في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلٗا كَرِيمٗا} (31)

24

وفي مقابل اجتناب " الكبائر " - ومنها أكل الأموال بينهم بالباطل - يعدهم الله برحمته ، وغفرانه ، وتجاوزه عما عدا الكبائر ؛ مراعاة لضعفهم الذي يعلمه - سبحانه - وتيسيرًا عليهم ، وتطمينًا لقلوبهم ؛ وعونًا لهم على التحاجز عن النار ؛ باجتناب الفواحش الكبار :

( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ، نكفر عنكم سيئاتكم ، وندخلكم مدخلا كريما ) .

ألا ما أسمح هذا الدين ! وما أيسر منهجه ! على كل ما فيه من هتاف بالرفعة والسمو والطهر والنظافة ، والطاعة . وعلى كل ما فيه من التكاليف والحدود ، والأوامر والنواهي ، التي يراد بها إنشاء نفوس زكية طاهرة ؛ وإنشاء مجتمع نظيف سليم .

إن هذا الهتاف ، وهذه التكاليف ، لا تغفل - في الوقت ذاته - ضعف الإنسان وقصوره ؛ ولا تتجاوز به حدود طاقته وتكوينه ؛ ولا تتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها ؛ ولا تجهل كذلك دروب نفسه ومنحنياتها الكثيرة .

ومن ثم هذا التوازن بين التكليف والطاقة . وبين الأشواق والضرورات . وبين الدوافع والكوابح . وبين الأوامر والزواجر . وبين الترغيب والترهيب . وبين التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة . .

إنه حسب هذا الدين من النفس البشرية أن يتم اتجاهها لله ؛ وأن تخلص حقًا في هذا الاتجاه ، وأن تبذل غاية الجهد في طاعته ورضاه . . فأما بعد ذلك . . فهناك رحمة الله . . هناك رحمة الله ترحم الضعف ، وتعطف على القصور ؛ وتقبل التوبة ، وتصفح عن التقصير ؛ وتكفر الذنب وتفتح الباب للعائدين ، في إيناس وفي تكريم . .

وآية بذل الطاقة اجتناب كبائر ما نهى الله عنه . أما مقارفة هذه الكبائر - وهي واضحة ضخمة بارزة ؛ لا ترتكبها النفس وهي جاهلة لها أو غير واعية ! فهي دليل على أن هذه النفس لم تبذل المحاولة المطلوبة ؛ ولم تستنفد الطاقة في المقاومة . . وحتى هذه فالتوبة منها في كل وقت مع الإخلاص مقبولة برحمة الله التي كتبها على نفسه . . وقد قال فيها : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) . . وعدهم من " المتقين " .

إنما الذي نحن بصدده هنا هو تكفير السيئات والذنوب مباشرة من الله ، متى اجتنبت الكبائر ؛ وهذا هو وعد الله هنا وبشراه للمؤمنين .

أما ما هي الكبائر . . فقد وردت أحاديث تعدد أنواعًا منها - ولا تستقصيها - وذلك بدليل احتواء كل حديث على مجموعة تزيد أو تنقص ؛ مما يدل على أن هذه الأحاديث كانت تعالج حالات واقعة ؛ فتذكر من الكبائر - في كل حديث - ما يناسب الملابسة الحاضرة ، والمسلم لا يعسر عليه أن يعلم " الكبائر " من الذنوب . وإن كانت تختلف عددًا ونوعًا بين بيئة وبيئة ، وبين جيل وجيل !

ونذكر هنا قصة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو المتحرج المتشدد الشديد الحساسية بالمعصية . تبين - مع ذلك كله - كيف قوم الإسلام حسه المرهف ، وكيف جعل الميزان الحساس يعتدل في يده ويستقيم ؛ وهو يعالج أمور المجتمع وأمور النفوس :

قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ؛ عن الحسن أن ناسًا سألوا عبدالله بن عمرو بمصر ، فقالوا : نرى أشياء من كتاب الله - عز وجل - أمر أن يعمل بها ، لا يعمل بها ؛ فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك . فقدم وقدموا معه . فلقي عمر - رضي الله عنه - فقال : متى قدمت ؟ فقال : منذ كذا وكذا . قال : أبإذن قدمت ؟ قال : فلا أدري كيف رد عليه . فقال : أمير المؤمنين إن ناسًا لقوني بمصر ، فقالوا : إنا نرى أشياء في كتاب الله ، أمر أن يعمل بها ، فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك . قال : فاجمعهم لي . قال فجمعتهم له . قال أبو عون : أظنه قال : في بهو . . فأخذ أدناهم رجلاً ؛ فقال أنشدك الله ، وبحق الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله ! قال : نعم . قال : فهل أحصيته في نفسك ؟ فقال : اللهم لا - ولو قال : نعم ، لخصمه ! قال : فهل أحصيته في بصرك ؟ فهل أحصيته في لفظك ؟ هل أحصيته في أثرك . . ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال : ثكلت عمر أمه ! أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات . قال وتلا : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) . . . الآية . ثم قال : هل علم أهل المدينة ؟ أو قال : هل علم أحد بما قدمتم ؟ قالوا : لا . قال : لو علموا لوعظت بكم ! " .

فهكذا كان عمر - المتحرج الشديد الحساسية - يسوس القلوب والمجتمع ؛ وقد قوم القرآن حسه ؛ وأعطاه الميزان الدقيق . . " وقد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات ! " ولن نكون غير ما علم ربه أن نكون ! إنما المعول عليه هو القصد والتصويب والمحاولة والرغبة في الوفاء بالالتزامات ، وبذل الجهد في هذا الوفاء . . إنه التوازن والجد واليسر والاعتدال .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلٗا كَرِيمٗا} (31)

{ تجتنبوا } معناه : تدعون جانباً ، وقرأ ابن مسعود وابن جبير «إن تجتنبوا كبير » وقرأ المفضل عن عاصم «يكفّر » و «يدخلكم » على علامة الغائب ، وقرأ الباقون بالنون والقراءتان حسنتان ، وقرأ ابن عباس «عنكم من سيئاتكم » بزيادة «من » وقرأ السبعة سوى نافع «مُدخلاً » بضم الميم ، وقرأ نافع : «مدخلاً » بالفتح وقد رواه أيضاً أبو بكر عن عاصم ها هنا وفي الحج ، ولم يختلف في سورة بني إسرائيل في { مدخل ومخرج صدق }{[3978]} أنهما بضم الميم ، قال أبو علي : «مَدخلاً » بالفتح يحتمل أن يكون مصدراً ، والعامل فيه فعل يدل عليه الظاهر ، التقدير : ويدخلكم فتدخلون مدخلاً ، ويحتمل أن يكون مكاناً ، فيعمل فيه الفعل الظاهر ، وكذلك يحتمل «مُدخلاً » بضم الميم للوجهين ، وإذا لم يعمل الفعل الظاهر فمعموله الثاني محذوف ، تقديره : ويدخلكم الجنة ، واختلف أهل العلم في «الكبائر » فقال علي بن أبي طالب : ( هي سبع ، الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا والفرار يوم الزحف والتعرب بعد الهجرة ){[3979]} . وقال عبيد بن عمير : الكبائر سبع في كل واحدة منها آية في كتاب الله عز وجل .

قال القاضي أبو محمد : وذكر كقول علي ، وجعل الآية في التعرب قوله تعالى : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى }{[3980]} ، ووقع في البخاري في كتاب الحدود في باب رمي المحصنات «اتقوا السبع الموبقات ، الإشراك بالله ، والسحر ، وقتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات »{[3981]} .

وقال عبد الله بن عمر : هي تسع «الإشراك بالله ، والقتل ، والفرار ، والقذف ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وإلحاد في المسجد الحرام ، والذي يستسحر ، وبكاء الوالدين من العقوق »{[3982]} قال عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي : هي في جميع ما نهى عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها وهي { إن تجتنبوا } وقال عبد الله بن مسعود : هي أربع أيضاً الإشراك بالله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ، وروي أيضاً عن ابن مسعود : هي ثلاث : القنوط ، واليأس ، والأمن المتقدمة ، وقال ابن عباس أيضاً وغيره : «الكبائر » كل ما ورد عليه وعيد بنار أو عذاب أو لعنة أو ما أشبه ذلك{[3983]} ، وقالت فرقة من الأصوليين : هي في هذا الموضع أنواع الشرك التي لا تصلح معها الأعمال ، وقال رجل لابن عباس : أخبرني عن الكبائر السبع ، فقال : هي إلى السبعين أقرب ، وقال ابن عباس : كل ما نهى الله عنه فهو كبير{[3984]} ، فهنا يدخل الزنا ، وشرب الخمر ، والزور ، والغيبة ، وغير ذلك مما قد نص عليه في أحاديث لم يقصد الحصر للكبائر بها ، بل ذكر بعضها مثالاً ، وعلى هذا القول أئمة الكلام : القاضي ، وأبو المعالي ، وغيرهما : قالوا : وإنما قيل : صغيرة بالإضافة إلى أكبر منها وهي في نفسها كبيرة من حيث المعصي بالجميع واحد ، وهذه الآية يتعاضد معها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الوضوء من مسلم ، عن عثمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

«ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ، ما لم يأت كبيرة ، وذلك الدهر كله »{[3985]} .

