تقدم إعراب نظير هذه الآية وقراءتها في قوله تعالى آنفاً : { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم } [ آل عمران : 66 ] والضمير في { تحبونهم } لمنافقي اليهود الذين تقدم ذكرهم في قوله : { بطانة من دونكم } [ آل عمران : 118 ] والضمير في هذه الآية اسم للجنس ، أي تؤمنون بجميع الكتب وهم لا يؤمنون بقرآنكم ، وإنما وقف الله تعالى المؤمنين بهذه الآية على هذه الأحوال الموجبة لبغض المؤمنين لمنافقي اليهود واطراحهم إياهم ، فمن تلك الأحوال أنهم لا يحبون المؤمنين وأنهم يكفرون بكتابهم وأنهم ينافقون عليهم ويستخفون بهم ويغتاظون ويتربصون الدوائر عليهم ، وقوله تعالى : { عضوا عليكم الأنامل } عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه ومنه قول أبي طالب{[3459]} : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يعضُّون غَيْظاً خَلْفَنَا بِالأَنَامِلِ
ومنه قول الآخر : [ الفرزدق ] :
وَقَدْ شَهِدَتْ قَيْسٌ فَمَا كَانَ نَصْرُهَا . . . قُتَيْبَةَ إلاَّ عَضَّها بِالأَباهِمِ{[3460]}
وهذا العض هو بالأسنان ، وهي هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة النفس الغائظة ، كما أن عض اليد على اليد يتبع هيئة النفس النادمة فقط ، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم ونحوه ، ويكتب هذا العض بالضاد ، ويكتب عظ الزمان بالظاء المشالة وواحد «الأنامل » أنملة بضم الميم ، ويقال بفتحها والضم أشهر ، ولا نظير لهذا الاسم في بنائه إلا أشد ، له نظائر في الجموع ، وقوله { وتؤمنون بالكتاب كله } يقتضي أن الآية في منافقي اليهود لا في منافقي العرب ، ويعترضها أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون في الباطن ، كما كان المنافقون من العرب يفعلون ، إلا ما روي من أمر زيد بن الصيت القينقاعي{[3461]} فلم يبق إلا أن قولهم : { آمنا } معناه : صدقنا أنه نبي مبعوث إليكم ، أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وإخوانكم ولا نضمر لكم إلا المودة ، ولهذا كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة ، وهذا منزع قد حفظ أن كثيراً من اليهود كان يذهب إليه ، ويدل على هذا التأويل أن المعادل لقولهم { آمنا } ، «عض الأنامل من الغيظ » ، وليس هو ما يقتضي الارتداد كما هو في قوله تعالى : { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم }{[3462]} بل هو ما يقتضي البغض وعدم المودة ، وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال : هم الإباضية{[3463]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الصفة قد تترتب في أهل بدع من الناس إلى يوم القيامة ، وقوله تعالى : { قل موتوا بغيظكم } ، قال فيه الطبري وكثير من المفسرين : هو دعاء عليهم .
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا يتجه أن يدعى عليهم بهذا مواجهة وغير مواجهة ، قال قوم : بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمته أن يواجهوهم بهذا .
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا زال معنى الدعاء وبقي معنى التقريع والإغاظة ، ويجري المعنى مع قول مسافر بن أبي عمرو :
وننمي في أرومتنا *** ونفقأ عين من حسدا{[3464]}
وينظر إلى هذا المعنى في قوله ، { موتوا بغيظكم } قوله تعالى : { فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع }{[3465]} ، وقوله : { إن الله عليم بذات الصدور } وعيد يواجهون به على هذا التأويل الأخير في { موتوا بغيظكم } و «ذات الصدور » : ما تنطوي عليه ، والإشارة هنا إلى المعتقدات ومن هذا قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : إنما هو ذو بطن بنت خارجة{[3466]} ، ومنه قولهم : الذيب مغبوط بذي بطنه{[3467]} ، وال «ذات » : لفظ مشترك في معان لا يدخل منها في هذه الآية إلا ما ذكرناه .
{ ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم }
استئناف ابتدائي ، قصد منه المقابلة بين خُلق الفريقين ، فالمؤمنون يحبّون أهل الكتاب ، وأهل الكتاب يبغضونهم ، وكلّ إناء بما فيه يرشح ، والشأن أنّ المحبَّة تجلب المحبَّة إلاّ إذا اختلفت المقاصد والأخلاق .
وتركيب ها أنتم أولاء ونظائره مثل هأنا تقدم في قوله تعالى في سورة [ البقرة : 85 ] : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } ولمّا كان التعجيب في الآية من مجموع الحالين قيل : { ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم } فالعَجب من محبّة المؤمنين إيّاهم في حال بغضهم المؤمنين ، ولا يذكر بعد اسم الإشارة جملة في هذا التركيب إلاّ والقصد التعجّب من مضمون تلك الجملة .
