ومن ثم نفى شفاعتهم لهم في الآية التالية . وذلك في مشهد تتفزع له الأوصال في حضرة ذي الجلال :
( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) . .
فالشفاعة مرهونة بإذن الله . والله لا يأذن في الشفاعة في غير المؤمنين به المستحقين لرحمته . فأما الذين يشركون به فليسوا أهلا لأن يأذن بالشفاعة فيهم ، لا للملائكة ولا لغيرهم من المأذونين بالشفاعة منذ الابتداء !
ثم صور المشهد الذي تقع فيه الشفاعة ؛ وهو مشهد مذهل مرهوب :
( حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ? قالوا : الحق وهو العلي الكبير ) . .
إنه مشهد في اليوم العصيب . يوم يقف الناس ، وينتظر الشفعاء والمشفوع فيهم أن يتأذن ذو الجلال في عليائه بالشفاعة لمن ينالون هذا المقام . ويطول الانتظار . ويطول التوقع . وتعنو الوجوه . وتسكن الأصوات . وتخشع القلوب في انتظار الإذن من ذي الجلال والإكرام .
ثم تصدر الكلمة الجليلة الرهيبة ، فتنتاب الرهبة الشافعين والمشفوعين لهم . ويتوقف إدراكهم عن الإدراك .
( حتى إذا فزّع عن قلوبهم ) . . وكشف الفزع الذي أصابهم ، وأفاقوا من الروعة التي غمرتهم فأذهلتهم . ( قالوا : ما ذا قال ربكم ? )يقولها بعضهم لبعض . لعل منهم من يكون قد تماسك حتى وعى . ( قالوا : الحق ) . . ولعلهم الملائكة المقربون هم الذين يجيبون بهذه الكلمة المجملة الجامعة : ( قالوا الحق ) . قال ربكم : الحق . الحق الكلي . الحق الأزلي . الحق اللدني . فكل قوله الحق . ( وهو العلي الكبير ) . . وصف في المقام الذي يتمثل فيه العلو والكبر للإدراك من قريب . .
وهذه الإجابة المجملة تشي بالروعة الغامرة ، التي لا ينطق فيها إلا بالكلمة الواحدة !
فهذا هو موقف الشفاعة المرهوب . وهذه صورة الملائكة فيه بين يدي ربهم . فهل بعد هذا المشهد يملك أحد أن يزعم أنهم شركاء لله ، شفعاء في من يشرك بالله ? !
قوله تعالى : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } الله في الشفاعة ، قاله تكذيباً لهم حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، ويجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يشفع له ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : { أذن } بضم الهمزة . { حتى إذا فزع عن قلوبهم } قرأ ابن عامر ، ويعقوب بفتح الفاء والزاي ، وقرأ الآخرون بضم الفاء وكسر الزاي أي : كشف الفزع وأخرج عن قلوبهم ، فالتفزيع إزالة الفزع كالتمريض والتفريد . واختلفوا في الموصوفين بهذه الصفة ، فقال قوم : هم الملائكة ، ثم اختلفوا في ذلك السبب فقال بعضهم : إنما يفزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله عز وجل . وروينا عن أبي هريرة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان " فإذا فزع عن قلوبهم { قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، قال : أنبأني محمد بن الفضل بن محمد ، أنبأنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ، أنبأنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، أنبأنا نعيم بن حماد ، أنبأنا أبو الوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن أبي زكريا ، عن رجاء بن حيوة ، عن النواس بن سمعان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أو قال : رعدة شديدة خوفاً من الله تعالى ، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجداً ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول جبريل : قال الحق وهو العلي الكبير ، قال فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره " .
وقال بعضهم إنما يفزعون حذراً من قيام الساعة . قال مقاتل والكلبي والسدي : كانت الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام ، خمسمائة وخمسين سنة ، وقيل ستمائة سنة لم تسمع الملائكة فيها وحياً ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وكل جبريل عليه السلام بالرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة ، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم عند أهل السموات بعثته من أشراط الساعة ، فصعقوا مما سمعوا خوفا من قيام الساعة ، فلما انحدر جبريل جعل يمر بأهل كل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : قال الحق ، يعني الوحي ، وهو العلي الكبير . وقال جماعة : الموصوفون بذلك المشركون . قال الحسن وابن زيد : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت بهم إقامة للحجة عليهم قالت لهم الملائكة ماذا قال ربكم في الدنيا ؟ قالوا : الحق ، فأقروا به حين لا ينفعهم الإقرار .
