وفي مقابل اجتناب " الكبائر " - ومنها أكل الأموال بينهم بالباطل - يعدهم الله برحمته ، وغفرانه ، وتجاوزه عما عدا الكبائر ؛ مراعاة لضعفهم الذي يعلمه - سبحانه - وتيسيرًا عليهم ، وتطمينًا لقلوبهم ؛ وعونًا لهم على التحاجز عن النار ؛ باجتناب الفواحش الكبار :
( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ، نكفر عنكم سيئاتكم ، وندخلكم مدخلا كريما ) .
ألا ما أسمح هذا الدين ! وما أيسر منهجه ! على كل ما فيه من هتاف بالرفعة والسمو والطهر والنظافة ، والطاعة . وعلى كل ما فيه من التكاليف والحدود ، والأوامر والنواهي ، التي يراد بها إنشاء نفوس زكية طاهرة ؛ وإنشاء مجتمع نظيف سليم .
إن هذا الهتاف ، وهذه التكاليف ، لا تغفل - في الوقت ذاته - ضعف الإنسان وقصوره ؛ ولا تتجاوز به حدود طاقته وتكوينه ؛ ولا تتجاهل فطرته وحدودها ودوافعها ؛ ولا تجهل كذلك دروب نفسه ومنحنياتها الكثيرة .
ومن ثم هذا التوازن بين التكليف والطاقة . وبين الأشواق والضرورات . وبين الدوافع والكوابح . وبين الأوامر والزواجر . وبين الترغيب والترهيب . وبين التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة . .
إنه حسب هذا الدين من النفس البشرية أن يتم اتجاهها لله ؛ وأن تخلص حقًا في هذا الاتجاه ، وأن تبذل غاية الجهد في طاعته ورضاه . . فأما بعد ذلك . . فهناك رحمة الله . . هناك رحمة الله ترحم الضعف ، وتعطف على القصور ؛ وتقبل التوبة ، وتصفح عن التقصير ؛ وتكفر الذنب وتفتح الباب للعائدين ، في إيناس وفي تكريم . .
وآية بذل الطاقة اجتناب كبائر ما نهى الله عنه . أما مقارفة هذه الكبائر - وهي واضحة ضخمة بارزة ؛ لا ترتكبها النفس وهي جاهلة لها أو غير واعية ! فهي دليل على أن هذه النفس لم تبذل المحاولة المطلوبة ؛ ولم تستنفد الطاقة في المقاومة . . وحتى هذه فالتوبة منها في كل وقت مع الإخلاص مقبولة برحمة الله التي كتبها على نفسه . . وقد قال فيها : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) . . وعدهم من " المتقين " .
إنما الذي نحن بصدده هنا هو تكفير السيئات والذنوب مباشرة من الله ، متى اجتنبت الكبائر ؛ وهذا هو وعد الله هنا وبشراه للمؤمنين .
أما ما هي الكبائر . . فقد وردت أحاديث تعدد أنواعًا منها - ولا تستقصيها - وذلك بدليل احتواء كل حديث على مجموعة تزيد أو تنقص ؛ مما يدل على أن هذه الأحاديث كانت تعالج حالات واقعة ؛ فتذكر من الكبائر - في كل حديث - ما يناسب الملابسة الحاضرة ، والمسلم لا يعسر عليه أن يعلم " الكبائر " من الذنوب . وإن كانت تختلف عددًا ونوعًا بين بيئة وبيئة ، وبين جيل وجيل !
ونذكر هنا قصة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو المتحرج المتشدد الشديد الحساسية بالمعصية . تبين - مع ذلك كله - كيف قوم الإسلام حسه المرهف ، وكيف جعل الميزان الحساس يعتدل في يده ويستقيم ؛ وهو يعالج أمور المجتمع وأمور النفوس :
قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ؛ عن الحسن أن ناسًا سألوا عبدالله بن عمرو بمصر ، فقالوا : نرى أشياء من كتاب الله - عز وجل - أمر أن يعمل بها ، لا يعمل بها ؛ فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك . فقدم وقدموا معه . فلقي عمر - رضي الله عنه - فقال : متى قدمت ؟ فقال : منذ كذا وكذا . قال : أبإذن قدمت ؟ قال : فلا أدري كيف رد عليه . فقال : أمير المؤمنين إن ناسًا لقوني بمصر ، فقالوا : إنا نرى أشياء في كتاب الله ، أمر أن يعمل بها ، فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك . قال : فاجمعهم لي . قال فجمعتهم له . قال أبو عون : أظنه قال : في بهو . . فأخذ أدناهم رجلاً ؛ فقال أنشدك الله ، وبحق الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله ! قال : نعم . قال : فهل أحصيته في نفسك ؟ فقال : اللهم لا - ولو قال : نعم ، لخصمه ! قال : فهل أحصيته في بصرك ؟ فهل أحصيته في لفظك ؟ هل أحصيته في أثرك . . ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال : ثكلت عمر أمه ! أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات . قال وتلا : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) . . . الآية . ثم قال : هل علم أهل المدينة ؟ أو قال : هل علم أحد بما قدمتم ؟ قالوا : لا . قال : لو علموا لوعظت بكم ! " .
فهكذا كان عمر - المتحرج الشديد الحساسية - يسوس القلوب والمجتمع ؛ وقد قوم القرآن حسه ؛ وأعطاه الميزان الدقيق . . " وقد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات ! " ولن نكون غير ما علم ربه أن نكون ! إنما المعول عليه هو القصد والتصويب والمحاولة والرغبة في الوفاء بالالتزامات ، وبذل الجهد في هذا الوفاء . . إنه التوازن والجد واليسر والاعتدال .
وقوله : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ]{[7205]} } . أي : إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها كفرنا عنكم صغائر الذنوب وأدخلناكم الجنة ؛ ولهذا قال : { وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا } .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا مؤمل بن هشام ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا خالد{[7206]} بن أيوب ، عن معاوية بن قرة ، عن أنس{[7207]} [ يرفعه ]{[7208]} : " الذي بلغنا عن ربنا ، عز وجل ، ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال أن تجاوز لنا عما دون الكبائر ، يقول الله [ تعالى ]{[7209]} { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ]{[7210]} } " {[7211]} .
وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر :
قال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيم عن مُغِيرة ، عن أبي مَعْشَر ، عن إبراهيم ، عن قَرْثَع الضَّبِّي ، عن سلمان الفارسي قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " أتدري ما يوم الجمعة ؟ " قلت : هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم . قال : " لكن أدْرِي ما يَوْمُ الجُمُعَةِ ، لا يتطهر الرجل فيُحسِنُ طُهُوره ، ثم يأتي الجُمُعة فيُنصِت حتى يقضي الإمام صلاته ، إلا كان{[7212]} كفارة له ما بينه وبين الجمعة المقبلة ، ما اجْتُنبت المقتلة{[7213]} وقد رَوَى البخاري من وجه آخر عن سلمان نحوه{[7214]} .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني المثنى [ بن إبراهيم ]{[7215]} حدثنا أبو صالح ، حدثنا الليث ، حدثني خالد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن نعيم المُجْمر ، أخبرني صهيب مولى العُتْوارِي ، أنه سمع من أبي هريرة وأبي سعيد يقولان : خَطَبَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : " والذي نَفْسي بِيَدِهِ " - ثلاث مرات - ثم أكَبَّ ، فأكب كل رجل منا يبكي ، لا ندري على ماذا حلف عليه ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر{[7216]} فكان أحب إلينا من حُمْر النَّعَم ، فقال [ صلى الله عليه وسلم ]{[7217]} ما من عَبْدٍ يُصَلِّي الصَّلَواتِ الخمسَ ، ويَصُومُ رمضانَ ، ويُخرِج الزكاة ، ويَجْتنبُ الكبائر السَّبعَ ، إلا فُتِحتْ له أبوابُ الجَنَّةِ ، ثم قيل له : ادْخُل بسَلامٍ " .
وهكذا رواه النسائي ، والحاكم في مستدركه ، من حديث الليث بن سعد ، رواه الحاكم أيضا وابن حِبَّان في صحيحه ، من حديث عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، به . ثم قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه{[7218]} .
وذلك بما ثبت في الصحيحين من حديث سليمان بن بلال ، عن ثَوْر بن زيد ، عن سالم أبي الغيث ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجْتَنِبُوا السبعَ المُوبِقَاتِ " قيل : يا رسول الله ، وما هُنَّ ؟ قال : " الشِّركُ بالله ، وقَتْلُ النَّفْس التي حَرَّمَ الله إلا بالحق ، والسِّحرُ ، وأكْلُ الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتَّوَلِّي يوم الزَّحْف ، وقَذْفُ المحصنَات المؤمنات الغافلات " {[7219]} .
طريق أخرى عنه : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فَهْد بن عَوْف ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عَمْرو بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الكبائر سَبْعٌ ، أولها الإشراكُ بالله ، ثم قَتْل النَّفْس بغير حقها ، وأكْلُ الرِّبَا ، وأَكْلُ مال اليتيمِ إلى أن يكبر ، والفِرَارُ من{[7220]} الزَّحْفِ ، ورَميُ المحصنات ، والانقلاب إلى الأعراب بَعْدَ الهِجْرَةِ " {[7221]} .
فالنص على هذه السبع بأنهن كبائر لا ينفي ما عداهن ، إلا عند من يقول بمفهوم اللقب ، وهو ضعيف عند عدم القرينة ، ولا سيما عند{[7222]} قيام الدليل بالمنطوق على عدم المفهوم ، كما سنورده من الأحاديث المتضمنة من الكبائر غير هذه السبع ، فمن ذلك ما رواه الحاكم في مستدركه حيث قال :
حدثنا أحمد بن كامل القاضي ، إملاء حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد ، حدثنا معاذ بن هانئ ، حدثنا حَرْب بن شَدَّاد ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الحميد بن سِنَان ، عن عبيد بن عُمَيْر ، عن أبيه - يعني عُمَير بن قتادة - رضي الله عنه أنه حدثه - وكانت له صحبة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : " ألا إن أولياء الله المُصَلُّون من يُقِيم{[7223]} الصلواتِ الخمسَ التي كُتبت{[7224]} عليه ، ويَصومُ رمضان ويَحتسبُ صومَهُ ، يرى أنه عليه حق ، ويُعطي زكاةَ ماله يَحْتسِبها ، ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها " . ثم إن رجلا سأله فقال : يا رسول الله ، ما الكبائر ؟ فقال : " تسع : الشِّركُ بالله ، وقَتْلُ نَفْسِ مؤمن بغير حق{[7225]} وفِرارُ يوم الزّحْفِ ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الرِّبا ، وقذفُ المُحصنَة{[7226]} وعقوق الوالدين المسلمين ، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا ، ثم قال : لا يموت رجل لا يعمل{[7227]} هؤلاء الكبائر ، ويقيم الصلاة ، ويُؤتِي الزكاة ، إلا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبوابها مصاريع{[7228]} من ذَهَبٍ " .
