( واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة ، إنا هدنا إليك ) .
رجعنا إليك ، والتجأنا إلى حماك ، وطلبنا نصرتك .
وهكذا قدم موسى - عليه السلام - لطلب المغفرة والرحمة ، بالتسليم لله والاعتراف بحكمة ابتلائه ، وختمه بإعلان الرجعة إلى الله والالتجاء إلى رحابه . فكان دعاؤه نموذجاً لأدب العبد الصالح في حق الرب الكريم ؛ ونموذجاً لأدب الدعاء في البدء والختام .
( قال : عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء ) . .
تقريراً لطلاقة المشيئة ، التي تضع الناموس اختياراً ، وتجريه اختياراً : وإن كانت لا تجريه إلا بالعدل والحق على سبيل الاختيار أيضاً ، لأن العدل صفة من صفاته تعالى لا تتخلف في كل ما تجري به مشيئته ، لأنه هكذا أراد . . فالعذاب يصيب به من يستحق عنده العذاب . . وبذلك تجري مشيئته . . أما رحمته فقد وسعت كل شيء ؛ وهي تنال من يستحقها عنده كذلك . . وبذلك تجري مشيئته ، ولا تجري مشيئته - سبحانه - بالعذاب أو بالرحمة جزافاً أو مصادفة . تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
وبعد تقرير القاعدة يطلع الله نبيه موسى على طرف من الغيب المقبل ، إذ يطلعه على نبأ الملة الأخيرة التي سيكتب الله لها رحمته التي وسعت كل شيء . . بهذا التعبير الذي يجعل رحمة الله أوسع من ذلك الكون الهائل الذي خلقه ، والذي لا يدرك البشر مداه . . فيالها من رحمة لا يدرك مداها إلا الله !
( فسأكتبها للذين يتقون ، ويؤتون الزكاة ، والذين هم بآياتنا يؤمنون ) .
{ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ } هناك الفصل الأول من الدعاء دفع المحذور ، وهذا لتحصيل المقصود { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ } أي : أوجب لنا وأثبت لنا فيهما حسنة ، وقد تقدم [ تفسير ]{[12173]} ذلك في سورة البقرة . [ الآية : 201 ]
{ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } أي : تبنا ورجعنا وأنبنا إليك . قاله ابن عباس ، وسعيد بن جُبَير ، ومجاهد ، وأبو العالية ، والضحاك ، وإبراهيم التيمي ، والسُّدِّي ، وقتادة ، وغير واحد . وهو كذلك لُغَة .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن شريك ، عن جابر ، عن عبد الله بن نُجيَّ{[12174]} عن علي [ رضي الله عنه ]{[12175]} قال : إنما سميت اليهود لأنهم قالوا : { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ }
جابر - هو ابن يزيد الجُعْفي - ضعيف .
قال تعالى مجيبا لموسى في قوله : { إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ [ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ ] }{[12176]} الآية : { عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ] }{[12177]} أي : أفعل ما أشاء ، وأحكم ما أريد ، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك ، سبحانه لا إله إلا هو .
وقوله تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } آية عظيمة الشمول والعموم ، كقوله إخبارًا عن حَمَلة العرش ومن حوله أنهم يقولون : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [ غافر : 7 ]
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا الجُرَيري ، عن أبي عبد الله الجُشَمي ، حدثنا جُنْدُب - هو ابن عبد الله البَجَلي ، رضي الله عنه - قال : جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عَقَلها ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلق عقالها ، ثم ركبها ، ثم نادى : اللهم ، ارحمني ومحمدًا ، ولا تشرك في رحمتنا أحدًا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتقولون هذا أضل أم بعيره ؟ ألم تسمعوا ما قال ؟ " قالوا : بلى . قال : " لقد حَظَرْت{[12178]} رحمةً واسعة ؛ إن الله ، عز وجل ، خلق مائة رحمة ، فأنزل رحمة واحدة يتعاطف بها الخلق ؛ جنّها وإنسها وبهائمها ، وأخَّرَ عنده تسعًا وتسعين{[12179]} رحمة ، أتقولون هو أضل أم بعيره ؟ " .
