غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

القراءات : { خليفة } وأشباهها بالإمالة عند الوقف : أبو عمرو وحمزة وعلي والأعشى والبرجمي إلا أن يكون قبلها من الحروف الموانع السبع وهي : الصاد والضاد والطاء والظاء والغين والخاء والقاف نحو : خاصة ، وفريضة ، وحطة ، وغلظة ، وصبغة ، وصاخة ، وشقة . وأما العين والحاء والراء فعلى الاختلاف عند أهل المدينة ، فأشدهم إمالة حمزة وعلي ، فأما أبو عمرو والأعشى والبرجمي فإنهم يميلون بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب { إني أعلم } بفتح الياء : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو .

الوقوف : { خليفة } ( ط ) بناء على أن عامل { إذ } محذوف أي اذكر . ومن جعل { قالوا } عامل { إذ } وصل . { الدماء } ( ج ) لأن انتهاء الاستفهام على قوله { ويسفك الدماء } يقتضي الفصل ، واحتمال الواو لمعنى الحال في قوله { ونحن نسبح بحمدك } يقتضي الوصل { ونقدس لك } ( ط ) { ما لا تعلمون } ( ه ) .

التفسير : هذا ابتداء الإخبار عن كيفية خلق آدم عليه السلام وعن كيفية تعظيمه إياه ، فينخرط في سلك ما تقدمه من النعم ، فإن النعمة على الآباء نعمة على الأبناء ، وإذ ههنا مجرد لمعنى الظرفية أي أذكر وقت قول ربك كقوله { واذكر أخا عاد إذ أنذر }

[ الأحقاف : 21 ] أي وقت إنذاره على أنه بدل من أخا عاد لأن الذكر في ذلك الوقت ممتنع . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل واحد من بني آدم ، ويجوز أن ينتصب ب { قالوا } فيكون للمجازاة . والملائكة جمع ملأك وأصله مألك بتقديم الهمزة من الألوكة هي الرسالة ، ثم قلبت وقدمت اللام فقيل : ملأك ، وجمع على فعائل مثل شمأل وشمائل ، ثم تركت همزة المفرد لكثرة الاستعمال وألقيت حركتها على اللام . وإلحاق التاء لتأنيث الجمع نحو حجارة وقد لا تلحق . واعلم أن الملك قبل النبي صلى الله عليه وسلم بالشرف والعلية وإن كان بعده في عقولنا وأذهاننا ، وقد جعله الله واسطة بينه وبين رسله في تبليغ الوحي والشريعة . وقدم ذكر الإيمان بالملائكة على ذكر الإيمان بالأنبياء { والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } [ البقرة : 285 ] ولا خلاف بين العقلاء في أن شرف العالم العلوي بالملائكة كما أن شرف العالم السفلي بوجود الأنبياء فيه . وللناس في حقيقة الملائكة مذاهب : منهم من زعم أنها أجسام لطيفة هوائية تقدر على التشكل بأشكال مختلفة مسكنها السماوات وهو قول أكثر المسلمين ، ومنهم عبدة الأوثان القائلون إن الملائكة هي هذه الكواكب الموصوفة بالإسعاد والإنحاس وأنها أحياء ناطقة ، فالمسعدات ملائكة الرحمة والمنحسات ملائكة العذاب . ومنهم معظم المجوس والثنوية القائلون بالنور والظلمة وإنهما عندهم جوهران حساسان مختاران قادران ، متضادا النفس والصورة ، مختلفا الفعل والتدبير . فجوهر النور فاضل خير نقي طيب الريح كريم النفس يسر ولا يضر وينفع ولا يمنع ويحيى ولا يبلى ، وجوهر الظلمة ضد ذلك ، فالنور يولد الأولياء وهم الملائكة لا على سبيل التناكح بل كتولد الحكمة من الحكيم والضوء من المضيء ، وجوهر الظلمة يولد الأعداء وهم الشياطين كتولد السفه من السفيه . ومنهم القائلون بأنها جواهر غير متحيزة ، ثم اختلفوا فقال بعضهم وهم طوائف من النصارى - إنها هي الأنفس الناطقة المفارقة لأبدانها ، فإن كانت صافية خيرة فالملائكة ، وإن كانت خبيثة كثيفة فالشياطين . وقال آخرون - وهم الفلاسفة - إنها مخالفة