وهنا كذلك يقع ما لا يمكن وقوعه إلا في مثل هذه الأوساط . ويكشف السياق عن مشهد من صنع تلك المرأة الجريئة ، التي تعرف كيف تواجه نساء طبقتها بمكر كمكرهن وكيد من كيدهن :
( فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن ، وأعتدت لهن متكأ ، وآتت كل واحدة منهن سكينا ، وقالت : اخرج عليهن . فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن ، وقلن : حاش لله ! ما هذا بشرا . إن هذا إلا ملك كريم . قالت : فذلكن الذي لمتنني فيه . ولقد راودته عن نفسه فاستعصم . ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين ) . .
لقد أقامت لهن مأدبة في قصرها . وندرك من هذا أنهن كن من نساء الطبقة الراقية . فهن اللواتي يدعين إلى المآدب في القصور . وهن اللواتي يؤخذن بهذه الوسائل الناعمة المظهر . ويبدو أنهن كن يأكلن وهن متكئات على الوسائد والحشايا على عادة الشرق في ذلك الزمان . فأعدت لهن هذا المتكأ . وآتت كل واحدة منهن سكينا تستعملها في الطعام - ويؤخذ من هذا أن الحضارة المادية في مصر كانت قد بلغت شأوا بعيدا ، وأن الترف في القصور كان عظيما . فإن استعمال السكاكين في الأكل قبل هذه الآلاف من السنين له قيمته في تصوير الترف والحضارة المادية . وبينما هن منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة ، فاجأتهن بيوسف :
وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة .
وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيرا عن الدهشة بصنع الله . .
( ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ) .
وهذه التعبيرات دليل - كما قلنا في تقديم السورة - على تسرب شيء من ديانات التوحيد في ذلك الزمان .
{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } قال بعضهم : بقولهن . وقال محمد بن إسحاق : بل{[15145]} بَلَغهُنَّ حُسْنُ يوسف ، فأحببن أن يرينه ، فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته ومشاهدته ، فعند ذلك { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } أي : دعتهن إلى منزلها لتضيفهن { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً }
قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والحسن ، والسدي ، وغيرهم : هو المجلس المعد ، فيه مفارش ومخاد وطعام ، فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج{[15146]} ونحوه . ولهذا قال تعالى : { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا } وكان هذا مكيدة منها ، ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته ، { وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } وذلك أنها كانت قد خبأته في مكان آخر ، { فَلَمَّا } خرج و { رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } أي : أعظمن شأنه ، وأجللن قدره ؛ وجعلن يقطعن أيديهن دَهَشا برؤيته ، وهن يظنن أنهن يقطعن الأترج{[15147]} بالسكاكين ، والمراد : أنهن حززن أيديهن بها ، قاله غير واحد .
وعن مجاهد ، وقتادة : قطعن أيديهن حتى ألقينها ، فالله{[15148]} أعلم .
وقد ذكر عن زيد بن أسلم أنها قالت لهن بعدما أكلن وطابت أنفسهن ، ثم وضعت بين أيديهن أترجا{[15149]} وآتت كل واحدة منهن سكينا : هل لكن في النظر إلى يوسف ؟ قلن : نعم . فبعثت إليه تأمره أن اخرج إليهن{[15150]} فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن ، ثم أمرته أن يرجع فرجع ليرينه مقبلا ومدبرا ، وهن يحززن في أيديهن ، فلما أحسسن بالألم جعلن يولولن ، فقالت : أنتن من نظرة واحدة فعلتن هكذا ، فكيف ألام أنا ؟ فقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ، ثم قلن لها : وما نرى عليك من لوم بعد الذي رأينا ، لأنهن لم يرين في البشر شبهه ولا قريبا منه ، فإنه ، صلوات الله عليه وسلم{[15151]} كان قد أعطي شطر الحسن ، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بيوسف ، عليه السلام ، في السماء الثالثة ، قال : " فإذا هو قد أعطي شطر الحسن " {[15152]} وقال حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطي يوسف وأمه شطر الحسن " {[15153]} وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : أعطي يوسف وأمه ثلث الحسن .
وقال أبو إسحاق أيضا ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال : كان وجه يوسف مثل البرق ، وكانت المرأة إذا أتته لحاجة غطى وجهه مخافة أن تفتتن به .
