ومرة أخرى يتكرر الهتاف للذين آمنوا . الهتاف بهم ليستجيبوا لله والرسول ، مع الترغيب في الاستجابة والترهيب من الإعراض ؛ والتذكير بنعمة الله عليهم حين استجابوا لله وللرسول :
( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه . وأنه إليه تحشرون . واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، واعلموا أن الله شديد العقاب . واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس ، فآواكم وأيدكم بنصره ، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) . .
إن رسول الله [ ص ] إنما يدعوهم إلى ما يحييهم . . إنها دعوة إلى الحياة بكل صور الحياة ، وبكل معاني الحياة . .
إنه يدعوهم إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول ، وتطلقها من أوهاق الجهل والخرافة ؛ ومن ضغط الوهم والأسطورة ، ومن الخضوع المذل للأسباب الظاهرة والحتميات القاهرة ، ومن العبودية لغير الله والمذلة للعبد أو للشهوات سواء . .
ويدعوهم إلى شريعة من عند الله ؛ تعلن تحرر " الإنسان " وتكريمه بصدورها عن الله وحده ، ووقوف البشر كلهم صفا متساوين في مواجهتها ؛ لا يتحكم فرد في شعب ، ولا طبقة في أمة ، ولا جنس في جنس ، ولا قوم في قوم . . ولكنهم ينطلقون كلهم أحراراً متساوين في ظل شريعة صاحبها الله رب العباد .
ويدعوهم إلى منهج للحياة ، ومنهج للفكر ، ومنهج للتصور ؛ يطلقهم من كل قيد إلا ضوابط الفطرة ، المتمثلة في الضوابط التي وضعها خالق الإنسان ، العليم بما خلق ؛ هذه الضوابط التي تصون الطاقة البانية من التبدد ؛ ولا تكبت هذه الطاقة ولا تحطمها ولا تكفها عن النشاط الإيجابي البناء .
ويدعوهم إلى القوة والعزة والاستعلاء بعقيدتهم ومنهجهم ، والثقة بدينهم وبربهم ، والانطلاق في " الأرض " كلها لتحرير " الإنسان " بجملته ؛ وإخراجه من عبودية العباد إلى عبودية الله وحده ؛ وتحقيق إنسانيته العليا التي وهبها له الله ، فاستلبها منه الطغاة !
ويدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله ، لتقرير ألوهية الله سبحانه - في الأرض وفي حياة الناس ؛ وتحطيم ألوهية العبيد المدعاة ؛ ومطاردة هؤلاء المعتدين على ألوهية الله - سبحانه - وحاكميته وسلطانه ؛ حتى يفيئوا إلى حاكمية الله وحده ؛ وعندئذ يكون الدين كله لله . حتى إذا أصابهم الموت في هذا الجهاد كان لهم في الشهادة حياة .
ذلك مجمل ما يدعوهم إليه الرسول [ ص ] وهو دعوة إلى الحياة بكل معاني الحياة .
إن هذا الدين منهج حياة كاملة ، لا مجرد عقيدة مستسرة . منهج واقعي تنمو الحياة في ظله وتترقى . ومن ثم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 24 ) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 25 )
هو دعوة إلى الحياة في كل صورها وأشكالها . وفي كل مجالاتها ودلالاتها . والتعبير القرآني يجمل هذا كله في كلمات قليلة موحية :
( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) . .
استجيبوا له طائعين مختارين ؛ وإن كان الله - سبحانه - قادراً على قهركم على الهدى لو أراد :
( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) . .
ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة . . ( يحول بين المرء وقلبه )فيفصل بينه وبين قلبه ؛ ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه ، ويصرفه كيف شاء ، ويقلبه كما يريد . وصاحبه لا يملك منه شيئا وهو قلبه الذي بين جنبيه !
إنها صورة رهيبة حقاً ؛ يتمثلها القلب في النص القرآني ، ولكن التعبير البشري يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب ، ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس !
إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة ، والحذر الدائم ، والاحتياط الدائم . اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته ؛ والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقا ؛ والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس . . والتعلق الدائم بالله - سبحانه - مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته ، أو غفلة من غفلاته ، أو دفعة من دفعاته . .