لنوع النفوس الناطقة البشرية ، وإنها أكمل قوة وأكثر علماً ، ونسبتها إلى النفوس البشرية كنسبة الشمس إلى الأضواء ، فمنها نفوس ناطقة فلكية ، ومنها عقول مجردة ومنهم من أثبت أنواعاً أخر من الملائكة وهي الأرضية المدبرة لأحوال العالم السفلي ، خيرها الملائكة وشريرها الشياطين ولكل من الفرق دلائل على ما ذهب إليه يطول ذكرها ههنا . وقد يستدل عليها أصحاب المجاهدات من جهة المكاشفة وأصحاب الحاجات والضرورات من جهة مشاهدة الآثار العجيبة والهداية إلى المعالجات النادرة الغريبة وتركيب المعجونات واستخراج صنعة الترياقات ، كما يحكى أنه كان لجالينوس وجع في الكبد فرأى في المنام كأن امرأ يأمره أن يفصد الشريان الذي على ظهر كفه اليمنى بين السبابة والإبهام ففعل فعوفي ، ومما يدل على ذلك حال الرؤيا الصادقة . ولا نزاع ألبتة بين الأنبياء عليهم السلام في إثبات الملائكة وذلك كالأمر المجمع عليه بينهم ، وأما شرح كثرتهم فقد قال صلى الله عليه وسلم " أطّت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع " وروي " إن بني آدم عشر الجن ، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر ، وهؤلاء كلهم عشر الطيور ، وهؤلاء عشر حيوانات البحر وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الدنيا ، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية ، وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ، ثم الكل في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل ، ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السرادق الواحد من سرادقات العرش التي عددها ستمائة ألف طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السماوات والأرض وما فيها ، فإنها كلها تكون شيئاً يسيراً وقدراً قليلاً ، وما مقدار موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم ، لهم زجل بالتسبيح والتقديس ، ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ولا يعرف عددهم إلا الله ، ثم مع هؤلاء ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل صلى الله عليه وسلم والملائكة الذين هم جنود جبريل وهم كلهم سامعون مطيعون لا يستكبرون عن عبادته ولا يسأمون " وأما أصنافهم فمنهم حملة العرش { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } [ الحاقة : 17 ] ومنهم أكابر الملائكة جبرائيل صاحب الوحي والعلم ، وميكائيل صاحب الرزق والغذاء ، وإسرافيل صاحب الصور ، وعزرائيل ملك الموت ، ومنهم ملائكة الجنة { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب } [ الرعد : 23 ] ومنهم ملائكة النار { عليها تسعة عشر } [ المدثر : 30 ] ومنهم لموكلون ببني آدم عن اليمين وعن الشمال قعيد . ومنهم الموكلون بأحوال هذا العالم { والصافات صفا } [ الصافات : 1 ] وأما أوصافهم فكما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : منهم سجود لا يركعون ، وركوع لا ينتصبون ، وصافون لا يتزايلون ، ومسبحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا فترة الأبدان ولا غفلة النسيان ، ومنهم أمناء على وحيه وألسنة إلى رسله ومختلفون بقضائه وأمره . منهم الحفظة لعباده والسدنة لأبواب جنانه ، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم ، والمارقة من السماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الأقطار ركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ، ناكسة دونه أبصارهم ، متلفعون بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة وأستار القدرة ، لا يتوهمون ربهم بالتصوير ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدونه بالأماكن ولا يشيرون إليه بالنظائر . ثم إنه روى الضحاك عن ابن عباس أنه سبحانه إنما قال هذا القول للملائكة الذين كانوا محاربين مع إبليس ، لأن الله تعالى لما أسكن الجن الأرض فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضاً ، بعث الله إبليس في جند من الملائكة فأخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائر البحر ، فقال تعالى لهم { إني جاعل في الأرض خليفة } وقال الأكثرون من الصحابة والتابعين : إنه تعالى قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص ، لأن لفظ الملائكة يفيد العموم والتخصيص خلاف الأصل . و{ جاعل } من جعل الذي له مفعولان ، معناه مصير في الأرض خليفة ، وإنما لم يقل إني خالق كما قال { إني خالق بشراً من طين } لأنه باعتبار الخلافة من عالم الأمر لا من عالم الخلق . والظاهر أن الأرض يراد بها ما بين الخافقين ، وقد يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأرض ههنا أرض مكة التي دحيت الأرض من تحتها . والخليفة من يخلف غيره ويقوم مقامه ، والخليفة اسم يصلح للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وجمعه خلائف مثل : كريمة وكرائم . وجاء خلفاء لأنهم جمعوه على إسقاط الهاء مثل : ظريف وظرفاء . والمراد به آدم صلى الله عليه وسلم إما لأنه صار خليفة لأولئك الجن الذين تقدموه ، ويروى ذلك عن ابن عباس ، وإما لأنه يخلف الله في الحكم بين خلقه كقوله { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق } [ ص : 26 ] وهو المروي عن ابن مسعود والسدي . وعن الحسن ، أن المراد بالخليفة أبناء آدم لأنه يخلف بعضهم بعضاً ويؤيده قوله { هو الذي جعلكم خلائف الأرض } [ فاطر : 39 ] وإنما وحد بتأويل من يخلف أو خلفاً يخلف ، وبالحقيقة الإنسان يخلف جميع المكونات من الروحانيات والجسمانيات والسماويات والأرضيات ، ولا يخلفه شيء منها إذ لم يجتمع في شيء منها ما اجتمع فيه . وليس للعالم مصباح يضيء بنار نور الله فيظهر أنوار صفاته خلافة عنه إلا مصباح الإنسان ، لأنه أعطى مصباح السر في زجاجة القلب ، والزجاجة في مشكاة الجسد ، وفي زجاجة القلب زيت الروح { يكاد زيتها يضيء } [ النور : 35 ] من صفاء العقل ولو لم تمسسه نار النور ، وفي مصباح السر فتيلة الخفاء ، فإذا استنار مصباحه بنار نور الله كان خليفة الله في أرضه ، فيظهر أنوار صفاته في هذا العالم بالعدل والإحسان والرأفة والرحمة واللطف والقهر ، ولا تظهر هذه الصفات لا على الحيوان ولا على الملك فاعلم . والفائدة في إخبار الملائكة بذلك ، إما تعليم العباد المشاورة في أمورهم وإن كان هو بحكمته البالغة غنياً عن ذلك ، وإما ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا . واعلم أن الجمهور من علماء الدين على أن الملائكة كلهم معصومون عن جميع الذنوب لقوله تعالى { يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } [ النحل : 50 ] فلا شيء من المأمورات بل ومن المنهيات - لأن المنهي مأمور بتركه - إلا ويدخل فيه بدليل صحة الاستثناء وأيضاً لقوله { بل عباد مكرمون . لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } [ الأنبياء : 26 ، 27 ] { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 20 