سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة
هذه السورة حلقة في سلسلة التربية الإيمانية والتنظيم الاجتماعي والدولة في المجتمع المدني . حلقة من تلك السلسلة الطويلة ، أو من ذلك المنهج الإلهي المختار للجماعة المسلمة المختارة ، التي ناط بها الله تحقيق منهجه الذي يريده للحياة الإنسانية ، في صورة واقعية عملية ، كيما يستقر في الأرض نظاما ذا معالم وحدود وشخصية مميزة ؛ تبلغ إليه البشرية أحيانا ، وتقصر عنه أحيانا ، ولكنها تبقى معلقة دائما بمحاولة بلوغه ؛ وتبقى أمامها صورة واقعية منه ، تحققت يوما في هذه الأرض .
وقد اقتضى هذا - كما قلنا في أول هذا الجزء - إعدادا طويلا في خطوات ومراحل . وكانت الأحداث التي تقع في محيط هذه الجماعة ، أو تتعلق بها ، مادة من مواد هذا الإعداد . مادة مقدرة في علم الله ، تقوم عليها مادة أخرى هي التفسير والتوضيح والتعقيب والتوجيه .
وفي مضطرب الأحداث ، وفي تيار الحياة المتدفق ، تمت عملية بناء النفوس المختارة لتحقيق ذلك المنهج الإلهي في الأرض . فلم تكن هناك عزلة إلا العزلة بالتصور الإيماني الجديد ، وعدم خلطه بأية رقع غريبة عنه في أثناء التكوين النفسي لهذه الجماعة . وكانت التربية المستمرة متجهة دائما إلى إنشاء هذا التصور الإيمانيالخاص المميز ، المنعزل بحقيقته وطبيعته عن التصورات السائدة في العالم كله يومذاك ، وفي الجزيرة العربية بصفة خاصة . أما الناس الذين ينشأ هذا التصور المتميز في نفوسهم فلم يكونوا بمعزل عن واقع الحياة ومضطرب الأحداث ، بل كانوا يصهرون في بوتقة الحوادث يوما بعد يوم ، ومرة بعد مرة ، ويعاد صهرهم في الأمر الواحد والخلق الواحد مرات كثيرة ، وتحت مؤثرات متنوعة ؛ لأن الله الذي خلق هذه النفوس يعلم أنها ليست كلها مما يتأثر ويستجيب ويتكيف ويستقر على ما تكيف به منذ اللمسة الأولى . وكان يعلم أن رواسب الماضي ، وجواذب الميول الطبيعية ، والضعف البشري ، وملامسات الواقع ، وتحكم الإلف والعادة ، كلها قد تكون معوقات قوية تغلب عوامل التربية والتوجيه مرة بعد مرة . وتحتاج في مقاومتها إلى التذكير المتكرر ، والصهر المتوالي . . فكانت الأحداث تتوالى كما هي منسوقة في قدر الله ، وتتوالى الموعظة بها . والتحذير على ضوئها ، والتوجيه بهديها ، مرة بعد مرة .
وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقوم في يقظة دائمة وإلهام بصير ، بالتقاط الأحداث والوقائع والمناسبات في كل فرصة ، واستخدامها بحكمة بالغة في بناء هذه النفوس . والوحي والإلهام يؤيدانه ويسددانه [ صلى الله عليه وسلم ] حتى تصنع تلك الجماعة المختارة على عين الله . بتوفيق الله . على يدي رسول الله .
هذه السورة حلقة في سلسلة ذلك الإعداد الطويل ، تستهدف - مع غيرها مما جاء في مثل موضوعها - إقامة عالم رباني خالص في ضمير المسلم . عالم محوره الإيمان بالله وحده ، يشد المسلمين إلى هذا المحور وحده ، بعروة واحدة لا انفصام لها ؛ ويبرئ نفوسهم من كل عصبية أخرى . عصبية للقوم أو للجنس أو للأرض أو للعشيرة أو للقرابة . ليجعل في مكانها جميعا عقدة واحدة . هي عقدة الإيمان بالله . والوقوف تحت راية الله . في حزب الله .
إن العالم الذي يريده الإسلام عالم رباني إنساني . رباني بمعنى أنه يستمد كل مقوماته من توجيه الله وحكمه ، ويتجه إلى الله بكل شعوره وعمله . وإنساني بمعنى أنه يشمل الجنس الإنساني كله - في رحاب العقيدة - وتذوب فيه فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب . وسائر ما يميز إنسانا عن إنسان ، عدا عقيدة الإيمان . وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على الله ، المتضمن كيانه نفحة من روح الله .
