وفي مقابل اجتناب " الكبائر " - ومنها أكل الأموال بينهم بالباطل - يعدهم الله برحمته ، وغفرانه ، وتجاوزه عما عدا الكبائر ؛ مراعاة لضعفهم الذي يعلمه - سبحانه - وتيسيرًا عليهم ، وتطمينًا لقلوبهم ؛ وعونًا لهم على التحاجز عن النار ؛ باجتناب الفواحش الكبار :
( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ، نكفر عنكم سيئاتكم ، وندخلكم مدخلا كريما ) .
ألا ما أسمح هذا الدين ! وما أيسر منهجه ! على كل ما فيه من هتاف بالرفعة والسمو والطهر والنظافة ، والطاعة . وعلى كل ما فيه من التكاليف والحدود ، والأوامر والنواهي ، التي يراد بها إنشاء نفوس زكية طاهرة ؛ وإنشاء مجتمع نظيف سليم .
إن هذا الهتاف ، وهذه التكاليف ، لا تغفل - في الوقت ذاته - ضعف الإنسان وقصوره ؛ ولا تتجاوز به حدود طاقته وتكوينه ؛ ولا تتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها ؛ ولا تجهل كذلك دروب نفسه ومنحنياتها الكثيرة .
ومن ثم هذا التوازن بين التكليف والطاقة . وبين الأشواق والضرورات . وبين الدوافع والكوابح . وبين الأوامر والزواجر . وبين الترغيب والترهيب . وبين التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة . .
إنه حسب هذا الدين من النفس البشرية أن يتم اتجاهها لله ؛ وأن تخلص حقًا في هذا الاتجاه ، وأن تبذل غاية الجهد في طاعته ورضاه . . فأما بعد ذلك . . فهناك رحمة الله . . هناك رحمة الله ترحم الضعف ، وتعطف على القصور ؛ وتقبل التوبة ، وتصفح عن التقصير ؛ وتكفر الذنب وتفتح الباب للعائدين ، في إيناس وفي تكريم . .
وآية بذل الطاقة اجتناب كبائر ما نهى الله عنه . أما مقارفة هذه الكبائر - وهي واضحة ضخمة بارزة ؛ لا ترتكبها النفس وهي جاهلة لها أو غير واعية ! فهي دليل على أن هذه النفس لم تبذل المحاولة المطلوبة ؛ ولم تستنفد الطاقة في المقاومة . . وحتى هذه فالتوبة منها في كل وقت مع الإخلاص مقبولة برحمة الله التي كتبها على نفسه . . وقد قال فيها : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) . . وعدهم من " المتقين " .
إنما الذي نحن بصدده هنا هو تكفير السيئات والذنوب مباشرة من الله ، متى اجتنبت الكبائر ؛ وهذا هو وعد الله هنا وبشراه للمؤمنين .
أما ما هي الكبائر . . فقد وردت أحاديث تعدد أنواعًا منها - ولا تستقصيها - وذلك بدليل احتواء كل حديث على مجموعة تزيد أو تنقص ؛ مما يدل على أن هذه الأحاديث كانت تعالج حالات واقعة ؛ فتذكر من الكبائر - في كل حديث - ما يناسب الملابسة الحاضرة ، والمسلم لا يعسر عليه أن يعلم " الكبائر " من الذنوب . وإن كانت تختلف عددًا ونوعًا بين بيئة وبيئة ، وبين جيل وجيل !