ولقد كان رسول الله [ ص ] وهو رسول الله المعصوم يكثر من دعاء ربه : " اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " . . فكيف بالناس ، وهم غير مرسلين ولا معصومين ? !
إنها صورة تهز القلب حقا ؛ ويجد لها المؤمن رجفة في كيانه حين يخلو إليها لحظات ، ناظرا إلى قلبه الذي بين جنبيه ، وهو في قبضة القاهر الجبار ؛ وهو لا يملك منه شيئا ، وإن كان يحمله بين جنبيه ويسير !
صورة يعرضها على الذين آمنوا وهو يناديهم :
( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) . .
ليقول لهم : إن الله قادر على أن يقهركم على الهدى - لو كان يريد - وعلى الاستجابة التي يدعوكم إليها هذه الدعوة ، ولكنه - سبحانه - يكرمكم ؛ فيدعوكم لتستجيبوا عن طواعية تنالون عليها الأجر ؛ وعن إرادة تعلو بها إنسانيتكم وترتفع إلى مستوى الأمانة التي ناطها الله بهذا الخلق المسمى بالإنسان . . أمانة الهداية المختارة ؛ وأمانة الخلافة الواعية ، وأمانة الإرادة المتصرفة عن قصد ومعرفة .
فقلوبكم بين يديه . وأنتم بعد ذلك محشورون إليه . فما لكم منه مفر . لا في دنيا ولا في آخرة . وهو مع هذا يدعوكم لتستجيبوا استجابة الحر المأجور ، لا استجابة العبد المقهور .
قال البخاري : { اسْتَجِيبُوا } أجيبوا ، { لِمَا يُحْيِيكُمْ } لما يصلحكم . حدثنا إسحاق ، حدثنا روح ، حدثنا شعبة ، عن خبيب{[12792]} بن عبد الرحمن قال : سمعت حفص بن عاصم يحدث عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي ، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاني فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته فقال : " ما منعك أن تأتيني ؟ " ألم يقل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } ثم قال : " لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج " ، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج ، فذكرت له - وقال معاذ : حدثنا شعبة ، عن خُبَيْب{[12793]} بن عبد الرحمن ، سمع حفص بن عاصم ، سمع أبا سعيد رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا - وقال : " هي { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } السبع المثاني " {[12794]}
هذا لفظه بحروفه ، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث بذكر طرقه في أول تفسير الفاتحة .
وقال مجاهد في قوله : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } قال : الحق .
وقال قتادة { لِمَا يُحْيِيكُمْ } قال : هو هذا القرآن ، فيه النجاة والتقاة{[12795]} والحياة .
وقال السُّدِّيّ : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } ففي الإسلام إحياؤهم بعد موتهم بالكفر .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عُرْوَةَ بن الزبير : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي : للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل ، وقواكم بها بعد الضعف ، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم .
وقوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } قال ابن عباس : يحول بين المؤمن وبين الكفر ، وبين الكافر وبين الإيمان .
رواه الحاكم في مستدركه موقوفا ، وقال : صحيح ولم يخرجاه{[12796]} ورواه ابن مَرْدُوَيه من وجه آخر مرفوعا{[12797]} ولا يصح لضعف إسناده ، والموقوف أصح . وكذا قال مجاهد ، وسعيد ، وعكرمة ، والضحاك ، وأبو صالح ، وعطية ، ومُقَاتِل بن حيَّان ، والسُّدِّيّ .
وفي رواية عن مجاهد في قوله : { يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } حتى تركه لا يعقل .
وقال السدي : يحول بين الإنسان وقلبه ، فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه .
وقال قتادة هو كقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] .
وقد وردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يناسب هذه الآية .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : " يا مُقَلِّب القلوب ، ثبت قلبي على دينك " . قال : فقلنا : يا رسول الله ، آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ قال{[12798]} نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها " .
وهكذا رواه الترمذي في " كتاب القدر " من جامعه ، عن هناد بن السري ، عن أبي معاوية محمد بن حازم الضرير ، عن الأعمش - واسمه سليمان بن مهران - عن أبي سفيان - واسمه طلحة بن نافع - عن أنس{[12799]} ثم قال : حسن . وهكذا روي عن غير واحد عن الأعمش ، رواه بعضهم عنه ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحديث أبي سفيان عن أنس أصح{[12800]}
حديث آخر : قال عبد بن حميد{[12801]} في مسنده : حدثنا عبد الملك بن عمرو ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى ، عن بلال ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو : " يا مُقَلِّب القلوب ثَبِّت قلبي على دينك " .
