الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا ذَلُولٞ تُثِيرُ ٱلۡأَرۡضَ وَلَا تَسۡقِي ٱلۡحَرۡثَ مُسَلَّمَةٞ لَّا شِيَةَ فِيهَاۚ قَالُواْ ٱلۡـَٰٔنَ جِئۡتَ بِٱلۡحَقِّۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفۡعَلُونَ} (71)

قوله تعالى : " قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول " قرأ الجمهور " لا ذلول " بالرفع على ، الصفة لبقرة . قال الأخفش : " لا ذلول " نعته ولا يجوز نصبه . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي " لا ذلول " بالنصب على النفي والخبر مضمر . ويجوز لا هي ذلول ، لا هي تسقى الحرث ، هي مسلمة . ومعنى " لا ذلول " لم يذللها العمل ، يقال : بقرة مذللة بينة الذل ( بكسر الذال ) . ورجل ذليل بين الذل ( بضم الذال ) . أي هي بقرة صعبة غير ريضة لم تذلل بالعمل .

قوله تعالى : " تثير الأرض ولا تسقي الحرث " " تثير " في موضع رفع على الصفة للبقرة أي هي بقرة لا ذلول مثيرة . قال الحسن : وكانت تلك البقرة وحشية ، ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث ، أي لا يسنى بها لسقي الزرع ولا يسقى عليها . والوقف ههنا حسن . وقال قوم : " تثير " فعل مستأنف ، والمعنى إيجاب الحرث لها وأنها كانت تحرث ولا تسقي . والوقف على هذا التأويل " لا ذلول " والقول الأول أصح لوجهين : أحدهما : ما ذكره النحاس ، عن علي بن سليمان أنه قال : لا يجوز أن يكون " تثير " مستأنفا ، لأن بعده " ولا تسقي الحرث " ، فلو كان مستأنفا لما جمع بين الواو و " لا " . الثاني أنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة قد ذللتها ، والله تعالى قد نفى عنها الذل بقوله : " لا ذلول " قلت : ويحتمل أن تكون " تثير الأرض " في غير العمل مرحا ونشاطا ، كما قال امرؤ القيس :

يُهِيلُ ويُذري تُربه ويُثيره *** إثارةَ نبَّاث{[867]} الهواجر مُخْمِسِ

فعلى هذا يكون " تثير " مستأنفا ، " ولا تسقي " معطوف عليه ، فتأمله . وإثارة الأرض : تحريكها وبحثها ، ومنه الحديث : ( أثيروا القرآن فإنه{[868]} علم الأولين والآخرين ) وفي رواية أخرى : ( من أراد العلم فليثور القرآن ) وقد تقدم{[869]} . وفي التنزيل : " وأثاروا الأرض " [ الروم : 9 ] أي قلبوها للزراعة . والحرث : ما حرث وزرع . وسيأتي .

مسألة : في هذه الآية أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته ، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السلم فيه . وبه قال مالك وأصحابه والأوزاعي والليث والشافعي . وكذلك كل ما يضبط بالصفة ، لوصف الله تعالى في كتابه وصفا يقوم مقام التعيين ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تصف المرأة المرأةَ لزوجها حتى كأنه ينظر إليها ) . أخرجه مسلم . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصفة تقوم مقام الرؤية ، وجعل صلى الله عليه وسلم دية الخطأ في ذمة من أوجبها عليه دينا إلى أجل ولم يجعلها على الحلول . وهو يرد قول الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح حيث قالوا : لا يجوز السلم في الحيوان . وروي عن ابن مسعود وحذيفة وعبد الرحمن بن سمرة ؛ لأن الحيوان لا يوقف على حقيقة صفته من مشي وحركة ، وكل ذلك يزيد في ثمنه ويرفع من قيمته . وسيأتي حكم السلم وشروطه في آخر السورة في آية الدين{[870]} ، إن شاء الله تعالى .

قوله تعالى : " مسلمة " أي هي مسلمة . ويجوز أن يكون وصفا ، أي أنها بقرة مسلمة من العرج وسائر العيوب ، قاله قتادة وأبو العالية . ولا يقال : مسلمة من العمل لنفي الله العمل عنها . وقال الحسن : يعني سليمة القوائم لا أثر فيها للعمل .

