في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

22

ومن ثم نفى شفاعتهم لهم في الآية التالية . وذلك في مشهد تتفزع له الأوصال في حضرة ذي الجلال :

( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) . .

فالشفاعة مرهونة بإذن الله . والله لا يأذن في الشفاعة في غير المؤمنين به المستحقين لرحمته . فأما الذين يشركون به فليسوا أهلا لأن يأذن بالشفاعة فيهم ، لا للملائكة ولا لغيرهم من المأذونين بالشفاعة منذ الابتداء !

ثم صور المشهد الذي تقع فيه الشفاعة ؛ وهو مشهد مذهل مرهوب :

( حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ? قالوا : الحق وهو العلي الكبير ) . .

إنه مشهد في اليوم العصيب . يوم يقف الناس ، وينتظر الشفعاء والمشفوع فيهم أن يتأذن ذو الجلال في عليائه بالشفاعة لمن ينالون هذا المقام . ويطول الانتظار . ويطول التوقع . وتعنو الوجوه . وتسكن الأصوات . وتخشع القلوب في انتظار الإذن من ذي الجلال والإكرام .

ثم تصدر الكلمة الجليلة الرهيبة ، فتنتاب الرهبة الشافعين والمشفوعين لهم . ويتوقف إدراكهم عن الإدراك .

( حتى إذا فزّع عن قلوبهم ) . . وكشف الفزع الذي أصابهم ، وأفاقوا من الروعة التي غمرتهم فأذهلتهم . ( قالوا : ما ذا قال ربكم ? )يقولها بعضهم لبعض . لعل منهم من يكون قد تماسك حتى وعى . ( قالوا : الحق ) . . ولعلهم الملائكة المقربون هم الذين يجيبون بهذه الكلمة المجملة الجامعة : ( قالوا الحق ) . قال ربكم : الحق . الحق الكلي . الحق الأزلي . الحق اللدني . فكل قوله الحق . ( وهو العلي الكبير ) . . وصف في المقام الذي يتمثل فيه العلو والكبر للإدراك من قريب . .

وهذه الإجابة المجملة تشي بالروعة الغامرة ، التي لا ينطق فيها إلا بالكلمة الواحدة !

فهذا هو موقف الشفاعة المرهوب . وهذه صورة الملائكة فيه بين يدي ربهم . فهل بعد هذا المشهد يملك أحد أن يزعم أنهم شركاء لله ، شفعاء في من يشرك بالله ? !

 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

{ ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } المعنى لا تنفع الشفاعة عند الله إلا لمن أذن الله له أن يشفع فإنه لا يشفع أحد إلا بإذنه ، وقيل : المعنى لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الله أن يشفع فيه ، والمعنى : أن الشفاعة على كل وجه لا تكون إلا بإذن الله ، ففي ذلك رد على المشركين الذين كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله .

{ حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم } تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية في الملائكة عليهم السلام فإنهم إذا سمعوا الوحي إلى جبريل يفزعون لذلك فزعا عظيما ، فإذا زال الفزع عن قلوبهم قال بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم فيقولون قال الحق ، ومعنى { فزع عن قلوبهم } زال عنها الفزع والضمير في قلوبهم وفي قالوا للملائكة ، فإن قيل : كيف ذلك ولم يتقدم لهم ذكر يعود الضمير عليه ؟ فالجواب أنه قد وقعت إليهم إشارة بقوله : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } لأن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكة ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، فذكر الشفاعة يقتضي ذكر الشافعين ، فعاد الضمير على الشفعاء الذين دل عليهم لفظ الشفاعة ، فإن قيل : بم اتصل قوله : { حتى إذا فزع عن قلوبهم } ولأي شيء وقعت حتى غائية ؟ فالجواب أنه اتصل بما فهم من الكلام من أن ثم انتظارا للإذن ، وفزعا وتوقفا حتى يزول الفزع بالإذن في الشفاعة ، ويقرب هذا في المعنى من قوله : { يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن } [ النبأ : 38 ] ولم يفهم بعض الناس اتصال هذه الآية بما قبلها فاضطربوا فيها حتى قال بعضهم : هي في الكفار بعد الموت ، ومعنى { فزع عن قلوبهم } رأوا الحقيقة ، فقيل لهم : ماذا قال ربكم ؟ فيقولون : قال الحق فيقرون حين لا ينفعهم الإقرار ، والصحيح أنها في الملائكة لورود ذلك في الحديث ، ولأن القصد الرد على الكفار ، الذين عبدوا الملائكة ، فذكر شدة خوف الملائكة من الله وتعظيمهم له .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

ولما كان قد بقي من أقسام النفع الشفاعة ، وكان المقصود{[56798]} منها أثرها لا عينها ، نفاه بقوله : { ولا تنفع } أي في أيّ{[56799]} وقت من الأوقات { الشفاعة عنده } أي بوجه من الوجوه بشيء من الأشياء { إلا لمن } ولما كانت كثافة الحجاب {[56800]}أعظم في الهيبة ، وكان البناء للمجهول أدل على كثافة الحجاب{[56801]} ، قال في قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي{[56802]} بجعل المصدر عمدة الكلام وإسناد الفعل إليه : { أذن له } أي وقع منه إذن له على لسان من شاء من جنوده بواسطة واحدة أو أكثر في أن يشفع في غيره أو في{[56803]} أن يشفع فيه{[56804]} غيره ، وقراءة الباقين بالبناء{[56805]} للفاعل تدل على العظمة من وجه آخر ، وهو أنه لا افتيات{[56806]} عليه بوجه من أحد ما ، بل لابد{[56807]} أن ينص هو سبحانه على الإذن ، وإلا فلا استطاعة عليه أصلاً .