وجملة { ولا يحبونكم } جملة حال من الضمير المرفوع في قوله : { تحبونهم } لأنّ محلّ التّعجيب هو مجموع الحالين .
وليس في هذا التعجيب شيء من التغليط ، ولكنَّه مجرد إيقاظ ، ولذلك عقّبه بقوله : { وتؤمنون بالكتاب كله } فإنَّه كالعذر للمؤمنين في استبطانهم أهل الكتاب بعد إيمان المؤمنين ، لأنّ المؤمنين لمَّا آمنوا بجميع رسل الله وكتبهم كانوا ينسبون أهل الكتاب إلى هدى ذهب زمانه ، وأدخلوا فيه التّحريف بخلاف أهل الكتاب إذ يرمقون المسلمين بعين الازدراء والضلالة واتّباع ما ليس بحقّ . وهذان النظران ، منّا ومنهم ، هما أصل تسامح المسلمين مع قوّتهم ، وتصَلُّب أهل الكتابين مع ضعفهم .
{ وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } .
جملة { وتؤمنون } معطوفة على { تحبونهم } كما أن جملة { وإذا لقوكم } معطوفة على { ولا يحبونكم } وكلّها أحوال موزّعة على ضمائر الخطاب وضمائر الغيبة .
والتعريف في { الكتاب } للجنس وأكّد بصيغة المفرد مراعاةً للفظه ، وأراد بهذا جماعة من منافقي اليهود أشهرهم زيد بن الصتيتِ القَيْنُقَاعي .
والعَضّ : شدّ الشيء بالأسنان . وعضّ الأنامل كناية عن شدّة الغيظ والتحسّر . وإن لم يكن عَضّ أنامل محسوساً ، ولكن كنّي به عن لازمه في المتعارف ، فإنّ الإنسان إذا اضطرب باطنه من الانفعال صدرت عنه أفعال تناسب ذلك الانفعال ، فقد تكون مُعِينة على دفع انفعاله كقتل عدوّه ، وفي ضدّه تقبيل من يحبّهُ ، وقد تكون قاصرة عليه يشفي بها بعض انفعاله ، كتخبّط الصّبي في الأرض إذا غضب ، وضَرب الرجل نفسه من الغضب ، وعضّه أصابعه من الغيظ ، وقرعه سنّه من النَّدم ، وضرب الكفّ بالكفّ من التحسّر ، ومن ذلك التأوّه والصّياح ونحوها ، وهي ضروب من علامات الجزع ، وبعضها جبلّي كالصياح ، وبعضها عادي يتعارفه النَّاس ويكثر بينهم ، فيصيرون يفعلونه بدون تأمّل ، وقال الحارث بن ظالم المري :
فأقبل أقوام لئام أذلّــة *** يعضّون من غيظ رؤوس الأباهم
وقوله : { عليكم } على فيه للتَّعليل ، والضّمير المجرور ضمير المسلمين ، وهو من تعليق الحكم بالذات بتقدير حالة معيّنة ، أي على التئامكم وزوال البغضاء ، كما فعل شاس بن قيس اليهودي فنزل فيه قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } [ آل عمران : 100 ] ، ونظير هذا التعليق قول الشاعر :
لتقرعِنّ على السنّ من ندم *** إذا تذكرتِ يوما بعضَ أخلاقي
و{ من الغيظ } ( من ) للتعليل . والغيظ : غضب شديد يلازمه إرادة الانتقام .
وقوله : { قل موتوا بغيظكم } كلام لم يقصد به مخاطبون معيَّنون لأنَّه دعاء على الَّذين يعضّون الأنامل من الغيظ ، وهم يفعلون ذلك إذا خلوا ، فلا يتصوّر مشافهتهم بالدّعاء على التَّعيين ولكنَّه كلام قصد إسماعه لكلّ من يعلم من نفسه الاتّصاف بالغيظ على المسلمين وهو قريب من الخطاب الَّذي يقصد به عموم كُل مخاطب نحو : { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم } [ السجدة : 12 ] .
والدعاء عليهم بالموت بالغيظ صريحهُ طلب موتهم بسبب غيظهم ، وهو كناية عن ملازمة الغيظ لهم طول حياتهم إن طالت أو قصرت ، وذلك كناية عن دوام سبب غيظهم ، وهو حسن حال المسلمين ، وانتظام أمرهم ، وازدياد خيرهم ، وفي هذا الدعاء عليهم بلزوم ألم الغيظ لهم ، وبتعجيل موتهم به ، وكلّ من المعنيين المكني بهما مراد هنا ، والتكنّي بالغيظ وبالحسد عن كمال المغيظ منه المحسود مشهور ، والعرب تقول : فلان محسَّد ، أي هو في حالة نعمة وكمال .
{ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .
تذييل لقوله : { عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } وما بيْنها كالاعتراض أي أنّ الله مطلّع عليهم وهو مطلعك على دخائلهم .