وهكذا رواه الحاكم مطولا وقد أخرجه أبو داود والترمذي{[7229]} مختصرا من حديث معاذ بن هانئ ، به وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديثه مبسوطًا ثم قال الحاكم : رجاله كلهم يحتج بهم في الصحيحين إلا عبد الحميد بن سنان{[7230]} .
قلت : وهو حجازي لا يعرف إلا بهذا الحديث ، وقد ذكره ابن حِبَّان في كتاب الثقات ، وقال البخاري : في حديثه نظر .
وقد رواه ابن جرير ، عن سليمان بن ثابت الجحدري ، عن سلم{[7231]} بن سلام ، عن أيوب بن عتبة ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبيد بن عُمَير ، عن أبيه ، فذكره . ولم يذكر في الإسناد : عبد الحميد بن سنان ، فالله أعلم{[7232]} {[7233]} .
حديث آخر في معنى ما تقدم : قال ابن مَرْدُويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن الوليد ، عن المطلب عن عبد الله بن حنطب عن عبد الله بن عمرو قال : صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال : " لا أقْسِمُ ، لا أقْسِمُ " . ثم نزل فقال : " أبْشِرُوا ، أبْشِرُوا ، من صَلَّى الصلوات الخمس ، واجْتَنَبَ الكبائر السَّبعَ ، نُودِيَ من أبواب الجنة : ادخُل " . قال عبد العزيز : لا أعلمه إلا قال : " بسلام " . قال المطلب : سمعت من سأل عبد الله بن عَمْرو : أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهن ؟ قال : نعم : " عقوق الوالدين ، وإشْرَاكٌ بالله ، وقَتْلُ النفس ، وقَذْفُ المُحْصنات ، وأكْلُ مالِ اليتيمِ ، والفِرارُ من الزَّحفِ ، وأكْلُ الرِّبَا " {[7234]} .
حديث آخر في معناه : قال أبو جعفر بن جرير في التفسير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، أخبرنا زياد بن مِخْرَاق عن طيسلة بن مياس قال : كنت مع النَّجدات ، فأصبت ذنوبا لا أراها إلا من الكبائر ، فلقيت ابن عُمَر فقلت له : إني أصبت ذُنُوبا لا أراها إلا من الكبائر قال : ما هي ؟ قلت : أصبت كذا وكذا . قال : ليس من الكبائر . قلت : وأصبت كذا وكذا . قال : ليس من الكبائر قال - بشيء لم يسمه طَيْسَلَة - قال : هي تسع وسأعدهن عليك : الإشراك بالله ، وقتل النفس بغير حقها{[7235]} والفرار من الزحف ، وقذف المحصنة ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ظلما ، وإلحاد في المسجد الحرام ، والذي يستسحر{[7236]} وبكاء الوالدين من العقوق . قال زياد : وقال طيسلة لما رأى ابن عمر : فَرَقي . قال : أتخاف النار أن تدخلها ؟ قلت : نعم . قال : وتحب أن تدخل الجنة ؟ قلت : نعم . قال : أحيّ والداك ؟ قلت : عندي أمي . قال : فوالله لئن أنت ألَنْتَ لها الكلام ، وأطعمتها الطعام ، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموجبات{[7237]} .
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثنا سليمان بن ثابت الْجَحْدَرِي الواسطي ، حدثنا سلم{[7238]} بن سلام ، حدثنا أيوب بن عتبة ، عن طَيْسَلة بن علي النهدي قال : أتيت ابن عمر وهو في ظل أرَاك يوم
عَرَفة ، وهو يصب الماء على رأسه ووجهه قلت{[7239]} أخبرني عن الكبائر ؟ قال : هي تسع . قلت : ما هي ؟ قال : الإشراك بالله ، وقذف المحصنة - قال : قلت : قبل القتل{[7240]} ؟ قال : نعم وَرَغْمَا - وقتل النفس المؤمنة ، والفِرارُ من الزَّحْفِ ، والسِّحْرُ ، وأكْلُ الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعُقوق الوالدين المسلمين ، وإلْحاد بالبيت الحرام ، قبْلَتكم أحياء وأمواتا{[7241]} .
هكذا رواه من هذين الطريقين موقوفا ، وقد رواه علي بن الجَعْدِ ، عن أيوب بن عتبة ، عن طيسلة بن علي [ النهدي ]{[7242]} قال : أتيت ابن عمر عَشِيَّةَ عَرَفَةَ ، وهو تحت ظلِّ أرَاكة ، وهو يَصُبُّ الماء على رأسه ، فسألته عن الكبائر ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " هُنّ سبع " . قال : قلت : وما هُنّ ؟ قال : " الإشراك بالله ، وقذف المحصنة{[7243]} - قال : قلت : قبل{[7244]} الدم ؟ قال : نعم ورغما - وقتلُ النفس المؤمنة ، والفرار من الزَّحفِ ، والسِّحرُ ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعُقوق الوالدين ، وإلحاد{[7245]} بالبيت الحرامِ قِبْلَتَكُم أحياء وأمواتا " .
وكذا رواه الحسن بن موسى الأشيب ، عن أيوب بن عتبة اليماني - وفيه ضعف{[7246]} - والله أعلم .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عَديّ ، حدثنا بَقِيَّة ، عن بَحير بن سعد{[7247]} عن خالد بن مَعْدان : أن أبا رُهْم السمعي حدثهم ، عن أبي أيوب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عَبَدَ الله لا يُشرِكُ به شيئا ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، واجْتَنَبَ الكبائر ، فله الجنة - أو دخل الجنة " فسأله رجل : ما الكبائر ؟ فقال{[7248]} الشرك بالله ، وقَتْلُ نفس مسلمة ، والفِرار يوم الزَّحْف " .
ورواه أحمد أيضًا والنسائي ، من غير وجه ، عن بقية{[7249]} .
حديث آخر : روى الحافظ أبو بكر ابن مردويه في تفسيره ، من طريق سليمان بن داود اليماني - وهو ضعيف - عن الزهري ، عن أبي بكر بن محمد بن عَمْرو بن حزم ، عن أبيه ، عن جده قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات ، وبعث به مع عمرو بن حزم ، قال : وكان في الكتاب : " إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة : إشْراكٌ باللهِ وقَتْل النفْسِ المؤمنة بغير حَقٍّ ، والفِرارُ في سبيل الله يوم الزَّحْفِ ، وعُقوق الوالدين ، ورَمْي المحصنة ، وتَعَلُّم السحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم " {[7250]} .
حديث آخر : فيه ذكر شهادة الزور ؛ قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، حدثني عُبَيد الله{[7251]} بن أبي بكر قال : سمعت أنس بن مالك قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر - أو سئل عن الكبائر - فقال : " الشِّرْكُ بالله ، وقَتْلُ النفْسِ ، وعُقوق الوالدين " . وقال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ " قال : " قول الزور - أو شهادة الزور " . قال شعبة : أكبر ظني أنه قال " " شهادة الزور " {[7252]} .
أخرجاه من حديث شعبة{[7253]} به . وقد رواه ابن مَرْدُويه من طريقين آخرين غريبين عن أنس ، بنحوه{[7254]} .
حديث آخر : أخرجه{[7255]} الشيخان من حديث عبد الرحمن بن أبي بَكْرة ، عن أبيه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ " ، قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : " الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين " وكان متكئا فجلس فقال : " ألا وشهادة الزور ، ألا وقول الزور " . فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت{[7256]} .
حديث آخر : فيه ذكر قتل الولد ، وهو ثابت في الصحيحين ، عن عبد الله بن مسعود قال : قلت : يا رسول الله ، أيّ الذنب أعظم ؟ - وفي رواية : أكبر - قال : " أن تجعل لله نِدا وهو خَلَقكَ " قلت : ثم أيّ ؟ قال : " أن تَقْتُلَ ولدك خَشْيَةَ أن يَطْعَم معك " . قلت : ثم أيّ ؟ قال : " أن تُزاني حَلِيلَةَ جارِك " ثم قرأ : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ] }{[7257]} إلى قوله : { إِلا مَنْ تَابَ } [ الفرقان : 68 ]{[7258]} .
حديث ] آخر[ {[7259]} فيه ذكر شرب الخمر . قال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، حدثني أبو صخر : أن رجلا حَدّثه عن عمرة بن حزم أنه سمع عبد الله بن عَمْرو بن العاص وهو بالحِجْر{[7260]} بمكة وسُئل عن الخمر ، فقال : والله إنَّ عظيمًا عند الله الشيخُ مثلي يكذبُ في هذا المقام على رسول الله{[7261]} صلى الله عليه وسلم ، فذهب فسأله ثم رجع فقال : سألته عن الخمر فقال : " هي أكبر الكبائر ، وأم الفواحش ، من{[7262]} شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته " {[7263]} غريب من هذا الوجه .
طريق أخرى : رواها الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه من حديث{[7264]} عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي ، عن داود بن صالح ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه : أن أبا بكر الصديق ، رضي الله عنه ، وعُمَر بن الخطاب وأناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورضي الله عنهم أجمعين ، جلسوا{[7265]} بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا أعظم الكبائر ، فلم يكن عندهم ما ينتهون إليه ، فأرسلوني إلى عبد الله بن عَمْرو بن العاص أسأله عن ذلك ، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر ، فأتيتهم فأخبرتهم ، فأنكروا ذلك ، فوثبوا إليه حتى أتوه في داره ، فأخبرهم أنهم تحدثوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مَلِكا من بني إسرائيل أخذ رجلا فخيَّره بين أن يشرب خمرًا أو يقتل نفسا ، أو يزاني{[7266]} أو يأكل لحم خنزير ، أو يقتله{[7267]} فاختار شُرْبَ الخمر{[7268]} وإنه لما شربها لم يمتنع من شَيْء أراده{[7269]} منه ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا مجيبا : " ما من أحد يشرب خمرًا إلا لم تُقْبَلْ له صَلاةٌ أربعين ليلة ، ولا يموت أحد في مَثَانَتِهِ منها شيء إلا حَرَّم الله عليه الجنة فإنْ مات في أربعين ليلة مات ميتَةً جاهلية " .