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وطعن فيهم بعض الحشوية بأنهم قالوا أتجعل ، والاعتراض على الله من أعظم الذنوب . وأيضاً نسبوا بني آدم إلى القتل والفساد وهذا غيبة وهي من أعظم الكبائر . وأيضاً مدحوا أنفسهم بقولهم { ونحن نسبح بحمدك } وهو عجب . وأيضاً قولهم { لا علم لنا إلا ما علمتنا } اعتذار والعذر دليل الذنب . وأيضاً قوله تعالى { إن كنتم صادقين } دل على أنهم كانوا كاذبين فيما قالوه . وأيضاً قوله { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض } يدل على أنهم كانوا مرتابين في أنه تعالى عالم بكل المعلومات . وأيضاً علمهم بالإفساد وسفك الدماء إما بالوحي وهو بعيد وإلا لم يكن لإعادة الكلام فائدة ، وإما بالاستنباط والظن وهو منهي { ولا تقْفُ ما ليس لك به علم } [ الإسراء : 36 ] وأيضاً قصة هاروت وماروت وأن إبليس كان من الملائكة المقربين ثم عصى الله وكفر . والجواب عن اعتراضهم على الله أن غرضهم من ذلك السؤال لم يكن هو الإنكار ولا تنبيه الله على شيء لا يعلمه فإن هذا الاعتقاد كفر ، وإنما المقصود من ذلك أمور منها : أن الإنسان إذا كان قاطعاً بحكمة غيره ثم رآه يفعل فعلاً لا يهتدي ذلك الإنسان إلى وجه الحكمة فيه ، استفهم عن ذلك متعجباً . فكأنهم قالوا إعطاء هذه النعم العظام من يفسد ويسفك لا تفعله إلا لوجه دقيق وسر غامض فما أبلغ حكمتك ، ومنها أن إبداء الإشكال طلباً للجواب غير محذور ، فكأنه قيل : إلهنا أنت الحكيم الذي لا يفعل السفه ألبتة ، وتمكين السفيه من السفه قبيح من الحكيم ، فكيف يمكن الجمع بين الأمرين ؟ وهذا جواب المعتزلة ، واستدلوا به على أن الملائكة لم يجوزوا صدور القبيح من الله تعالى فكانوا على مذهب أهل العدل قالوا : ومما يؤكد ذلك أنهم أضافوا الفساد وسفك الدماء إلى المخلوقين لا إلى الخالق . وأيضاً قالوا { ونحن نسبح بحمدك } والتسبيح تنزيه ذاته عن صفة الأجسام { ونقدس لك } والتقديس تنزيه أفعاله عن صفة الذم ونعت السفه ، ومنها أن الخيرات في هذا العالم غالبة على شرورها ، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير . فالملائكة نظروا إلى الشرور فأجابهم الله تعالى بقوله { إني أعلم ما لا تعلمون } أي من الخيرات الكثيرة التي لا يتركها الحكيم لأجل الشر القليل وهذا جواب الحكيم . ومنها أن سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام الله تعالى ، فإن العبد المخلص لشدة حبه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه . ومنها أن قولهم { أتجعل } مسألة منهم أن يجعل الأرض أو بعضها لهم إن كان ذلك صلاحاً نحو قول موسى { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } [ الأعراف : 155 ] أي لا تهلك ، فقال تعالى { إني أعلم ما لا تعلمون } من صلاحكم وصلاح هؤلاء فبين أن الاختيار لهم السماء ولهؤلاء الأرض ، ليرضى كل فريق بما أختار الله له . ومنها أن هذا الاستفهام خارج مخرج الإيجاب كقول جرير : ألستم خير من ركب المطايا ؟ أي أنتم كذلك وإلا لم يكن مدحاً ، فكأنهم قالوا : إنك تفعل ذلك ونحن مع هذا نسبح بحمدك لأنا نعلم في الجملة أنك لا تفعل إلا الصواب والحكمة فقال تعالى { إني أعلم ما لا تعلمون } فأنتم علمتم ظاهرهم وهو الفساد والقتل ، وأنا أعلم ظاهرهم وما في باطنهم من الأسرار الخفية التي تقتضي إيجادهم . وفيه أن استحقاق تلك الخلافة ليس بكثرة الطاعة ولكنه بسابق العناية ، وأنه تعالى غني عن طاعة المطيعين كما أنه لا تضره معصية المذنبين .