ودون إقامة هذا العالم تقف عقبات كثيرة - كانت في البيئة العربية وما تزال في العالم كله إلى اليوم - عقبات من التعصب للبيت ، والتعصب للعشيرة ، والتعصب للقوم ، والتعصب للجنس ، والتعصب للأرض . كما تقف عقبات أخرى من رغائب النفوس وأهواء القلوب ، من الحرص والشح وحب الخير للذات ، ومن الكبرياء الذاتية والالتواءات النفسية . . وألوان غيرها كثير من ذوات الصدور !
وكان على الإسلام أن يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج الله في الأرض في صورة عملية واقعة . وكانت هذه الصورة حلقة في سلسلة هذا العلاج الطويل .
وكان بعض المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم في سبيل عقيدتهم ، ما تزال نفوسهم مشدودة إلى بعض من خلفوا هنالك من ذرية وأزواج وذوي قربى . وعلى الرغم من كل ما ذاقوا من العنت والأذى في قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل مكة المحاسنة والمودة ؛ وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم ، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات !
وكان الله يريد استصفاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج ، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه . وهو - سبحانه - يعلم ثقل الضغط الواقع عليها من الميول الطبيعية ورواسب الجاهلية جميعا - وكان العرب بطبيعتهم أشد الناس احتفالا بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت - فكان يأخذهم يوما بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ ، بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث ، ليكون العلاج على مسرح الحوادث وليكون الطرق والحديد ساخن !
وتذكر الروايات حادثا معينا نزل فيه صدر هذه السورة . وقد تكون هذه الروايات صحيحة في سبب النزول المباشر . ولكن مدى النصوص القرآنية دائما أبعد من الحوادث المباشرة .
وقد قيل في هذا الحادث : إن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من المهاجرين . وكان من أهل بدر أيضا . وكان له بمكة أولاد ومال ، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفا لعثمان . فلما عزم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على فتح مكة لما نقض أهلها عهد الحديبية أمر المسلمين بالتجهيز لغزوهم ، وقال : " اللهم عم عليهم خبرنا " . . وأخبر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] جماعة من أصحابه بوجهته ، كان منهم حاطب . فعمد حاطب فكتب كتابا وبعثه مع امرأة مشركة - قيل من مزينة - جاءت المدينة تسترفد - إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على غزوهم ، ليتخذ بذلك عندهم يدا . فأطلع الله - تعالى - رسوله على ذلك استجابة لدعائه . وإمضاء لقدره في فتح مكة . فبعث في أثر المرأة ، فأخذ الكتاب منها .
وقد روى البخاري في المغازي ، ورواه مسلم في صحيحه من حديث حصين بن عبدالرحمن ، عن سعد ابن عبيدة عن أبي عبدالرحمن السلمي ، عن علي - رضي الله عنه - قال : " بعثني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأبا مرثد والزبير بن العوام - وكلنا فارس - وقال : " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين " . فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلنا : الكتاب ? فقالت ما معي كتاب . فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا . فقلنا : ما كذب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لتخرجن الكتاب أو لنجردنك . فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها ، وهي محتجزة بكساء ، فأخرجته . فانطلقنا به إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال عمر : يا رسول الله . قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضربن عنقه . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " ما حملك على ما صنعت ? " قال حاطب : والله ما بي إلا أن أكون مؤمنا بالله ورسوله [ صلى الله عليه وسلم ] أردت أن تكون لي عند القوم يد . يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله . فقال : " صدق لا تقولوا إلا خيرا " . فقال عمر : إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه . فقال : " أليس من أهل بدر ? - فقال - : لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو - قد غفرت لكم " فدمعت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم . . وزاد البخاري في كتاب المغازي : فأنزل الله السورة : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) . . وفي رواية أخرى أن الذين أرسلوا كانوا هم علي والزبير والمقداد .
ولوقوف قليلا أمام هذا الحادث وما دار بشأنه لا يخرج بنا عن " ظلال القرآن " والتربية به وبالأحداث والتوجيهات والتعقيبات عن طريق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] القائد المربي العظيم . .
وأول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب ، وهو المسلم المهاجر ، وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على سر الحملة . . وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة ، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها ؛ وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها .
ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وهو لا يعجل حتى يسأل : " ما حملك على ما صنعت " في سعة صدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه ، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق ، ومن ثم يكف الصحابة عنه : " صدق لا تقولوا إلا خيرا " . . ليعينه وينهضه من عثرته ، فلا يطارده بها ولا يدع أحدا يطارده . بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر : " إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين . فدعني فلأضرب عنقه " . . فعمر - رضي الله عنه - إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم . أما رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها ، ومن كل جوانبها ، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية . في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف . .
ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب ، وهو في لحظة ضعفه ، ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح . . ذلك حين يقول : " أردت أن تكون لي عند القوم يد . . يدفع الله بها عن أهلي ومالي " . . فالله هو الذي يدفع ، وهذه اليد لا تدفع بنفسها ، إنما يدفع الله بها . ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول : " وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع . . الله . . به عن أهله وماله " فهو الله حاضر في تصوره ، وهو الذي يدفع لا العشيرة . إنما العشيرة أداة يدفع الله بها . .