هذا حديث غريب من هذا الوجه جدًا ، وداود بن صالح هو التَّمار{[7270]} المدني مولى الأنصار ، قال الإمام أحمد : لا أرى به بأسا . وذكره ابن حبان في الثقات ، ولم أر أحدًا جرحه{[7271]} .
حديث آخر : عن عبد الله بن عَمْرو وفيه ذكْرُ اليمين الغَمُوس . قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شُعْبة ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن عَمْرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أكبر الكبائر الإشراك بالله ، وعُقُوق الوالدين ، أو قَتْل النَّفْس - شعبة الشاك - واليمين الغَمُوس " . ورواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث شعبة : زاد البخاري وشيبان ، كلاهما عن فراس ، به{[7272]} .
حديث آخر : في اليمين الغموس : " قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثنا الليث بن سعد ، حدثنا هشام بن سعد ، عن محمد بن يزيد بن مهاجر بن قُنْفُذ التيمي ، عن أبي أمامة الأنصاري ، عن عبد الله بن أنيس الجهني ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أكبر{[7273]} الكبائر الشرك بالله ، وعُقوق الوالدين ، واليمين الغَمُوس ، وما حَلَفَ حالف بالله يمين صَبْر فأدخل فيها مثل جناح البعوضة ، إلا كانت وكتة في قلبه إلى يوم القيامة " . وهكذا رواه ] الإمام [ {[7274]} أحمد في مسنده ، وعبد بن حميد في تفسيره ، كلاهما عن يونس بن محمد المؤدّب ، عن الليث بن سعد ، به . وأخرجه الترمذي ] في تفسيره[ {[7275]} عن عبد بن حميد ] به[ {[7276]} ثم قال : وهذا حديث حسن غريب ، وأبو أمامة الأنصاري هذا هو ابن ثعلبة ، ولا يعرف{[7277]} اسمه . وقد رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث{[7278]} .
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المِزِّي : وقد رواه عبد الرحمن بن إسحاق المدني ، عن محمد بن زيد ، عن عبد الله بن أبي أمامة ، عن أبيه عن عبد الله بن أنيس . فزاد عبد الله بن أبي أمامة .
قلت : هكذا وقع في تفسير ابن مَرْدُويه وصحيح ابن حبّان ، من طريق عبد الرحمن بن إسحاق{[7279]} كما ذكره{[7280]} شيخنا ، فسَح اللهُ في أجله{[7281]} .
حديث آخر : عن عبد الله بن عمرو ، في التسبب إلى شتم الوالدين . قال ابن أبي حاتم : حدثنا عَمْرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا وكيع ، عن مِسْعر وسفيان ، عن سعد بن إبراهيم ، عن حُمَيد بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عمرو - رفعه سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ووقفه مسعر على عبد الله بن عمرو - قال : " من الكبائر أن يَشْتُم الرجلُ والديه " : قالوا : وكيف يشتم الرجل والديه ؟ قال : " يَسُبُّ الرجلُ أبا الرجل فيسبَّ أباه ، ويسُبُّ أمَّه فيسب أمه " {[7282]} .
وقد أخر هذا الحديث البخاري عن أحمد بن يونس ، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن عمه حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن عبد الله بن عَمْرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من أكبر الكبائر أن يَلْعَن الرجلُ والديه " . قالوا : وكيفَ يَلْعَنُ الرجلُ والديه ؟ ! قال : " يَسُبُّ الرجلُ أبا الرجل فيسبَّ أباه ، ويسُبُّ أمَّه فيسب أمه " .
وهكذا رواه مسلم من حديث سفيان وشعبة ويزيد بن الهاد ، ثلاثتهم عن سعد بن إبراهيم ، به مرفوعا بنحوه . وقال الترمذي : صحيح{[7283]} .
وثبت في الصحيح{[7284]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سِبابُ المسلم فُسُوقٌ ، وقِتاله كُفْر " {[7285]} .
حديث آخر في ذلك : قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيم ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، حدثنا زهير بن محمد ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أكبر الكبائر عِرْضُ الرجل المسلم ، والسَّبَّتَان والسَّبَّة{[7286]} " {[7287]} .
هكذا روي هذا الحديث ، وقد أخرجه أبو داود في كتاب الأدب في سننه ، عن جعفر بن مسافر ، عن عمرو بن أبي سلمة ، عن زهير بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أكبر{[7288]} الكبائر استطالةُ المرْءِ{[7289]} في عِرْضِ رجلٍ مسلم بغير حق ، ومن الكبائر السبتان{[7290]} بالسبة " .
وكذا رواه ابن مَرْدُويه من طريق عبد الله بن العلاء بن زَيْر{[7291]} عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله{[7292]} .
حديث آخر : في ذكْرُ الجمع بين الصلاتين من غير عذر ؛ قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نُعَيم بن حماد ، حدثنا مُعْتَمِر بن سليمان ، عن أبيه ، عن حَنَش{[7293]} عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من جمع بين الصَّلاتين من غير عُذْرٍ ، فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر " . وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي عن أبي سلمة يحيى بن خلف ، عن المعتمر بن سليمان ، به ثم قال : حَنَش{[7294]} هو أبو{[7295]} علي الرحبي ، وهو{[7296]} حسين بن قيس ، وهو ضعيف عند أهل الحديث ، ضعفه أحمد وغيره{[7297]} .
وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة ، عن خالد الحذاء ، عن حميد{[7298]} بن هلال ، عن أبي قتادة - يعنى العدوي - قال : قرئ علينا كتابُ عمر : من الكبائر جمع بين الصلاتين - يعني بغير{[7299]} عذر - والفِرَار من الزَّحْفِ ، والنُّهْبَة .
وهذا إسناد صحيح : والغرض أنه إذا كان الوعيد فيمن جمع بين الصلاتين كالظهر والعصر تقديما أو تأخيرًا ، وكذا المغرب والعشاء هما من شأنه أن يجمع بسبب من الأسباب الشرعية ، فإذا تعاطاه أحد بغير شيء من تلك الأسباب يكون مرتكبا كبيرة ، فما ظنك بمن ترك الصلاةِ بالكلية ؟ ولهذا روى مسلم في صحيحه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة " {[7300]} وفي السنن عنه ، عليه السلام ، أنه قال : " العهد الذي بيننا وبينهم{[7301]} الصلاة ، فمن تَرَكَها فقد كَفر " {[7302]} وقال : " من ترك صلاةَ العَصْرِ فقد حبطَ عَمَلُه " {[7303]} وقال : " من فاتته صَلاةُ الْعَصْرِ فكأنما وَتِرَ أهله وماله " {[7304]} .
حديث آخر : فيه اليأسُ من رَوْح الله ، والأمنُ من مَكْر الله . قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل ، حدثنا أبي ، حدثنا شَبِيب بن بِشْر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متكئًا فدخل عليه رجل فقال : ما الكبائر ؟ فقال : " الشِّرْكُ بالله ، واليأس من رَوْح الله ، والقُنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، وهذا أكبر الكبائر " .
وقد رواه البزار ، عن عبد الله بن إسحاق العطار ، عن أبي عاصم النبيل ، عن شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما الكبائر ؟ قال : " الإشراك{[7305]} بالله ، واليأس من رَوْح الله ، والقُنوط من رحمة الله عز وجل " .
وفي إسناده نظر ، والأشبه أن يكون موقوفا ، فقد روي عن ابن مسعود نحوُ ذلك{[7306]} قال ابن جرير :
حدثنى يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هُشَيم ، أخبرنا مطرف ، عن وَبْرة بن عبد الرحمن ، عن أبي الطفيل قال : قال ابن مسعود : أكبر الكبائر الإشراك بالله والإياس{[7307]} من رَوْح الله ، والقُنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله .
وكذا رواه من حديث الأعمش وأبي إسحاق ، عن وَبْرة ، عن أبي الطفيل ، عن ابن مسعود ، به ثم رواه من طُرُق عدة ، عن أبي الطفيل ، عن ابن مسعود . وهو صحيح إليه بلا شك . {[7308]}
حديث آخر : فيه سوء الظن بالله ؛ قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن إبراهيم بن بُنْدار ، حدثنا أبو حاتم بكر بن عبدان ، حدثنا محمد بن مهاجر{[7309]} حدثنا أبو حذيفة{[7310]} البخاري ، عن محمد بن عجلان ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه قال : ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم[ {[7311]} " أكبر الكبائر سوء الظن بالله عز وجل " . حديث غريب جدًّا .
حديث آخر : فيه التعرب{[7312]} بعد الهجرة ، قد تقدم في رواية عَمْرو{[7313]} بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعا ، قال{[7314]} أبو بكر بن مرْدويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن رشدين ، حدثنا عَمْرو بن خالد الحراني ، حدثنا ابن لَهِيعة عن يزيد بن أبي حبيب ، عن محمد بن سهل ابن أبي حَثْمة{[7315]} عن أبيه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الكبائر سبع ، ألا تسألوني عنهن ؟ الشِّركُ بالله ، وقَتْلُ النفْسِ ، والفِرارُ يوم الزَّحْفِ ، وأكْلُ مال اليتيم ، وأكل الربا ، وقَذْفُ المحصَنَة ، والتعرب{[7316]} بعد الهجرة " .
وفي إسناده نظر ، ورفعه غلط فاحش{[7317]} والصواب ما رواه ابن جرير : حدثنا تميم بن المنتصر ، أخبرنا يزيد ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن سهيل بن أبي حثْمة{[7318]} عن أبيه قال : إني لفي هذا المسجد - مسجد الكوفة - وعلي ، رضي الله عنه ، يَخْطُب الناسَ على المنبر ، فقال : يا أيها الناس ، الكبائر{[7319]} سبع فأصاخ{[7320]} الناسُ ، فأعادها ثلاث مرات ، ثم قال : لم لا{[7321]} تسألوني عنها ؟ قالوا : يا أمير المؤمنين ما هي ؟ قال : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله{[7322]} وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار يوم الزحف ، والتعرب بعد الهجرة . فقلت لأبي : يا أبت ، التعرب{[7323]} بعد الهجرة ، كيف لحق هاهنا ؟ قال : يا بني ، وما أعظم من أن يهاجر الرجل ، حتى إذا وقع سهمه في الفيء ، ووجب عليه الجهاد خلع ذلك من عنقه فرجع أعرابيًا كما كان{[7324]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا أبو معاوية - يعني شيبان - عن منصور ، عن هلال بن يسَاف ، عن سلمة بن قيس الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : " ألا إنما هن أربع : ألا تشركوا بالله شيئًا ، ولا تقتلوا النفْسَ التي حَرَّمَ الله إلا بالحق ، ولا تَزْنُوا ، ولا تسرقوا " . قال : فما أنا{[7325]} بأشح{[7326]} عليهن منى ، إذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم رواه أحمد أيضا والنسائي وابن مردويه ، من حديث منصور ، بإسناده مثله{[7327]} .