قوله تعالى : " لا شية فيها " أي ليس فيها لون يخالف معظم لونها ، هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد ، كما قال : " فاقع لونها " . وأصل " شية " وشي حذفت الواو كما حذفت من يشي ، والأصل يوشي ، ونظيره الزنة والعدة والصلة . والشية مأخوذة من وشي الثوب إذا نسج على لونين مختلفين . وثور موشى : في وجهه وقوائمه سواد . قال ابن عرفة : الشية اللون . ولا يقال لمن نم : واش ، حتى يغير الكلام ويلونه فجعله ضروبا ويزين منه ما شاء . والوشي : الكثرة . ووشى بنو فلان : كثروا . ويقال : فرس أبلق ، وكبش أخرج ، وتيس أبرق ، وغراب أبقع ، وثور أشيه كل ذلك بمعنى البُلْقَة ، هكذا نص أهل اللغة .

وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم ، ودين الله يسر ، والتعمق في سؤال الأنبياء وغيرهم من العلماء مذموم ، نسأل الله العافية . وروي في قصص هذه البقرة روايات تلخيصها : أن رجلا من بني إسرائيل ولد له ابن ، وكانت له عجلة فأرسلها في غيضة وقال : اللهم إني أستودعك هذه العجلة لهذا الصبي . ومات الرجل ، فلما كبر الصبي قالت له أمه وكان برّاً بها : إن أباك استودع الله عجلة لك فاذهب فخذها ، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها وكانت مستوحشة فجعل يقودها نحو أمه ، فلقيه بنو إسرائيل ووجدوا بقرة على الصفة التي أمروا بها ، فساموه فاشتط عليهم . وكان قيمتها على ما روي عن عكرمة ثلاثة دنانير ، فأتوا به موسى عليه السلام وقالوا : إن هذا اشتط علينا ، فقال لهم : أرضوه في ملكه ، فاشتروها منه بوزنها مرة ، قاله عبيدة . السدي : بوزنها عشر مرات . وقيل : بملء مَسكها دنانير . وذكر مكي : أن هذه البقرة نزلت من السماء ولم تكن من بقر الأرض فالله أعلم .

قوله تعالى : " قالوا الآن جئت بالحق " أي بينت الحق ، قاله قتادة . وحكى الأخفش : " قالوا الآن " قطع ألف الوصل ، كما يقال : يا الله . وحكى وجها آخر " قالوا لان " بإثبات الواو . نظيره قراءة أهل المدينة وأبي عمرو " عادا لولى " وقرأ الكوفيون " قالوا الآن " بالهمز . وقراءة أهل المدينة " قال لان " بتخفيف الهمز مع حذف الواو لالتقاء الساكنين . قال الزجاج : " الآن " مبني على الفتح لمخالفته سائر ما فيه الألف واللام ، لأن الألف واللام دخلتا لغير عهد ، تقول : أنت إلى الآن هنا ، فالمعنى إلى هذا الوقت . فبنيت كما بني هذا ، وفتحت النون لالتقاء الساكنين . وهو عبارة عما بين الماضي والمستقبل .

قوله تعالى : " فذبحوها وما كادوا يفعلون " أجاز سيبويه : كاد أن يفعل ، تشبيها بعسى . وقد تقدم أول السورة{[871]} . وهذا إخبار عن تثبيطهم في ذبحها وقلة مبادرتهم إلى أمر الله . وقال القرظي محمد بن كعب : لغلاء ثمنها . وقيل : خوفا من الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم . قاله وهب بن منبه .


[867]:قوله "نبات الهواجر" يعني الرجل الذي اشتد عليه الحر مال التراب ليصل إلى أثره. والمحمر: صاحب الإبل التي ترد خمسا.
[868]:في نهاية ابن الأثير: "فإن فيه".
[869]:راجع ص 446.
[870]:راجع ج 3 ص 377 فما بعد.
[871]:راجع ص 222 من هذا الجزء.