ورواه الحسن البصري مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أعطي يوسف وأمه ثلث حسن أهل الدنيا ، وأعطى الناس الثلثين - أو قال : أعطي يوسف وأمه الثلثين والناس الثلث " {[15154]} وقال سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد عن ربيعة الجُرَشي قال : قسم الحسن نصفين ، فأعطي يوسف وأمه سارة نصف الحسن . والنصف الآخر بين سائر الخلق .
وقال الإمام أبو القاسم السهيلي : معناه : أن يوسف كان على النصف من حسن آدم ، عليه السلام ، فإن الله خلق آدم بيده على أكمل صورة وأحسنها ، ولم يكن في ذريته من يوازيه في جماله ، وكان يوسف قد أعطي شطر حسنه .
فلهذا قال هؤلاء النسوة عند رؤيته : { حَاشَ لِلَّهِ } قال مجاهد وغير واحد : معاذ الله ، { مَا هَذَا بَشَرًا } وقرأ بعضهم : " ما هذا بِشِرىً " أي : بمشترى .
{ إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق بأن يحبّ لجماله وكماله .
{ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } أي : فامتنع . قال بعضهم : لما رأين جماله الظاهر ، أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن ، وهي{[15155]} العفة مع هذا الجمال ، ثم قالت تتوعد{[15156]} { وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ } فعند ذلك استعاذ يوسف ، عليه السلام ، من شرهن وكيدهن ، وقال : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } أي : من الفاحشة ، { وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } أي : إن وكلتني إلى نفسي ، فليس لي من نفسي قدرة ، ولا أملك لها ضرا ولا نفعا إلا بحولك وقوتك ، أنت المستعان وعليك التكلان ، فلا تكلني إلى نفسي .
{ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وذلك أن يوسف ، عليه السلام ، عَصَمه الله عصمة عظيمة ، وحماه فامتنع منها أشد الامتناع ، واختار السجن على ذلك ، وهذا في غاية مقامات الكمال : أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته ، وهي امرأة عزيز مصر ، وهي مع هذا في{[15157]} غاية الجمال والمال ، والرياسة ويمتنع من ذلك ، ويختار السجن على ذلك ، خوفا من الله ورجاء ثوابه .
ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله{[15158]} ورجل قلبه معلق بالمسجد{[15159]} إذا خرج منه حتى يعود إليه ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا{[15160]} عليه ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب ، فقال : إني أخاف الله " {[15161]}
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما سمعت امرأة العزيز بمكر النسوة اللاتي قلن في المدينة ما ذكره الله عزّ وجلّ عنهنّ... عن السديّ: {فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنّ}، يقول: بقولهنّ...
عن ابن إسحاق، قال: لما أظهر النساء ذلك من قولهنّ: تراود عبدها مكرا بها لتريهنّ يوسف، وكان يوصف لهنّ بحسنه وجماله. {فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنّ أرْسَلَتْ إلَيْهِنّ وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَئا}...: أرسلت إلى النسوة اللاتي تحدّثن بشأنها وشأن يوسف.
{وأعْتَدَتْ}: أفعلت من العتاد، وهو العدّة، ومعناه: أعدّت لهنّ متكئا، يعني: مجلسا للطعام، وما يتكئن عليه من النمارق والوسائد، وهو مفتعل من قول القائل: اتكأت، يقال: ألقِ له مُتّكَئا، يعني: ما يتكئ عليه...
عن سيعد: {وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَئا}، قال: طعاما وشرابا ومتكئا...
فهذا الذي ذكرنا عمن ذكرنا عنه من تأويل هذه الكلمة، هو معنى الكلمة وتأويل المتكأ، وأنها أعدّت للنسوة مجلسا فيه متكأً، وطعام، وشراب، وأترجّ. ثم فسّر بعضهم المتكأ بأنه الطعام على وجه الخبر عن الذين أعدّ من أجلهم المتكأ...
عن عطية: {وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً}، قال: الطعام...
قال الله تعالى ذكره مخبرا عن امرأة العزيز والنسوة اللاتي تحدّثن بشأنها في المدينة: {وآتَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ سِكّينا}، يعني بذلك جلّ ثناؤه: وأعطت كل واحدة من النسوة اللاتي حضرنها سكينا لتقطع به من الطعام ما تقطع به، وذلك ما ذكرت أنها آتتهنّ، إما من الأترجّ، وإما من البزماورد، أو غير ذلك مما يقطع بالسكين... وفي هذه الكلمة بيان صحة ما قلنا واخترنا في قوله: {وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً}؛ وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن إيتاء امرأة العزيز النسوة السكاكين، وترك ماله آتتهنّ السكاكين، إذا كان معلوما أن السكاكين لا تدفع إلى من دعي إلى مجلس إلا لقطع ما يؤكل إذا قطع بها، فاستغني بفهم السامع بذكر إيتائها صواحباتها السكاكين عن ذكر ماله آتتهنّ ذلك، فكذلك استغني بذكر اعتدادها لهنّ المتكأ عن ذكر ما يعتدّ له المتكأ مما يحضر المجالس من الأطعمة والأشربة والفواكه وصنوف الالتهاء لفهم السامعين بالمراد من ذلك، ودلالة قوله: {وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً} عليه. فأما نفس المتكأ، فهو ما وصفنا خاصة دون غيره.
وقوله: {وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنّ فَلَمّا رأيْنَهُ أكْبَرْنَهُ}، يقول تعالى ذكره: وقالت امرأة العزيز ليوسف: {اخْرُجْ عَلَيْهِنّ}، فخرج عليهنّ يوسف، {فَلَمّا رأيْنَهُ أكْبَرْنَهُ}، يقول جلّ ثناؤه: فلما رأين يوسف أعظمنه وأجللنه...
وقوله: {وَقَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ}؛ اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: أنهن حززن بالسكين في أيديهن، وهن يحسبن أنهنّ يقطعن الأترجّ...
عن ابن إسحاق، قال: قالت ليوسف: اخرج عليهنّ فخرج عليهن، فلما رأينه أكبرنه، وغلبت عقولهن عجبا حين رأينه، فجعلن يقطعن أيديهن بالسكاكين التي معهن ما يعقلن شيئا مما يصنعن، {وَقُلْنَ حاشَ لِلّهِ ما هَذَا بَشَرا}.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهن قطعن أيديهن حتى أبنّها، وهن لا يشعرن... عن مجاهد، قال: {قطّعن أيديهن}، حتى ألقينها...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عنهن أنهن قطعن أيديهن، وهن لا يشعرن لإعظام يوسف، وجائز أن يكون ذلك كان قطعا بإبانة، وجائز أن يكون كان قطع حزّ وخدش، ولا قول في ذلك أصوب من التسليم لظاهر التنزيل.
وقوله: {وَقُلْنَ حاشَ لِلّهِ}...كان بعض أهل العلم بكلام العرب يزعم أن لقولهم: «حاشى لله»، موضعين في الكلام: أحدهما: التنزيه، والآخر: الاستثناء، وهو في هذا الموضع عندنا بمعنى: التنزيه لله، كأنه قيل: معاذ الله...
عن مجاهد: {وَقُلْنَ حاشَ لِلّهِ}، قال: معاذ الله...
وقوله: {ما هَذَا بَشَرا}، يقول: قلن: ما هذا بشرا، لأنهنّ لم يرين في حسن صورته من البشر أحدا، فقلن: لو كان من البشر لكان كبعض ما رأينا من صورة البشر، ولكنه من الملائكة لا من البشر... وقوله: {إنْ هَذَا إلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}، يقول: قلن ما هذا إلا ملَك من الملائكة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) أي بقولهن. المكر هو الأخذ في حال الأمن، وهو الخيانة في ما أؤتمن، واستكتم. فهذه كأنها استكتمت سرها وحبها ليوسف عن الناس، وأفشت ذلك النسوة في المدينة على أن يستكتمن عن الناس، فأفشين عليها ذلك، فذلك المكر الذي سمعت، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بِمَكْرِهِنَّ}: باغتيابهنّ وسوء قالتهن، وقولهنّ: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني ومقتها، وسمي الاغتياب مكراً لأنه في خفية وحالِ غيبة، كما يخفي الماكر مكره. وقيل: كانت استكتمتهنّ سرّها فأفشينه عليها. {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ}: دعتهنّ... {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً} ما يتكئن عليه من نمارق، قصدت بتلك الهيئة وهي قعودهنّ متكئات والسكاكين في أيديهنّ: أن يدهشن ويبهتن عند رؤيته، ويشغلن عن نفوسهنّ فتقع أيديهنّ على أيديهنّ فيقطعنها، لأن المتكئ إذا بهت لشيء وقعت يده على يده، ولا يبعد أن تقصد الجمع بين المكر به وبهنّ... وقيل: متكأ: مجلس طعام لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين، ولذلك. "نهى أن يأكل الرجل متكئاً "وآتتهنّ السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن. وقيل: {مُتَّكَئاً}: طعاماً، من قولك اتكأنا عند فلان: طعمنا، على سبيل الكناية؛ لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له تكأة يتكئ عليها...
{قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، تريد: جرحتها. {حاشا} كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء... فمعنى «حاشا لله» براءة الله وتنزيه الله...
{مَا هذا بَشَرًا} نفين عنه البشرية لغرابة جماله ومباعدة حسنه، لما عليه محاسن الصور، وأثبتن له الملكية وبتتن بها الحكم، وذلك لأن الله عز وجل ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك، كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان، ولذلك يشبه كل متناه في الحسن والقبح بهما، وما ركز ذلك فيها إلا لأن الحقيقة كذلك، كما ركز في الطباع أن لا أدخل في الشر من الشياطين، ولا أجمع للخير من الملائكة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ودل بالفاء على أن كلامهن نقل إليها بسرعة فقال: {فلما سمعت} أي امرأة العزيز {بمكرهن} وكأنهن أردن بهذا الكلام أن يتأثر عنه ما فعلت امرأة العزيز ليرينه، فلذلك سماه مكراً {أرسلت إليهن} لتريهن ما يعذرنها بسببه فتسكن قالتُهن {وأعتدت} أي هيأت وأحضرت {لهن متكاً} أي ما يتكئن عليه من الفرش اللينة والوسائد الفاخرة، فأتينها فأجلستهن على ما أعدته لهن {وأتت كل واحدة} على العموم {منهن سكيناً} ليقطعن بها ما يحتاج إلى القطع مما يحضر من الأطعمة في هذا المجلس... هذا الظاهر من علة إتيانهن وباطنه إقامة الحجة عليهن بما لا يجدن له مدفعاً مما يتأثر عن ذلك {وقالت} ليوسف فتاها عليه الصلاة والسلام {اخرج عليهن} فامتثل له ما أمرته به كما هو دأبه معها في كل ما لا معصية فيه، وبادر الخروج عليهن {فلما رأينه} أي النسوة {أكبرنه} أي أعظمن يوسف عليه الصلاة والسلام جداً إعظاماً كربّهن {وقطعن} أي جرحن جراحات كثيرة {أيديهن} وعاد لومهن عذراً، والتضعيف يدل على التكثير، فكأن السكين كانت تقع على يد إحداهن فتجرحها فترفعها عن يدها بطبعها، ثم يغلبها الدهش فتقع على موضع آخر وهكذا {وقلن حاش} أي تنزيهاً عظيماً جداً {لله} أي الملك الأعلى الذي له صفات الكمال التي خلق بها مثل هذا. ولما كان المراد بهذا التنزيه تعظيمه، بينه بقولهن: {ما هذا بشراً} لأنه فاق البشر في الحسن جداً، وأعرض عن الشهوة من غير علة، نراها مانعة له لأنه في غاية القوة والفحولية، فكأنه قيل: فما هو؟ فقلن: {إن} أي ما {هذا} أي في هذا الحسن والجمال، وأعدن الإشارة دفعاً لإمكان الغلط {إلا ملك كريم}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فلما سمعت بمكرهن} وكان من المتوقع أن تسمعه لما اعتيد بين هذه البيوتات، من التواصل بالزيارات، واختلاف الخدم من كل منها إلى الآخر، وهن ما قلنه إلا لتسمعه فإن لم يصل إليها عفوا، احتلن في إيصاله قصدا، فكان ما أردنه {أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا} أي دعتهن إلى الطعام في دارها، ومكرت بهن كما مكرن بها، بأن أعدت وهيأت لهن ما يتكئن عليه إذا جلسن من الكراسي والأرائك وهو المعتاد في دور الكبراء، قال تعالى في صفة الجنة {متكئين فيها على الأرائك} [الكهف: 31] وكان ذلك في حجرة مائدة الطعام، وأعطت كل واحدة منهن سكينا ليقطعن به ما يأكلن من لحم أو فاكهة، وروي عن بعض مفسري السلف تفسير المتكأ بالطعام الذي يتكأ عليه أي يعتمد عليه لأجل قطعه كالجامد والشديد القوام، دون الرخو كالموز الناضج من الفاكهة والحساء من الطعام، والاتكاء على الشيء هو التمكن بالجلوس عليه أو الاعتماد عليه باليد أو اليدين، قال في المصباح المنير: وتوكأ على عصاه اعتمد عليها واتكأ جلس متمكنا وفي التنزيل {وسررا عليها يتكئون} [الزخرف: 34] أي يجلسون وقال {وأعدت لهن متكأ} أي مجلسا يجلسن عليه. قال ابن الأثير: والعامة لا تعرف الاتكاء إلا الميل في القعود معتمدا على أحد الشقين، وهو يستعمل في المعنيين جميعا، يقال اتكأ إذا أسند ظهره أو جنبه إلى شيء معتمدا عليه، وكل من اعتمد على شيء فقد اتكأ عليه... وفي السنة أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يأكل وهو متكئ.
{وقالت اخرج عليهن} أي أمرت يوسف بالخروج عليهن وكان في حجرة أو مخدع في داخل حجرة الطعام التي كن فيها محجوبا عنهن، ولو كان في مكان خارج عنها لقالت ادخل عليهن، فعلم من هذا أنها تعمدت أن يفجأهن وهن مشغولات بما يقطعنه ويأكلنه عالمة بما يكون لهذه الفجاءة من تأثير الدهشة، وهو ما حكاه التنزيل عنهن من قوله تعالى: {فلما رأينه أكبرنه} أي أعظمنه ودهشن لذلك الحسن الرائع، والجمال البارع، وغبن عن شعورهن {وقطعن أيديهن} بدلا من تقطيع ما يأكلن، ذهولا عما يعملن، بأن استمرت حركة السكاكين الإرادية بعد فقد الإرادة على ما كانت عليه قبل فقدها، ولكنها وقعت على أكف شمائلهن وقد سقط منها ما كان فيها من استرخائها بذهول تلك الدهشة فقطعتها أي جرحتها، ولولا استرخاؤها لأباتها، والظاهر أن مضيفتهن تعمدت جعلها مشحوذة فوق المعهودة في سكاكين الطعام مبالغة في مكرها بهن، لتقوم لها الحجة عليهن بما لا يستطعن إنكاره.
واختلف المفسرون في هذا القطع هل كان قطع إبانة انفصلت به الكف من المعصم أو الأصابع من الكف؟ أم قطع جرح أطلق فيه لفظ بدء الشيء على غايته من باب المبالغة، وهو ما يسميه علماء البيان بالمجاز المرسل؟ الأكثرون على الثاني وهو مستعمل إلى اليوم بالإرث عن قدماء العرب فيمن يحاول قطع شيء فتصيب السكين يده فتجرحها يقول كنت أقطع اللحم أو الحبل [مثلا] فقطعت يدي، كأنه يقول كاد ما أردته من قطع اللحم يكون بيدي مما أخطأت، ولا يقال فيمن جرح عضو منه أو من غيره كالطيب قاصدا جرحه إنه قطعه إلا إذا بالغ فيه، يقال أراد أن يجرح رجله ليخرج منها شظية نشبت فيها فقطعها، يريد أنه بالغ فكاد يقطعها، وقد أشار الزمخشري إلى مثل هذا القيد في استعمال القطع بمعنى الجرح فقال:"كما تقول كنت أقطع اللحم فقطعت يدي" يريد فأخطأت فجرحتها حتى كدت أقطعها.
{وقلن حاش لله ما هذا بشرا} أي قلن هذا تعجبا وتنزيها لله تعالى أن يكون خلق هذا الشخص العجيب في جماله وعفته من نوع البشر وهو ما لم يعهد له في الناس مثل، إنه ليس بشرا مثلنا {إن هذا إلا ملك كريم} أي ما هذا إلا ملك من الملائكة الروحانيين تمثل في هذه الصورة البديعة التي تدهش الأبصار وتخلب الألباب [كما كان يصور لهم صناعهم الرسامون والنحاتون أرواح الملائكة والآلهة بالصور والتماثيل لتكريمها وعبادتها]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهنا كذلك يقع ما لا يمكن وقوعه إلا في مثل هذه الأوساط. ويكشف السياق عن مشهد من صنع تلك المرأة الجريئة، التي تعرف كيف تواجه نساء طبقتها بمكر كمكرهن وكيد من كيدهن: (فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن، وأعتدت لهن متكأ، وآتت كل واحدة منهن سكينا، وقالت: اخرج عليهن. فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن، وقلن: حاش لله! ما هذا بشرا. إن هذا إلا ملك كريم. قالت: فذلكن الذي لمتنني فيه. ولقد راودته عن نفسه فاستعصم. ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين).. لقد أقامت لهن مأدبة في قصرها. وندرك من هذا أنهن كن من نساء الطبقة الراقية. فهن اللواتي يدعين إلى المآدب في القصور. وهن اللواتي يؤخذن بهذه الوسائل الناعمة المظهر. ويبدو أنهن كن يأكلن وهن متكئات على الوسائد والحشايا على عادة الشرق في ذلك الزمان. فأعدت لهن هذا المتكأ. وآتت كل واحدة منهن سكينا تستعملها في الطعام -ويؤخذ من هذا أن الحضارة المادية في مصر كانت قد بلغت شأوا بعيدا، وأن الترف في القصور كان عظيما. فإن استعمال السكاكين في الأكل قبل هذه الآلاف من السنين له قيمته في تصوير الترف والحضارة المادية. وبينما هن منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة، فاجأتهن بيوسف: (وقالت: اخرج عليهن).. (فلما رأينه أكبرنه).. بهتن لطلعته، ودهشن. (وقطعن أيديهن).. وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة. (وقلن حاش لله!).. وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيرا عن الدهشة بصنع الله.. (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم). وهذه التعبيرات دليل- كما قلنا في تقديم السورة -على تسرب شيء من ديانات التوحيد في ذلك الزمان...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا} لما سمعت بأقوالهن اللائي يروونها أرسلت إليهن، {وأعتدت} أي هيأت {لهن متكأ}، أقامت لهن وليمة أو نحو ذلك، وسمي متكأ تسمية للشيء باسم مكانه، وهي تصور التنعم الذي كانت فيه، {وآتت} وأعطت {كل واحدة منهن سكينا}، ولعل.ذلك كان موجب الوليمة أو ما يشبهها. وسمت قولهن مكرا؛ لأنهن كن يشعنه، وكأنه تدبير السوء، ولأن بعضهن علمته من جانبها فما كتمن لها سرا، ولأنهن كن يوجهن اللوم إليها، ويتبادلن ذلك، وكأنه أمر يدبر، ولذا سمي مكرا. وبعد أن تهيأ المجلس، قالت ليوسف اخرج عليهن {وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله}. خرج عليهن، يتلألأ فيه نور الحق، الجمال الذي كساه الله إياه، فأخذه أبصارهن وقلوبهن، وحسهن، فقلن: {حاش لله} أي تنزيها له عن فعل البشر وقوله {لله}، لأنه هو الذي نزهه وكرمه، أو قلن كلمة التنزيه، لأنه خلق مثل هذا الملاك الكريم. و {أكبرنه}، أي جعلنه في موضع الإكبار والشرف، ولذهولهن من الروعة التي تبدى بها جرحن أيديهن، وعبر سبحانه عن الجرح بالقطع؛ لأن الجرح كان بليغا، ولأن الجرح في حد ذاته قطع لبعض البشرة، وقلن تلك الكلمة المعبرة عما في نفوسهم: {ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} بهرهن حتى ارتفعت مرتبة الإنسانية إلى مرتبة الملكية. ف {إن} هنا هي النافية أي: ما هو إلا ملك كريم. التفتت امرأة العزيز اليهن، وقد رأت الجروح تسيل بالدم من أيديهن، وما اعترى نفوسهن من إكبار له، واستهواء حتى حسبنه ملكا كريما، وليس إنسانا من الطين. قالت:...
والمكر هو ستر شيء خلف شيء، وكأن الحق ينبهنا إلى أن قول النسوة لم يكن غضبة للحق؛ ولا تعصبا للفضيلة، ولكنه الرغبة للنكاية بامرأة العزيز، وفضحا للضلال الذي أقامت فيه امرأة العزيز. وأردن –أيضا- شيئا آخر؛ أن ينزلن امرأة العزيز عن كبريائها، وينشرن فضيحتها، فأتين بنقيضين؛ لا يمكن أن يتعدى الموقف فيهما إلا خسيس المنهج. فهي امرأة العزيز، أي: أرفع شخصية نسائية في المجتمع، قد نزلت عن كبريائها كزوجة لرجل يوصف بأنه الغالب الذي لا يُغلب؛ لأن كلمة "العزيز "مأخوذة من المعاني الحسية. فيقال: "الأرض العزاز" أي: الأرض الصخرية التي يصعب المشي عليها، ولا يقدر أحد أن يطأها؛ ومن هذا المعنى جاءت كلمة "العزيز". فكيف بامرأة العزيز حين تصير مضغة في الأفواه؛ لأنها راودت فتاها وخادمها عن نفسه؛ وهو بالنسبة لها في أدنى منزلة، وتلك فضيحة مزرية مشينة. وقالت النسوة أيضا: {قد شغفها حبا.. (30)} [يوسف]...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَأَعْتَدَتْ}: أعدَّت وهيأت. {مُتَّكَئًا}: ما يتكأ عليه من فرش ونحوه. {وَقَطَّعْنَ}: جرحن. خطة الالتفاف {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} بما يتحدثن به عنها، وما يسعين له من تحقير لمكانتها في المجتمع، {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} في دعوة اجتماعية لا توحي بأيّ طابع مميّز، تماماً كما هي عادة النساء في اجتماعاتهن الخاصة، لمناسبة فرحٍ أو حزن، أو للأخذ بأسباب اللهو، أو التحدث في أيّ أمر طارئ، أو في أي شيء يملأ الفراغ، ويمتّع النفس، وكانت تريد مفاجأتهن، والالتفاف على مكرهن بمكر أشدّ في عملية ذكية لتوريطهن بما تورّطت به، ولإيقاعهنّ في خطيئة التمرد على تقاليد المجتمع الطبقية، فدعتهن إليها، {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا} في ما يوحي به ذلك من المجلس المميز الذي يستسلمن فيه للراحة والاسترخاء، ليأخذن حريتهن في الجلوس وفي الحديث في جوّ عائليّ حميم. {وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مَّنْهُنَّ سِكِّينًا} لتقطع به الفاكهة التي قدمتها إليهن في هذا المجلس، وهنا كانت المفاجأة التي لم يتهيّأن لها، فلم يكن في البرنامج أو هكذا يبدو أن يخرج يوسف إليهن، أو يجلس معهنّ، لأن التقاليد الطبقية لا تسمح بذلك. {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} في أمرٍ حاسمٍ صادر من السيدة لعبدها، فخرج إليهن، لأن موقعه يفرض عليه الطاعة لسيدته، فإذا بالزلزال الروحي والعاطفي والشهواني يهزّ كل كيانهنّ، ويسيطر على كل مشاعرهنّ، في اندفاعةٍ ساحقة، {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} لإشراقة وجهه وجمال صورته، وسحر ملامحه، وحلاوة شخصيته. الدخول المفاجئ لقد كان ذلك كله مفاجأة لهن، لأنهن كن يتصورنه على صورة العبيد الذين لا يملكون آية ميزة جمالية، ولهذا كنَّ ينكرن على امرأة العزيز أن تراود فتاها عن نفسه، وأن تعشقه، وقد لا يكون ذلك الإنكار ناشئاً من احترامهن للأخلاق والعفّة، لأن مجتمعهن الطبقي لا يعير ذلك أهمية، بل قد يكون ناشئاً من اعتبار موقفها شذوذاً في التصرّف، وانحرافاً في الذوق تستسلم معه المرأة الكبيرة، لعبد لا جمال فيه أو إثارة... أما الآن، فقد وجدن لها كل العذر، لأنهن وقفن أمام هذا الجمال الباهر العظيم في ذهول وانجذاب، فقدن معه السيطرة على مشاعرهن، ووعيهن، حتى لم يعدن يعقلن ماذا يفعلن، فعندما رأينه، تركن تقطيع الفاكهة بالسكاكين التي قدمت لهن لذلك، {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} من دون شعور، فإذا بالدماء تسيل، وهن لا يشعرن بالألم أمام سكرة النشوة بهذا الجمال، {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ} في تعبير يستنكر وصفه بالكلمات المألوفة التي تجعله من صنف البشر، كأنهن يقلن حاش لله أن يكون كذلك في ما يقوله الناس عنه، {مَا هَذَا بَشَرًا} لأن البشر لا يملكون مثل هذا الجمال الروحي الذي لا مثيل له، {إِنْ هَذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} في ما يتصورن به الملائكة من السموّ في الجمال الخارق الذي لا يدانيه جمال في الكون، لأنهم يمثلون أقصى حدود الروعة في التكوين...