فما الذي كان من هذا الدعاء الخاشع الحار المنيب ؟
كانت الاستجابة التي لا تتقيد بسن ، ولا تتقيد بمألوف الناس ؛ لأنها تنطلق من المشيئة المطلقة التي تفعل ما تريد :
( فنادته الملائكة - وهو قائم يصلي في المحراب - أن الله يبشرك بيحيى ، مصدقا بكلمة من الله . وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ) . .
لقد استجيبت الدعوة المنطلقة من القلب الطاهر ، الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء ؛ ويملك الإجابة حين يشاء . وبشرت الملائكة زكريا بمولود ذكر ، اسمه معروف قبل مولده ؛ " يحيى " ؛ وصفته معروفة كذلك : سيدا كريما ، وحصورا يحصر نفسه عن الشهوات ، ويملك زمام نزعاته من الانفلات . ومؤمنا مصدقا بكلمة تأتيه من الله . ونبيا صالحا في موكب الصالحين .
لقد استجيبت الدعوة ، ولم يحل دونها مألوف البشر الذي يحسبونه قانونا . ثم يحسبون أن مشيئة الله - سبحانه - مقيدة بهذا القانون ! وكل ما يراه الإنسان ويحسبه قانونا لا يخرج عن أن يكون أمرا نسبيا - لا مطلقا ولا نهائيا - فما يملك الإنسان وهو محدود العمر والمعرفة ، وما يملك العقل وهو محكوم بطبيعة الإنسان هذه ، أن يصل إلى قانون نهائي ولا أن يدرك حقيقة مطلقة . . فما أجدر الإنسان أن يتأدب في جناب الله . وما أجدره أن يلتزم حدود طبيعته وحدود مجاله ، فلا يخبط في التيه بلا دليل ، وهو يتحدث عن الممكن والمستحيل ، وهو يضع لمشيئة الله المطلقة إطارا من تجاربه هو ومن مقرراته هو ومن علمه القليل !
قال الله تعالى : { فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ } أي : خاطبته الملائكة شفاها خطابًا أسمعته ، وهو قائم يصلي في محراب عبادته ، ومحل خَلْوَته ، ومجلس مناجاته ، وصلاته . ثم أخبر عما بشّرته به الملائكة : { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى } أي : بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى . قال قتادة وغيره : إنما سُمِّي يحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان .
وقوله : { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } روى العَوْفيّ وغيره عن ابن عباس . وقال الحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وأبو الشعثاء والسُّدي والربيع بن أنس ، والضحاك ، وغيرهم في هذه الآية : { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } أي : بعيسى ابن مريم ؛ قال الربيع بن أنس : هو أول من صدق بعيسى ابن مريم ، وقال قتادة : وعلى سننه{[4984]} ومنهاجه . وقال ابن جُرَيْج : قال ابن عباس في قوله : { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } قال : كان يحيى وعيسى ابني خالة ، وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد الذي في بطني يَسْجُد للذي في بطنك فذلك تصديقه بعيسى : تصديقه له في بطن أمه ، وهو أول من صدق عيسى ، وكلمة الله عيسى ، وهو أكبر من عيسى{[4985]} عليه{[4986]} السلام ، وهكذا قال السدي أيضا .
وقوله : { وَسَيِّدًا } قال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم : الحكيم{[4987]} وقال قتادة : سيدًا في العلم والعبادة . وقال ابن عباس ، والثوري ، والضحاك : السيد الحكيم{[4988]} المتقي {[4989]} وقال سعيد بن المسيب : هو الفقيه العالم . وقال عطية : السيد في خلقه ودينه . وقال عكرمة : هو الذي لا يغلبه الغضب . وقال ابن زيد : هو الشريف . وقال مجاهد وغيره{[4990]} هو
وقوله : { وَحَصُورًا } رُوي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء ، وعطية العَوْفي أنهم قالوا : هو الذي لا يأتي النساء . وعن أبي العالية والربيع بن أنس : هو الذي لا يولد له . وقال الضحاك : هو الذي لا ولد له ولا ماء له .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أنبأنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس في الحَصُور : الذي لا ينزل الماء ، وقد روى ابن أبي حاتم في هذا حديثا غريبًا جدا فقال : حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب البغدادي ، حدثني سعيد بن سليمان ، حدثنا عبادة - يعني ابن العوام - عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المُسَيَّب ، عن ابن العاص - لا يدري عبد الله أو عمرو - عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :
{ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا } قال : ثم تناول شيئا من الأرض فقال : " كان ذكره مثل هذا " {[4991]} .
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا يحيى بن سعيد القَطَّان ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ؛ أنه سمع سعيد بن المُسَيَّب ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا ، ثم قرأ سعيد : { وَسَيِّدًا وَحَصُورًا } ثم أخذ شيئا من الأرض فقال{[4992]} الحصور ما كان ذكره مثل ذي وأشار يحيى بن سعيد القطان بطرف إصبعه السبابة . فهذا موقوف{[4993]} وهو أقوى{[4994]} إسنادًا من المرفوع ، بل وفي صحة المرفوع نظر ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقد قال القاضي عياض في كتابه{[4995]} الشفاء : اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه{[4996]} كان { حَصُورًا } ليس كما قاله بعضهم : إنه كان هيوبا ، أو لا ذكر له ، بل قد أنكر هذا حُذَّاقُ المفسرين ونقاد العلماء ، وقالوا : هذه نقيصة وعيب ولا تليق{[4997]} بالأنبياء ، عليهم السلام ، وإنما معناه : أنه معصوم من الذنوب ، أي لا يأتيها كأنه حصر عنها ، وقيل : مانعا نفسه من الشهوات . وقيل : ليست له شهوة في النساء .
وقد{[4998]} بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم قمعها : إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله عز وجل ، كيحيى ، عليه السلام . ثم هي حق من أقدر{[4999]} عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله{[5000]} عن ربه درجة علياء ، وهي درجة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة ، بتحصينهن وقيامه عليهن ، واكتسابه لهن ، وهدايته إياهن . بل قد صرّح أنها ليست من حظوظ دنياه هو ، وإن كانت من حظوظ دنيا غيره ، فقال : " حُبِّبَ إليَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ " .
هذا لفظه . والمقصود أنه مدح يحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء ، بل معناه كما قاله هو وغيره : أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات ، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن ، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال : { هَبْ{[5001]} لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } كأنه قال : ولدًا له ذرية ونسل وعَقِب ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
[ وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عيسى بن حماد زُغْبَة ومحمد بن سلمة المرادي قالا حدثنا حجاج ، عن سلمان بن القمري ، عن الليث بن سعد ، عن محمد بن عَجْلان ، عن القعقاع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه ، إن شاء أو يرحمه ، إلا يحيى بن زكريا ، فإنه كان سيدًا وحصورًا ونبيا من الصالحين " ، ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال : " كان ذكره مثل هذه القذاة " ]{[5002]} .
قوله : { وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته ، وهي أعلى من الأولى كقوله{[5003]} تعالى لأم موسى : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 7 ] فلما تحقق زكريا ، عليه السلام ، هذه البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.