ولعل حس رسول الله الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل ، فكان هذا من أسباب قوله [ صلى الله عليه وسلم ] : " صدق . لا تقولوا إلا خيرا " . .
وأخيرا يقف الإنسان أمام تقدير الله في الحادث ؛ وهو أن يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بسر الحملة . وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة . ثم يجري قدر الله بكف ضرر هذه اللحظة عن المسلمين . كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها ! ثم لا يكون من الآخرين الذين لم يعهد إليهم بالسر اعتراض على ما وقع ، ولا تنفج بالقول : ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه ، ولو أودعناه نحن ما بحنا به ! فلم يرد من هذا شيء . مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم ، وتواضعهم في الظن بأنفسهم ، واعتبارهم بما حدث لأخيهم . . .
والحادث متواتر الرواية . أما نزول هذه الآيات فيه فهو أحد روايات البخاري . ولا نستبعد صحة هذه الرواية ؛ ولكن مضمون النص القرآني - كما قلنا - أبعد مدى ، وأدل على أنه كان يعالج حالة نفسية أوسع من حادث حاطب الذي تواترت به الروايات ، بمناسبة وقوع هذا الحادث ، على طريقة القرآن .
كان يعالج مشكلة الأواصر القريبة ، والعصبيات الصغيرة ، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ليخرج بها من هذا الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني .
وكان ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة ، وقيما جديدة ، وموازين جديدة ، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان ، ووظيفة المؤمنين في الأرض ، وغاية الوجود الإنساني .
وكان كأنما يجمع هذه النبتات الصغيرة الجديدة في كنف الله ؛ ليعلمهم الله ويبصرهم بحقيقة وجودهم وغايته ، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد ، وليشعرهم أنهم رجاله وحزبه ، وأنه يريد بهم أمرا ، ويحقق بهم قدرا . ومن ثم فهم يوسمون بسمته ويحملون شارته ، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعا . في الدنيا والآخرة . وإذن فليكونوا خالصين له ، منقطعين لولايته ، متجردين من كل وشيجة غير وشيجته . في عالم الشعور وعالم السلوك .
والسورة كلها في هذا الاتجاه . حتى الآيات التشريعية التنظيمية الواردة في آخرها عن معاملة المهاجرات المؤمنات ، ومبايعة من يدخلن في الإسلام ، والفصل بين المؤمنات وأزواجهن من الكفار . وبين المؤمنين وزوجاتهم من الكوافر . . فكلها تنظيمات منبثقة من ذلك التوجيه العام .
ثم ختام السورة كما بدأت بالنهي عن موالاة أعداء الله ، ممن غضب عليهم الله ، سواء من المشركين أو من اليهود . ليتم التمييز والانفراد والمفاصلة من جميع الوشائج والروابط غير رابطة العقيدة وغير وشيجة الإيمان . .
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ، وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، يخرجون الرسول وإياكم ، أن تؤمنوا بالله ربكم . إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ؛ ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل . إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ، ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ، وودوا لو تكفرون ) . .
تبدأ السورة بذلك النداء الودود الموحي : يا أيها الذين آمنوا . . نداء من ربهم الذي آمنوا به ، يدعوهم باسم الإيمان الذي ينسبهم إليه . يدعوهم ليبصرهم بحقائق موقفهم ، ويحذرهم حبائل أعدائهم ، ويذكرهم بالمهمة الملقاة على عاتقهم .
وفي مودة يجعل عدوهم عدوه ، وعدوه عدوهم :
( لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) . .
فيشعر المؤمنين بأنهم منه وإليه . يعاديهم من يعاديه . فهم رجاله المنتسبون إليه الذين يحملون شارته في هذه الأرض ، وهم أوداؤه وأحباؤه . فلا يجوز أن يلقوا بالمودة إلى أعدائهم وأعدائه .
ويذكرهم بجريرة هؤلاء الأعداء عليهم وعلى دينهم وعلى رسولهم ، وعدوانهم على هذا كله في تجن وظلم :
( وقد كفروا بما جاءكم من الحق . يخرجون الرسول وإياكم . أن تؤمنوا بالله ربكم ) . .
فماذا أبقوا بعد هذه الجرائر الظالمة للموالاة والمودة ? كفروا بالحق . وأخرجوا الرسول والمؤمنين ، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله ربهم ? إنه يهيج في قلوب المؤمنين هذه الذكريات المرتبطة بعقيدتهم . وهي التي حاربهم المشركون من أجلها ، لا من أجل أي سبب آخر . ويبرز القضية التي عليها الخلاف والخصومة والحرب . فهي قضية العقيدة دون سواها . قضية الحق الذي كفروا به والرسول الذي أخرجوه ، والإيمان الذي من أجله أخرجوهم .