رواه أبو داود عن علي بن نصر ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث ، به{[12180]}
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا يحيى بن سعيد عن سليمان ، عن أبي عثمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله عز وجل ، مائة رحمة ، فمنها رحمة يتراحمُ بها الخلق ، وبها تعطف الوحوش على أولادها ، وأخر تسعًا وتسعين إلى يوم القيامة " .
تفرد{[12181]} بإخراجه مسلم ، فرواه من حديث سُلَيمان - هو ابن طِرْخان - وداود بن أبي هند كلاهما ، عن أبي عثمان - واسمه عبد الرحمن بن مل{[12182]} - عن سلمان ، هو الفارسي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، به{[12183]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، عن عاصم بن بَهْدَلَة ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ؛ أن النبي{[12184]} صلى الله عليه وسلم قال : " لله مائة رحمة ، عنده تسعة وتسعون ، وجعل عندكم واحدة تتراحمون بها بين{[12185]} الجن والإنس وبين الخلق ، فإذا كان يوم القيامة ضمها إليه " . تفرد به أحمد من هذا الوجه{[12186]}
وقال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لله مائة رحمة ، فقسم منها جزءًا واحدًا بين الخلق ، فيه يتراحم الناس والوحش والطير " .
ورواه ابن ماجه من حديث أبي معاوية ، عن الأعمش ، به{[12187]}
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا سعد أبو غَيْلان الشيباني ، عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم ، عن صلة بن زُفَر ، عن حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، ليدخلن الجنة الفاجرُ في دينه ، الأحمق في معيشته . والذي نفسي بيده ، ليدخلن الجنة الذي قد مَحَشته النار بذنبه . والذي نفسي بيده ، ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه " .
هذا حديث غريب{[12188]} جدا ، " وسعد " هذا لا أعرفه{[12189]}
وقوله : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الآية ، يعني : فسأوجب حُصُول رحمتي مِنَّةً مني وإحسانا إليهم ، كما قال تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [ الأنعام : 54 ]
وقوله : { لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي : سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يتقون ، أي : الشرك والعظائم من الذنوب .
{ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } قيل : زكاة النفوس . وقيل : [ زكاة ]{[12190]} الأموال . ويحتمل أن تكون عامة لهما ؛ فإن الآية مكية { وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } أي : يصدقون .
{ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة } حسن معيشة وتوفيق طاعة . { وفي الآخرة } الجنة . { إنا هدنا إليك } تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع . وقرئ بالكسر من هاده يهيده إذا أماله ، ويحتمل أن يكون مبنيا للفاعل وللمفعول بمعنى أملنا أنفسنا وأملنا إليك ، ويجوز أن يكون المضموم أيضا مبنيا للمفعول منه على لغة من يقول عود المريض . { قال عذابي أصيب به من أشاء } تعذيبه . { ورحمتي وسعت كل شيء } في الدنيا المؤمن والكافر بل المكلف وغيره . { فسأكتبها } فسأثبتها في الآخرة ، أو فسأكتبها كتبة خاصة منكم يا بني إسرائيل . { للذين يتقون } الكفر والمعاصي . { ويؤتون الزكاة } خصها بالذكر لإنافتها ولأنها كانت أشق عليهم . { والذين هم بآياتنا يؤمنون } فلا يكفرون بشيء منها .