هذا حديث جيد الإسناد إلا أن فيه انقطاعا وهو - مع ذلك - على شرط أهل السنن ولم يخرجوه{[12802]}
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم قال : سمعت ابن جابر يقول : حدثني بسر بن عبد الله{[12803]} الحضرمي : أنه سمع أبا إدريس الخولاني يقول : سمعت النواس بن سَمْعَان الكلابي ، رضي الله عنه ، يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه " . وكان يقول : " يا مقلب القلوب ، ثبت قلوبنا{[12804]} على دينك " . قال : " والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه " .
وهكذا رواه النسائي وابن ماجه ، من حديث عبد الرحمن بن يزيد{[12805]} بن جابر{[12806]} فذكر مثله .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا حماد بن زيد ، عن المعلى بن زياد ، عن الحسن ؛ أن عائشة قالت : دعوات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بها : " يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك " . قالت : فقلت : يا رسول الله ، إنك تكثر{[12807]} تدعو بهذا الدعاء . فقال : " إن قلب الآدمي بين إصبعين{[12808]} من أصابع الله ، فإذا شاء أزاغه{[12809]} وإذا شاء أقامه{[12810]} {[12811]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا عبد الحميد ، حدثني شهر ، سمعت أم سلمة تحدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه يقول : " اللهم يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك " . قالت : فقلت{[12812]} يا رسول الله ، أو إن القلوب لتقلب{[12813]} ؟ قال : " نعم ، ما{[12814]} خلق الله من بشر من بني آدم إلا أن قلبه بين إصبعين من أصابع الله ، عز وجل ، فإن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه . فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب " . قالت : قلت : يا رسول الله ، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال : " بلى ، قولي : اللهم رب النبي محمد ، اغفر لي ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي ، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني " {[12815]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا حيوة ، أخبرني أبو هانئ ، أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبَلي{[12816]} أنه سمع عبد الله بن عمرو ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ، كقلب واحد يُصَرِّف{[12817]} كيف شاء{[12818]} . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم مُصَرِّف القلوب ، صَرِّف قلوبنا إلى طاعتك " .
انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري ، فرواه مع النسائي من حديث حَيْوَة بن شُرَيْح المصري ، به . {[12819]}
{ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } بالطاعة . { إذا دعاكم } وحد الضمير فيه لما سبق ولان دعوة الله تسمع من الرسول . وروي أنه عليه الصلاة والسلام مر على أبي وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال : ما منعك عن إجابتي قال : كنت أصلي ، قال : " ألم تخبر فيما أوحي إلي " { استجيبوا لله وللرسول } . واختلف فيه فقيل هذا لأن إجابته لا تقطع الصلاة فإن الصلاة أيضا إجابة . وقيل لأن دعاءه كان لأمر لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله وظاهر الحديث يناسب الأول . { لما يحييكم } من العلوم الدينية فإنها حياة القلب والجهل موته . قال :
لا تعجبن الجهول حلّته *** فذاك ميتٌ وثوبه كفن
أو مما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد والأعمال ، أو من الجهاد فإنه سبب بقائكم إذ لو تركوه لغلبهم العدو وقتلهم ، أو الشهادة لقوله تعالى : { بل أحياء عند ربهم يرزقون } . { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله تعالى : { ونحن اقرب إليه من حبل الوريد } وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب مما عسى يغفل عنه صاحبها ، أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره ، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويحول بينه وبين الكفر إن أراد سعادته ، وبينه وبين الإيمان إن قضى شقاوته . وقرئ " بين المرِّ " بالتشديد على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الراء وإجراء الوصل الوقف على لغة من يشدد فيه . { وأنه إليه تحشرون } فيجازيكم بأعمالكم .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } الآية ، هذا الخطاب للمؤمنين المصدقين بلا خلاف ، و { استجيبوا } بمعنى أجيبوا ، ولكن عرف الكلام أن يتعدى استجاب بلام ويتعدى أجاب دوم لام ، وقد يجيء تعدي استجاب بغير لام والشاهد قول الشاعر : [ الطويل ]
وداعٍ دعا يا من يجيبُ إلى النِّدا*** فلم يستجبْه عند ذاك مجيب{[5275]}
وقوله { لما يحييكم } قال مجاهد والجمهور : المعنى للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواه ، وهذا إحياء مستعار لأنه من موت الكفر والجهل ، وقيل الإسلام وهذا نحو الأول ويضعف من جهة أن من آمن لا يقال له ادخل في الإسلام ، وقيل { لما يحييكم } معناه للحرب وجهاد العدو وهو يحي بالعزة والغلبة والظفر ، فسمي ذلك حياة كما تقول حييت حال فلان إذا ارتفعت ، ويحيي أيضاً كما يحيي الإسلام والطاعة وغير ذلك بأنه يؤدي إلى الحياة الدائمة في الآخرة ، وقال النقاش : المراد إذا دعاكم للشهادة .