حديث آخر : تقدم من رواية عُمَر بن المغيرة ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الإضْرَارُ في الوَصِيَّةِ من الكبائر " . والصحيح ما رواه غيره ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس [ قوله ] قال ابن أبي حاتم : وهو الصحيح عن ابن عباس من قوله .
حديث آخر في ذلك : " قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيب ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثنا عباد بن عباد ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ؛ أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم{[7328]} ذكروا الكبائر وهو متكئ ، فقالوا : الشرك بالله ، وأكل مال اليتيم ، وفرار من الزحف ، وقذف المحصنة ، وعقوق الوالدين ، وقول الزور ، والغلول ، والسحر ، وأكل الربا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأين تجعلون { الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا } [ آل عمران : 77 ] ؟ ! إلى آخر الآية . في إسناده ضعف ، وهو حسن{[7329]} .
قد تقدم ما روي عن أمير المؤمنين عمر وعلي ، رضي الله عنهما ، في ضمن الأحاديث المذكورة . وقال ابن جرير :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُليَّة ، عن ابن عَوْن ، عن الحسن : أن ناسا سألوا{[7330]} عبد الله بن عمرو بمصر فقالوا : نرى أشياء من كتاب الله ، أمَرَ أن يُعمل بها فلا يعمل بها ، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك ؟ فقدم وقدموا معه ، فلقيه{[7331]} عمر ، رضي الله عنه ، فقال : متى قدمت ؟
فقال : منذ كذا وكذا قال : أبإذن قدمت ؟ قال : فلا أدري كيف رد عليه . فقال : يا أمير المؤمنين ، إن ناسا لقوني بمصر فقالوا : إنا نرى أشياء من كتاب الله ، أمر أن يعمل بها فلا{[7332]} يعمل بها{[7333]} فأحبوا أن يلقوك في ذلك فقال : اجمعهم لي . قال : فجمعتهم له - قال ابن عون : أظنه قال : في بَهْو - فأخذ أدناهم رجلا فقال : نشدتك{[7334]} بالله وبحق الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله ؟ قال : نعم قال فهل أحصيته في نفسك ؟ قال اللهم لا . قال : ولو قال : نعم لخصمه . قال : فهل أحصيته في بصرك ؟ فهل{[7335]} أحصيته في لفظك ؟ هل أحصيته في أمرك{[7336]} ؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم . قال : فثكلت عمر أمه . أتكلِّفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ؟ ! قد علم ربنا أنه ستكون{[7337]} لنا سيئات . قال : وتلا { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ] }{[7338]} ثم قال : هل علم أهل المدينة - أو قال : هل علم أحد - بما{[7339]} قدمتم ؟ قالوا : لا . قال : لو علموا لوعظت بكم .
إسناد حسن{[7340]} ومتن حسن ، وإن كان من رواية الحسن عن عمر ، وفيها انقطاع ، إلا أن مثل هذا اشتهر{[7341]} فتكفي{[7342]} شهرته{[7343]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو أحمد - يعني الزبيري - حدثنا علي بن صالح ، عن عثمان بن المغيرة ، عن مالك بن جوين ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : الكبائر الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنَة ، والفرار من الزَّحْف ، والتعرب بعد الهجرة ، والسِّحْر ، وعُقوق الوالدين ، وأكل الربا ، وفراق الجماعة ، ونكث الصفقة .
وتقدم عن ابن مسعود أنه قال : أكبر الكبائر الإشراك بالله ، واليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، عز وجل .
وروى ابن{[7344]} جرير ، من حديث الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، والأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، كلاهما عن ابن مسعود قال : الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها . ومن حديث سفيان الثوري وشعبة ، عن عاصم بن أبي النَّجُود ، عن زِرّ بن حُبيشِ ، عن ابن مسعود قال : الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها ثم تلا { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ]{[7345]} }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا صالح بن حيان ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : أكبر الكبائر : الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، ومنع فضول الماء بعد الري ، ومنع طروق{[7346]} الفحل إلا بجُعْلٍ .
وفي الصحيحين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يُمنَع فَضْلُ الماءِ ليمنع به الكلأ " {[7347]} وفيهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ثلاثة لا ينظرُ الله إليهم يوم القيامة ولا يُزكِّيهم ولهم عذاب أليم : رجل على فَضْلِ ماء بالفَلاةِ يمنعه ابن السَّبيل " ، وذكر الحديث بتمامه{[7348]} .
وفي مسند الإمام أحمد ، من حديث عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده مرفوعا : " من مَنَعَ فَضْلَ الماءِ وفَضْلَ الكَلأ منعه الله فضله يوم القيامة " {[7349]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسين بن محمد بن شَنَبَة{[7350]} الواسطي ، حدثنا أبو أحمد حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : ما أُخِذ على النِّساء من الكبائر . قال ابن أبي حاتم : يعني{[7351]} قوله : { عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ [ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ ]{[7352]} } الآية [ الممتحنة : 12 ] .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا زياد بن مِخْراق ، عن معاوية بن قُرَّة قال : أتينا أنس بن مالك ، فكان فيما حدثنا قال : لم أر مثل الذي بلغنا عن ربنا تعالى{[7353]} ثم{[7354]} لم نخرج له عن كل أهل ومال . ثم سكت هُنية{[7355]} ثم قال : والله لما كلفنا{[7356]} ربنا أهون من ذلك ، لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر ، فما لنا ولها ، ثم تلا { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا ]{[7357]} } .
روى ابن جرير ، من حديث المعتمر{[7358]} بن سليمان ، عن أبيه ، عن طاوس قال : ذكروا عند ابن عباس الكبائر فقالوا : هي سبع ، فقال : هي أكثر من سبع وسبع . قال سليمان : فما أدري كم قالها من مرة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا قُبَيْصَة ، حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن طاوس قال : قلت لابن عباس : ما السبع الكبائر ؟ قال : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع .
ورواه ابن جرير ، عن ابن حميد ، عن ليث ، عن طاوس قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن{[7359]} الله ؟ ما هن ؟ قال : هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع{[7360]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن طاوس ، عن أبيه قال : قيل لابن عباس : الكبائر سبع ؟ قال : هن إلى السبعين أقرب ، وكذا قال أبو العالية الرياحي ، رحمه الله .
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شِبْل ، عن قيس عن سعد ، عن سعيد بن جُبير ؛ أن رجلا قال لابن عباس : كم الكبائر ؟ سبع ؟ قال : هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ، ولا صغيرة مع إصرار . وكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث شبل ، به .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } قال : الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب . ورواه ابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا ابن فضيل ، حدثنا شبيب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الكبائر : كل ما وعد الله عليه النار كبيرة . وكذا قال سعيد بن جبير والحسن البصري .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا أيوب ، عن محمد بن سيرين قال : نبئت أن ابن عباس كان يقول : كل ما نهى الله عنه كبيرة . وقد ذكرت الطَّرْفة [ فيه ]{[7361]} قال : هي النظرة .
وقال أيضا : حدثنا أحمد بن حازم ، أخبرنا أبو نعيم ، حدثنا عبد الله بن معدان ، عن أبي الوليد قال : سألت ابن عباس عن الكبائر فقال{[7362]} هي كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة .
قال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيّة ، عن ابن عَوْن ، عن محمد قال : سألت عَبِيدة عن الكبائر ، فقال : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله بغير حقها ، وفرار يوم الزَّحْف ، وأكل مال اليتيم بغير حقه ، وأكل الربا ، والبهتان . قال : ويقولون : أعرابية بعد هجرة . قال ابن عون : فقلت لمحمد : فالسحر ؟ قال : إن البهتان يجمع شرا كبيرا{[7363]} .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبيد المُحَاربي{[7364]} حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم ، عن أبي إسحاق ، عن عُبيد بن عُمَير قال : الكبائر سبع ، ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله : الإشراك بالله منهن : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ } [ الحج : 31 ] و { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } [ النساء : 10 ]{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } [ البقرة : 275 ] و { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } [ النور : 23 ] والفرار من الزحف : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا [ فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ ]{[7365]} } [ الأنفال : 15 ] ، والتعرب{[7366]} بعد الهجرة : { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى } [ محمد : 25 ] ، وقتل المؤمن : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا } الآية [ النساء : 93 ] .
وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي إسحاق ، عن عُبَيد ، بنحوه .
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن عطاء - يعني ابن أبي رباح - قال : الكبائر سبع : قتل النَّفْسِ ، وأكل الربا وأكل مال اليتيم ، ورمي المحصنة ، وشهادة الزور ، وعقُوق الوالدين ، والفِرَار من الزَّحْف .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن مغيرة قال : كان يقال شَتْمُ أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، من الكبائر .
قلت : وقد ذهب طائفة من العلماء إلى تكفير من سَبَّ الصحابة ، وهو رواية عن مالك بن أنس ، رحمه الله : وقال محمد بن سيرين : ما أظن أحدا ينتقص{[7367]} أبا بكر ، وعمر ، وهو يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه الترمذي .
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وَهْب ، أخبرني عبد الله بن عيَّاش ، قال{[7368]} زيد بن أسلم في قول الله عز وجل : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } من الكبائر : الشرك ، والكفر بآيات الله ورسوله ، والسحر ، وقتل الأولاد ، ومن دعا لله ولدا أو صاحبة ، ومثل ذلك من الأعمال ، والقول الذي لا يصلح{[7369]} معه عمل ، وأما كل ذنب يصلح معه دين ، ويقبل معه عمل فإن الله يغفر السيئات بالحسنات .
وقال ابن جرير : حدثنا بِشْر بن معاذ ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } الآية : إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر . وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجْتَنِبُوا الْكَبائر ، وسَدِّدُوا ، وأبْشِرُوا " .
