، قال : حدثنا موسى بن عقبة ، عن نافع أن ابن عمر كان يقول : القمار من الميسر .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : الميسر قداح العرب ، وكعاب فارس . قال : وقال ابن جريج ، وزعم عطاء بن ميسرة أن الميسر : القمار كله .

حدثنا ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن سعيد بن عبد العزيز ، قال : قال مكحول : الميسر : القمار .

حدثنا الحسين بن محمد الذارع ، قال : حدثنا الفضل بن سليمان وشجاع بن الوليد ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : الميسر : القمار .

وأما قوله : قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ فإنه يعني بذلك جل ثناؤه : قل يا محمد لهم فيهما ، يعني في الخمر والميسر إثم كبير . فالإثم الكبير الذي فيهما ما ذكر عن السدي فيما :

حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ فإثم الخمر أن الرجل يشرب فيسكر فيؤذي الناس . وإثم الميسر أن يقامر الرجل فيمنع الحق ويظلم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ قال : هذا أول ما عيبت به الخمر .

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ يعني ما ينقص من الدين عند من يشربها .

والذي هو أولى بتأويل الآية ، الإثم الكبير الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في الخمر والميسر ، فالخمر ما قاله السدي : زوال عقل شارب الخمر إذا سكر من شربه إياها حتى يعزب عنه معرفة ربه ، وذلك أعظم الاَثام ، وذلك معنى قول ابن عباس إن شاء الله . وأما في الميسر فما فيه من الشغل به عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، ووقوع العداوة والبغضاء بين المتياسرين بسببه ، كما وصف ذلك به ربنا جل ثناؤه بقوله : إنّمَا يُريدُ الشّيْطانُ أنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَعَنِ الصّلاةِ .

وأما قوله : وَمَنافِعُ للنّاسِ فإن منافع الخمر كانت أثمانها قبل تحريمها ، وما يصلون إليه بشربها من اللذة ، كما قال الأعشى في صفتها :

لنَا مِنْ ضُحاها خُبْثُ نَفْسٍ وكأْبَةٌ **** وَذِكْرَى هَمُومٍ ما تَفُكّ أذَاتُها

وَعِندَ العِشاءِ طِيبُ نَفْسٍ وَلَذّةٌ *** ومالٌ كَثِيرٌ عِدّةٌ نَشَوَاتُها

وكما قال حسان :

فَنَشْرَبُها فتترُكُنا مُلُوكا *** وأُسْدا ما يُنَهْنِهُنا اللّقاءُ

وأما منافع الميسر فيما يصيبون فيه من أنصباء الجزور ، وذلك أنهم كانوا يياسرون على الجزور ، وإذا أفلج الرجل منهم صاحبه نحره ، ثم اقتسموا أعشارا على عدد القداح ، وفي ذلك يقول أعشى بني ثعلبة :

وجَزُورِ أيْسارٍ دَعَوْتُ إلى النّدَى *** ونِياطِ مُقْفِرَةٍ أخافُ ضَلاَلهَا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : المنافع ههنا : ما يصيبون من الجزور .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي : أما منافعهما فإن منفعة الخمر في لذته وثمنه ، ومنفعة الميسر فيما يصاب من القمار .

حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ قال : منافعهما قبل أن يحرّما .

حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَمَنافعُ للنّاسِ قال : يقول فيما يصيبون من لذتها وفرحها إذا شربوها .

واختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأه عظم أهل المدينة وبعض الكوفيين والبصريين قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ بالباء ، بمعنى : قل في شرب هذه والقمار هذا كبير من الاَثام . وقرأه آخرون من أهل المصرين ، البصرة والكوفة : «قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ » بمعنى الكثرة من الاَثام ، وكأنهم رأوا أن الإثم بمعنى الاَثام ، وإن كان في اللفظ واحدا فوصفوه بمعناه من الكثرة .

وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه بالباء : قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ لإجماع جميعهم على قوله : وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وقراءته بالباء وفي ذلك دلالة بينة على أن الذي وصف به الإثم الأول من ذلك هو العظم والكبر ، لا الكثرة في العدد . ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة ، لقيل وإثمهما أكثر من نفعهما .