واختلف العلماء في هذه المسألة فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث يرون أن الرجل إذا اجتنب الكبائر وامتثل الفرائض ، كفرت صغائره كالنظر وشبهه قطعاً بظاهر هذه الآية وظاهر الحديث ، وأما الأصوليون فقالوا : لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ، وإنما يحمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء ، والمشيئة ثابتة ، ودل على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض بتكفير صغائره قطعاً لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بأنه لا تباعة فيه ، وذلك نقض لعرى الشريعة ، ومحمل الكبائر عند الأصوليين في هذه الآية أجناس الكفر ، والآية التي قيدت الحكم فترد إليها هذه المطلقات كلها : قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }{[3986]} و { كريماً } يقتضي كرم الفضيلة ونفي العيوب ، كما تقول : ثوب كريم ، وكريم المحتد ، وهذه آية رجاء ، روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : خمس آيات من سورة النساء هي أحب إليّ من الدنيا جميعاً ، قوله : { إن تجتنبوا } الآية ، وقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [ النساء : 48 و 116 ] وقوله : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم } [ النساء : 110 ] وقوله أيضاً : { يضاعفها } [ النساء : 40 ] وقوله : { والذين آمنوا بالله ورسله } الآية{[3987]} .


[3978]:- من قوله تعالى في الآية (80) من سورة الإسراء: {وقل رب أدخلني مدخل صدق، وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا}
[3979]:- قال الأزهري: ويكون التعرب أن يرجع إلى البادية بعد ما كان مقيما بالحضر، فيلحق بالأعراب، ويكون التعرب المقام بالبادية، ومنه قول الشاعر: تعرب آبائي، فهلا وقاهم من الموت رملا عالج وزرود يقول: أقام آبائي بالبادية،ولم يحضروا القرى. اللسان- (عرب).
[3980]:- الآية (25) من سورة (محمد).
[3981]:- أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة. الدر المنثور 2/146.
[3982]:- أخرجه علي بن الجعد في الجعديات عن طيسلة قال: سألت ابن عمر عن الكبائر فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هن تسع... الخ. مع اختلاف في بعض الألفاظ. الدر المنثور 2/146.
[3983]:- أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: (الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب.) الدر المنثور 2/ 146، وابن كثير 2/ 266.
[3984]:- أخرجه ابن جرير عن أبي الوليد مع اختلاف يسير في اللفظ. الدر المنثور 2/ 146، وابن كثير 2/ 266.
[3985]:- الحديث في مسلم، وصححه في الجامع الصغير.
[3986]:- من الآية (116) من سورة (النساء). وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بقول الله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}، وهي في كتب السنة الصحيحة، وفي كثير من التفاسير.
[3987]:- أخرج أبو عبيد، وسعيد بن منصور في فضائله، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: "إن في سورة النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها- قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} الآية. وقوله: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} الآية، وقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} الآية، وقوله: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك} الآية، وقوله: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه} الآية" عن (الدر المنثور) 2/ 145، وقوله تعالى: [يضاعفها] هي من الآية الكريمة: {وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما} وهي الآية رقم (40) من هذه السورة. وقال ابن عباس: ثماني آيات في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت: {يريد الله ليبين لكم}، {والله يريد أن يتوب عليكم}، {يريد الله أن يخفف عنكم}، {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} الآية، {إن الله لا يغفر أن يشرك به}، {إن الله لا يظلم مثقال ذرة}، {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه}، {وما يفعل الله بعذابكم} الآية.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلٗا كَرِيمٗا} (31)

اعتراض ناسب ذكره بعد ذكر ذنبين كبيرين : وهما قتل النفس ، وأكل المال بالباطل ، على عادة القرآن في التفنّن من أسلوب إلى أسلوب ، وفي انتهاز الفرص في إلقاء التشريع عقب المواعظ وعكسه .