وقد روى ابن مردويه من طرق عن أنس ، وعن جابر مرفوعا : " شَفَاعَتِي لأهل الكبائر من أمَّتِي " {[7370]} ولكن في إسناده من جميع طرقه ضعف ، إلا ما رواه عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " شَفاعتي لأهْلِ الكبائرِ من أمتي " . فإنه إسناد صحيح على شرط الشيخين{[7371]} وقد رواه أبو عيسى الترمذي منفردا به من هذا الوجه ، عن عباس العَنْبري ، عن عبد الرزاق ثم قال : هذا حديث حسن صحيح{[7372]} وفي الصحيح شاهد لمعناه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الشفاعة : " أترَوْنَها للمؤمنين المتقين ؟ لا ولكنها للخاطئين المُتَلَوِّثِينَ " .
وقد اختلف علماء الأصول والفروع في حد الكبيرة فمن قائل : هي ما عليه حدٌّ في الشرع .
ومنهم من قال : هي ما عليه وعيد لخصوصه من الكتاب والسنة . وقيل غير ذلك . قال أبو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي ، في كتابه الشرح الكبير الشهير ، في كتاب الشهادات منه : ثم اختلف الصحابة ، رضي الله [ تعالى ]{[7373]} عنهم ، فمن بعدهم في الكبائر ، وفي الفرق بينها وبين الصغائر ، ولبعض الأصحاب{[7374]} في تفسير الكبيرة وجوه :
أحدها : أنها المعصية الموجبة للحد .
والثاني : أنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة . وهذا أكثر ما يوجد لهم ، وهو{[7375]} وإلى الأول أميل ، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفسير{[7376]} الكبائر .
والثالث : قال إمام الحرمين في " الإرشاد " وغيره : كل جريمة تنبئ بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة ، فهي مبطلة للعدالة .
والرابع : ذكر القاضي أبو سعيد{[7377]} الهروي أن الكبيرة : كل فِعْل نَصَّ الكتاب على تحريمه ، وكل معصية توجب في جنسها حدًّا من قتل أو غيره ، وترك كل فريضة مأمور بها على الفور ، والكذب في الشهادة ، والرواية ، واليمين .
ثم قال : وفصل القاضي الروياني فقال : الكبائر سبع : قتل النفس بغير الحق ، والزنا ، واللواط ، وشرب الخمر ، والسرقة ، وأخذ المال غصبا ، والقذف . وزاد في " الشامل " على السبع المذكورة : شهادة الزور . وأضاف إليها صاحب العدة : أكل الربا ، والإفطار في رمضان بلا عذر ، واليمين الفاجرة ، وقطع الرحم ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ، والخيانة في الكيل والوزن ، وتقديم الصلاة على وقتها ، وتأخيرها عن وقتها ، بلا عذر ، وضرب المسلم بلا{[7378]} حق ، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم عمدًا ، وسب أصحابه ، وكتمان الشهادة بلا عذر ، وأخذ الرشوة ، والقيادة بين الرجال والنساء ، والسعاية عند السلطان ، ومنع الزكاة ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ، ونسيان القرآن بعد تعلمه ، وإحراق الحيوان بالنار ، وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب ، واليأس من رحمة الله ، والأمن من مكر الله{[7379]} ويقال : الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن . ومما يعد من الكبائر : الظهار ، وأكل لحم الخنزير والميتة إلا عن ضرورة .
ثم قال الرافعي : وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال .
قلت : وقد صنف الناس في الكبائر مصنفات ، منها ما جمعه شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي{[7380]} الذي بلغ نحوا من سبعين كبيرة ، وإذا قيل : إن الكبيرة [ هي ]{[7381]} ما توعد الشارع عليها بالنار بخصوصها ، كما قال ابن عباس ، وغيره ، وتتبع ذلك ، اجتمع منه شيء كثير ، وإذا قيل : كل ما نهى الله [ تعالى ]{[7382]} عنه فكثير جدًّا ، والله [ تعالى ]{[7383]} أعلم .
اختلف أهل التأويل في معنى الكبائر التي وعد الله جلّ ثناؤه عباده باجتنابها تكفير سائر سيئاتهم عنهم ، فقال بعضهم : الكبائر التي قال الله تبارك وتعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } هي ما تقدم الله إلى عباده بالنهي عنه من أوّل سورة النساء إلى رأس الثلاثين منها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : الكبائر من أوّل سورة النساء إلى ثلاثين منها .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عبد الله بمثله .
حدثني المثنى ، قال : حجاج ، قال : ثنا حماد ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود ، مثله .
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : ثنا وكيع ، قال : ثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : ثنى علقمة ، عن عبد الله ، قال : الكبائر من أوّل سورة النساء ، إلى قوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } .
حدثنا الرفاعي ، قال : ثنا أبو معاوية وأبو خالد ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : الكبائر من أوّل سورة النساء ، إلى قوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } .
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، قال : سئل عبد الله عن الكبائر ، قال : ما بين فاتحة سورة النساء إلى رأس الثلاثين .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود ، قال : الكبائر : ما بين فاتحة سورة النساء إلى ثلاثين آية منها : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، أنه قال : الكبائر من أوّل سورة النساء إلى الثلاثين منها : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن إبراهيم ، قال : كانوا يرون أن الكبائر فيما بين أول هذه السورة ، سورة النساء ، إلى هذا الموضع : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } .
حدثني المثنى ، قال : ثنا آدم العسقلاني ، قال : ثنا شعبة ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زرّ بن حبيش ، عن ابن مسعود ، قال : الكبائر من أوّل سورة النساء إلى ثلاثين آية منها . ثم تلا : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } .
حدثني المثنى ، قال : ثنا ابن وكيع ، قال : ثنا مسعر ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زرّ بن حبيش ، قال : قال عبد الله : الكبائر : ما بين أوّل سورة النساء إلى رأس الثلاثين .
وقال آخرون : الكبائر سبع . ذكر من قال ذلك :
حدثني تميم بن المنتصر ، قال : ثنا يزيد ، قال : أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة ، عن أبيه ، قال : إني لفي هذا المسجد مسجد الكوفة ، وعليّ رضي الله عنه يخطب الناس على المنبر ، فقال : يا أيها الناس إن الكبائر سبع ! فأصاخ الناس ، فأعادها ثلاث مرات ، ثم قال : ألا تسألوني عنها ؟ قالوا ؛ يا أمير المؤمنين ما هي ؟ قال : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرّم الله ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار يوم الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة . فقلت لأبي : يا أبت التعرب بعد الهجرة ، كيف لحق ههنا ؟ فقال : يا نبيّ ، وما أعظم من أن يهاجر الرجل ، حتى إذا وقع سهمه في الفيء ووجب عليه الجهاد ، خلع ذلك من عنقه فرجع أعرابياً كما كان .
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : ثنا أبو الأحوص سلام بن سليم ، عن ابن إسحاق ، عن عبيد بن عمير ، قال : الكبائر سبع ليس منهنّ كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله ، الإشراك بالله منهنّ :
{ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ }
و { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً }
{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ }
{ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِناتِ }
{ النَّارِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ }
{ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى }
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن ابن إسحاق ، عن عبيد بن عمير الليثي ، قال : الكبائر سبع : الإشراك بالله :
{ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ }
{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ }
{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ }
. . الآية ، وأكل أموال اليتامى :
{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً }
{ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِناتِ }
. . الآية ، والفرار من الزحف :
{ وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَةٍ }
. . الآية . والمرتد أعرابياً بعد هجرته :
{ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى }
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن محمد ، قال : سألت عبيدة عن الكبائر ، فقال : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حَرَّمَ الله بغير حقها ، وفرار يوم الزحف ، وأكل مال اليتيم بغير حقه ، وأكل الربا ، والبهتان . قال : ويقولون أعرابية بعد هجرة . قال ابن عون : فقلت لمحمد فالسحر ؟ قال : إن البهتان يجمع شرّاً كثيراً .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا منصور وهشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة أنه قال : الكبائر : الإشراك ، وقتل النفس الحرام ، وأكل الربا ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف ، والمرتدّ أعرابياً بعد هجرته .
حدثني يعقوب ، قال ثنا هشيم ، ققال : ثنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : أخبرني الليث ، قال : ثنى خالد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن نعيم المجمر ، قال : أخبرني صهيب مولى العتواري أنه سمع من أبي هريرة وأبي سعيد الخدري يقولان : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ، فقال : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ؟ " ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، ثم أكبّ ، فأكبّ كل رجل منا يبكي لا يدري على ماذا حلف . ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر ، فكان أحبّ إلينا من حمر النعم ، فقال : " ما مِنْ عَبْدٍ يُصَلّى الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ ، ويُخْرِجُ الزَّكاةَ ، وَيجْتَنِبُ الكَبائِرَ السَّبْعَ ، إلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أبْوَابُ الجَنَّةِ ، ثُمَّ قِيلَ : ادْخُلْ بِسَلام "
حدثني المثنى قال ثنا حذيفة قال ثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن عطاء قال الكبائر سبع : قتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، ورمى المحصنة ، وشهادة الزور وعقوق الوالدين والفرار يوم الزحف .
وقال آخرون هي تسع . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ثنا ابن عُلَية قال أخبرنا زياد بن مخراق ، عن طيسلة بن مَيَّاس قال كنت مع الحِدْثان ، وأصبت ذنوباً لا أراها إلا من الكبائر ، فلقيت ابن عمر ، فقلت : إني أصيب ذنوباً لا أراها إلا من الكبائر ، قال : وما هي ؟ قلت : كذا وكذا ، قال ليس من الكبائر ، قال أشىء لم يسمعه طيسلة ؟ قال هي تسع وسأعدّهنّ عليك : الإشراك بالله ، وقتل النسَمة بغير حِلها ، والفِرار من الزحف ، وقذف المحصنة ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ظلماً ، وإلحاد في المسجد الحرام ، والذي يستسحر ، وبكاء الوالدين من العقوق . قال ابن زياد : وقال طيسلة : لما رأى ابن عمر فرقى ، قال : أتخاف النار أن تدخلها ؟ قلت : نعم ، قال : وتحبّ أن تدخل الجنة ؟ قلت : نعم ، قال أحىّ والداك ؟ قلت : عندي أمي ، قال : فوالله لئن أنت أَلَنت لها الكلام ، وأطعمتها الطعام ، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموجِبات .
حدثنا سليمان بن ثابت الخراز الواسطيّ ، قال : أخبرنا سلم بن سلام ، قال : أخبرنا أيوب بن عتبة ، عن طيسلة بن علي النهديّ قال : أتيت ابن عمر ، وهو في ظلّ أراك يوم عرفة ، وهو يصبّ الماء على رأسه ووجهه ، قال : قلت أخبرني عن الكبائر ؟ قال : هي تسع ، قلت : ما هن ؟ قال : الإشراك بالله ، وقذف المحصنة ، قال قلت قبل القتل ؟ قال : نعم ، ورغما ، وقت النفس المؤمنة ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين المسلمين ، والإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً .
حدثنا سليمان بن ثابت الخراز ، قال : أخبرنا سَلْم بن سلام ، قال : أخبرنا أيوب بن عتُبة ، عن يحيى ابن عبيد ، بن عمير ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله ، إلا أنه قال : بدأ بالقتل قبل القذف .
وقال آخرون : هي أربع . ذكر من قال ذلك .
حدثناابن حميد ، قال : ثنا حكام بن سلم ، عن عنبسة ، عن مطرّف ، عن وَبْرة ، عن ابن مسعود ، قال : الكبائر الإشراك بالله ، والقنوط من رحمة ، الله والإياس من رَوح الله ، والأمْن من مكر الله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال أخبرنا مطرف ، عن وَبَره بن عبد الرحمن ، عن أبي الطفيل ، قال : قال عبد الله بن مسعود : أكبر الكبائر : الإشراك بالله ، والإياس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمْن من مكر الله .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن وَبَرة بن عبد الرحمن ، قال : قال عبد الله : إن الكبائر : الشرك بالله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن مِن مكر الله ، والإياس من روح الله .
حدثني أبو كريب وأبو السائب ، قالا : ثنا ابن إدريس ، قال : سمعت مطرفاً عن وَبَرة ، عن أبي الطفيل قال : قال عبد الله : الكبائر أربع : الاشراك بالله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمْن من مكر الله .
حدثني محمد بن عمارة الأسديّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : أخبرنا شيبان ، عن الأعمش ، عن وَبَرة ، عن أبي الطفيل ، قال سمعت ابن مسعود يقول : أكبر الكبائر : الإشراك بالله .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : ثنا عبد الله ، قال : أخبرنا اسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن وَبَرة ، عن أبي الطفيل ، عن عبد الله ، بنحوه .
حدثني ابن المثنى ، قال ثنى وهب بن جرير ، قال : ثنا شعبة ، عن عبد الملك بن أبي الطفيل ، عن عبد الله ، قال : الكبائر أربع : الإشراك بالله ، والأمْن من مكر الله ، والإياس من رَوح الله ، والقنوط من رحمة الله . وبه قال : ثنا شعبة ، عن القاسم بن أبي بزَّة عن أبي الطفيل ، عن عبد الله ، بمثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال ثنا شعبة ، عن القاسم بن أبي بزَّة ، عن أبي الطفيل ، عن عبد الله بن مسعود ، بنحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي الطفيل ، عن ابن مسعود ، قال : الكبائر أربع : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرّم الله ، والأمن لمكر الله ، والإياس من رَوح الله .
حدثنا ابن وكيع ، قال ثنا أبي ، عن المسعوديّ ، عن فرات القزاز ، عن أبي الطفيل ، عن عبد الله ، قال : الكبائر : القنوط من رحمة الله ، والإياس من روح الله ، والأمن لمكر الله ، والشرك بالله . وقال آخرون كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ذكر من قال ذلك .
حدثنا أبو كريب قال ثنا هشيم ، عن منصور ، عن ابن سيرين ، عن ابن عباس ، قال : ذُكرت عنده الكبائر ، فقال : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن محمد ، قال أُنبئت أن ابن عباس كان يقول : كل ما نهى الله عنه كبيرة ، وقد ذكرت الطَّرْفة ، قال : هي النَّظْرة .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال ثنا معتمر ، عن أبيه ، عن طاوس ، قال : قال رجل لعبد الله بن عباس : أخبرني بالكبائر السبع ، قال : فقال ابن عباس : هي أكثر من سبع وتسع ، فما أدري كم قالها من مرّة
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن سليمان التميميّ ، عن طاوس ، قال : ذكروا عند ابن عباس الكبائر ، فقالوا : هي سبع ، قال : هي أكثر من سبع وتسع ، قال سليمان : فلا أدري كم قالها من مرة
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر وابن أبي عديّ عن عوف ، قال : قام أبو العالية الرياحيّ على حلقة أنا فيها ، فقال : إن ناساً يقولون : الكبائر سبع ، وقد خفت أن تكون الكبائر سبعين ، أو يزدن على ذلك .
حدثنا عليّ ، قال : ثنا الوليد ، قال : سمعت أبا عمر ويخبر عن الزهريّ ، عن ابن عباس ، أنه سئل عن الكبائر ، أسبع هي ؟ قال : هي إلى السبعين أقرب .
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن قيس بن سعد ، عن سعيد بن جبير ، أن رجلاً قال لابن عباس : كم الكبائر ، أسبع هي ؟ قال : إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع اسغفار ولا صغيرة مع إصرار .
حدثنا ابن حميد قال ثنا جرير ، عن ليث ، عن طاوس ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال : أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهنّ الله ماهن ؟ قال : هن إلى السبعين أدنى منها إلى سبع .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال قيل لابن عباس : الكبائر سبع ؟ قال : هي إلى السبعين أقرب .
حدثنا أحمد بن حازم ، قال أخبرنا أبو نعيم ، قال : ثنا عبد الله بن سعدان ، عن أبي الوليد ، قال : سألت ابن عباس ، عن الكبائر ، قال : كل شيء عُصِي الله فيه فهو كبيرة . وقال آخرون هي ثلاث ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن مسعود قال : الكبائر ثلاث : اليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمْن من مكر الله .
وقال آخرون : كل موجِبة وكل ما أوعد الله أهله عليه النارَ فكبيرة . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنى معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قوله : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ } قال : الكبائر : كل ذنب ختمه الله بنار ، أو غضب ، أو لعنة ، أو عذاب .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال ثنا ابن علية ، قال : أخبرنا هشام بن حسام ، عن محمد بن واسع ، قال : قال سعيد بن جبير : كل موجبة في القرآن كبيرة .
حدثنا ابن وكيع ، قال ثنا أبي ، عن محمد بن مهرم الشعاب ، عن محمد بن واسع الازدي ، عن سعيد بن جبير ، قال : كل ذنب نسبه الله إلى النار ، فهو من الكبائر .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، عن سالم أنه سمع الحسن ، يقول : كل موجبة في القرآن كبيرة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال ثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْه } قال : الموجبات .
حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : ثنا يزيد قال ثنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : الكبائر : كل موجبة أوجب الله لأهلها النار ، وكل عمل يقام به الحدّ فهو من الكبائر .
قال أبو جعفر : والذي نقول به في ذلك : ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وذلك ما حدثنا به أحمد بن الوليد القرشي ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثنى عبيد الله بن أبي بكر ، قال سمعت أنس بن مالك قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر ، أو سئل عن الكبائر ، فقال : " الشرك بالله ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين ، فقال : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قال : قول الزور ، أو قال : شهادة الزور ، " قال شعبة : وأكبر ظني أنه قال : شهادة الزور .
حدثنا يحيى بن حبيب بن عربيّ ، قال : حدثنا خالد بن الحارث ، قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرنا عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر ، قال : " الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس وقول الزور "
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يحيى بن كثير ، قال : ثنا شعبة ، عن عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس ، قال : ذَكروا الكبائر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، ألا أُنْبِئَكُم بأكْبَرِ الكَبائِرِ قَوْلُ الزُّورِ "
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال ثنا شعبة ، عن فراس ، عن الشعبيّ ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " أكْبَرُ الكَبائِرِ : الإشْرَاكُ باللَّهِ وعَقُوُقُ الوَالِدَيْنِ أو قَتْلُ النَّفْسِ شعبة الشاكّ واليَمِينُ الغَمُوسُ "
حدثناأبو هشام الرفاعيّ ، قال : ثنا عبد الله بن موسى ، قال ثنا شيبان ، عن فراس ، عن الشعبيّ ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما الكبائر ؟ قال : " الشِّرْكُ باللَّهِ ، قال : ثم مَهْ ؟ قال : وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ ، قال : ثم مه ، قال : واليَمِينُ الغَمُوسُ قلت للشعبيّ : ما اليمين الغموس ؟ قال : الذي يقتطع مال امرىء مسلم بيمينه ، وهو فيها كاذب "
حدثني المثنى ، قال : ثنا ابن أبي السريّ محمد بن المتوكل العسقلانيّ ، قال : ثنا محمد بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن أبي رُهم ، عن أبي أيوب الأنصاريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أقامَ الصَّلاةَ ، وآتى الزَّكاة وَصَامَ رَمَضَان ، وَاجْتَنَبَ الكَبائِرَ فَلَهُ الجَنَّةُ . قيل : وما الكبائر ؟ قال : الإشْرَاكُ باللَّهِ ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ والفرَارُ يَوْمَ الزَّحْف "
حدثني عباس بن أبي طالب ، قال : ثنا سعد ابن عبد الحميد ، عن جعفر ، عن ابن أبي جعفر ، عن ابن أبي الزناد ، عن موسى بن عُقبة ، عن عبد الله بن سلمان الأغرّ ، عن أبيه أبي عبد الله سلمان الأغرّ ، قال : قال أبو أيوب خالد بن أيوب الأنصاريّ : عَقَبِيّ بدريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما مِنْ عَبْدٍ يَعْبُدُ اللَّهَ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً ، وَيُقِيمُ الصَّلاةَ ، ويُؤْتِى الزَّكاةَ ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ ، وَيجْتَنِبُ الكَبائِرَ إلاَّ دَخَلَ الجَنَّةّ . فسألوه : ما الكبائر ؟ قال : الإشرَاكُ باللَّهِ ، والفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ "
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أحمد بن عبد الرحمن ، قال : ثنا عباد بن عباد ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة : أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا الكبائر ، وهو متكىء ، فقالوا : الشرك بالله ، وأكل مال اليتيم ، وفرار من الزحف ، وقذف المحصنة ، وعقوق الوالدين ، وقول الزور ، والغُلول ، والسحر ، وأكل الربا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فَأيْنَ تَجْعَلُونَ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وأيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً . . . إلى آخر الآية " ؟ .
حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابيّ ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي معاوية ، عن أبي عمرو الشيبانيّ ، عن عبد الله ، قال : سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم : ما الكبائر ؟ قال : " أنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ وأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أجْل أنْ يَأْكُلَ مَعَكَ ، وأنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جاركَ ، وقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
{ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلهاً آخَرَ ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بالحَقّ وَلا يَزْنُونَ }
حدثني هذا الحديثَ عبد الله بن محمد الزهريّ ، فقال : ثنا سفيان ، قال : ثنا أبو معاوية النخعيّ ، وكان على السجن ، سمعه من أبي عمرو ، عن عبد الله بن مسعود : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ( أيُّ العَمَل شَرّ ؟ قالَ : أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ ، وأنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أنْ تَأْكُلَ مَعَكَ ، وأنْ تَزْنِيِ بِجارَتِكَ ، وقرأ عليّ ،
{ والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلهاً آخَرَ }
قال أبو جعفر : وأولى ما قيل في تأويل الكبائر بالصحة : ما صحّ به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ما قاله غيره ، وإن كان كل قائل فيها قولاً من الذين ذكرنا أقوالهم ، قد اجتهد وبالغ في نفسه ، ولقوله في الصحة مذهب ، فالكبائر إذن : الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس المحرّم قتلها ، وقول الزور ، وقد يدخل في قول الزور ، شهادة الزور ، وقذف المحصَنة ، واليمين الغموس ، والسحر ؛ ويدخل في قتل النفس المحرم قتلها : قتل الرجل ولده من أجل أن يطعم معه ، والفرار من الزحف ، والزنا بحليلة الجار .
وإذا كان ذلك كذلك ، صحّ كلّ خبر روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الكبائر ، وكان بعضه مصدّقاً بعضاً ، وذلك أن الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هِيَ سَبْعٌ " يكون معنى قوله حينئذ ( هِيَ سَبْعٌ ) على التفصيل ، ويكون معنى قوله في الخبر الذي رُوى عنه أنه قال : ( هِيَ الإشْراكُ باللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ ، وَقَوْلُ الزُّورِ ) على الإجمال ، إذ كان قوله : وَقَوْلُ الزورِ يحتمل معاني شتى ، وأن يجمع جميعَ ذلك : قول الزور .
وأما خبر ابن مسعود الذي حدثَنِي به الفريابيّ على ما ذكرت ، فإنه عندي غلط من عبيد الله ابن محمد ، لأن الاخبار المتظاهرة من الأوجه الصحيحة عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحو الرواية التي رواها الزهريّ عن ابن عيينة ، ولم يقل أحد منهم في حديثه عن ابن مسعود ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر ، فنقلُهم ما نقلوا من ذلك عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أولى بالصحة من نقل الفريابي . فمن اجتنب الكبائر التي وعد الله مجتنبها تكفير ما عداها من سيئاته ، وإدخاله مدخلاً كريماً ، وأدّى فرائضه التي فرضها الله عليه ، وجد الله لما وعده من وعد منجزاً ، وعلى الوفاء به دائباً .
وأما قوله { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ } ، فإنه يعني به : نكفر عنكم أيها المؤمنون باجتنابكم كبائر ما ينهاكم عنه ربكم ، صغائر سيئاتكم ، يعني : صغائر ذنوبكم .
كما حدثني محمد بن الحسن ، قال ثنا أحمد بن مفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ } الصغائر .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن عُلَية ، عن ابن عون ، عن الحسن ، أن ناساً لقوا عبد الله بن عمرو بمصر ، فقالوا : نرى أشياء من كتاب الله أمر أن يعمل بها ، لا يعمل بها وأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك . فقدم وقدموا معه ، فلقيه عمر رضي الله عنه ، فقال : متى قدمت ؟ قال : منذ كذا وكذا ، قال : أبإذن قدمت ؟ قال : فلا أدري كيف ردّ عليه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن ناساً لقوني بمصر ، فقالوا : إنا نرى أشياء من كتاب الله تبارك وتعالى أمر أن يُعمل بها ، لا يُعمل بها ، فأحَبُّوا أن يلقَوك في ذلك . فقال : اجمعهم لي ، قال فجمعتهم له ؛ قال ابن عون : أظنه قال : في نهر ، فأخذ أدناهم رجلاً فقال : أنشدك بالله وبحقّ الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله ؟ قال : نعم ، قال : فهل أحصيته في نفسك ؟ قال : اللهمّ لا قال : ولو قال : نعم ، لخصمه ، قال فهل أحصيته في بصرك ، هل أحصيته في لفظك ، هل أحصيته في أثرك ؟ قال ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم ، فقال ثكلت عمرَ أمُّه ، أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات ، قال : وتلا : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْه نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُم وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاَ كَرِيماً } هل علم أهل المدينة ؟ أو قال : هل علم أحد بما قدمتم ؟ قالوا : لا ، قال : لو علموا لوعظت بكم .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا ، قال : لم نرم مثل الذي بلغنا عن ربنا ، ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال ، ثم سكت هنيهة ، ثم قال : والله لقد كلفنا ربُّنا أهون من ذلك ، لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر ، فما لنا ولها ؟ { ثم تلا { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْه . . . } الآية .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْه . . . . } الآية ، إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر ، وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم : " قال اجتنبوا الكبائر ، وسدّدوا ، وأبشروا "
حدثناالحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن رجل ، عن ابن مسعود قال في خمس آيات من سورة النساء : لهن أحبّ إليّ من الدنيا جميعاً { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْه نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُم } ، وقوله
{ إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ، وَإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْها }
{ إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشاءُ }
{ وَمَنْ يَعْمَلُ سُوءاً أو يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحيماً }
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا باللَّهِ وَرُسُلِهِ ولَمْ يُفَرّقُوا بَيْنَ أحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيِهمْ أُجُورَهُمْ ، وكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحيماً }
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني أبو النضر ، عن صالح المرّيّ ، عن قتادة ، عن ابن عباس ، قال : ثمان آيات نزلت في سورة النساء ، هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغَرَبت . أولاهن :
{ يُرِيدُ اللَّه لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ويَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِيِنَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم }
{ وَاللَّهُ يُرِيدُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ، ويُرِيدُ الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أنْ تَميلُوا مَيْلاً عَظِيماً }
{ يُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُخَففَ عَنْكُم ، وَخُلِقَ الإنْسانُ ضَعيفاً }
ثم ذكر مثل قول ابن مسعود سواء ، وزاد فيه : ثم أقبل يفسرها في آخر الآية :
وأما قوله : { وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً } فإن القراء اختلفت في قراءته ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض الكوفيين { وَنُدْخِلْكُمْ مَدْخَلاً كَرِيماً } بفتح الميم ، وكذلك الذي في الحجّ
{ لَنُدْخِلَنَّهُمْ مَدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ }
فمعنى { وَنُدْخِلْكُمْ مَدْخَلاً } فيدخلون دخولاً كَريماً ، وقد يحتمل على مذهب من قرأ هذه القراءة أن يكون المعنى في المدخل : المكان والموضع ، لأن العرب ربما فتحت الميم من ذلك بهذا المعنى ، كما قال الراجز :
{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } * { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } * { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً }
*** بِمَصْبَحِ الحَمْدِ وَحَيْثُ يُمْسَى ***
وقد أنشدني بعضهم سماعاً من العرب :
الحَمْدُ لِلَّهِ مَمْسانا وَمَصْبَحُنا ***بالخَيْرِ صَبَّحَنا ربيّ وَمَسَّانا
*** الحَمْدُ لِلَّهِ مُمْسانا وَمُصْبَحُنا ***
لأنه من أصبح وأمسى ، وكذلك تفعل العرب فيما كان من الفعل بناؤه على أربعة ، تضمّ ميمه في مثل هذا فتقول : دحرجته مُدَحرجا ، فهو مُدَحرج ، ثم تحمل ما جاء على فعلَ يفْعِل على ذلك ، لأن يُفعل من يدخل ، وإن كان على أربعة ، وإن أصله أن يكون على يؤَفْعل : يُؤَدخل ، ويُؤَخرج ، فهو نظير يدحرج . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين والبصريين { مُدْخَلاً } بضم الميم ، يعني : وندخلكم ادخالاً كريماً . قال أبو جعفر : وأولى القراءتين بالصواب : قراءة من قرأ ذلك { وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخلاً كَرِيماً } بضمّ الميم لما وصفنا من أن ما كان من الفعل بناؤه على أربعة في فعل فالمصدر منه مُفْعَل ، وإن أدخل ودحرج فَعَلَ منه على أربعة ، فالمُدخل مصدره أولى من مَفعل ، مع أن ذلك أفصح في كلام العرب في مصادر ما جاء على أفعل ، كما يقال : أقام بمكان فطاب له المُقام . إذا أريد به الإقامة ، وقام في موضعه فهو في مَقام واسع ، كما قال جل ثناؤه :
{ إنّ المُتَّقِينَ في مَقام آمِينٍ }
من قام يقوم ، ولو أريد به الإقامة ، لقرىء :
{ إنّ المتَّقِينَ في مَقام آمِين }
{ وَقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ، وأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ }
بمعنى الادخال والإخراج ، ولم يبلغنا عن أحد أنه قرأ : مَدخَل صدق ، ولا مَخرَج صدق ، بفتح الميم . وأما المُدْخل الكريم : فهو الطيب الحسن ، المكرّم بنفي الآفات والعاهات عنه ، وبارتفاع الهموم والأحزان ودخول الكدر في عيش من دخله ، فلذلك سماه الله كريماً .
كما حدثني محمد بن الحسن ، قال : ثنا أحمد بن مفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ { وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخلاً كَرِيما } قال الكريم : هو الحسن في الجنة .
{ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } كبائر الذنوب التي نهاكم الله ورسوله عنها ، وقرئ كبير على إرادة الجنس . { نكفر عنكم سيئاتكم } نغفر لكم صغائركم ونمحها عنكم .