القول في تأويل قوله تعالى : وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا .

يعني بذلك عزّ ذكره : والإثم بشرب هذه والقمار هذا ، أعظم وأكبر مضرّة عليهم من النفع الذي يتناولون بهما . وإنما كان ذلك كذلك ، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض وقاتل بعضهم بعضا ، وإذا ياسروا وقع بينهم فيه بسببه الشرّ ، فأدّاهم ذلك إلى ما يأثمون به .

ونزلت هذه الآية في الخمر قبل أن يصرّح بتحريمها ، فأضاف الإثم جل ثناؤه إليهما ، وإنما الإثم بأسبابهما ، إذ كان عن سببهما يحدث .

وقد قال عدد من أهل التأويل : معنى ذلك : وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قال : منافعهما قبل التحريم ، وإثمهما بعدما حرّما .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع : وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ينزل المنافع قبل التحريم ، والإثم بعد ما حرّم .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرني عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا يقول : إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم .

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا يقول : ما يذهب من الدين والإثم فيه أكبر مما يصيبون في فرحها إذا شربوها .

وإنما اخترنا ما قلنا في ذلك من التأويل لتواتر الأخبار وتظاهرها بأن هذه نزلت قبل تحريم الخمر والميسر ، فكان معلوما بذلك أن الإثم الذي ذكر الله في هذه الآية فأضافه إليهما إنما عنى به الإثم الذي يحدث عن أسبابهما على ما وصفنا ، لا الإثم بعد التحريم .

ذكر الأخبار الدالة على ما قلنا من أن هذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر :

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا قيس ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما نزلت : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ فكرهها قوم لقوله : فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وشربها قوم لقوله : وَمَنافِعُ للنّاسِ ، حتى نزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حّتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ قال : فكانوا يدعونها في حين الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة ، حتى نزلت : إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ فقال عمر : ضيعةً لك اليوم قرنت بالميسر .

حدثني محمد بن معمر ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا محمد بن أبي حميد ، عن أبي توبة المصري ، قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاثا ، فكان أول ما أنزل : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ الآية ، فقالوا : يا رسول الله ننتفع بها ونشربها ، كما قال الله جل وعز في كتابه . ثم نزلت هذه الآية : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى . . . الآية ، قالوا : يا رسول الله لا نشربها عند قرب الصلاة قال : ثم نزلت : إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ الآية ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حُرّمَتِ الخَمْرُ » .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن قالا : قال الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حّتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ويَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعٌ للنّاسٍ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا فنسختها الآية التي في المائدة ، فقال : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ الآية .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا عوف ، عن أبي القموص زيد بن عليّ ، قال : أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاث مرات فأول ما أنزل قال الله : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا قال : فشربها من المسلمين من شاء الله منهم على ذلك ، حتى شرب رجلان ، فدخلا في الصلاة ، فجعلا يهجران كلاما لا يدري عوف ما هو ، فأنزل الله عز وجل فيهما : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حّتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فشربها من شربها منهم ، وجعلوا يتقونها عند الصلاة ، حتى شربها فيما زعم أبو القموص رجلٌ ، فجعل ينوح على قتلى بدر :