قال القاضي أبو محمد : فهذه صلة حياة الدنيا بحياة الآخرة ، وقوله { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } يحتمل وجوهاً ، ومنها أنه لما أمرهم بالاستجابة في الطاعة حضهم على المبادرة والاستعجال فقال : { واعلموا أن الله يحول بين المراء وقلبه } بالموت والقبض أي فبادروا بالطاعات ، ويلتئم مع هذا التأويل قوله { وأنه إليه تحشرون } ، أي فبادروا الطاعات وتزودوها ليوم الحشر ، ومنها أن يقصد بقوله { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } إعلامهم أن قدرة الله وإحاطته وعلمه والجة بين المرء وقلبه حاصلة هناك حائلة بينه وبين قلبه .
قال القاضي أبو محمد : فكأن هذا المعنى يحض على المراقبة والخوف لله المطلع على الضمائر ، ويشبه على هذا التأويل هذا المعنى قوله تعالى : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد }{[5276]} ، حكي هذا التأويل عن قتادة ، ويحتمل أن يريد تخويفهم إن لم يمتثلوا الطاعات ويستجيبوا لله وللرسول بما حل بالكفار الذين أرادهم بقوله { ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } ، لأن حتمه عليهم بأنهم لو سمعوا وفهموا لم ينتفعوا يقتضي أنه قد كان حال بينهم وبين قلوبهم ، فكأنه قال للمؤمنين في هذه الأخرى استجيبوا لله وللرسول ولا تأمنوا إن تفعلوا أن ينزل بكم ما نزل بالكفار من الحول بينهم وبين قلوبهم ، فنبه على ما جرى على الكفار بأبلغ عبارة وأعلقها بالنفس ، ومنها أن يكون المعنى ترجية لهم بأن الله يبدل الخوف الذي في قلوبهم من كثرة العدو فيجعله جرأة وقوة وبضد ذلك الكفار فإن الله هو مقلّب القلوب كما كان قسم النبي صلى الله عليه وسلم{[5277]} ، قال بعض الناس ومنه لا حول ولا قوة إلا بالله أي لا حول على معصية ولا قوى على طاعة إلا بالله ، وقال المفسرون في ذلك أقوالاً هي أجنبية من ألفاظ الآية حكاها الطبري ، منها أن الله يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان ونحو هذا{[5278]} ، وقرأ ابن أبي إسحاق «بين المِرء » بكسر الميم ذكره أبو حاتم ، قال أبو الفتح : وقرأ الحسن والزبيدي{[5279]} «بين المَرِّ » بفتح الميم وشد الراء المكسورة{[5280]} .
و { تحشرون } أي تبعثون يوم القيامة ، وروي عن طريق مالك بن أنس والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أبيّ بن كعب وهو في الصلاة فلم يجب وأسرع في بقية صلاته ، فلما جاءه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما سمعت فيما يوحى إلي { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } فقال أبيّ : لا جرم يا رسول الله لا تدعوني أبداً إلا أجبتك ، الحديث بطوله واختلاف ألفاظه{[5281]} ، وفي البخاري ومسلم أن ذلك وقع مع أبي سعيد بن المعلى{[5282]} ، وروي أنه وقع نحوه مع حذيفة بن اليمان في غزوة الخندق .