وإذا تمحضت القضية هكذا وبرزت ، ذكرهم بأنه لا محل إذن للمودة بينهم وبين المشركين إن كانوا قد خرجوا من ديارهم ابتغاء رضوان الله وجهادا في سبيله :
( إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وإبتغاء مرضاتي . . )
فما يجتمع في قلب واحد أن يهاجر جهادا في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله ، مع مودة لمن أخرجه من أجل إيمانه بالله ، وهو عدو الله وعدو رسول الله !
ثم يحذرهم تحذيرا خفيا مما تكن قلوبهم ، وما يسرون به إلى أعدائهم وأعداء الله من المودة ، وهو مطلع على خفية القلوب وعلانيتها : ( تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ) .
ثم يهددهم تهديدا مخيفا ، يثير في القلب المؤمن الوجل والمخافة :
( ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ) . .
وهل يخيف المؤمن شيء ما يخيفه أن يضل سواء السبيل بعد الهداية والوصول ? !
وهذا التهديد وذلك التحذير يتوسطان تبصير المؤمنين بحقيقة أعدائهم وما يضمرون لهم من الشر والكيد . ثم تجيء البقية :
عرفت هذه السورة في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف ب( سورة الممتحنة ) . قال القرطبي : والمشهور على الألسنة النطق في كلمة { الممتحنة } بكسر الحاء وهو الذي جزم به السهيلي .
ووجه التسمية أنها جاءت فيها آية امتحان إيمان النساء اللاتي يأتين من مكة مهاجرات إلى المدينة وهي آية { يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } إلى قوله { بعصم الكوافر } . فوصف الناس تلك الآية بالممتحنة لأنها شرعت الامتحان . وأضيفت السورة إلى تلك الآية .
وقال السهيلي : أسند الامتحان إلى السورة مجازا كما قيل لسورة براءة الفاضحة . يعني أن ذلك الوصف مجاز عقلي .
وروي بفتح الحاء على اسم المفعول قال ابن حجر : وهو المشهور أي المرأة الممتحنة على أن التعريف تعريف العهد والمعهود أول امرأة امتحنت في إيمانها ، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط امرأة عبد الرحمان بن عوف . كما سميت سورة قد سمع الله ( سورة المجادلة ) بكسر الدال .
ولك أن تجعل التعريف تعريف الجنس ، أي النساء الممتحنة .
قال في الإتقان : وتسمى { سورة الامتحان } ، { وسورة المودة } ، وعزا ذلك إلى كتاب جمال القراء لعلي السخاوي ولم يذكر سنده .
واتفق أهل العدد على عد آيها ثلاث عشرة آية . وآياتها طوال .
واتفقوا على أن الآية الأولى نزلت في شأن كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين من أهل مكة .
روى البخاري من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار يبلغ به إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قصة كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ثم قال : قال عمرو بن دينار : نزلت فيه { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } قال سفيان : هذا في حديث الناس لا أدري في الحديث أو قول عمرو . حفظته من عمرو وما تركت منه حرفا اه .
وفي صحيح مسلم وليس في حديث أبي بكر وزهير من الخمسة الذين روى عنهم مسلم يروون عن سفيان بن عيينة ذكر الآية . وجعلها إسحاق أي بن إبراهيم أحد من روى عنهم مسلم هذا الحديث في روايته من تلاوة سفيان اه . ولم يتعرض مسلم لرواية عمرو الناقد وابن أبي عمر عن سفيان فلعلهما لم يذكرا شيئا في ذلك .
واختلفوا في آن كتابة إليهم أكان عند تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للحديبية وهو قول قتادة ودرج عليه ابن عطية وهو مقتضى رواية الحارث عن علي بن أبي طالب عند الطبري ، قال : لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي مكة أفشى في الناس أنه يريد خيبر وأسر إلى ناس من أصحابه منهم حاطب بن أبي بلتعة أنه يريد مكة . فكتب حاطب إلى أهل مكة . . . إلى آخره ، فإن قوله : أفشى ، أنه يريد خيبر يدل على أن إرادته مكة إنما هي إرادة عمر الحديبية لا غزو مكة لأن خيبر فتحت قبل فتح مكة . ويؤيد هذا ما رواه الطبري أن المرأة التي أرسل معها حاطب كتابه كان مجيئها المدينة بعد غزوة بدر بسنتين : وقال ابن عطية : نزلت هذه السورة سنة ست .
وقال جماعة : كان كتاب حاطب إلى أهل مكة عند تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة ، وهو ظاهر صنيع جمهور أهل السير وصنيع البخاري في كتاب المغازي من صحيحه في ترتيبه للغزوات ، ودرج عليه معظم المفسرين .
