تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان  
{الٓرۚ كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم مكية ، عدد آياتها اثنتان وخمسون آية ، وموضوع السورة الأساسي كبقية السور المكية هو العقيدة في أصولها الكبيرة : الوحي والرسالة والتوحيد والبعث والجزاء ، ولها نهج خاص في عرض هذا الموضوع ، وحقائقه الأصلية ، يميزها عن غيرها من السور .

ولجوّ هذه السورة من اسمها نصيب ، إبراهيم ، أبو الأنبياء ، المبارك الشاكر الأواه المنيب ، وهذه الصفات ملحوظة في جو السورة ، وفي الحقائق التي تبرزها ، وفي طريقة الأداء ، وفي التعبير والإيقاع .

وتتضمن السورة عدة حقائق رئيسة في العقيدة ، ولكن حقيقتين كبيرتين تخيمان على جوّها ، وهما حقيقة وحدة الرسالة والرسل ، ووحدة دعوتهم ، ووقفتهم أمة واحدة في مواجهة الجاهلية المكذبة بدين الله ، على اختلاف الأمكنة والأزمنة ، وحقيقة نعمة الله على البشر وزيادتها بالشكر ، ومقابلة أكثر الناس لها بالجحود والكفران .

فأما الحقيقة الأولى فيبرزها السياق في معرض فريد في طريقة الأداء ، إذ تجمع الأنبياء كلهم في صف ، وتجمع الجاهليين كلهم في وصف ، وتجري المعركة بينهم في الأرض ، ثم لا تنتهي هنا بل تتابع خطواتها في يوم الحساب .

ونبصر مشهد أمة الرسل ، وأمة الجاهلية ، في صعيد واحد ، على تباعد الزمان والمكان . فالزمان والمكان عرضان زائلان ، أما الحقيقة الكبرى في هذا الكون ، حقيقة الإيمان والكفر ، فهي أكبر من الزمان والمكان ، ويلخص ذلك قوله تعالى : { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود إلى قوله تعالى . . . . ومن ورائه عذاب غليظ } . الآيات من 9- 17 .

فهنا تتجمع الأجيال من لدن نوح وتتجمع الرسل ، ويتلاشى الزمان والمكان ، وتبرز الحقيقة الكبرى : حقيقة الرسالة الواحدة ، واعتراضات الجاهلين الواحدة ، وحقيقة نصر الله للمؤمنين وهي واحدة ، وحقيقة استخلاف الله للصالحين وهي واحدة أيضا .

ولا تنتهي المعركة بين الكفر والإيمان هنا بل يتابع السياق خطواته بها إلى ساحة الآخرة ، فتبرز معالمها في مشاهد القيامة المتنوعة التي تتضمنها السورة .

وأما الحقيقة الثانية المتعلقة بالنعمة والشكر والبطر فتطبع جوّ السورة كله ، وتتناثر في سياقه . إذ يعدد الله بنعمه على البشر كافة ، مؤمنهم وكافرهم ، صالحهم وطالحهم ، طائعهم وعاصيهم ، وإنها لرحمة من الله وسماحة وفضل أن يتيح للكافر والعاصي نعمه في هذه الأرض ، كالمؤمن والطائع ، لعلهم يشكرون . وهو يعرض هذه النعمة في أضخم مجالي الكون وأبرزها ، ويضعها داخل إطار من مشاهد الوجود العظيمة . وفي إرسال الرسل للناس نعمة تعدل النعم السابقة أو تربو عليها ، والدعوة لأجل الغفران نعمة تعدل النور . وهنا تبرز حقيقة زيادة النعمة بالشكر .

وتنقسم السورة إلى مقطعين حلقاتهما متماسكة :

الأول : يتضمن بيان حقيقة الرسالة والرسول ، ويصور المعركة بين أمة الرسل وفرقة المكذبين في الدنيا والآخرة ، ويعقّب عليها بمثل الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة .

الثاني : يتحدث عن نعم الله على البشر ، سواء الذين كفروا بهذه النعم وبطروا ، أو الذين آمنوا وشكروا . ونموذج هؤلاء الأول هو إبراهيم . ثم يعمد إلى تصوير مصير الظالمين الكافرين بنعمة الله في سلسلة من أعنف مشاهد القيامة وأجلّها ، وأحفلها بالحركة والحياة . وأخيرا يختم السورة ختاما يتسق مع مطلعها : { هذا بلاغ للناس لينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد ، وليذّكر أولوا الألباب } :

{ في ظلال القرآن } بتصرف .

وإبراهيم هو خليل الله بن تارح بن ناحور من نسل نوح عليه السلام ، وهو من بلد اسمها " فدان آرام " بالعراق . كان قومه أهل أوثان ، وكان أبوه نجّارا ينحت الأصنام ويبيعها ممن يعبدها ، ولكن الله أنار بصيرة إبراهيم وهداه إلى الرشد ، فعلم أن الأصنام لا تضر ولا تنفع ، ولا تسمع ولا تبصر ، وحاول أن يهدي أباه وقومه فلم يستطع ، لعنادهم وإصرارهم على الكفر . وقد جفاه قومه وألقوه في النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما . وهدده أبوه أن يرجمه إذا استمر على جحد الأصنام فلم يأبه لذلك . وقد استمر يدعو قومه إلى الهدى ، لكنه لم يؤمن منهم سوى زوجته سارة ولوط ابن أخيه .

ولما يئس من قومه هاجر إلى أور الكلدانيين ، وهي مدينة قرب الشاطئ الغربي للفرات ، ثم إلى حرّان ، وهي الآن في تركية ، وبعد ذلك إلى فلسطين ومعه زوجته سارة وابن أخيه لوط وزوجته . وفي القدس استقبله ملك القدس من الكنعانيين واسمه ملكي صادق ، فدعا لإبراهيم بالبركة فأعطاه إبراهيم جزية العشر من كل ما يملك .

وقد جاء ذكره في القرآن الكريم في خمس وعشرين سورة ذكر فيها ثلاثا وستين مرة ، تارة باختصار ، وتارة بتطويل ، وتارة بذكر شأن من شؤونه في سورة ، ثم شأن آخر في سورة أخرى ، وسيمر معنا ذلك التفسير .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } .

ألف . لام . را . لقد أنزلنا إليك يا محمد ، هذا الكتاب المؤلف من جنس هذه الأحرف لتخرجَ به البشريةَ من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم ، وذلك بإذن الله وتوفيقه ولطفه بهم ، وتقودهم إلى الطريق إلى الله .