{ اكتب } معناه أثبت واقض ، والكتب مستعمل في ما يخلد ، و { حسنة } لفظ عام في كل ما يحسن في الدنيا من عافية وغنى وطاعة لله تعالى وغير ذلك وحسنة الآخرة الجنة لا حسنة دونها ولا مرمى وراءها و { هُدنا } بضم الهاء معناه تبنا ، وقرأ أبو وجزة «هِدنا » بكسر الهاء ومعناه حركنا أنفسنا وجذبناها لطاعتك ، وهو مأخوذ من هاد يهيد إذا حرك ، وقوله تعالى : { قال عذابي أصيب به من أشاء } الآية ، قال الله عز وجل : إن الرجفة التي أنزلت بالقوم هي عذابي أصيب به من شئت ثم أخبر عن رحمته ، ويحتمل وهو الأظهر أن الكلام قصد به الخبر عن عذابه وعن رحمته من أول ما ابتدأ ، ويندرج أمر أصحاب الرجفة في عموم قوله عند { عذابي أصيب به من أشاء } وقرأ الحسنَ وطاوس وعمرو بن فائد «من أساء » من الإساءة أي من عمل غير صالح ، وللمعتزلة بهذه القراءة تعلق من وجهين : أحدهما إنفاذ الوعيد ، والآخر خلق المرء أفعاله وأن أساء لا فعل فيه لله ، وهذان التعلقان فيهما احتمال ينفصل عنه كما ينفصل عن سائر الظواهر إلا أن القرأة أطنبوا في التحفظ من هذه القراءة ، وقال أبو عمرو الداني : لا تصح هذه القراءة عن الحسن وطاوس ، وعمرو بن فائد رجل سوء ، وذكر أبو حاتم أن سفيان بن عيينة قرأها مرة واستحسنها فقام إليه عبد الرحمن المقبري وصاح به وأسمعه فقال سفيان : لم أدر ولم أفطن لما يقول أهل البدع ، وهذا إفراط من المقربين وحملهم على ذلك شحهم على الدين وظنهم أن الانفصال عن تعلق المعتزلة متعذر .
ثم وصف الله تعالى رحمته بأنها { وسعت كل شيء } فقال بعض العلماء : هو عموم في الرحمة وخصوص في قوله { كل شيء } والمراد من قد سبق في علم الله أن يرحمه دون من سواهم ، وقال بعضهم : هو عموم في رحمة الدنيا لأن الكافر والمؤمن والحيوان كله متقلب في رحمة الله الدنياوية ، وقالت فرقة : قوله : { ورحمتي } يراد به التوبة وهي خاصة على هذا في الرحمة وفي الأشياء لأن المراد من قد تقع منه التوبة ، وقال نوف البكالي : إن إبليس لما سمع قول الله تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء } طمع في رحمة الله فلما سمع { فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة } يئس إبليس وبقيت اليهود والنصارى ، فلما تمادت الصفة تبين أن المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويئس اليهود والنصارى من الآية ، وقال نحوه قتادة ، وقوله : { فسأكتبها } أي أقدرها وأقضيها ، وقال نوف البكالي : إن موسى عليه السلام قال يا رب جعلت وفادتي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال نوف البكالي : فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم ، وقوله : { يتقون } في هذه الآية قالت فرقة : معناه يتقون الشرك ، وقالت فرقة : يتقون المعاصي .
قال القاضي أبو محمد : ومن قال : الشرك لا غير خرج إلى قول المرجئة ، ويرد عليه من الآية شرط الأعمال بقوله : { ويؤتون الزكاة } ، ومن قال المعاصي ولا بد خرج إلى قول المعتزلة ، والصواب بأن تكون اللفظة عامة ولكن ليس بأن نقول ولا بد من اتقاء المعاصي بل بأن نقول مع أن مواقع المعاصي في مشيئة الله تعالى ، ومعنى : { يتقون } يجعلون بينهم وبين المتقى وقاية وحجاباً ، فذكر الله تعالى الرتبة العالية ليتسابق السامعون إليها ، وقوله : { ويؤتون الزكاة } الظاهر من قوله { يؤتون } أنها الزكاة المختصة بالمال وخصها هنا بالذكر تشريفاً لها وجعلها مثالاً لجميع الطاعات ، وقال ابن عباس فيما روي عنه : ويؤتون الأعمال التي يزكون بها أنفسهم .