ونذكر هنا قصة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو المتحرج المتشدد الشديد الحساسية بالمعصية . تبين - مع ذلك كله - كيف قوم الإسلام حسه المرهف ، وكيف جعل الميزان الحساس يعتدل في يده ويستقيم ؛ وهو يعالج أمور المجتمع وأمور النفوس :
قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ؛ عن الحسن أن ناسًا سألوا عبدالله بن عمرو بمصر ، فقالوا : نرى أشياء من كتاب الله - عز وجل - أمر أن يعمل بها ، لا يعمل بها ؛ فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك . فقدم وقدموا معه . فلقي عمر - رضي الله عنه - فقال : متى قدمت ؟ فقال : منذ كذا وكذا . قال : أبإذن قدمت ؟ قال : فلا أدري كيف رد عليه . فقال : أمير المؤمنين إن ناسًا لقوني بمصر ، فقالوا : إنا نرى أشياء في كتاب الله ، أمر أن يعمل بها ، فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك . قال : فاجمعهم لي . قال فجمعتهم له . قال أبو عون : أظنه قال : في بهو . . فأخذ أدناهم رجلاً ؛ فقال أنشدك الله ، وبحق الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله ! قال : نعم . قال : فهل أحصيته في نفسك ؟ فقال : اللهم لا - ولو قال : نعم ، لخصمه ! قال : فهل أحصيته في بصرك ؟ فهل أحصيته في لفظك ؟ هل أحصيته في أثرك . . ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال : ثكلت عمر أمه ! أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات . قال وتلا : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) . . . الآية . ثم قال : هل علم أهل المدينة ؟ أو قال : هل علم أحد بما قدمتم ؟ قالوا : لا . قال : لو علموا لوعظت بكم ! " .
فهكذا كان عمر - المتحرج الشديد الحساسية - يسوس القلوب والمجتمع ؛ وقد قوم القرآن حسه ؛ وأعطاه الميزان الدقيق . . " وقد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات ! " ولن نكون غير ما علم ربه أن نكون ! إنما المعول عليه هو القصد والتصويب والمحاولة والرغبة في الوفاء بالالتزامات ، وبذل الجهد في هذا الوفاء . . إنه التوازن والجد واليسر والاعتدال .
{ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } كبائر الذنوب التي نهاكم الله ورسوله عنها ، وقرئ كبير على إرادة الجنس . { نكفر عنكم سيئاتكم } نغفر لكم صغائركم ونمحها عنكم .
واختلف في الكبائر ، والأقرب أن الكبير كل ذنب رتب الشارع عليه حدا أو صرح بالوعيد فيه . وقيل ما علم حرمته بقاطع . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " أنها سبع : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والربا ، والفرار من الزحف ، وعقوق الوالدين " . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ( الكبائر إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ) . وقيل أراد ههنا أنواع الشرك لقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقيل صغر الذنوب وكبرها بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها ، فأكبر الكبائر الشرك وأصغر الصغائر حديث النفس وبينهما وسائط يصدق عليها الأمران ، فمن عن له أمران منها ودعت نفسه إليها بحيث لا يتمالك فكفها عن أكبرها كفر عنه ما ارتكبه لما استحق من الثواب على اجتناب الأكبر . ولعل هذا مما يتفاوت باعتبار الأشخاص والأحوال ، ألا ترى أنه تعالى عاتب نبيه عليه الصلاة والسلام في كثير من خطواته التي لم تعد على غيره خطيئة فضلا عن أن يؤاخذه عليها . { وندخلكم مدخلا كريما } الجنة وما وعد من الثواب ، أو إدخالا مع كرامة . وقرأ نافع هنا وفي الحج بفتح الميم وهو أيضا يحتمل المكان والمصدر .
اعتراض ناسب ذكره بعد ذكر ذنبين كبيرين : وهما قتل النفس ، وأكل المال بالباطل ، على عادة القرآن في التفنّن من أسلوب إلى أسلوب ، وفي انتهاز الفرص في إلقاء التشريع عقب المواعظ وعكسه .
وقد دلّت إضافة { كبائر } إلى { ما تنهون عنه } على أنّ المنهيات قسمان : كبائر ، ودونها ؛ وهي التي تسمّى الصغائر ، وصفا بطريق المقابلة ، وقد سمّيت هنا سيّئات . ووعد بأنّه يغفر السيّئات للذين يجتنبون كبائر المنهيات ، وقال في آية النجم ( 32 ) { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللّمم } فسمّى الكبائر فواحشَ وسمّى مقابلها اللَّمم ، فثبت بذلك أنّ المعاصي عند الله قسمان : معاص كبيرة فاحشة ، ومعاص دون ذلك يكثر أن يُلمّ المؤمن بها ، ولذلك اختلف السلف في تعيين الكبائر . فعن علي : هي سبع الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ، والفرار يوم الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة .
واستدلّ لجميعها بما في القرآن من أدلّة جازِمِ النهي عنها . وفي حديث البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم « اتّقوا السبع الموبقات . . . » فذكر التي ذكرها عليّ إلاّ أنّه جعل السحر عوض التعرّب . وقال عبد الله بن عمر : هي تسع بزيادة الإلحاد في المسجد الحرام ، وعقوق الوالدين . وقال ابن مسعود : هي ما نُهي عنه من أول سورة النساء إلى هنا . وعن ابن عبّاس : كلّ ما ورد عليه وعيد نار أو عذاب أو لعنة فهو كبيرة . وعن ابن عباس : الكبائر ما نهى الله عنه في كتابه .
وأحسن ضبطِ الكبيرة قول إمام الحرمين : هي كلّ جريمة تؤذن بقلّة اكتراث مرتكبها بالدين وبضعف ديانته . ومن السلف من قال : الذنوب كلّها سواء إن كانت عن عمد . وعن أبي إسحاق الإسفرائيني أنّ الذنوب كلّها سواء مطلقاً ، ونفَى الصغائر . وهذان القولان واهيان لأنّ الأدلّة شاهدة بتقسيم الذنوب إلى قسمين ، ولأنّ ما تشتمل عليه الذنوب من المفاسد متفاوت أيضاً ، وفي الأحاديث الصحيحة إثبات نوع الكبائر وأكبر الكبائر .
ويترتّب على إثبات الكبائر والصغائر أحكام تكليفية : منها المخاطبة بتجنّب الكبيرة تجنّبا شديداً ، ومنها وجوب التوبة منها عند اقترابها ، ومنها أنّ ترك الكبائر يعتبر توبة من الصغائر ، ومنها سلب العدالة عن مرتكب الكبائر ، ومنها نقض حكم القاضي المتلبّس بها ، ومنها جواز هجران المتجاهر بها ، ومنها تغيير المنكر على المتلبّس بها . وتترتّب عليها مسائل في أصول الدين : منها تكفير مرتكب الكبيرة عند طائفة من الخوارج ، التي تَفرّق بين المعاصي الكبائر والصغائر ؛ واعتباره منزلة بين الكفر والإسلام عند المعتزلة ، خلافاً لجمهور علماء الإسلام .
فمن العجائب أن يقول قائل : إنّ الله لم يميّز الكبائر عن الصغائر ليكون ذلك زاجراً للناس عن الإقدام على كلّ ذنب ، ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات ، وليلة القدر في ليالي رمضان ، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة ، هكذا حكاه الفخر في التفسير ، وقد تبيّن ذهول هذا القائل ، وذهول الفخر عن ردّه ، لأنّ الأشياء التي نظَّروا بها ترجع إلى فضائل الأعمال التي لا يتعلّق بها تكليف ؛ فإخفاؤها يقصد منه الترغيب في توخّي مَظانّها ليكثر الناس من فعل الخير ، ولكن إخفاء الأمر المكلّف به إيقاع في الضلالة ، فلا يقع ذلك من الشارع .
والمدخل بفتح الميم اسم مَكان الدخول ، ويجوز أن يكون مصدراً ميمياً . والمعنى : ندخلكم مكانا كريماً ، أو ندخلكم دخولاً كريماً . والكريم هو النفيس في نوعه . فالمراد إمّا الجنة وإمّا الدخول إليها ، والمراد به الجَنّة . والمُدخل بصمّ الميم كذلك مكانُ أو مَصدرُ أدْخل . وقرأ نافع ، وأبو جعفر : مَدْخلا بفتح الميم وقرأ بقية العشرة بضمّ الميم .