واختلف في الكبائر ، والأقرب أن الكبير كل ذنب رتب الشارع عليه حدا أو صرح بالوعيد فيه . وقيل ما علم حرمته بقاطع . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " أنها سبع : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والربا ، والفرار من الزحف ، وعقوق الوالدين " . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ( الكبائر إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ) . وقيل أراد ههنا أنواع الشرك لقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقيل صغر الذنوب وكبرها بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها ، فأكبر الكبائر الشرك وأصغر الصغائر حديث النفس وبينهما وسائط يصدق عليها الأمران ، فمن عن له أمران منها ودعت نفسه إليها بحيث لا يتمالك فكفها عن أكبرها كفر عنه ما ارتكبه لما استحق من الثواب على اجتناب الأكبر . ولعل هذا مما يتفاوت باعتبار الأشخاص والأحوال ، ألا ترى أنه تعالى عاتب نبيه عليه الصلاة والسلام في كثير من خطواته التي لم تعد على غيره خطيئة فضلا عن أن يؤاخذه عليها . { وندخلكم مدخلا كريما } الجنة وما وعد من الثواب ، أو إدخالا مع كرامة . وقرأ نافع هنا وفي الحج بفتح الميم وهو أيضا يحتمل المكان والمصدر .
{ تجتنبوا } معناه : تدعون جانباً ، وقرأ ابن مسعود وابن جبير «إن تجتنبوا كبير » وقرأ المفضل عن عاصم «يكفّر » و «يدخلكم » على علامة الغائب ، وقرأ الباقون بالنون والقراءتان حسنتان ، وقرأ ابن عباس «عنكم من سيئاتكم » بزيادة «من » وقرأ السبعة سوى نافع «مُدخلاً » بضم الميم ، وقرأ نافع : «مدخلاً » بالفتح وقد رواه أيضاً أبو بكر عن عاصم ها هنا وفي الحج ، ولم يختلف في سورة بني إسرائيل في { مدخل ومخرج صدق }{[3978]} أنهما بضم الميم ، قال أبو علي : «مَدخلاً » بالفتح يحتمل أن يكون مصدراً ، والعامل فيه فعل يدل عليه الظاهر ، التقدير : ويدخلكم فتدخلون مدخلاً ، ويحتمل أن يكون مكاناً ، فيعمل فيه الفعل الظاهر ، وكذلك يحتمل «مُدخلاً » بضم الميم للوجهين ، وإذا لم يعمل الفعل الظاهر فمعموله الثاني محذوف ، تقديره : ويدخلكم الجنة ، واختلف أهل العلم في «الكبائر » فقال علي بن أبي طالب : ( هي سبع ، الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا والفرار يوم الزحف والتعرب بعد الهجرة ){[3979]} . وقال عبيد بن عمير : الكبائر سبع في كل واحدة منها آية في كتاب الله عز وجل .
قال القاضي أبو محمد : وذكر كقول علي ، وجعل الآية في التعرب قوله تعالى : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى }{[3980]} ، ووقع في البخاري في كتاب الحدود في باب رمي المحصنات «اتقوا السبع الموبقات ، الإشراك بالله ، والسحر ، وقتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات »{[3981]} .
وقال عبد الله بن عمر : هي تسع «الإشراك بالله ، والقتل ، والفرار ، والقذف ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وإلحاد في المسجد الحرام ، والذي يستسحر ، وبكاء الوالدين من العقوق »{[3982]} قال عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي : هي في جميع ما نهى عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها وهي { إن تجتنبوا } وقال عبد الله بن مسعود : هي أربع أيضاً الإشراك بالله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ، وروي أيضاً عن ابن مسعود : هي ثلاث : القنوط ، واليأس ، والأمن المتقدمة ، وقال ابن عباس أيضاً وغيره : «الكبائر » كل ما ورد عليه وعيد بنار أو عذاب أو لعنة أو ما أشبه ذلك{[3983]} ، وقالت فرقة من الأصوليين : هي في هذا الموضع أنواع الشرك التي لا تصلح معها الأعمال ، وقال رجل لابن عباس : أخبرني عن الكبائر السبع ، فقال : هي إلى السبعين أقرب ، وقال ابن عباس : كل ما نهى الله عنه فهو كبير{[3984]} ، فهنا يدخل الزنا ، وشرب الخمر ، والزور ، والغيبة ، وغير ذلك مما قد نص عليه في أحاديث لم يقصد الحصر للكبائر بها ، بل ذكر بعضها مثالاً ، وعلى هذا القول أئمة الكلام : القاضي ، وأبو المعالي ، وغيرهما : قالوا : وإنما قيل : صغيرة بالإضافة إلى أكبر منها وهي في نفسها كبيرة من حيث المعصي بالجميع واحد ، وهذه الآية يتعاضد معها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الوضوء من مسلم ، عن عثمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
«ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ، ما لم يأت كبيرة ، وذلك الدهر كله »{[3985]} .
واختلف العلماء في هذه المسألة فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث يرون أن الرجل إذا اجتنب الكبائر وامتثل الفرائض ، كفرت صغائره كالنظر وشبهه قطعاً بظاهر هذه الآية وظاهر الحديث ، وأما الأصوليون فقالوا : لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ، وإنما يحمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء ، والمشيئة ثابتة ، ودل على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض بتكفير صغائره قطعاً لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بأنه لا تباعة فيه ، وذلك نقض لعرى الشريعة ، ومحمل الكبائر عند الأصوليين في هذه الآية أجناس الكفر ، والآية التي قيدت الحكم فترد إليها هذه المطلقات كلها : قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }{[3986]} و { كريماً } يقتضي كرم الفضيلة ونفي العيوب ، كما تقول : ثوب كريم ، وكريم المحتد ، وهذه آية رجاء ، روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : خمس آيات من سورة النساء هي أحب إليّ من الدنيا جميعاً ، قوله : { إن تجتنبوا } الآية ، وقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [ النساء : 48 و 116 ] وقوله : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم } [ النساء : 110 ] وقوله أيضاً : { يضاعفها } [ النساء : 40 ] وقوله : { والذين آمنوا بالله ورسله } الآية{[3987]} .
اعتراض ناسب ذكره بعد ذكر ذنبين كبيرين : وهما قتل النفس ، وأكل المال بالباطل ، على عادة القرآن في التفنّن من أسلوب إلى أسلوب ، وفي انتهاز الفرص في إلقاء التشريع عقب المواعظ وعكسه .
وقد دلّت إضافة { كبائر } إلى { ما تنهون عنه } على أنّ المنهيات قسمان : كبائر ، ودونها ؛ وهي التي تسمّى الصغائر ، وصفا بطريق المقابلة ، وقد سمّيت هنا سيّئات . ووعد بأنّه يغفر السيّئات للذين يجتنبون كبائر المنهيات ، وقال في آية النجم ( 32 ) { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللّمم } فسمّى الكبائر فواحشَ وسمّى مقابلها اللَّمم ، فثبت بذلك أنّ المعاصي عند الله قسمان : معاص كبيرة فاحشة ، ومعاص دون ذلك يكثر أن يُلمّ المؤمن بها ، ولذلك اختلف السلف في تعيين الكبائر . فعن علي : هي سبع الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ، والفرار يوم الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة .
واستدلّ لجميعها بما في القرآن من أدلّة جازِمِ النهي عنها . وفي حديث البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم « اتّقوا السبع الموبقات . . . » فذكر التي ذكرها عليّ إلاّ أنّه جعل السحر عوض التعرّب . وقال عبد الله بن عمر : هي تسع بزيادة الإلحاد في المسجد الحرام ، وعقوق الوالدين . وقال ابن مسعود : هي ما نُهي عنه من أول سورة النساء إلى هنا . وعن ابن عبّاس : كلّ ما ورد عليه وعيد نار أو عذاب أو لعنة فهو كبيرة . وعن ابن عباس : الكبائر ما نهى الله عنه في كتابه .
وأحسن ضبطِ الكبيرة قول إمام الحرمين : هي كلّ جريمة تؤذن بقلّة اكتراث مرتكبها بالدين وبضعف ديانته . ومن السلف من قال : الذنوب كلّها سواء إن كانت عن عمد . وعن أبي إسحاق الإسفرائيني أنّ الذنوب كلّها سواء مطلقاً ، ونفَى الصغائر . وهذان القولان واهيان لأنّ الأدلّة شاهدة بتقسيم الذنوب إلى قسمين ، ولأنّ ما تشتمل عليه الذنوب من المفاسد متفاوت أيضاً ، وفي الأحاديث الصحيحة إثبات نوع الكبائر وأكبر الكبائر .
ويترتّب على إثبات الكبائر والصغائر أحكام تكليفية : منها المخاطبة بتجنّب الكبيرة تجنّبا شديداً ، ومنها وجوب التوبة منها عند اقترابها ، ومنها أنّ ترك الكبائر يعتبر توبة من الصغائر ، ومنها سلب العدالة عن مرتكب الكبائر ، ومنها نقض حكم القاضي المتلبّس بها ، ومنها جواز هجران المتجاهر بها ، ومنها تغيير المنكر على المتلبّس بها . وتترتّب عليها مسائل في أصول الدين : منها تكفير مرتكب الكبيرة عند طائفة من الخوارج ، التي تَفرّق بين المعاصي الكبائر والصغائر ؛ واعتباره منزلة بين الكفر والإسلام عند المعتزلة ، خلافاً لجمهور علماء الإسلام .
فمن العجائب أن يقول قائل : إنّ الله لم يميّز الكبائر عن الصغائر ليكون ذلك زاجراً للناس عن الإقدام على كلّ ذنب ، ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات ، وليلة القدر في ليالي رمضان ، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة ، هكذا حكاه الفخر في التفسير ، وقد تبيّن ذهول هذا القائل ، وذهول الفخر عن ردّه ، لأنّ الأشياء التي نظَّروا بها ترجع إلى فضائل الأعمال التي لا يتعلّق بها تكليف ؛ فإخفاؤها يقصد منه الترغيب في توخّي مَظانّها ليكثر الناس من فعل الخير ، ولكن إخفاء الأمر المكلّف به إيقاع في الضلالة ، فلا يقع ذلك من الشارع .
والمدخل بفتح الميم اسم مَكان الدخول ، ويجوز أن يكون مصدراً ميمياً . والمعنى : ندخلكم مكانا كريماً ، أو ندخلكم دخولاً كريماً . والكريم هو النفيس في نوعه . فالمراد إمّا الجنة وإمّا الدخول إليها ، والمراد به الجَنّة . والمُدخل بصمّ الميم كذلك مكانُ أو مَصدرُ أدْخل . وقرأ نافع ، وأبو جعفر : مَدْخلا بفتح الميم وقرأ بقية العشرة بضمّ الميم .