ومعظم الروايات ليس فيها تعيين ما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم من تجهزه إلى مكة أهو لأجل العمرة أم لأجل الفتح فإن كان الأصح الأول وهو الذي نختاره كانت السورة جميعها نازلة في مدة متقاربة فإن امتحان أم كلثوم بنت عقبة كان عقب صلح الحديبية . ويكون نزول السورة مرتبا على ترتيب آياتها وهو الأصل في السور .
وعلى القول الثاني يكون صدور السورة نازلا بعد آيات الامتحان وما بعدها حتى قال بعضهم : إن أول السورة نزل بمكة بعد الفتح ، وهذا قول غريب لا ينبغي التعويل عليه .
وهذه السورة قد عدت الثانية والتسعين في تعداد نزول السور . عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة العقود وقبل سورة النساء .
اشتملت من الأغراض على تحذير المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياء مع أنهم كفروا بالدين الحق وأخروجهم من بلادهم .
وإعلامهم بأن اتخاذهم أولياء ضلال وأنهم لو تمكنوا من المؤمنين لأساؤوا إليهم بالفعل والقول ، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصر القرابة لا يعتد به تجاه العداوة في الدين ، وضرب لهم مثلا في ذلك قطيعة إبراهيم لأبيه وقومه .
وأردف ذلك باستئناس المؤمنين برجاء أن تحصل مودة بينهم وبين الذين أمرهم الله بمعاداتهم أي هذه معاداة غير دائمة .
وأردف بالرخصة في حسن معاملة الكفرة الذين لم يقاتلوا المسلمين قتال عداوة في دين ولا أخرجوهم من ديارهم . وهذه الأحكام إلى نهاية الآية التاسعة .
وحكم المؤمنات اللاء يأتين مهاجرات واختبار صدق إيمانهن وأن يحفظن من الرجوع إلى دار الشرك ويعوض أزواجهن المشركون ما أعطوهن من المهور ويقع التراد كذلك مع المشركين .
ومبايعة المؤمنات المهاجرات ليعرف التزامهن لأحكام الشريعة الإسلامية . وهي الآية الثانية عشرة .
وتحريم تزوج المسلمين المشركات وهذا في الآيتين العاشرة والحادية عشرة .
والنهي عن موالاة اليهود وأنهم أشبهوا المشركين وهي الآية الثالثة عشرة .
{ يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي } .
اتفق المفسرون وثبت في « صحيح الأحاديث » أن هذه الآية نزلت في قضية الكتاب الذي كتب به حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العُزّى من قريش . وكان حاطب من المهاجرين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل بدر .
وحاصل القصة مأخوذة مما في « صحيح الآثار » ومشهور السيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد تجهّز قاصداً مكة . قيل لأجل العمرة عام الحديبية ، وهو الأصح ، وقيل لأجل فتح مكة وهو لا يستقيم ، فقدمتْ أيامئذٍ من مكة إلى المدينة امرأة تسمّى سارة مولاةٌ لأبي عَمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف وكانت على دين الشرك فقَالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة وقد ذهب الموالي ( تعني من قُتل من مواليها يوم بدر ) . وقد اشتدت بي الحاجة فقدمتُ عليكم لتعطوني وتكسوني فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب على إعطائها ، فكسوها وأعطوها وحملوها ، وجاءها حاطب بن أبي بلتعة فأعطاها كتاباً لتبلغه إلى من كتب إليهم من أهل مكة يخبرهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج إليهم ، وآجرها على إبلاغه فخرجت ، وأوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فبعث عليّاً والزبير والمقدادَ وأبا مرثد الغَنوي ، وكانوا فرساناً . وقال : انطلقوا حتى تأتوا رَوضة خَاخخٍ ، فإنّ بها ظعينة ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها وخلّوا سبيلها . فخرجوا تتعادى بهم خيلهم حتى بلغوا روضة خاخ فإذا هم بالمرأة . فقالوا : أخرجي الكتاب ، فقالت : ما معي كتاب ، فقالوا : لتخرجنَّ الكتاب أو لَنُلْقِيّنَ الثّياب ( يعنون أنهم يجردونها ) فأخرجته من عقاصها ، وفي رواية من حُجْزتها .
فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا حاطب ما هذا ؟ قال : لا تعجل عليَّ يا رسول الله . فإني كنت امرأ ملصقاً في قريش وكان لمن كان معك من المهاجرين قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يداً يحمُون بها قرابتي ( يريد أمه وإخوته ) ، ولم أفعله كُفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضىً بالكفر بعد الإِسلام . فقال النبي صلى الله عليه وسلم صَدقَ . فقال عمر : دعني يا رسول الله أضربْ عنق هذا المنافق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنه قد شهد بدراً وما يُدريك لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " وقال : لا تقولوا لحاطب إلاّ خيراً فأنزل الله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } الآيات .
