ثم مدحه - ثالثا - بقوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } أى فيه علامات ظاهرات ، ودلائل واضحات تدل على شرف منزلته ، وعلو مكانته .
وهذه الجملة الكريمة مستأنفة لبيان وتفسير بركته وهداه .
ثم بين - سبحانه - بعض هذه الآيات البينات الدالة على عظمه وشرفه فقال : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } .
فالآية الأولى الدالة على عظم وشرف البيت الحرام { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } أى المقام المعروف بهذا الاسم . وهو الموضع الذى كان يقوم فيه إبراهيم تجاه الكعبة لعبادة الله - تعالى - ولإتمام بناء الكعبة ومعنى أن فى البيت مقام إبراهيم أى أنه فى فنائه ومتصل به .
قال ابن كثير : عن جابر - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ، ثم قرأ { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين .
والمراد بالمقام إنما هو الحجر الذى كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة ، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل بهذا الحجر ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار . . .
ثم قال : وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما . ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلى الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك . وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى ناحية المشرق حيث هو الآن . ليتمكن الطائفون من الطواف ، وليصلى المصلون عنده دون تشويش عليهم من الطائفين .
وقوله : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } مبتدأ محذوف الخبر أى مقام إبراهيم منها أى من هذه الآيات البينات . أو خبر لمبتدأ محذوف أى فيه آيات بينات أحدها مقام إبراهيم .
وقد رجح ابن جرير أن قوله - تعالى - { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } هو بعض الآيات البينات التى فى البيت الحرام فقال : وأولى الأقوال فى تأويل ذلك بالصواب قول من قال : الآيات البينات منهن مقام إبراهيم . وهو قول قتادة ومجاهد الذى رواه معمر عنهما فيكون الكلام مرادا فيه منهن فترك ذكره اكتفاء بدلالة الكلام عليها . فإن قال القائل : فهذا المقام من الآيات البينات فما سائر الآيات التى من أجلها قيل { آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } ؟ قيل : منهن المقام ، ومنهن الحجر ، ومنهن الحطيم " .
وقال ابن عطية : والراجح عندى أن المقام وآمن الداخلين جعلا مثالا لما فى حرم الله من الآيات ، وخصا بالذكر لعظمهما وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم .
وأما الآية الثانية التى تدل على فضل هذا البيت وشرفه فقد بينها القرآن بقوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } .
أى من التجأ إليه أمن من التعرض له بالأذى أو القتل قال - تعالى - : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } وفي ذلك إجابة لسيدنا إبراهيم حيث قال - كما حكى القرآن عنه - : { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } ولا شك أن فى أمن من دخل هذا البيت أكبر آية على تعظيمه وعلى علو مكانته عند الله ؛ لأنه موضع أمان الناس فى بيئة تغرى بالاعتداء لخلوها من الزرع والنبات .
وفى الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن أبى شريح العدوى أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث لمكة - يعنى لقتال عبد الله بن الزبير - : ائذن لى أيها الأمير أن أحدثك قولا قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح ، - سمعته أذناى ووعاه قلبى ، وأبصرته عيناى - حين تكلم به - : إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها - أى أخذ فيه بالرخصة - فقولوا له : إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لى فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب .
فقيل لأبى شريح : ما قال لك عمرو ؟ فقال أبو شريح : قال لى يا أبا شريح أنا أعلم بذلك منك . إن الحرم لا يعيذ عاصيا - أى لا يجيره ولا يعصم دمه - ولا فاراً بدم - أى أن الحرم لا يجير إنساناً هارباً إليه لسبب من الأسباب الموجبة للتقل - ولا فاراً بخربة - أى بسبب سرقة أو خيانة .
ولقد كان أهل الجاهلية يعظمون المسجد الحرام - وخصوصا أهل مكة - فلما جاء الإسلام أقر له هذه الميزة وزكاها ، ووضع لها الضوابط والأحكام التى تضمن استعمالها فى الوجوه التى شرعها الله .
فقد اتفق الفقهاء على أن من جنى فى الحرم جناية فهو مأخوذ بجنايته سواء أكانت فى النفس أم فيما دونها .