والجواب عن الغيبة أن من أراد إيراد السؤال وجب أن يتعرض لمحل الإشكال ، فلذلك ذكروا الفساد والسفك لا للغيبة . وعن العجب أن مدح النفس غير ممنوع منه مطلقاً { وأما بنعمة ربك فحدث } [ الضحى : 11 ] فكأنهم قالوا ما سألناك للقدح في حكمتك يا رب فإنا نعترف لك بالإلهية والحكمة ، بل لطلب وجه الحكمة . وعن الاعتذار ، إنه لم يكن للذنب بل لأن ترك السؤال كان أولى . وروي عن الحسن وقتادة أن الله تعالى لما أخذ في خلق آدم همست الملائكة فيما بينهم وقالوا : ليخلق ربنا ما شاء أن يخلق ، فلن يخلق خلقاً إلا كنا خلقاً أعظم منه وأكرم عليه ، فلما خلق آدم عليه السلام وفضله عليهم وعلمه الأسماء كلها قال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين في أنه لا يخلق خلقاً إلا وأنتم أفضل منه ، ففزعوا إلى التوبة وقالوا { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } ثم إن العلماء ذكروا في إخبار الملائكة عن الفساد والسفك وجوهاً منها : أنهم قالوا ذلك ظناً إما لأنهم قاسوهم على حال الجن الذين كانوا قبل آدم عليه السلام في الأرض وهو مروي عن ابن عباس والكلبي ، وإما لأنهم عرفوا خلقته وعلموا أنه مركب من الأركان المتخالفة والأخلاط المتنافية الموجبة للشهوة التي منها الفساد وللغضب الذي منه سفك الدماء . ومنها أنهم قالوا ذلك عن اليقين ، ويروى عن ابن مسعود وناس من الصحابة ، وذلك أنه تعالى لما قال للملائكة : إني جاعل في الأرض خليفة ، قالوا : ربنا وما يكون الخليفة ؟ قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضاً . فعند ذلك قالوا : ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ أو أنه تعالى كان قد أعلم الملائكة أنه إذا كان في الأرض خلق عظيم أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، أو لأنه لما كتب القلم في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة فلعلهم طالعوا اللوح فعرفوا ذلك ، أو لأن معنى الخليفة إذا كان النائب لله في الحكم والقضاء والاحتياج إلى الحاكم إنما يكون عند التنازع والتظالم ، كان الإخبار عن وجود الخليفة إخباراً عن وقوع الفساد والشر بطريق الالتزام وقيل : لما خلق الله النار خافت الملائكة خوفاً شديداً فقالوا : لم خلقت هذه النار ؟ قال : لمن عصاني من خلقي . ولم يكن يومئذ لله خلق إلا الملائكة ، ولم يكن في الأرض خلق ألبتة . فلما قال : إني جاعل في الأرض خليفة ، عرفوا أن المعصية منهم تظهر . وأما قصة إبليس وهاروت وماروت فسيجيء الكلام فيها . واختلف الناس في أن الملائكة لهم قدرة على المعاصي والشرور أم لا . فالفلاسفة وكثير من أهل الجبر قالوا : إنهم خير محض ولا قدرة لهم على الشر . والمعتزلة أثبتوا لهم قدرة على الأمرين ، لأن قولهم { أتجعل } إما معصية أو ترك الأولى ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل ، وأيضاً قال تعالى { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم } [ الأنبياء : 29 ] وهذا يقتضي كونهم مزجورين . وقال { لا يستكبرون عن عبادته } [ الأنبياء : 19 ] والمدح بترك الاستكبار إنما يحسن لو كان قدراً على الاستكبار . ويمكن إلزامهم بأن الثواب عندهم واجب على الله فيمتنع عليه تركه مع أنه يستحق المدح على الثواب . والواو في { ونحن نسبح } للحال كقولك " أتحسن إلى فلان وأنا أحق بالإحسان " والتسبيح تبعيد الله من السوء وكذا التقديس ، من سبح في الماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها أو أبعد . والتبعيد عن السوء إما في الذات ويحصل بنفي الإمكان المستلزم لنفي الكثرة المستلزمة لنفي الجسمية والعرضية والضد والند ، وإما في الصفات بأن يكون مبرءاً عن العجز والجهل والتغيرات محيطاً بكل المعلومات قادراً على كل المقدورات ، وإما في الأفعال بأن لا تكون أفعاله لجلب المنافع ودفع المضار ، يقول الله تعالى : أنا المنزه عن النظير والشريك سبحانه هو الواحد القهار ، أنا المدبر للسماوات والأرض سبحان رب السماوات والأرض ، أنا المدبر لكل العالمين ، سبحان الله رب العالمين أنا المنزه عن قول الظالمين سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، أنا الغني عن الكل سبحانه هو الغني ، أنا السلطان الذي كل شيء سواي فهو تحت قهري وتسخيري فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ، أنا المنزه عن الصاحبة والولد سبحانه أنى يكون له ولد ، أنا الذي أخلق الولد من غير أب سبحانه { إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } [ آل عمران : 47 ] ، أنا الذي سخرت الأنعام القوية