تُحَيّي بالسّلامَةِ أُمّ عَمرو *** وهلْ لكِ بعدَ رَهْطِكِ من سَلامِ

ذَرِيِني أصْطَبِحْ بَكْرا فإنّي *** رأيْتُ المَوْتَ نَقّبَ عَنْ هِشامِ

وَوَدّ بَنُو المَغِيرَةِ لَوْ فَدَوْهُ *** بألْفٍ مِنْ رجالٍ أوْ سَوَامِ

كأيَ بالطّوِيّ طَوِيّ بَدْرٍ *** مِنَ الشيّزَى يُكَلّلُ بالسّنامِ

كأيَ بالطّوِيّ طَوِيّ بَدْرٍ *** مِنَ الفِتْيانِ والحُلَل الكِرَامِ

قال : فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء فزعا يجرّ رداءه من الفزع حتى انتهى إليه ، فلما عاينه الرجل ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا كان بيده ليضربه ، قال : أعوذ بالله من غضب الله ورسوله ، والله لا أطعَمُها أبدا فأنزل الله تحريمها : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ والأنْصَابُ وَالأزْلامُ رجْسٌ . . . إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : انتهينا انتهينا .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق الأزرق ، عن زكريا عن سماك ، عن الشعبي ، قال : نزلت في الخمر أربع آيات : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعٌ للنّاسِ فتركوها ، ثم نزلت : تَتّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا فشربوها . ثم نزلت الاَيتان في المائدة إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : نزلت هذه الآية : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ الآية ، فلم يزالوا بذلك يشربونها ، حتى صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما ، فدعا ناسا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم عليّ بن أبي طالب ، فقرأ : قُلْ يا أيّها الكافِرُونَ ولم يفهمها ، فأنزل الله عز وجل يشدّد في الخمر : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصلاَة وأنْتُمْ سُكارَى حّتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فكانت لهم حلالاً ، يشربون من صلاة الفجر حتى يرتفع النهار أو ينتصف ، فيقومون إلى صلاة الظهر وهم مُصْحون ، ثم لا يشربونها حتى يصلوا العتمة وهي العشاء ، ثم يشربونها حتى ينتصف الليل وينامون ، ثم يقومون إلى صلاة الفجر وقد صحوا . فلم يزالوا بذلك يشربونها ، حتى صنع سعد بن أبي وقاص طعاما ، فدعا ناسا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم رجل من الأنصار ، فشوى لهم رأس بعير ثم دعاهم عليه ، فلما أكلوا وشربوا من الخمر سكروا وأخذوا في الحديث ، فتكلم سعد بشيء ، فغضب الأنصاري ، فرفع لحى البعير فكسر أنف سعد ، فأنزل الله نسخ الخمر وتحريمها وقال : إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ إلى قوله : فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتَهُونَ .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، وعن رجل عن مجاهد في قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ قال : لما نزلت هذه الآية شربها بعض الناس وتركها بعض ، حتى نزل تحريمها في سورة المائدة .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ قال : هذا أوّل ما عيبت به الخمر .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعٌ للنّاسِ فذمهما الله ولم يحرّمهما لما أراد أن يبلغ بهما من المدة والأجل ، ثم أنزل الله في سورة النساء أشدّ منها : لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حّتى تَعْلَمُوا ما تَقُوُلونَ فكانوا يشربونها ، حتى إذا حضرت الصلاة سكتوا عنها ، فكان السكر عليهم حراما . ثم أنزل الله جل وعز في سورة المائدة بعد غزوة الأحزاب : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ إلى : لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ فجاء تحريمها في هذه الآية قليلها وكثيرها ، ما أسكر منها وما لم يسكر ، وليس للعرب يومئذ عيش أعجب إليهم منها .

وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا . قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ رَبّكُمْ يُقَدّمُ فِي تَحْريمِ الخَمْرِ » . قال : ثم نزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصّلاةَ وأنْتُمْ سُكارَى حّتى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّ رَبّكُمْ يُقَدّمُ فِي تَحْرِيمِ الخَمْرِ » . قال : ثم نزلت : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ فحرّمت الخمر عند ذلك .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالَمْيسِرِ الآية كلها ، قال نسخت ثلاثةً : في سورة المائدة ، وبالحدّ الذي حدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم . قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يضربهم بذلك حدّا ، ولكنه كان يعمل في ذلك برأيه ، ولم يكن حدّا مسمى وهو حد . وقرأ : إنّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ الآية .

القول في تأويل قوله تعالى : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ .

يعني جل ذكره بذلك : ويسألك يا محمد أصحابك : أيّ شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به ، فقل لهم يا محمد أنفقوا منها العفو .

واختلف أهل التأويل في معنى : العَفْو في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناه : الفضل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عمرو بن عليّ الباهلي ، قال : حدثنا وكيع ح ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : العفو : ما فضل عن أهلك .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قل العفو : أي الفضل .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : هو الفضل .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عبد الملك ، عن عطاء في قوله : العفو ، قال : الفضل .

حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : العفو ، يقول : الفضل .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : كان القوم يعملون في كل يوم بما فيه ، فإن فضل ذلك اليوم فضل عن العيال قدموه ولا يتركون عيالهم جوعا ، ويتصدقون به على الناس .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا يونس ، عن الحسن في قوله : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : هوالفضل فضل المال .

وقال آخرون : معنى ذلك ما كان عفوا لا يبين على من أنفقه أو تصدق به . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُل العَفْوَ يقول : ما لا يتبين في أموالكم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن جريج ، عن طاوس في قول الله جل وعز : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : اليسير من كل شيء .

وقال آخرون : معنى ذلك : الوسط من النفقة ما لم يكن إسرافا ولا إقتارا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، عن عوف ، عن الحسن في قوله : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ يقول : لا تجهد مالك حتى ينفد للناس .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء ، عن قوله : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُل العَفْوَ قال : العفو في النفقة أن لا تجهد مالك حتى ينفد ، فتسأل الناس .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء ، عن قوله يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : العفو : ما لم يسرفوا ، ولم يقتروا في الحقّ . قال : وقال مجاهد : العفو صدقة عن ظهر غنى .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن في قوله : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : هو أن لا تجهد مالك .

وقال آخرون : معنى ذلك قُلِ العَفْوَ خذ منهم ما أتوك به من شيء قليلاً أو كثيرا . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَيَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قَلِ العَفْوَ يقول : ما أتوك به من شيء قليل أو كثير ، فاقبله منهم .

وقال آخرون : معنى ذلك ما طاب من أموالكم . ذكر من قال ذلك :

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقونَ قُلِ العَفْوَ قال : يقول الطيب منه ، يقول : أفضل مالك وأطيبه .

حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، قال : كان يقول : العفو : الفضل . يقول : أفضل مالك .

وقال آخرون : معنى ذلك : الصدقة المفروضة . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد ، أو عيسى عن قيس ، عن مجاهد شك أبو عاصم قول الله جل وعز : قُلِ العَفْوَ قال : الصدقة المفروضة .

وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معنى العفو : الفضل من مال الرجل عن نفسه وأهله في مئونتهم وما لا بدّ لهم منه . وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإذن في الصدقة ، وصدقته في وجه البرّ .

ذكر بعض الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك :

3حدثنا عليّ بن مسلم ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن عجلان ، عن المقبري ، عن أبي هريرة ، قال : قال رجل : يا رسول الله عندي دينار قال : «أنْفِقْهُ على نَفْسِكَ ؟ » قال : عندي آخر قال : «أنْفِقْهُ على أهْلِكَ » قال : عندي آخر قال : «أنْفِقْهُ على وَلَدِكَ » قال : عندي آخر قال : «فأنْتَ أبْصَرُ » .

حدثني محمد بن معمر البحراني ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذَا كانَ أحَدُكُمَ فَقِيرا فَلْيَبَدأ بِنَفْسِهِ ، فإنْ كانَ لَهُ فَضْلٌ فَلْيَبْدأ مَعَ نَفْسِهِ بِمَنْ يَعُولُ ، ثُمّ إنْ وَجَدَ فَضْلاً بَعْدَ ذَلِكَ فَلْيَتَصَدّقْ على غَيْرِهِمْ » .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عاصم ، عن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن جابر بن عبد الله ، قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن ، فقال : يا رسول الله ، خذ هذه مني صدقة ، فوالله ما أصبحت أملك غيرها فأعرض عنه ، فأتاه من ركنه الأيمن ، فقال له مثل ذلك ، فأعرض عنه . ثم قال له مثل ذلك فأعرض عنه . ثم قال له مثل ذلك ، فقال : «هاتها » مغضبا ، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجه أو عقره ، ثم قال : «يَجِيءُ أحَدُكُمْ بِمَالِهِ كُلّهِ يَتَصَدّقُ بِهِ وَيجْلِسُ يَتَكَفّفُ النّاسَ إنّمَا الصّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غَنِى » .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن إبراهيم المخرمي ، قال : سمعت أبا الأحوص يحدث عن عبد الله ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ارْضَخْ مِنَ الفَضْلِ ، وَابْدأ بِمَنْ تَعُولُ ، وَلا تُلامُ على كَفافٍ » .

وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستقصاء ذكرها الكتاب . فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم لأمته الصدقة من أموالهم بالفضل عن حاجة المتصدق الفضل من ذلك ، هو العفو من مال الرجل إذ كان العفو في كلام العرب في المال وفي كل شيء هو الزيادة والكثرة ، ومن ذلك قوله جل ثناؤه : حَتى عَفَوْا بمعنى : زادوا على ما كانوا عليه من العدد وكثروا ، ومنه قول الشاعر :

وَلَكِنّا يَعضّ السّيْفُ مِنّا *** بأسْوُقِ عافِياتِ الشّحْمِ كُومِ

يعني به كثيرات الشحوم . ومن ذلك قيل للرجل : خذ ما عفا لك من فلان ، يراد به : ما فضل فصفا لك عن جهده بما لم تجهده . كان بينا أن الذي أذن الله به في قوله قُلِ العَفْوَ لعباده من النفقة ، فأذنهم بإنفاقه إذا أرادوا إنفاقه هو الذي بين لأمته رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : «خَيْرُ الصّدَقة ما أَنْفقت عن غِنًى » وأذنهم به .

فإن قال لنا قائل : وما تنكر أن يكون ذلك العفو هو الصدقة المفروضة ؟ قيل : أنكرنا ذلك لقيام الحجة على أن من حلت في ماله الزكاة المفروضة ، فهلك جميع ماله إلا قدر الذي لزم ماله لأهل سهمان الصدقة ، أن عليه أن يسلمه إليهم ، إذا كان هلاك ماله بعد تفريطه في أداء الواجب كان لهم ( في ) ماله إليهم ، وذلك لا شك أنه جهده إذا سلمه إليهم لا عفوه ، وفي تسمية الله جل ثناؤه ما علم عباده وجه إنفاقهم من أموالهم عفوا ، ما يبطل أن يكون مستحقا اسم جهد في حالة ، وإذا كان ذلك كذلك فبّين فساد قول من زعم أن معنى العفو هو ما أخرجه ربّ المال إلى إمامه ، فأعطاه كائنا ما كان من قليل ماله وكثيره ، وقول من زعم أنه الصدقة المفروضة .

وكذلك أيضا لا وجه لقول من يقول : إن معناه ما لم يتبين في أموالكم ، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو لبابة : إن من توبتي أن أنخلع إلى الله ورسوله من مالي صدقة ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ الثّلُثُ » وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له نحوا من ذلك . والثلث لا شك أنه بين فقده من مال ذي المال ، ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه : وَالّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلم يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما وكما قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولةً إلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوما مَحْسُورا وذلك هو ما حده صلى الله عليه وسلم فيما دون ذلك على قدر المال واحتماله .

ثم اختلف أهل العلم في هذه الآية : هل هي منسوخة ، أم ثابتة الحكم على العباد ؟ فقال بعضهم : هي منسوخة نسختها الزكاة المفروضة . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : كان هذا قبل أن تفرض الصدقة .

3حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ قال : لم تفرض فيه فريضة معلومة ، ثم قال : خُذِ العَفْوَ وأمُرْ بالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ ثم نزلت الفرائض بعد ذلك مسماة .

3حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قوله : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ هذه نسختها الزكاة .

وقال آخرون : بل مثبتة الحكم غير منسوخة . ذكر من قال ذلك :

3حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن قيس بن سعد أو عيسى ، عن قيس ، عن مجاهد شك أبو عاصم ، قال قال : العفو : الصدقة المفروضة .

والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس على ما رواه عنه عطية من أن قوله : قُلِ العَفْوَ ليس بإيجاب فرض فرض من الله حقا في ماله ، ولكنه إعلام منه ما يرضيه من النفقة مما يسخطه جوابا منه لمن سأل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عما فيه له رضا ، فهو أدب من الله لجميع خلقه على ما أدبهم به في الصدقة غير المفروضات ثابت الحكم غير ناسخ لحكم كان قبله بخلافه ، ولا منسوخ بحكم حدث بعده ، فلا ينبغي لذي ورع ودين أن يتجاوز في صدقات التطوّع وهباته وعطايا النفل وصدقته ما أدبهم به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : «إذَا كانَ عِنْدَ أحَدِكُمْ فَضْلٌ فَلْيَبْدأ بِنَفْسِهِ ، ثُمّ بأهْلِه ، ثُمّ بِوَلَدِهِ » ثُمّ يَسْلُكُ حِينَئذٍ فِي الفَضْلِ مَسالِكَهُ الّتِي تُرْضِي اللّهَ ويُحِبّها . وذلك هو القوام بين الإسراف والإقتار الذي ذكره الله عز وجلّ في كتابه إن شاء الله تعالى . ويقال لمن زعم أن ذلك منسوخ : ما الدلالة على نسخه ؟ وقد أجمع الجميع لا خلاف بينهم على أن للرجل أن ينفق من ماله صدقة وهبة ووصية الثلث ، فما الذي دلّ على أن ذلك منسوخ ؟ فإن زعم أنه يعني بقوله : إنه منسوخ أن إخراج العفو من المال غير لازم فرضا ، وأن فرض ذلك ساقط بوجود الزكاة في المال قيل له : وما الدليل على أن إخراج العفو كان فرضا ، فأسقطه فرض الزكاة ؟ ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان فرضا ، إذ لم يكن أمر من الله عز ذكره ، بل فيها الدلالة على أنها جواب ما سأل عنه القوم على وجه التعرف لما فيه لله الرضا من الصدقات ، ولا سبيل لمدعي ذلك إلى دلالة توجب صحة ما ادّعى .

وأما القراء فإنهم اختلفوا في قراءة العفو ، فقرأته عامة قراء الحجاز وقراء الحرمين وعظم قراء الكوفيين : قُلِ العَفْوَ نصبا ، وقرأه بعض قراء البصريين : قُلِ العَفْوُ رفعا . فمن قرأه نصبا جعل «ماذا » حرفا واحدا ، ونصبه بقوله : يُنْفِقُونَ على ما قد بينت قبل ، ثم نصب العفو على ذلك فيكون معنى الكلام حينئذٍ : ويسألونك أيّ شيء ينفقون ؟ ومن قرأه رفعا جعل «ما » من صلة «ذا » ورفعوا العفو فيكون معنى الكلام حينئذٍ : ما الذي ينفقون ، قل الذي ينفقون العفو . ولو نصب العفو ، ثم جعل «ماذا » حرفين بمعنى : يسألونك ماذا ينفقون ؟ قل ينفقون العفو ، ورفع الذين جعلوا «ماذا » حرفا واحدا بمعنى : ما ينفقون ؟ قل الذي ينفقون خبرا كان صوابا صحيحا في العربية . وبأيّ القراءتين قرىء ذلك عندي صواب لتقارب معنييهما مع استفاضة القراءة بكل واحدة منهما . غير أن أعجب القراءتين إليّ وإن كان الأمر كذلك قراءة من قرأه بالنصب ، لأن من قرأ به من القراء أكثر وهو أعرف وأشهر .

القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ يُبَينُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِي الدّنْيا والاَخِرَةِ .

يعني بقول عز ذكره : كَذَلِكَ يُبَينُ اللّهُ لَكُمْ الاَياتِ هكذا يبين أي ما بينت لكم أعلامي وحججي ، وهي آياته في هذه السورة ، وعرفتكم فيها ما فيه خلاصكم من عقابي ، وبينت لكم حدودي وفرائضي ، ونبهتكم فيها على الأدلة على وحدانيتي ، ثم على حجج رسولي إليكم ، فأرشدتكم إلى ظهور الهدى ، فكذلك أبين لكم في سائر كتابي الذي أنزلته على نبيي محمد صلى الله عليه وسلم آياتي وحججي ، وأوضحها لكم لتتفكروا في وعدي ووعيدي وثوابي وعقابي ، فتجاوزوا طاعتي التي تنالون بها ثوابي في الدار الاَخرة ، والفوز بنعيم الأبد على القليل من اللذات ، واليسير من الشهوات ، بركوب معصيتي في الدنيا الفانية التي من ركبها ، كان معاده إليّ ، ومصيره إلى ما لا قبل له به من عقابي وعذابي .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

3حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس : كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِي الدّنْيا والاَخِرَة قال : يعني في زوال الدنيا وفنائها ، وإقبال الاَخرة وبقائها .

3حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِي الدّنْيا والاَخِرَةِ يقول : لعلكم تتفكرون في الدنيا والاَخرة ، فتعرفون فضل الاَخرة على الدنيا .

3حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قوله : كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ فِي الدّنْيا والاَخِرَةِ قال : أما الدنيا فتعلمون أنها دار بلاء ثم فناء ، والاَخرة دار جزاء ثم بقاء ، فتتفكرون ، فتعملون للباقية منهما . قال : وسمعت أبا عاصم يذكر نحو هذا أيضا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَياتِ لَعَلّكُمْ تَتَفَكّرُونَ في الدّنْيا والاَخِرَة وإنه من تفكر فيهما عرف فضل إحداهما على الأخرى وعرف أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء ، وأن الاَخرة دار جزاء ثم دار بقاء ، فكونوا ممن يَصْرم حاجة الدنيا لحاجة الاَخرة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

{ يسألونك عن الخمر والميسر } روي ، أنه نزل بمكة قوله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا } فأخذ المسلمون يشربونها ، ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا : أفتنا يا رسول الله في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال ، فنزلت هذه الآية فشربها قوم وتركها آخرون . ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا ، فأم أحدهم فقرأ : { قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون } فنزلت { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فقل من يشربها ، ثم دعا عتبان بن مالك سعد بن أبي وقاص في نفر فلما سكروا افتخروا وتناشدوا ، فأنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار ، فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت { إنما الخمر والميسر } إلى قوله : { فهل أنتم منتهون } فقال عمر رضي الله عنه : انتهينا يا رب . والخمر في الأصل مصدر خمره إذا ستره ، سمي بها عصير العنب والتمر إذا اشتد وغلا كأنه يخمر العقل ، كما سمي سكرا لأنه يسكره أي يحجزه ، وهي حرام مطلقا وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتد حل شربه ما دون السكر .

{ والميسر } أيضا مصدر كالموعد ، سمي به القمار لأنه أخذ مال الغير بيسر أو سلب يساره ، والمعنى يسألونك عن تعاطيهما لقوله تعالى : { قل فيهما } أي في تعاطيهما . { إثم كبير } من حيث إنه يؤدي إلى الانتكاب عن المأمور ، وارتكاب المحظور . وقرأ حمزة والكسائي كثير بالثاء . { ومنافع للناس } من كسب المال والطرب والالتذاذ ومصادقة الفتيان ، وفي الخمر خصوصا تشجيع الجبان وتوفير المروءة وتقوية الطبيعة . { وإثمهما أكبر من نفعهما } أي المفاسد التي تنشأ منهما أعظم من المنافع المتوقعة منهما . ولهذا قيل إنها المحرمة للخمر لأن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل ، والأظهر أنه ليس كذلك لما مر من إبطال مذهب المعتزلة . { ويسألونك ماذا ينفقون } قيل سائله أيضا عمرو بن الجموح سأل أولا عن المنفق والمصرف ، ثم سأل عن كيفية الإنفاق . { قل العفو } العفو نقيض الجهد ومنه يقال للأرض السهلة ، وهو أن ينفق ما تيسر له بذله ولا يبلغ منه الجهد . قال :

خذي العفو مني تستديمي مودتي *** ولا تنطقي في سورتي حين أغضب وروي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال : خذها مني صدقة ، فأعرض عليه الصلاة والسلام عنه حتى كرر عليه مرارا فقال : هاتها مغضبا فأخذها فحذفها حذفا لو أصابه لشجه ثم قال : " يأتي أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس ، إنما الصدقة عن ظهر غنى " . وقرأ أبو عمرو برفع { العفو } . { كذلك يبين الله لكم الآيات } أي مثل ما بين أن العفو أصلح من الجهد ، أو ما ذكر من الأحكام ، والكاف في موضع النصب صفة لمصدر محذوف أي تبيينا مثل هذا التبيين ، وإنما وحد العلامة والمخاطب به جمع على تأويل القبيل والجمع ، { لعلكم تتفكرون } في الدلائل والأحكام .