والظاهر أن المرأة جاءت متجسسة إذ ورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمِّن يوم الفتح أربعةً منهم هذه المرأة لكن هذا يعارضه ما جاء في رواية القصة من قول النبي صلى الله عليه وسلم " خذوا منها الكتاب وخَلُّوا سبيلها " .
وقد وجه الخطاب بالنهي إلى جميع المؤمنين تحذيراً من إتيان مثل فعل حاطب .
والعدوّ : ذو العداوة ، وهو فعول بمعنى فاعل من : عدا يعدو ، مثل عفوّ . وأصله مصدر على وزن فعول مثل قَبول ونحوه من مصادر قليلة . ولكونه على زنة المصادر عومل معاملة المصدر فاستوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والمثنى والجمع . قال تعالى : { فإنهم عدو لي } [ الشعراء : 77 ] ، وتقدم عند قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم } في سورة [ النساء : 92 ] .
والمعنى : لا تتخذوا أعدائي وأعداءكم أولياء . والمراد العداوة في الدين فإن المؤمنين لم يبدأوهم بالعداوة وإنما أبدى المشركون عداوة المؤمنين انتصاراً لشركهم فعدُّوا من خرجوا عن الشرك أعداء لهم . وقد كان مشركو العرب متفاوتين في مناواة المسلمين فإن خزاعة كانوا مشركين وكانوا موالين النبي . فمعنى إضافة عدوّ إلى ياء التكلم على تقدير : عدوّ ديني ، أو رسولي .
والاتخاذ : افتعال من الأخذ صيغ الافتعال للمبالغة في الأخذ المجازي فأطلق على التلبس والملازمة . وقد تقدم في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا خذوا حذركم } في سورة [ النساء : 71 ] . ولذلك لزمه ذكر حال بعد مفعوله لتدل على تعيين جانب المعاملة من خير أو شر . فعومل هذا الفعل معاملة صيَّر . واعتبرت الحال التي بعده بمنزلة المفعول الثاني للزوم ذكرها وهل المفعول الثاني من باب ظن وأخواته إلا حال في المعنى ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { أتتخذ أصناماً إلهة } في سورة [ الأنعام : 74 ] .
وجملة { تلقون إليهم بالمودة } في موضع الحال من ضمير { لا تتخذوا } ، أو في موضع الصفة ل { أولياء } أو بيان لمعنى اتخاذهم أولياء .
ويجوز أن تكون جملة في موضع الحال من ضمير { لا تتخذوا } لأن جعلها حالاً يتوصل منه إلى التعجيب من إلقائهم إليهم بالمودة .
والإِلقاء حقيقته رمي ما في اليد على الأرض . واستعير لإيقاع الشيء بدون تدبر في موقعه ، أي تصرفون إليهم مودتكم بغير تأمل . قال تعالى : { فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون } في سورة [ النحل : 86 ] .
والباء في { بالمودة } لتأكيد اتصال الفعل بمفعوله . وأصل الكلام : تلقون إليهم المودة ، كقوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [ البقرة : 195 ] وقوله : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] وذلك تصوير لقوة مودتهم لهم .
وزيد في تصوير هذه الحالة بجملة الحال التي بعدها وهي { وقد كفروا بما جاءكم من الحق } وهي حال من ضمير { إليهم } أو من { عدوي } .
« وما جاءكم من الحق » هو القرآن والدين فذكر بطريق الموصولية ليشمل كل ما أتاهم به الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الإِيجاز مع ما في الصلة من الإِيذان بتشنيع كفرهم بأنه كفر بما ليس من شأنه أن يكفر به طلاب الهدي فإن الحق محبوب مرغوب .
وتعدية جاء إلى ضمير المخاطبين وهم الذين آمنوا لأنهم الذين انتفعوا بذلك الحق وتقبلوه فكأنه جاء إليهم لا إلى غيرهم وإلاّ فإنه جاء لدعوة الذين آمنوا والمشركين فقبله الذين آمنوا ونبذه المشركون .
وفيه إيماء إلى أن كفر الكافرين به ناشىء عن حسدهم الذين آمنوا قبلهم .
وفي ذلك أيضاً إلهاب لقلوب المؤمنين ليحذروا من موالاة المشركين .
وجملة { يخرجون الرسول وإياكم } حال من ضمير { كفروا } ، أي لم يكتفوا بكفرهم بما جاء من الحق فتلبسوا معه بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم وإخراجكم من بلدكم لأنْ تؤمنوا بالله ربكم ، أي هو اعتداء حملهم عليه أنكم آمنتم بالله ربكم . وأن ذلك لا عذر لهم فيه لأن إيمانكم لا يضيرهم . ولذلك أجري على اسم الجلالة وصف ربِّكم على حدّ قوله تعالى : { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد } [ الكافرون : 1 3 ] ثم قال : { لكم دينكم ولي دين } [ الكافرون : 6 ] .