ولما كان من المعلوم أن الموقوفين{[56808]} في محل خطر للعرض على ملك مرهوب متى نودي باسم أحد منهم فقيل {[56809]}أين فلان{[56810]} ينخلع قلبه وربما أغمي عليه ، فلذلك{[56811]} كان من المعلوم مما مضى أنه متى برز النداء من قبله تعالى في ذلك المقام الذي ترى فيه كل أمة جاثية يغشى على الشافعين والمشفوع لهم ، فلذلك حسن كل الحسن قوله تعالى : { حتّى } وهو غاية لنحو أن يقال : فإذا أذن له وقع الصعق لجلاله وكبريائه وكماله حتى { إذا فزع } أي أزيل الفزع بأيسر أمر وأهون سعي من أمره سبحانه - هذا في قراءة الجماعة بالبناء للمجهول ، وأزال هو سبحانه الفزع في قراءة ابن عامر ويعقوب{[56812]} ، إشارة إلى أنه لا يخرج عن أمره شيء { عن قلوبهم } أي الشافعين والمشفوع لهم ، فإن " فعّل " يأتي للإزالة كقذّيت عينه - إذا{[56813]} أزلت عنها القذى { قالوا } أي قال بعضهم لبعض : { ماذا قال ربكم } ذاكرين صفة الإحسان ليرجع إليهم رجاؤهم فتسكن لذلك قلوبهم .

ولما كان ملوك الدنيا ربما قال بعضهم قولاً ثم بدا له فرجع عنه ، أو عارضه{[56814]} فيه شخص من أعيان جنده فينتقض ، أخبر أن الملك الديان ليس كذلك فقال : { قالوا الحق } أي الثابت الذي لا يمكن أن يبدل ، بل يطابقه الواقع فلا يكون شيء يخالفه { وهو العلي } أي فلا رتبة إلا دون رتبته سبحانه وتعالى ، فلا يقول غير الحق من نقص علم { الكبير * } أي الذي لا كبير غيره فيعارضه في شيء من حكم ؛ روى البخاري في التفسير{[56815]} عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال{[56816]} : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها{[56817]} خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان { فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا } - للذي قال - { الحق وهو العلي الكبير } فيسمعها{[56818]} مسترق السمع ، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض – و{[56819]} وصفه سفيان بكفه فحرفها{[56820]} وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة ويلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن ، فربما{[56821]} أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة{[56822]} فيقال : أليس قد{[56823]} قال لنا يوم{[56824]} كذا وكذا كذا وكذا ، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء " وقال في التوحيد : وقال مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنهما : " وإذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات{[56825]} فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا{[56826]} أنه الحق ونادوا ماذا قال ربكم قالوا الحق " وروى هذا الحديث العيسي في جزئه عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً عليه ، قال : كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يسمعون فيه الوحي ، وفيه : فلا ينزل على سماء إلا صفقوا ، وفي آخره : ثم يقال : يكون العام كذا ويكون العام كذا ، فتسمع الجن ذلك فتخبر به الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا ، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم دحروا ، فقالت العرب : هلك من في السماء ، فذكر ذبح العرب لأموالهم من الإبل وغيرها ، حتى نهتهم ثقيف ، واستدلوا بثبات معلم النجوم ، ثم أمر إبليس جنده بإحضار التراب وشمه حتى عرف أن الحدث من مكة{[56827]} .


[56798]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: للمقصود.
[56799]:سقط من ظ.
[56800]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[56801]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[56802]:راجع نثر المرجان 5/471.
[56803]:سقط من ظ.
[56804]:زيد من ظ وم ومد.
[56805]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: للبناء.
[56806]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: قينات.
[56807]:زيد في م: من.
[56808]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الموقنين.
[56809]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أن فلانا.
[56810]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أن فلانا.
[56811]:من م ومد، وفي الأصل: ولذلك، والعبارة من هنا بما فيها هذه الكلمة ساقطة من ظ إلى "على الشافعين والمشفوع لهم".
[56812]:راجع نثر المرجان 5/472.
[56813]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: أي.
[56814]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: راجعه.
[56815]:راجع من صحيحه 2/708.
[56816]:زيد من ظ وم ومد والصحيح.
[56817]:من ظ وم ومد والصحيح، وفي الأصل: أجنحتها.
[56818]:من ظ وم ومد والصحيح، وفي الأصل: فيستمع.
[56819]:زيدت الواو من الصحيح.
[56820]:من م ومد والصحيح، وفي الأصل وظ: فخرقها.
[56821]:من ظ وم ومد والصحيح، وفي الأصل: وربما.
[56822]:من ظ وم ومد والصحيح، وفي الأصل: كذب.
[56823]:زيد من ظ وم ومد والصحيح.
[56824]:من ظ وم ومد والصحيح، وفي الأصل: بيوم.
[56825]:زيد في صحيح البخاري 2/1114: شيئا.
[56826]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: عرف.
[56827]:زيد ما بين الحاجزين من ظ ومد.