وقد دلّت إضافة { كبائر } إلى { ما تنهون عنه } على أنّ المنهيات قسمان : كبائر ، ودونها ؛ وهي التي تسمّى الصغائر ، وصفا بطريق المقابلة ، وقد سمّيت هنا سيّئات . ووعد بأنّه يغفر السيّئات للذين يجتنبون كبائر المنهيات ، وقال في آية النجم ( 32 ) { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللّمم } فسمّى الكبائر فواحشَ وسمّى مقابلها اللَّمم ، فثبت بذلك أنّ المعاصي عند الله قسمان : معاص كبيرة فاحشة ، ومعاص دون ذلك يكثر أن يُلمّ المؤمن بها ، ولذلك اختلف السلف في تعيين الكبائر . فعن علي : هي سبع الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ، والفرار يوم الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة .

واستدلّ لجميعها بما في القرآن من أدلّة جازِمِ النهي عنها . وفي حديث البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم « اتّقوا السبع الموبقات . . . » فذكر التي ذكرها عليّ إلاّ أنّه جعل السحر عوض التعرّب . وقال عبد الله بن عمر : هي تسع بزيادة الإلحاد في المسجد الحرام ، وعقوق الوالدين . وقال ابن مسعود : هي ما نُهي عنه من أول سورة النساء إلى هنا . وعن ابن عبّاس : كلّ ما ورد عليه وعيد نار أو عذاب أو لعنة فهو كبيرة . وعن ابن عباس : الكبائر ما نهى الله عنه في كتابه .

وأحسن ضبطِ الكبيرة قول إمام الحرمين : هي كلّ جريمة تؤذن بقلّة اكتراث مرتكبها بالدين وبضعف ديانته . ومن السلف من قال : الذنوب كلّها سواء إن كانت عن عمد . وعن أبي إسحاق الإسفرائيني أنّ الذنوب كلّها سواء مطلقاً ، ونفَى الصغائر . وهذان القولان واهيان لأنّ الأدلّة شاهدة بتقسيم الذنوب إلى قسمين ، ولأنّ ما تشتمل عليه الذنوب من المفاسد متفاوت أيضاً ، وفي الأحاديث الصحيحة إثبات نوع الكبائر وأكبر الكبائر .

ويترتّب على إثبات الكبائر والصغائر أحكام تكليفية : منها المخاطبة بتجنّب الكبيرة تجنّبا شديداً ، ومنها وجوب التوبة منها عند اقترابها ، ومنها أنّ ترك الكبائر يعتبر توبة من الصغائر ، ومنها سلب العدالة عن مرتكب الكبائر ، ومنها نقض حكم القاضي المتلبّس بها ، ومنها جواز هجران المتجاهر بها ، ومنها تغيير المنكر على المتلبّس بها . وتترتّب عليها مسائل في أصول الدين : منها تكفير مرتكب الكبيرة عند طائفة من الخوارج ، التي تَفرّق بين المعاصي الكبائر والصغائر ؛ واعتباره منزلة بين الكفر والإسلام عند المعتزلة ، خلافاً لجمهور علماء الإسلام .

فمن العجائب أن يقول قائل : إنّ الله لم يميّز الكبائر عن الصغائر ليكون ذلك زاجراً للناس عن الإقدام على كلّ ذنب ، ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات ، وليلة القدر في ليالي رمضان ، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة ، هكذا حكاه الفخر في التفسير ، وقد تبيّن ذهول هذا القائل ، وذهول الفخر عن ردّه ، لأنّ الأشياء التي نظَّروا بها ترجع إلى فضائل الأعمال التي لا يتعلّق بها تكليف ؛ فإخفاؤها يقصد منه الترغيب في توخّي مَظانّها ليكثر الناس من فعل الخير ، ولكن إخفاء الأمر المكلّف به إيقاع في الضلالة ، فلا يقع ذلك من الشارع .

والمدخل بفتح الميم اسم مَكان الدخول ، ويجوز أن يكون مصدراً ميمياً . والمعنى : ندخلكم مكانا كريماً ، أو ندخلكم دخولاً كريماً . والكريم هو النفيس في نوعه . فالمراد إمّا الجنة وإمّا الدخول إليها ، والمراد به الجَنّة . والمُدخل بصمّ الميم كذلك مكانُ أو مَصدرُ أدْخل . وقرأ نافع ، وأبو جعفر : مَدْخلا بفتح الميم وقرأ بقية العشرة بضمّ الميم .