وحكيت هذه الحالة بصيغة المضارع لتصوير الحالة لأن الجملة لما وقعت حالاً من ضمير { وقد كفروا } كان إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في تلك الحالة عملاً فظيعاً ، فأريد استحضار صورة ذلك الإِخراج العظيم فظاعة اعتلالهم له .
والإِخراج أريد به : الحمل على الخروج بإتيان أسباب الخروج من تضييق على المسلمين وأذى لهم .
وأسند الإِخراج إلى ضمير العدوّ كلهم لأن جميعهم كانوا راضين بما يصدر من بعضهم من أذى المسلمين . وربما أغْرَوا به سفهاءهم ، ولذلك فالإِخراج مجاز في أسبابه ، وإسناده إلى المشركين إسناد حقيقي .
وهذه الصفات بمجموعها لا تنطبق إلا على المشركين من أهل مكة ومجموعها هو علة النهي عن موادتهم .
وجيء بصيغة المضارع في قوله تعالى : { أن تؤمنوا } ، لإِفادة استمرار إيمان المؤمنين وفيه إيماء إلى الثناء على المؤمنين بثباتهم على دينهم ، وأنهم لم يصدهم عنه ما سبَّب لهم الخروج من بلادهم .
وقوله : { إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي } شرط ذُيّل به النهي من قوله : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } . وهذا مقام يستعمل في مثله الشرطُ بمنزلة التتميم لما قبله دون قصد تعليق ما قبله بمضمون فعل الشرط ، أي لا يقصد أنه إذا انتفى فعل الشرط انتفى ما عُلق عَليه كما هو الشأن في الشروط بل يقصد تأكيد الكلام الذي قبله بمضمون فعل الشرط فيكون كالتعليل لِما قبله ، وإنما يؤتى به في صورة الشرط مع ثقة المتكلم بحصول مضمون فعل الشرط بحيث لا يُتوقع من السامع أن يحصل منه غيرُ مضمون فعل الشرط فتكون صيغة الشرط مراداً بها التحذير بطريق المجاز المرسل في المركَّب لأن معنى الشرط يلزمه التردد غالباً . ولهذا يؤتى بمثل هذا الشرط إذا كان المتكلم واثقاً بحصول مضمونه متحققاً صحة ما يقوله قبل الشرط .
كما ذكر في « الكشاف » في قوله تعالى : { إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا إن كنا أول المؤمنين } في سورة [ الشعراء : 51 ] ، في قراءة من قرأ إن كنا أول المؤمنين بكسر همزة ( إنْ ) وهي قراءة شاذة فتكون ( إن ) شرطية مع أنهم متحققون أنهم أول المؤمنين فطمعوا في مغفرة خطاياهم لتحققهم أنهم أول المؤمنين ، فيكون الشرط في مثله بمنزلة التعليل وتكون أداة الشرط مثل ( إذْ ) أو لام التعليل .
وقد يَأتِي بمثل هذا الشرط مَن يُظهر وجوب العمل على مقتضى ما حصل من فعل الشرط وأن لا يخالَف مقتضاه كقوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } [ الأنفال : 41 ] إلى قوله : { إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا } [ الأنفال : 41 ] ، أي فإيمانكم ويقينكم مما أنزلنا يوجبان أن ترضوا بصرف الغنيمة للأصناف المعيّنة من عند الله . ومنه كثير في القرآن إذا تتبعتَ مواقعه .
ويغلب أن يكون فعل الشرط في مثله فعل كون إيذاناً بأن الشرط محقق الحصول .
وما وقع في هذه السورة من هذا القبيل فالمقصود استقرار النهي عن اتخاذ عدوّ الله أولياء وعقب بفرض شرطه موثوق بأن الذين نهوا متلبسون بمضمون فعل الشرط بلا ريب ، فكان ذكر الشرط مما يزيد تأكيد الانكفاف .
ولذلك يجَاء بمثل هذا الشرط في آخر الكلام إذ هو يشبه التتميم والتذييل ، وهذا من دقائق الاستعمال في الكلام البليغ .
قال في « الكشاف » في قوله تعالى : { إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها } في سورة [ الفرقان : 42 ] و ( لولا ) في مثل هذا الكلام جارٍ من حيث المعنى لا من حيث الصنعة مَجرى التقييد للحكم المطلق . وقال هنا { إن كنتم خرجتم } متعلق ب { لا تتخذوا } وقول النحويين في مثله على أنه شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه . اه . يعني أن فرقاً بين كلام النحويين وبين ما اختاره هُو مِنْ جَعْله متعلقاً ب { لا تتخذوا } فإنه جعل جواب الشرط غير منوي . قلت : فينبغي أن يعد كلامه من فروق استعمال الشروط مثل فروق الخبر وفروق الحال المبوب لكليهما في كتاب « دلائل الإِعجاز » . وكلام النحاة جرى على غالب أحوال الشروط التي تتأخر عن جوابها نحو : اقبَل شفاعة فلان إنْ شَفِع عندك ، وينبغي أن يتطلب لتقديم ما يدل على الجواب المحذوف إذَا حذف نكتة في غير ما جرى على استعمال الشرط بمنزلة التذييل والتتميم .
