قوله تعالى : " أم حسب الذين اجترحوا السيئات " أي اكتسبوها . والاجتراح : الاكتساب ، ومنه الجوارح ، وقد تقدم في " المائدة " {[13787]} . " أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات " قال الكلبي : " الذين اجترحوا " عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة . و " الذين آمنوا " علي وحمزة وعبيدة بن الحارث - رضي الله عنهم - حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم . وقيل : نزلت في قوم من المشركين قالوا : إنهم يعطون في الآخرة خيرا مما يعطاه المؤمن ، كما أخبر الرب عنهم في قوله : " ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى " {[13788]} [ فصلت : 50 ] . وقوله : " أم حسب " استفهام معطوف معناه الإنكار . وأهل العربية يجوزون ذلك من غير عطف إذا كان متوسطا للخطاب . وقوم يقولون : فيه إضمار ، أي والله ولي المتقين أفيعلم المشركون ذلك أم حسبوا أنا نسوي بينهم . وقيل : هي أم المنقطعة ، ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان . وقراءة العامة " سواء " بالرفع على أنه خبر ابتداء مقدم ، أي محياهم ومماتهم سواء . والضمير في " محياهم ومماتهم " يعود على الكفار ، أي محياهم محيا سوء ومماتهم كذلك . وقرأ حمزة والكسائي والأعمش بالنصب ، واختاره أبو عبيد قال : معناه نجعلهم سواء . وقرأ الأعمش أيضا وعيسى بن عمر " ومماتهم " بالنصب ، على معنى سواء في محياهم ومماتهم ، فلما أسقط الخافض انتصب . ويجوز أن يكون بدلا من الهاء والميم في نجعلهم . المعنى : أن نجعل محياهم ومماتهم سواء كمحيا الذين آمنوا ومماتهم . ويجوز أن يكون الضمير في " محياهم ومماتهم " للكفار والمؤمنين جميعا . قال مجاهد : المؤمن يموت مؤمنا ويبعث مؤمنا ، والكافر يموت كافرا ويبعث كافرا . وذكر ابن المبارك أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحا عن مسروق قال : قال رجل من أهل مكة : هذا مقام تميم الداري ، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله ويركع ويسجد ويبكي " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات " الآية كلها . وقال بشير : بت عند الربيع بن خيثم ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية فمكث ليله حتى أصبح لم يعْدُهَا ببكاء شديد . وقال إبراهيم بن الأشعث : كثيرا ما رأيت الفضيل بن عياض يردد من أول الليل إلى آخره هذه الآية ونظيرها ، ثم يقول : ليت ، شعري ! من أي الفريقين أنت ؟ وكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين ؛ لأنها محكمة .
قوله تعالى : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون 21 وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون 22 أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون } .
{ أم } هي المنقطعة بمعنى بل ، والهمزة لإنكار الحسبان . و { اجترحوا } بمعنى اكتسبوا ، من الاجتراح وهو الاكتساب {[4186]} .
والمعنى : أم يظن هؤلاء المشركون الذين كذبوا نبيهم ، واتخذوا من دون الله اندادا ، واكتسبوا الآثام والمعاصي في هذه الدنيا – أن نجعلهم في الآخرة كالمؤمنين المتقين . أو أن نسوّي بين الظالمين الفجار ، والمتقين الأبرار فيكونوا في الآخرة سواء .
قوله : { سوآء محياهم ومماتهم } { سوآء } بالنصب ، على الحال من ضمير { نجعلهم } أي نجعلهم سواء . و { محياهم ومماتهم } مرفوع على الفاعلية ، وتقرأ ( سواء ) بالرفع ، على أنها خبر مقدم ، و { محياهم } مبتدأ مؤخر ، { ومماتهم } معطوف عليه{[4187]} .
وقد نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم ، وفي ثلاثة من المشركين هم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة قالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء ، ولو كان ما تقولون حقا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة ، كما أننا أفضل حالا منكم في الدنيا . فأنكر الله عليهم هذا الكلام وبين أنه لا يستوي حال المؤمن المطيع وحال المشرك العاصي عند الله في الآخرة . فالمشركون فاسقون ضالون ، ظالمون لأنفسهم ، فهم صائرون إلى النار ، أما المؤمنون فهم مصدقون بالنبيين ، موقنون بيوم القيامة ، مذعنون لله بالطاعة والامتثال ، فإنما يجزون الجنة ورضوان ربهم . واختلفوا في المراد بقوله : { محياهم ومماتهم } فقال ابن عباس : يعني أحسبوا أن حياتهم ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم ، كلا فإنهم يعيشون كافرين ، ويموتون كافرين . والمؤمنون يعيشون مؤمنين ، ويموتون مؤمنين ، ذلك لأن المؤمن ما دام في الدنيا فإنه يكون وليه هو الله ، وأنصاره المؤمنون . أما الكافر فهو خلاف ذلك . وعند الدنوّ من الموت فحال المؤمن كما ذكره الله { الذين تتوافهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة } أما حال الكافر فهو ما ذكره الله في قوله : { الذين تتوافهم الملائكة ظالمي أنفسهم } أما في الآخرة فقال الله في التمييز بين الصنفين { وجوه يومئذ مسفرة 38 ضاحكة مستبشرة 39 ووجوه يومئذ عليها غبرة 40 ترهقها قترة } وذلك يشير إلى التفاوت بين المؤمنين السعداء ، والظالمين الأشقياء . وقيل : المراد إنكار التسوية بين الفريقين في الممات كما استووا في الحياة ، وذلك لأن المؤمن والكافر قد يستوي محياهم في الصحة والرزق والكفاية بل ربما يكون الكافر أرجح حالا من المؤمن ، وإنما يظهر الفرق بينهما في الممات .
قوله : { سآء ما يحكمون } إن جعلت { ما } ، معرفة فهي في موضع رفع ، فاعل { سآء } وإن جعلت نكرة كانت في موضع نصب على التمييز{[4188]} وذلك إنكار من الله لهذه التسوية المزعومة ، أي بئس الحكم الذي ظنوا أنا نجعل الذين اكتسبوا السيئات والمؤمنين الذين عملوا الصالحات ، سواء محياهم ومماتهم ، أو ساء حكمهم الذي حكموا به . فأنّى للفريقين المتضادين المختلفين أن يستويا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.