ولما كان قد بقي من أقسام النفع الشفاعة ، وكان المقصود{[56798]} منها أثرها لا عينها ، نفاه بقوله : { ولا تنفع } أي في أيّ{[56799]} وقت من الأوقات { الشفاعة عنده } أي بوجه من الوجوه بشيء من الأشياء { إلا لمن } ولما كانت كثافة الحجاب {[56800]}أعظم في الهيبة ، وكان البناء للمجهول أدل على كثافة الحجاب{[56801]} ، قال في قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي{[56802]} بجعل المصدر عمدة الكلام وإسناد الفعل إليه : { أذن له } أي وقع منه إذن له على لسان من شاء من جنوده بواسطة واحدة أو أكثر في أن يشفع في غيره أو في{[56803]} أن يشفع فيه{[56804]} غيره ، وقراءة الباقين بالبناء{[56805]} للفاعل تدل على العظمة من وجه آخر ، وهو أنه لا افتيات{[56806]} عليه بوجه من أحد ما ، بل لابد{[56807]} أن ينص هو سبحانه على الإذن ، وإلا فلا استطاعة عليه أصلاً .
ولما كان من المعلوم أن الموقوفين{[56808]} في محل خطر للعرض على ملك مرهوب متى نودي باسم أحد منهم فقيل {[56809]}أين فلان{[56810]} ينخلع قلبه وربما أغمي عليه ، فلذلك{[56811]} كان من المعلوم مما مضى أنه متى برز النداء من قبله تعالى في ذلك المقام الذي ترى فيه كل أمة جاثية يغشى على الشافعين والمشفوع لهم ، فلذلك حسن كل الحسن قوله تعالى : { حتّى } وهو غاية لنحو أن يقال : فإذا أذن له وقع الصعق لجلاله وكبريائه وكماله حتى { إذا فزع } أي أزيل الفزع بأيسر أمر وأهون سعي من أمره سبحانه - هذا في قراءة الجماعة بالبناء للمجهول ، وأزال هو سبحانه الفزع في قراءة ابن عامر ويعقوب{[56812]} ، إشارة إلى أنه لا يخرج عن أمره شيء { عن قلوبهم } أي الشافعين والمشفوع لهم ، فإن " فعّل " يأتي للإزالة كقذّيت عينه - إذا{[56813]} أزلت عنها القذى { قالوا } أي قال بعضهم لبعض : { ماذا قال ربكم } ذاكرين صفة الإحسان ليرجع إليهم رجاؤهم فتسكن لذلك قلوبهم .
ولما كان ملوك الدنيا ربما قال بعضهم قولاً ثم بدا له فرجع عنه ، أو عارضه{[56814]} فيه شخص من أعيان جنده فينتقض ، أخبر أن الملك الديان ليس كذلك فقال : { قالوا الحق } أي الثابت الذي لا يمكن أن يبدل ، بل يطابقه الواقع فلا يكون شيء يخالفه { وهو العلي } أي فلا رتبة إلا دون رتبته سبحانه وتعالى ، فلا يقول غير الحق من نقص علم { الكبير * } أي الذي لا كبير غيره فيعارضه في شيء من حكم ؛ روى البخاري في التفسير{[56815]} عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال{[56816]} : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها{[56817]} خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان { فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا } - للذي قال - { الحق وهو العلي الكبير } فيسمعها{[56818]} مسترق السمع ، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض – و{[56819]} وصفه سفيان بكفه فحرفها{[56820]} وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة ويلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن ، فربما{[56821]} أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة{[56822]} فيقال : أليس قد{[56823]} قال لنا يوم{[56824]} كذا وكذا كذا وكذا ، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء " وقال في التوحيد : وقال مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنهما : " وإذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات{[56825]} فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا{[56826]} أنه الحق ونادوا ماذا قال ربكم قالوا الحق " وروى هذا الحديث العيسي في جزئه عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً عليه ، قال : كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يسمعون فيه الوحي ، وفيه : فلا ينزل على سماء إلا صفقوا ، وفي آخره : ثم يقال : يكون العام كذا ويكون العام كذا ، فتسمع الجن ذلك فتخبر به الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا ، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم دحروا ، فقالت العرب : هلك من في السماء ، فذكر ذبح العرب لأموالهم من الإبل وغيرها ، حتى نهتهم ثقيف ، واستدلوا بثبات معلم النجوم ، ثم أمر إبليس جنده بإحضار التراب وشمه حتى عرف أن الحدث من مكة{[56827]} .