وأداة الشرط في مثله تشبه { إنْ } الوصلية و ( لو ) الوصلية ، ولذلك قال في « الكشاف » هنا : إن جملة { إن كنتم خرجتم } متعلقة ب { لا تتخذوا } يعني تعلقَ الحال بعاملها ، أي والحال حالُ خروجكم في سبيل الله وابتغائكم مَرضاتَه بناء على أن شرط { إن } . و ( لو ) الوصليّتين يعتبر حالاً . ولا يعكر عليه أن شرطهما يقترن بواو الحال لأن ابن جنّي والزمخشري سوّغا خلوَّ الحال في مثله عن الواو والاستعمال يشهد لهما .
والمعنى : لا يقع منكم اتخاذ عدوي وعدوكم أولياء ومودّتهم ، مع أنهم كفروا بما جاءكم من الحق ، وأخرجوكم لأجل إيمانكم . إن كنتم خرجتم من بلادكم جهاداً في سبيلي وابتغاءَ مرضاتي ، فكيف تُوالون من أخرجوكم وكان إخراجهم إياكم لأجلي وأنا ربكم .
والمراد بالخروج في قوله : { إن كنتم خرجتم } الخروج من مكة مهاجَرة إلى المدينة . فالخطاب خاص بالمهاجرين على طريقة تخصيص العموم في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } روعي في هذا التخصيص قرينة سبب نزول الآية على حادث حاطب بن أبي بلتعة .
و { جهاداً } ، و { ابتغاءَ مرضاتي } مصدران منصوبان على المفعول لأجله .
{ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أعلنتم } .
يجوز أن تكون الجملة بياناً لجملة { تلقون إليهم بالمودة } ، أو بدل اشتمال منها فإن الإسرار إليهم بالمودة مما اشتمل عليه الإِلقاء إليهم بالمودة . والخبر مستعمل في التوبيخ والتعجيب ، فالتوبيخ مستفاد من إيقاع الخبر عقب النهي المتقدم ، والتعجيب مستفاد من تعقيبه بجملة { وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } ، أي كيف تظنون أن إسراركم إليهم يخفى علينا ولا نطلع عليه رسولنا .
والإِسرار : التحدث والإِخبار سراً .
ومفعول { تسرون } يجوز أن يكون محذوفاً يدل عليه السياق ، أي تخبرونهم أحوال المسلمين سراً .
وجيء بصيغة المضارع لتصوير حالة الإِسرار إليه تفظيعاً لها .
والباء في { بالمودة } للسببية ، أي تخبرونهم سراً بسبب المودة أي بسبب طلب المودة لهم كما هو في قضية كتاب حاطب .
ويجوز أن يكون { بالمودة } في محل المفعول لفعل { تسرون } والباءُ زائدةً لتأكيد المفعولية كالباء في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] .
وجملةُ { وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } في موضع الحال من ضمير { تسرون } أو مُعترضةٌ ، والواو اعتراضية .
وهذا مناط التعجيب من فعل المعرَّض به وهو حَاطب بن أبي بلتعة . وتقديم الإِخفاء لأنه المناسب لقوله : { وأنا أعلم } . ولموافقته للقصة .
و { أعلم } اسم تفضيل والمفضل عليه معلوم من قوله : { تسرون إليهم } فالتقدير : أعلم منهم ومنكم بما أخفيتم وما أعلنتم .
والباء متعلقة باسم التفضيل وهي بمعنى المصاحبة .
{ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } .
عطف على جملة النهي في قوله تعالى : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } ، عُطف على النهي التوعدُ على عدم الانتهاء بأن من لم ينته عما نُهي عنه هو ضالّ عن الهُدَى .
وضمير الغيبة في { يفعله } عائد إلى الاتخاذ المفهوم من فعل { لا تتخذوا عدوي } أي ومن يفعل ذلك بعد هذا النهي والتحذير فهو قد ضلّ عن سواء السبيل .
و { سواء السبيل } مستعار لأعمال الصلاح والهُدَى لشبهها بالطريق المستوي الذي يَبلُغ من سلكه إلى بغيته ويقع من انحرف عنه في هلكة . والمراد به هنا ضلّ عن الإِسلام وضلّ عن الرشد .
و { مَن } شرطية الفعل بعدها مستقبل وهو وعيد للذين يفعلون مثل ما فعل حاطب بعد أن بلغهم النهي والتحذير والتوبيخ والتفظيع لعمله .