وهنا يدعوهم دعوة خالصة إلى منهج البحث عن الحق ، ومعرفة الافتراء من الصدق ، وتقدير الواقع الذي يواجهونه من غير زيف ولا دخل :
( قل : إنما أعظكم بواحدة . . أن تقوموا لله مثنى وفرادى ، ثم تتفكروا . ما بصاحبكم من جنة . إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . .
إنها دعوة إلى القيام لله . بعيداً عن الهوى . بعيداً عن المصلحة . بعيداً عن ملابسات الأرض . بعيداً عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب ، فتبعد به عن الله . بعيداً عن التأثر بالتيارات السائدة في البيئة . والمؤثرات الشائعة في الجماعة .
دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط ، لا مع القضايا والدعاوى الرائجة ؛ ولا مع العبارات المطاطة ، التي تبعد القلب والعقل من مواجهة الحقيقة في بساطتها .
دعوة إلى منطق الفطرة الهادى ء الصافي ، بعيداً عن الضجيج والخلط واللبس ؛ والرؤية المضطربة والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة .
وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة . منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والغواشي والمؤثرات . وعلى مراقبة الله وتقواه .
وهي( واحدة ) . . إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق . القيام لله . . لا لغرض ولا لهوى ولا لمصلحة ولا لنتيجة . . التجرد . . الخلوص . . ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون .
( أن تقوموا لله . مثنى وفرادى ) . . مثنى ليراجع أحدهما الآخر ، ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارى ء ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء . . وفرادى مع النفس وجهاً لوجه في تمحيص هادى ء عميق .
( ثم تتفكروا . ما بصاحبكم من جنة ) . . فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر والرزانة . وما يقول شيئاً يدعو إلى التظنن بعقله ورشده . إن هو إلا القول المحكم القوي المبين .
( إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . .
لمسة تصور العذاب الشديد وشيكاً أن يقع ، وقد سبقه النذير بخطوة . لينقذ من يستمع . كالهاتف المحذر من حريق في دار يوشك أن يلتهم من لا يفر من الحريق . وهو تصوير - فوق أنه صادق - بارع موح مثير . .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم بشير ابن المهاجر ، حدثني عبدالله بن بريرة عن أبيه - رضي الله عنه - قال : خرج علينا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوماً ، فنادى ثلاث مرات : " أيها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم ? " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال - صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدواً يأتيهم . فبعثوا رجلاً يتراءى لهم ، فبينما هو كذلك أبصر العدو ، فأقبل لينذرهم ، وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه ، فأهوى بثوبه . أيها الناس أتيتم . أيها الناس أتيتم . أيها الناس أتيتم " . .
وروي بهذا الإسناد قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " بعثت أنا والساعة جميعاً . إن كادت لتسبقني " . .
ذلك هو الإيقاع الأول المؤثر الموحي . يتبعه الإيقاع الثاني . ( قل : ما سألتكم من أجر فهو لكم . إن أجري إلا على الله . وهو على كل شيء شهيد ) . .
قوله تعالى : { قل إنما أعظكم } آمركم وأوصيكم بواحدة ، أي : بخصلة واحدة ، ثم بين تلك الخصلة فقال : { أن تقوموا لله } لأجل الله ، { مثنى } أي : اثنين اثنين ، { وفرادى } أي : واحداً واحد { ثم تتفكروا } جميعاً أي : تجتمعون فتنظرون وتتحاورون وتنفردون ، فتفكرون في حال محمد صلى الله عليه وسلم فتعلموا ، { ما بصاحبكم من جنة }أي : جنون ، وليس المراد من القيام القيام الذي هو ضد الجلوس ، وإنما هو قيام بالأمر الذي هو في طلب الحق ، كقوله : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } { إن هو } ما هو ، { إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } قال مقاتل : تم الكلام عند قوله : ثم تتفكروا أي : في خلق السموات والأرض فتعلموا أن خالقها واحد لا شريك له ، ثم ابتدأ فقال : { ما بصاحبكم من جنة } .
قوله تعالى : " قل إنما أعظكم بواحدة " تمم الحجة على المشركين ، أي قل لهم يا محمد : " إنما أعظكم " أي أذكركم وأحذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه . " بواحدة " أي بكلمة واحدة مشتملة على جميع الكلام ، تقتضي نفي الشرك لإثبات الإله قال مجاهد : هي لا إله إلا الله وهذا قول ابن عباس والسدي . وعن مجاهد أيضا : بطاعة الله . وقيل : بالقرآن ؛ لأنه يجمع كل المواعظ . وقيل : تقديره بخصلة واحدة ، " أن تقوموا لله مثنى وفرادى " " أن " في موضع خفض على البدل من " واحدة " ، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ ، أي هي أن تقوموا . ومذهب الزجاج أنها في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا . وهذا القيام معناه القيام إلى طلب الحق لا القيام الذي هو ضد القعود ، وهو كما يقال : قام فلان بأمر كذا ؛ أي لوجه الله والتقرب إليه . وكما قال تعالى : " وأن تقوموا لليتامى بالقسط " {[13072]} [ النساء : 127 ] . " مثنى وفرادى " أي وحدانا ومجتمعين . قاله السدي . وقيل : منفردا برأيه ومشاورا لغيره ، وهذا قول مأثور . وقال القتبي : مناظرا مع غيره ومفكرا في نفسه ، وكله متقارب . ويحتمل رابعا أن المثنى عمل النهار والفرادى عمل الليل ؛ لأنه في النهار معان وفي الليل وحيد ، قاله الماوردي . وقيل : إنما قال : " مثنى وفرادى " لأن الذهن حجة الله على العباد وهو العقل ، فأوفرهم عقلا أوفرهم حظا من الله ، فإذا كانوا فرادى كانت فكرة واحدة ، وإذا كانوا مثنى تقابل الذهنان فتراءى من العلم لهما ما أضعف على الانفراد . والله أعلم . " ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة " الوقف عند أبي حاتم وابن الأنباري على " ثم تتفكروا " . وقيل : ليس هو بوقف لأن المعنى : ثم تتفكروا هل جربتم على صاحبكم كذبا ، أو رأيتم فيه جنة ، أو في أحواله من فساد ، أو اختلف إلى أحد ممن يدعي العلم بالسحر ، أو تعلم الأقاصيص وقرأ الكتب ، أو عرفتموه بالطمع في أموالكم ، أو تقدرون على معارضته في سورة واحدة ؛ فإذا عرفتم بهذا الفكر صدقه فما بال هذه المعاندة . " إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد " وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية " وأنذر عشيرتك الأقربين " [ الشعراء : 214 ] ورهطك منهم المخلصين{[13073]} ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف : يا صباحاه{[13074]} ؟ فقالوا : من هذا الذي يهتف ! ؟ قالوا محمد ؛ فاجتمعوا إليه فقال : ( يا بني فلان يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبد المطلب فاجتمعوا إليه فقال أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ) ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبا . قال : ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . قال فقال أبو لهب : تبا لك ! أما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم قال فنزلت هذه السورة : " تبت يدا أبي لهب وتب " {[13075]} [ المسد : 1 ] كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة .