سورة المجادلة مدنية وآيتها ثنتان وعشرون
نحن في هذه السورة - وفي هذا الجزء كله تقريبا - مع أحداث السيرة في المجتمع المدني . مع الجماعة المسلمة الناشئة ؛ حيث تربى وتقوم ، وتعد للنهوض بدورها العالمي ، بل بدورها الكوني ، الذي قدره الله لها في دورة هذا الكون ومقدراته . وهو دور ضخم يبدأ من إنشاء تصور جديد كامل شامل لهذه الحياة ، في نفوس هذه الجماعة ، وإقامة حياة واقعية على أساس هذا التصور ، ثم تحمله هذه الجماعة إلى العالم كله لتنشئ للبشرية حياة إنسانية قائمة على أساس هذا التصور كذلك . . وهو دور ضخم إذن يقتضي إعدادا كاملا .
ولقد كان أولئك المسلمون الذين يعدهم القدر لهذا الدور الضخم ، ناسا من الناس . منهم السابقون من المهاجرين والأنصار الذين نضج إيمانهم ، واكتمل تصورهم للعقيدة الجديدة ، وخلصت نفوسهم لها ، ووصلوا . . وصلوا إلى حقيقة وجودهم وحقيقة هذا الوجود الكبير ؛ واندمجت حقيقتهم مع حقيقة الوجود ، فأصبحوا بهذا طرفا من قدر الله في الكون ؛ لا يجدون في أنفسهم عوجا عنه ، ولا يجدون في خطاهم تخلفا عن خطاه ، ولا يجدون في قلوبهم شيئا إلا الله . . كانوا كما جاء عنهم في هذه السورة : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ، وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون ) . .
ولكن هؤلاء السابقين كانوا قلة بالقياس إلى الجماعة المسلمة المتزايدة العدد - وبخاصة بعد أن أصبح الإسلام قوة ترهب - حتى قبل الفتح - ودخل فيه من لم يتلق من التربية الإسلامية القسط الكافي ، ولم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة . كما دخل فيه من المنافقين من آثر المصلحة أو العافية على دخل في القلوب ، وتربص بالفرص ، وذبذبة بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات القوية المناوئة له في ذلك الحين . سواء معسكرات المشركين أو اليهود ! ولقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكوني الكبير المقدر لها في الأرض جهودا ضخمة ، وصبرا طويلا ، وعلاجا بطيئا ، في صغار الأمور وفي كبارها . . كانت حركة بناء هائلة هذه التي قام بها الإسلام ، وقام بها رسول الإسلام [ صلى الله عليه وسلم ] بناء النفوس التي تنهض ببناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية ، وتقوم على منهج الله ، تفهمه وتحققه ، وتنقله إلى أطراف الأرض في صورة حية متحركة ، لا في صحائف وكلمات .
ونحن نشهد في هذه السورة - وفي هذا الجزء كله - طرفا من تلك الجهود الضخمة ، وطرفا من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس ، وفي علاج الأحداث والعادات والنزوات ؛ كما نشهد جانبا من الصراع الطويل بين الإسلام وخصومه المختلفين من مشركين ويهود ومنافقين .
وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة ؛ وهو يصنعها على عينه ، ويربيها بمنهجه ، ويشعرها برعايته ، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده - سبحانه - معها في أخص خصائصها ، وأصغر شؤونها ، وأخفى طواياها ؛ وحراسته لها من كيد أعدائها خفيه وظاهره ؛ وأخذها في حماه وكنفه ، وضمها إلى لوائه وظله ؛ وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله ، وتنتسب إليه ، وتؤلف حزبه في الأرض ، وترفع لواءه لتعرف به في الأرض جميعا .
ومن ثم تبدأ السورة بصورة عجيبة من صور هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية . فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة ، ومشاركتها في الحياة اليومية لجماعة من الناس مشاركة ظاهرة : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) . . فنشهد السماءتتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة ، لتقرر حكم الله في قضيتها ، وقد سمع - سبحانه - للمرأة وهي تحاور رسول الله فيها ، ولم تكد تسمعها عائشة وهي قريبة منها ! وهي صورة تملأ القلب بوجود الله وقربه وعطفه ورعايته .
يليها في سياق السورة توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله - وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف الله - مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض ، والعذاب المهين في الآخرة ، مأخوذون بما عملوا مما أحصاه الله عليهم ، ونسوه هم وهم فاعلوه ! ( والله على كل شيء شهيد ) . .
ثم توكيد وتذكير بحضور الله - سبحانه - وشهوده لكل نجوى في خلوة ، يحسب أصحابها أنهم منفردون بها . والله معهم أينما كانوا : ( ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، إن الله بكل شيء عليم ) . . وهي صورة تملأ القلب كذلك بوجود الله وحضوره ، كما تملؤه برقابته واطلاعه .
وهذا التوكيد مقدمة لتهديد الذين يتناجون في خلواتهم لتدبير المكايد للمسلمين ، وملء قلوبهم بالحزن والهم والتوجس . تهديد بأن أمرهم مكشوف ، وأن عين الله مطلعة عليهم ، ونجواهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول مسجلة ، وأن الله آخذهم بها ومعذبهم عليها . ونهي للمسلمين عن التناجي بغير البر والتقوى ، وتربية نفوسهم وتقويمها بهذا الخصوص .
ثم يستطرد في تربية هذه النفوس المؤمنة ؛ فيأخذها بأدب السماحة وبالطاعة في مجلس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومجالس العلم والذكر . كما يأخذها بأدب السؤال والحديث مع الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والجد في هذا الأمر والتوقير .
أما بقية السورة بعد هذا فتنصرف إلى الحديث عن المنافقين الذين يتولون اليهود ؛ ويتآمرون معهم ، ويدارون تآمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين . وتصورهم في الآخرة كذلك حلافين كذابين ؛ يتقون بالحلف والكذب ما يواجههم من عذاب الله ، كما كانوا يتقون بهما في الدنيا ما يواجههم من غضب رسول الله والمؤمنين ! مع توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله كتب الله عليهم أنهم في الأذلين وأنهم هم الأخسرون . كما كتب أنه ورسله هم الغالبون . وذلك تهوينا لشأنهم ، الذي كان بعض المنتسبين إلى الإسلام - وبعض المسلمين - يستعظمه ، فيحافظ على مودته معهم ، ولا يدرك ضرورة تميز الصف المسلم تحت راية الله وحدها ، والاعتزاز برعاية الله وحده ، والاطمئنان إلى حراسته الساهرة للفئة التي يصنعها على عينه ، ويهيئها لدورها الكوني المرسوم .
وفي ختام السورة تجيء تلك الصورة الوضيئة لحزب الله . هذه الصورة التي كان يمثلها بالفعل أولئك السابقون من المهاجرين والأنصار . والتي كانت الآية الكريمة تشير لها كي ينتهي إليها أولئك الذين ما زالوا بعد في الطريق !
( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله . . )الخ الآية . . . كما وردت في أول هذا التقديم .
( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما ، إن الله سميع بصير ) . . وهو مطلع ذو إيقاع عجيب . . إنكما لم تكونا وحدكما . . لقد كان الله معكما . وكان يسمع لكما . لقد سمع قول المرأة . سمعها تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله . وعلم القصة كلها . وهو يعلم تحاوركما وما كان فيه . . إن الله سميع بصير . يسمع ويرى . هذا شأنه وهذه صورة منه في الحادث الذي كان الله ثالثكما فيه . .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : الحمد لله الذي وَسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلةُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ، ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله ، عز وجل :{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } إلى آخر الآية{[28348]}
وهكذا رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقًا فقال : وقال الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عروة ، عن عائشة ، فذكره{[28349]} وأخرجه النسائي ، وابن ماجة ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، من غير وجه ، عن الأعمش ، به{[28350]} ، وفي رواية لابن أبي حاتم عن الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عروة ، عن عائشة ، أنها قالت : تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء ، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ، ويخفى علي بعضه ، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي تقول : يا رسول الله ، أَكَلَ شبابي ، ونَثَرت{[28351]} له بطني ، حتى إذا كَبُرَت سِنِّي ، وانقطع ولدي ، ظَاهَر مِنِّي ، اللهم إني أشكو إليك . قالت : فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية :{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وقال{[28352]} وزوجها أوس بن الصامت . وقال ابن لَهِيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة : هو أوس بن الصامت - وكان أوس امرأ به لمم ، فكان إذا أخَذه لممه{[28353]} واشتد به يظاهر من امرأته ، وإذا ذهب لم يقل شيئًا ، فأتت رسول الله تستفتيه في ذلك ، وتشتكي إلى الله ، فأنزل الله :{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ } الآية .
وهكذا روى هشام بن عروة ، عن أبيه : أن رجلا كان به لممٌ ، فذكر مثله .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة ، حدثنا جرير - يعني بن حازم - قال : سمعت أبا يزيد يحدث قال : لقيت امرأة عُمَرَ - يقال لها : خولة بنت ثعلبة - وهو يسير مع الناس ، فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه ، ووضع يديه على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت . فقال له رجل : يا أمير المؤمنين ، حبست رجالات قريش على هذه العجوز ؟ ! قال : ويحك ! وتدري من هذه ؟ قال : لا . قال : هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات ، هذه خولة بنت ثعلبة ، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها إلى أن تحضر صلاة فأصليها ، ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها{[28354]} هذا منقطع بين أبي يزيد وعمر بن الخطاب ، وقد روي من غير هذا الوجه . وقال ابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا المنذر بن شاذان {[28355]} حدثنا يعلى ، حدثنا زكريا عن عامر قال : المرأة التي جادلت في زوجها خولة بنت الصامت ، وأمها معاذة التي أنزل الله فيها :{ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } [ النور : 33 ]
صوابه : خولة امرأة أوس بن الصامت .
قال الإمام أحمد : حدثنا سعد{[28356]} بن إبراهيم ويعقوب قالا حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني مَعْمَر بن عبد الله بن حنظلة ، عن ابن عبد الله بن سلام ، عن خويلة {[28357]} بنت ثعلبة قالت : فيَّ - والله - وفي أوس بن الصامت أنزل الله صَدْرَ سورة " المجادلة " ، قالت : كنت عنده وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه ، قالت : فدخل عليَّ يومًا فراجعته بشيء فغضب فقال : أنت عليَّ كظهر أمي . قالت : ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ، ثم دخل عليَّ فإذا هو يريدني عن نفسي . قالت : قلت : كلا والذي نفس خويلة{[28358]} بيده ، لا تخلص إليَّ وقد قلت ما قلت ، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه . قالت : فواثبني وامتنعت منه ، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف ، فألقيته عني ، قالت : ثم خرجتُ إلى بعض جاراتي ، فاستعرت منها ثيابًا ، ثم خرجتُ حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلست بين يديه ، فذكرت له ما لقيت منه ، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه . قالت : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يا خويلة{[28359]} ابنُ عمك شيخ كبير ، فاتقي الله فيه " . قالت : فوالله ما برحت حتى نزل فيَّ القرآن ، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه ، ثم سُرِّيَ عنه ، فقال لي : " يا خويلة {[28360]} قد أنزل الله فيك وفي صاحبك " . ثم قرأ عليَّ :{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } إلى قوله :{ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قالت : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مُريه فليعتق رقبة " . قالت : فقلت يا رسول الله ، ما عنده ما يعتق . قال : " فليصم شهرين متتابعين " . قالت : فقلت : والله إنه شيخ كبير ، ما به من صيام . قال : " فليطعم ستين مسكينًا وسقًا من تَمر " . قالت : فقلت : يا رسول الله ، ما ذاك عنده . قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإنا سنعينه بعَرَقٍ من تمر " . قالت : فقلت : يا رسول الله ، وأنا سأعينه بعَرَقٍ آخر ، قال : " فقد أصبت وأحسَنْت ، فاذهبي فتصدقي به عنه ، ثم استوصي بابن عمك خيرًا " . قالت : ففعلت .
ورواه أبو داود في كتاب الطلاق من سننه من طريقين ، عن محمد بن إسحاق بن يسار ، به{[28361]} وعنده : خولة بنت ثعلبة ، ويقال فيها : خولة بنت مالك بن ثعلبة . وقد تصغر فيقال : خُوَيلة . ولا منافاة بين هذه الأقوال ، فالأمر فيها قريب . والله أعلم .
هذا هو الصحيح في سبب نزول صدر هذه السورة ، فأما حديث سَلَمة بن صَخْر فليس فيه أنه كان سبب النزول ، ولكن أمر بما أنزل الله في هذه السورة ، من العتق أو الصيام ، أو الإطعام ، كما قال الإمام أحمد :حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سُلَيمان بن يَسَار ، عن سلمة بن صخر الأنصاري قال : كنتُ امرأ قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري ، فلما دخل رمضان تظهَّرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان ، فَرَقًا من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار ، وأنا لا أقدر أن أنزع ، فبينا هي تخدمني من الليل إذ تكشف لي منها شيء ، فوثبت عليها ، فلما أصبحتُ غدوتُ على{[28362]} قومي فأخبرتهم خبري وقلت : انطلقوا معي إلى النبي{[28363]} صلى الله عليه وسلم - فأخبره بأمري . فقالوا : لا والله لا نفعل ؛ نتخوف أن ينزل فينا {[28364]} - أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم - مقالة يبقى علينا عارها ، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك . قال : فخرجتُ حتى أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته خبري . فقال لي : " أنت بذاك " . فقلت : أنا بذاك . فقال " أنت بذاك " . فقلت : أنا بذاك . قال " أنت بذاك " . قلت : نعم ، ها أناذا فأمض فيّ حكم الله تعالى{[28365]} فإني صابر له . قال : " أعتق رقبة " . قال : فضربت صفحة رقبتي{[28366]} بيدي وقلت : لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها . قال : " فصم شهرين " . قلت : يا رسول الله ، وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام ؟ قال : " فتصدق " . فقلت : والذي بعثك بالحق ، لقد بتنا ليلتنا هذه وَحْشَى ما لنا عشاء . قال : " اذهب إلى صاحب صدقة بني زُريق فقل له فليدفعها إليك ، فأطعم عنك منها وسقًا من تمر ستين مسكينًا ، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك " . قال : فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيقَ وسوءَ الرأي ، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السَّعَة والبركة ، قد أمر لي بصدقتكم ، فادفعوها إليَّ . فدفعوها إليَّ .
وهكذا رواه أبو داود ، وابن ماجة ، واختصره الترمذي وحَسَّنه{[28367]} ، وظاهر السياق : أن هذه القصة كانت بعد قصة أوس بن الصامت وزوجته خُويَلة بنت ثعلبة ، كما دلّ عليه سياق تلك وهذه بعد التأمل .
قال خَصيف ، عن مجاهد ، عن بن عباس : أول من ظاهر من امرأته أوس بن الصامت ، أخو عبادة بن الصامت ، وامرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك ، فلما ظاهر منها خَشِيت أن يكون ذلك طلاقًا ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أوسًا ظاهر مني ، وإنا إن افترقنا هلكنا ، وقد نَثَرتُ بطني منه ، وقَدمتْ صُحْبَتَهُ . وهي تشكو ذلك وتبكي ، ولم يكن جاء في ذلك شيء . فأنزل الله :{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ } إلى قوله :{ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أتقدر على رقبة تعتقها ؟ " . قال : لا والله يا رسول الله ما أقدر عليها ؟ قال : فجمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أعتق عنه ، ثم راجع أهله رواه بن جرير{[28368]}
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيَ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قَدْ سَمِعَ اللّهُ يا محمد قَوْلَ الّتي تجادلُكَ فِي زَوْجِها والتي كانت تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها امرأة من الأنصار .
واختلف أهل العلم في نسبها واسمها ، فقال بعضهم : خولة بنت ثعلبة ، وقال بعضهم : اسمها خُوَيلة بنت ثعلبة .
وقال آخرون : هي خويلة بنت خويلد . وقال آخرون : هي خويلة بنت الصامت . وقال آخرون : هي خويلة ابنة الدليج وكانت مجادلتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها ، وزوجها أوس بن الصامت ، مراجعتها إياه في أمره ، وما كان من قوله لها : أنتِ عليّ كظهر أمي . ومحاورتها إياه في ذلك ، وبذلك قال أهل التأويل ، وتظاهرت به الرواية . ذكر من قال ذلك ، والاَثار الواردة به :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : سمعت أبا العالية يقول : إن خويلة ابنة الدليج أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم وعائشة تغسل شقّ رأسه ، فقالت : يا رسول الله ، طالت صحبتي مع زوجي ، ونفضت له بطني ، وظاهَرَ مني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حَرُمْتِ عَلَيْهِ » فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ، ثم قالت : يا رسول الله طالت صحبتي ، ونفضت له بطني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حَرُمْتِ عَلَيْهِ » فجعل إذا قال لها : «حرمت عليه » ، هتفت وقالت : أشكو إلى الله فاقتي ، قال : فنزل الوحي ، وقد قامت عائشة تغسل شقّ رأسه الاَخر ، فأومأت إليها عائشة أن اسكتي ، قالت : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أخذه مثل السبات ، فلما قضي الوحي ، قال : «ادْعي زَوْجَكِ » ، فَتَلاها عَلَيْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم : قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ واللّهُ يَسْمَع تَحاوُرَكُما . . . إلى قوله : والّذِين يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائهِمْ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قالُوا : أي يرجع فيه فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أن يَتَماسّا أتَسْتَطَيعُ رَقَبَةً ؟ قال : لا ، قال : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ قال : يا رسول الله ، إني إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرّات خشيت أن يعشو بصري قال : فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فإطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينا قال : «أتَسْتَطيعُ أنْ تُطْعِمَ سِتّينَ مِسْكِينا ؟ » قال : لا يا رسول الله إلا أن تعينني ، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، . قال : ذُكر لنا أن خويلة ابنة ثعلبة ، وكان زوجها أوس بن الصامت قد ظاهر منها ، فجاءت تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : ظاهر مني زوجي حين كبر سني ، ورقّ عظمي فأنزل الله فيها ما تسمعون : قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ فقرأ حتى بلغ لَعَفُوّ غَفُورٌ وَالّذِينَ يُظاهرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قالُوا يريد أن يغشى بعد قوله ذلك ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : «أتَسْتَطِيعُ أنْ تحَرّرَ مُحَرّرا ؟ قال : مالي بذلك يدان ، أو قال : لا أجد ، قال : «أتَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْن مُتَتَابِعَيْنِ ؟ » قال : لا والله إنه إذا أخطأه المأكل كل يوم مرارا يكلّ بصره ، قال : «أتَسْتَطِيعُ أنْ تُطْعِمَ سِتّينَ مِسْكِينا ؟ » قال : لا والله ، إلا أن تعينني منك بعون وصلاة . قال بشر ، قال يزيد : يعني دعاء فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا ، فجمع الله له ، والله غفور رحيم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ واللّهُ يَسْمَع تَحاوُرَكُما قال : ذاك أوس بن الصامت ظاهر من امرأته خويلة ابنة ثعلبة قالت : يا رسول الله كبر سني ، ورق عظمي ، وظاهر مني زوجي ، قال : فأنزل الله : الّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهمْ . . . إلى قوله ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قالُوا يريد أن يغشى بعد قوله فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَماسّا فدعاه إليه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فقال : هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُعْتِقَ رَقَبَةً ؟ قال : لا قال : أفَتَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْن مْتَتابِعينَ ؟ قال : إنه إذا أخطأه أن يأكل كلّ يوم ثلاث مرّات يكلّ بصره قال : أتَسْتَطَيعُ أنْ تطعِمَ سِتّينَ مِسْكِينا ؟ قال : لا ، إلا أن يعينني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعون وصلاة ، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا ، وجمع الله له أمره ، والله غفور رحيم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن أبي حمزة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية : أنت عليّ كظهر أمي حَرُمت في الإسلام ، فكان أوّل من ظاهر في الإسلام أوس بن الصامت ، وكانت تحته ابنة عمّ له يقال لها خويلة بنت خُوَيلد وظاهر منها ، فأُسْقِطَ في يديه وقال : ما أراكِ إلا قد حَرُمْتِ عليّ ، وقالت له مثلَ ذلك ، قال : فانطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدتْ عنده ماشطة تمشطُ رأسه ، فأخبرته ، فقال : «يا خُوَيْلَة ما أمرْنا فِي أمْرِكِ بِشَيْءٍ » ، فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «يا خُوَيْلَةُ أبْشِرِي » ، قالت : خيرا ، قال : فقرأ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم : قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ . . . إلى قوله : فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أنُ يَتَماسّا قالت : وأيّ رقبة لنا ، والله ما يجد رقبة غيري ، قال : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيام شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَين قالت : والله لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرّات لذهب بصره ، قال : فَمَنْ لم يَستَطِعْ فإطعامُ سِتّينَ مِسْكِينا قالت : من أين ؟ ما هي إلا أكلة إلى مثلها ، قال : فرعاه بشطر وَسْق ثلاثين صاعا والوَسْق ستون صاعا فقال : «لِيُطْعِمْ سِتّينَ مِسْكِينا وَلِيُرَاجِعْكِ » .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ . . . إلى قوله : فإطْعامُ سِتّينَ مِسْكِينا ، وذلك أن خولة بنت الصامت امرأة من الأنصار ظاهر منها زوجها ، فقال : أنت عليّ مثل ظهر أمي ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن زوجي كان تزوّجني ، وأنا أحَبّ ، حتى إذا كبرت ودخلت في السنّ قال : أنت عليّ مثل ظهر أمي ، فتركني إلى غير أحد ، فإن كنت تجد لي رُخصة يا رسول الله تَنْعَشني وإياه بها فحدّثني بها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أُمِرْتُ فِي شأنِكِ بِشَيْءٍ حتى الاَنَ ، وَلَكِنْ ارْجِعي إلى بَيْتِكِ ، فإنْ أُومَرْ بِشَيْءٍ لا أغْمِمْهُ عَلَيْكِ إنْ شاءَ اللّهُ » فرجعت إلى بيتها ، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب رخصتها ورخصة زوجها : قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها . . . إلى قوله : وَللكافِرِينَ عَذَابٌ إليمٌ فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زوجها فلما أتاه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أرَدْتَ إلى يَمِينِكَ الّتِي أقْسَمْتَ عَلَيْها ؟ » فقال : وهل لها كفّارة ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَلْ تَسْتَطيعُ أنْ تُعْتِقَ رَقَبَةً ؟ » قال : إذا يذهب مالي كله ، الرقبة غالية وأنا قليل المال ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَهَلْ تَسْتَطيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَين ؟ » قال : لا والله لولا أني آكل في اليوم ثلاث مرّات لكلّ بصري ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَلْ تَسْتَطيعُ أنْ تُطْعِمَ سِتّينَ مِسْكِينا ؟ قال : لا والله إلا أن تعينني على ذلك بعون وصلاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي مُعِينُكَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعا ، وأنا دَاعٍ لَكَ بالبَرَكَةِ » فأصلح ذلك بينهما .
قال : وجعل فيه تحرير رقبة لمن كان مُوسرا لا يكفر عنه إلا تحرير رقبة إذا كان موسرا من قبل أن يتماسا ، فإن لم يكن موسرا فصيام شهرين متتابعين ، لا يصلح له إلا الصوم إذا كان معسرا ، إلا أن لا يستطيع ، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ، وذلك كله قبل الجماع .
حدثنا ابن حَميد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي معشر المدني ، عن محمد بن كعب القرظيّ ، قال : كانت خولة ابنة ثعلبة تحت أوس بن الصامت ، وكان رجلاً به لمم ، فقال في بعض هجراته : أنت عليّ كظهر أمي ، ثم ندم على ما قال ، فقال لها : ما أظنك إلا قد حرمتِ عليّ قالت : لا تقل ذلك ، فوالله ما أحبّ الله طلاقا . قالت : أئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله ، فقال : إني أجدني أستحي منه أن أسأله عن هذا ، فقالت : فدعني أن أسأله ، فقال لها : سليه فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا نبيّ الله إن أوس بن الصامت أبو ولدي ، وأحبّ الناس إليّ ، قد قال كلمة ، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا ، قال : أنت عليّ كظهر أمي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما أرَاكِ إلاّ قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ » ، قالت : لا تقل ذلك با نبيّ الله ، والله ما ذكر طلاقا فرادت النبي صلى الله عليه وسلم مرارا ، ثم قالت : اللهم إنّي أشكو اليوم شدّة حالي ووحدتي ، وما يشقّ عليّ من فراقه ، اللهم فأنزل على لسان نبيك ، فلم تَرِمْ مكانها حتى أنزل الله قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ إلى أن ذكر الكفارات ، فدعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : «أعْتِقْ رَقَبةً » ، فقال لا أجد ، فقال : «صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَين » قال : لا أستطيع ، إني لأصوم اليوم الواحد فيشقّ عليّ قال : «أطعمْ سِتّينَ مِسْكْينا ؟ » قال : أما هذا فَنَعَمْ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر عن أبي إسحاق قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها قال نزلت في امرأة اسمها خولة ، وقال عكرمة اسمها خويلة ، ابنة ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت جاءت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إن زوجها جعلها عليه كظهر أمه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما أرَاكِ إلاّ قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ » ، وهو حينئذ يغسل رأسه ، فقالت : انظر جُعلت فداك يا نبيّ الله ، فقال : «ما أرَاكِ إلاّ قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ » ، فقالت : انظر في شأني يا رسول الله ، فجعلت تجادله ، ثم حوّل رأسه ليغسله ، فتحوّلت من الجانب الاَخر ، فقالت : انظر جعلني الله فداك يا نبيّ الله ، فقالت الغاسلة : أقصري حديثك ومخاطبتك يا خويلة ، أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم متربدا ليوحى إليه ؟ فأنزل الله : قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها . . . حتى بلغ ثُمّ يَعُودونَ لِمَا قالُوا قال قتادة : فحرمها ، ثم يريد أن يعود لها فيطأها فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ . . . حتى بلغ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قال أيوب : أحسبه ذكره عن عكرمة ، أن الرجل قال : يا نبيّ الله ما أجد رقبة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ما أنا بِزَائِدِك » ، فأنزل الله عليه : صِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَينِ مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَماسّا فقال : والله يا نبيّ الله ما أطيق الصوم ، إني إذا لم آكل في اليوم كذا وكذا أكلة لقيت ولقيت ، فجعل يشكو إليه ، فقال : «ما أنا بِزَائِدِكَ » ، فنزلت : فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإطْعامُ سِتينَ مِسْكِينا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله الله عزّ وجلّ : الّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها قال : تجادل محمدا صلى الله عليه وسلم ، فهي تشتكي إلى الله عند كبره وكبرها حتى انتفض وانتفض رحمها .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله الله الّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها قال : محمدا في زوجها قد ظاهر منها ، وهي تشتكي إلى الله ، ثم ذكر سائر الحديث نحوه .
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة ، أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان : كتبت إليّ تسألني عن خويلة ابنة أوس بن الصامت ، وإنها ليست بابنة أوس بن الصامت ، ولكنها امرأة أوس ، وكان أوس امرأ به لمم ، وكان إذا اشتدّ به لممه تظاهر منها ، وإذا ذهب عنه لممه لم يقل من ذلك شيئا ، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه وتشتكي إلى الله ، فأنزل الله ما سمعت ، وذلك شأنهما .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا أبي ، قال : سمعت محمد بن إسحاق ، يحدّث عن معمر بن عبد الله ، عن يوسف بن عبد الله بن سلام ، قال : حدثتني خويلة امرأة أوس بن الصامت قالت : كان بيني وبينه شيء ، تعنى زوجها ، فقال : أنت عليّ كظهر أمي ، ثم خرج إلى نادي قومه ، ثم رجع فراودني عن نفسي ، فقالت : كلا والذي نفسي بيده حتى ينتهي أمري وأمرك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقضي فيّ وفيك أمره ، وكان شيخا كبيرا رقيقا ، فغلبته بما تغلب به المرأة القوية الرجل الضعيف ، ثم خرجت إلى جارة لها ، فاستعارت ثيابها ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلست بين يديه ، فذكرت له أمره ، فما برحت حتى أنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قالت : لا يقدر على ذلك ، قال : «إنا سنعينه على ذلك بفرق من تمر » قلت : وأنا أعينه بفرق آخر ، فأطعم ستين مسكينا .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن تميم ، عن عروة ، عن عائشة قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا في ناحية البيت تشكو زوجها ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله عزّ وجل : قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ . . . إلى آخر الآية .
حدثني عيسى بن عثمان الرملي ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها ، إن المرأة لتناجي النبيّ صلى الله عليه وسلم أسمع بعض كلامها ، ويخفى عليّ بعض كلامها ، إذ أنزل الله قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عروة بن الزبير ، قال : قالت عائشة : تبارك الذي وسع سمعه كلّ شيء ، إني لأسمع كلام خولة ابنة ثعلبة ، ويخفى عليّ بعضه ، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول : يا رسول الله أكل شبابي ، ونثرت له بطني ، حتى إذا كبر سني ، وانقطع ولدي ، ظاهر مني ، اللهمّ إني أشكو إليك ، قال : فما برحت حتى نزل جبريل عليه السلام بهؤلاء الاَيات قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها قال : زوجها أوس بن الصامت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : الحمد الله الذي وسع سمعه الأصوات ، إن خولة تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيخفى عليّ أحيانا بعض ما تقول ، قالت : فأنزل الله عزّ وجلّ قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ .
حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن جميلة كانت امرأة أوس بن الصامت ، وكان أمرأ به لمم ، وكان إذا اشتد به لممه ظاهر من امرأته ، فأنزل الله عزّ وجلّ آية الظهار .
حدثني يحيى بن بشر القرقساني ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد الرحمن الأموي ، قال : حدثنا خَصيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : كان ظهار الجاهلية طلاقا ، فأول من ظاهر في الإسلام أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت من امرأته الخزرجية ، وهي خولة بنت ثعلبة بن مالك فلما ظاهر منها حسبت أن يكون ذلك طلاقا ، فأتت به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله إن أوسا ظاهر مني ، وإنّا إن افترقنا هلكنا ، وقد نثرت بطني منه ، وقدمت صحبته فهي تشكو ذلك وتبكي ، ولم يكن جاء في ذلك شيء ، فأنزل الله عزّ وجلّ : قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها . . . إلى قوله : وَللْكافِرينَ عَذَابٌ ألِيمٌ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «أتَقْدِرُ عَلى رَقَبَةٍ تُعْتقُها ؟ » فقال : لا والله يا رسول الله ، ما أقدر عليها ، فجمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعتق عنه ، ثم راجع أهله .
وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله بن مسعود : «قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ التِي تُحاوِلُكَ فِي زَوْجِها » .
وقوله : وَتَشْتَكي إلى اللّهِ يقول : وتشتكي المجادلة ما لديها من الهمّ بظهار زوجها منها إلى الله وتسأله الفرج وَاللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما يعني تحاور رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمجادلة خولة ابنة ثعلبة إنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يقول تعالى ذكره : إن الله سميع لما يتجاوبانه ويتحاورانه ، وغير ذلك من كلام خلقه ، بصير بما يعلمون ، ويعمل جميع عباده .
( 58 ) سورة المجادلة مدنية وآياتها ثنتان وعشرون ، وهي مدنية بإجماع ، إلا أن النقاش حكى أن قوله تعالى { ما يكون من نجوى ثلاثة } [ المجادلة : 7 ] الآية مكي{[1]} ، وروى أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله ){[2]} .
{ سمع الله } عبارة عن إدراكه المسموعات على ما هي عليه بأكمل وجوه ذلك دون جارحة ولا محاداة ولا تكييف ولا تحديد تعالى الله عن ذلك .
وقرأ الجمهور : { قد سمع } بالبيان : وقرأ ابن محيصن : { قد سمع } بالإدغام ، وفي قراءة ابن مسعود : «قد يسمع الله قول التي » ، وفيها : «والله قد يسمع تحاوركما » .
واختلف الناس في اسم التي تجادل ، فقال قتادة هي خويلة بنت ثعلبة ، وقيل عن عمر بن الخطاب أنه قال : هي خولة بنت حكيم . وقال بعض الرواة وأبو العالية هي خويلة بنت دليج ، وقال المهدوي ، وقيل : خولة بنت دليج ، وقالت عائشة : هي خميلة . وقال ابن إسحاق : هي خولة بنت الصامت . وقال ابن عباس فيها : خولة بنت خويلد ، وقال محمد بن كعب القرظي ومنذر بن سعيد : هي خولة بنت ثعلبة ، قال ابن سلام : «تجادل » معناه تقاتل في القول ، وأصل الجدل القتل ، وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة : أوس بن الصامت الأنصاري{[10997]} أخو عبادة بن الصامت . وحكى النقاش وهو في المصنفات حديثاً عن سلمة بن صخر البياضي{[10998]} أنه ظاهر من امرأته أن واقعها مدة شهر رمضان فواقعها ليلة فسأل قومه أن يسألوا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا وهابوا ذلك وعظموا عليه ، فذهب هو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وسأله واسترشدوه فنزلت الآية . وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أتعتق رقبة ؟ فقال له والله ما أملك رقبة غير رقبتي ، فقال : أتصوم شهرين متتابعين ؟ فقال يا رسول الله وهل أتيت إلا في الصوم ، فقال : تطعم ستين مسكيناً ؟ » فقال : لا أجد ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات قومه فكفر بها فرجع سلمة إلى قومه فقال : إني وجدت عندكم الشدة والغلظة ، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرخصة والرفق وقد أعطاني صدقاتكم{[10999]} .
وأما ما رواه الجمهور في شأن أوس بن الصامت ، فاختصاره : أن أوساً ظاهر من امرأته خولة بنت خويلد ، وكان الظهار في الجاهلية يوجب عندهم فرقة مؤبدة ، قاله أبو قلابة وغيره ، فلما فعل ذلك أوس ، جاءت زوجته رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أوساً أكل شبابي ، ونثرت له بطني فلما كبرت ومات أهلي ، ظاهر مني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أراك إلا قد حرمت عليه » ، فقالت يا رسول الله : لا تفعل فإني وحيدة ليس لي أهل سواه ، فراجعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل مقالته ، فراجعته ، فهذا هو جدالها ، وكانت في خلال جدالها تقول : اللهم إليك أشكو حالي وفقري وانفرادي إليه ، وروي أنها كانت تقول : اللهم إن لي منه صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إلي جاعوا ، فهذا هو اشتكاؤها إلى الله ، فنزل الوحي عند جدالها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات .
وكانت عائشة حاضرة لهذه القصة كلها فكانت تقول : سبحان من وسع سمعه الأصوات ، لقد كنت حاضرة وكان بعض كلام خولة يخفى علي ، وسمع الله جدالها ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوس فقال له : «أتعتق رقبة ؟ فقال والله ما أملكها ، فقال أتصوم شهرين متتابعين ؟ فقال : والله ما أقدر أن أصبر إلا على أكلات ثلاث في اليوم ، ومتى لم أفعل ذلك غشي بصري فقال له : أتطعم ؟ » فقال له لا أجد إلا أن تعينني يا رسول الله بمعونة وصلاة يريد الدعاء ، فأعانه رسول الله بخمسة عشر صاعاً ودعا له ، وقيل بثلاثين صاعاً ، فكفر بالإطعام وأمسك أهله .
وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «تحاورك في زوجها » ، والمحاورة مراجعة القول ومعاطاته .