واختلفوا فيمن جنى فى غير الحرم ثم لاذ إليه . فقال أبو حنيفة وابن حنبل : إذا قتل فى غير الحرم ثم دخل الحرم لا يقتص منه ما دام فيه ، ولكن لا يجالس ولا يعامل ولا يؤاكل غلى أن يخرج منه فيقتص منه . وإن كانت جنايته فيما دون النفس فى غير الحرم ثم دخل الحرم اقتص منه .
وقال مالك والشافعي يقتص منه فى الحرم لذلك كله كما يقتص منه فى الحل . ولكل فريق أدلته المبسوطة فى كتب الفقه .
ثم أخبر - سبحانه - عن وجوب الحج على كل قادر عليه فقال : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } .
أى أن الله - تعالى - فرض على الناس أن يحجوا بيته فى أوقات معينة وبكيفية مخصوصة متى كان فى استطاعتهم أداء هذه الفريضة .
{ وَمَن كَفَرَ } أى من جحد فرضية الحج وأنكرها ، ولم يؤدها مع استطاعته وقدرته على أدائها فإن الله غنى عنه وعن حجه وعن الناس جميعاً .
قال صاحب الكشاف : وفى هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد منها قوله : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } يعنى أنه حق واجب لله فى رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته . ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل منه من استطاع إليه سبيلا وفيه ضربان من التأكيد :
أحدهما : أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له .
والثاني : إن الإيضاح بعد الإيهام ، والتفصيل بعد الإجمال إيراد له فى صورتين مختلفتين . ومنها قوله : { وَمَن كَفَرَ } مكان ومن لم يحج تغليظا على تارك الحج ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يحج فليمت إن شاء الله يهودياً أو نصرانياً "
ومنها ذكر الاستغناء عنه ، لأن فيه الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ولأنه يدل على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط .
وقوله : { وَللَّهِ } خبر مقدم متعلق بمحذوف أى واجب . { عَلَى الناس } متعلق بهذا المحذوف . وقوله : { حِجُّ البيت } مبتدأ مؤخر .
والناس عام مخصوص بالمتسطيع ، وقد خصص ببدل البعض فى قوله : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } إذ هذه الجملة بدل من الناس بدل البعض من الكل . والضمير فى البدل مقدر أى من استطاع منهم إليه سبيلا .
و " من " فى قوله : { وَمَن كَفَرَ } يحتمل أن تكون شرطية وهو الظاهر ، وأن تكون موصولة ، وعلى الاحتمالين استغنى فيا بعد الفاء عن الرابط بإقامة الظاهر مقام المضمر إذ الأصل ومن كفر فغن الله غنى عنه فاستغنى بالظاهر عن المضمر .
قال ابن كثير : والجمهور يرى أن هذه الآية هى آية وجوب الحج . وقيل بل هى آية ( وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ ) والأول أظهر . وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقوائمه ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروياً وإنما يجب على المكلف فى العمرة مرة واحدة بالنص والإجماع فعن ابيى هريرة قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال : ذرونى ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، وإذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شىء فدعوه " .
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : " قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما السبيل يا رسول الله ، فقال : الزاد والراحلة " .
وبذلك تكون هاتان الآيتان والآيات التى قبلهما قد ردت على اليهود فى دعواهم أن ما حرمه الله عليهم من طيبات لم يكن عقوبة لهم بسبب ظلمهم وبغيهم ، وكذبتهم فى دعواهم أن بيت المقدس أفضل من المسجد الحرام .
وقد اشتمل هذا الرد على ما يثبت افتراءهم من واقع التاريخ ، فقد أمر الله - تعالى - النبى صلى الله عليه وسلم أن يطالبهم بإحضار التوراة إن كانوا صادقين فى دعواهم ، فبهوتوا وانقلبوا صاغرين ، واثبت القرآن أن البيت الحرام أول بيت وضع فى الأرض لعبادة الله ، فهو يسبق بيت المقدس فى أولوية الشرف والزمان . وإذن فجدال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم فى هذه الأمور ما هو إلا نوع من عنادهم وجحودهم للحق ، والمعاند والجاحد لا ينفع معهما دليل أو برهان .