للبشر الضعيف { سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين } [ الزخرف : 13 ] أنا الذي أعلم لا بعلم المعلمين ولا بإرشاد المرشدين { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } [ البقرة : 32 ] أنا الذي أغفر معصية سبعين سنة بتوبة ساعة { فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس } [ طه : 130 ] فإن أردت رضوان الله فسبح { ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى } [ طه : 130 ] وإن أردت الخلاص من النار فسبح { سبحانك فقنا عذاب النار } [ آل عمران : 191 ] وإن أردت الفرج من البلاء فسبح { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] أيها العبد ، واظب على تسبيحي { وسبحوه بكرة وأصيلاً }

[ الأحزاب : 42 ] وإلا فالضرر يعود إليك { فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون } [ فصلت : 38 ] يسبح لي الحجر والمجر والرمال والجبال والشجر والدواب والليل والنهار والظلمات والأنوار والجنة والنار والزمان والمكان والعناصر والأركان والأرواح والأجسام { سبح لله ما في السماوات والأرض } [ الحديد : 1 ] { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [ الإسراء : 44 ] أيها العبد ، أنا الغني عن تسبيح هذه الأشياء ، وهذه الأشياء ليست من الأحياء فلا حاجة بها إلى ثواب هذا التسبيح ، ولا أضيع ثواب هذه التسبيحات ، فإن ذلك لا يليق بي

{ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً } [ ص : 27 ] لكني أوصل ثواب هذه الأشياء إليك لتعرف أن من اجتهد في خدمتي أجعل كل العالم في خدمته " وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء " أيها العبد أذكرني بالعبودية لتنتفع به لا أنا { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } [ الصافات : 180 ] فإنك إذا ذكرتني في الخلوات ذكرتك في الفلوات { والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً } [ الأحزاب : 35 ] أقرضني وإن كنت أنا الغني حتى أرد الواحد عليك عشرة { إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم } [ التغابن : 17 ] لا حاجة لي إلى العسكر { ولو يشاء الله لانتصر منهم } [ محمد : 4 ] ولكن إذا نصرتني نصرتك { إن تنصروا الله ينصركم } [ محمد : 7 ] اخدمني { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] لا لأني أحتاج إلى خدمتك فإني أنا الملك { ولله ملك السماوات والأرض } [ آل عمران : 189 ] ولكن أصرف في خدمتي عمراً قصيراً لتنال ملكاً كبيراً وخيراً كثيراً { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم } [ التوبة : 72 ] .

قوله { بحمدك } في موضع الحال أي نسبحك ملتبسين بحمدك ، فإنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق لم نتمكن من ذلك . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكلام أفضل ؟ فقال : ما اصطفاه الله لملائكته : سبحان الله وبحمده . ويروى أن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت ، وأهل السماء الثانية قيام إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت ، وأهل السماء الثالثة ركوع إلى يوم القيامة يقولون : سبحان الحي الذي لا ينام ولا يموت . وعن ابن عباس وابن مسعود : نسبح أي نصلي ، والتسبيح الصلاة . وعن مجاهد : نقدس لك نطهر أنفسنا من ذنوبنا وخطايانا ابتغاء لمرضاتك . وقيل : ظهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك حتى تصير مستغرقة في أنوار معرفتك { إني أعلم ما لا تعلمون } معناه لا تعجبوا ولا تغتموا بأن فيهم من يفسد ويسفك فإني أعلم أن فيهم من لو أقسم على الله لأبرَّه ، وأعلم أن معكم إبليس وفي قلبه من الحسد والكبر والنفاق ما فيه ، أو أنكم لما وصفتم أنفسكم بهذه المدائح فأنتم في تسبيح أنفسكم لا في تسبيحي . اصبروا حتى أخلق البشر فيكون فيهم من يعبدونني ثم يخشونني ، يودون حق العبادات ثم لا يتكلمون على تلك الطاعات { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } [ الأنفال : 2 ] { والذين هم من خشية ربهم مشفقون } [ المؤمنون : 57 ] { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } [ الشعراء : 82 ] { وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } [ النمل : 19 ] أو أعلم من المصالح في ذلك ما هو خفي عليكم ، ولكم في هذا الإجمال ما يغنيكم عن التفصيل ، فإن أفعالي كلها حكمة ومصلحة ، وإن خفي عليكم وجه كل واحد واحد على أنه قد بين لهم بعض ذلك في قوله : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .