سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة
هذه السورة حلقة في سلسلة التربية الإيمانية والتنظيم الاجتماعي والدولة في المجتمع المدني . حلقة من تلك السلسلة الطويلة ، أو من ذلك المنهج الإلهي المختار للجماعة المسلمة المختارة ، التي ناط بها الله تحقيق منهجه الذي يريده للحياة الإنسانية ، في صورة واقعية عملية ، كيما يستقر في الأرض نظاما ذا معالم وحدود وشخصية مميزة ؛ تبلغ إليه البشرية أحيانا ، وتقصر عنه أحيانا ، ولكنها تبقى معلقة دائما بمحاولة بلوغه ؛ وتبقى أمامها صورة واقعية منه ، تحققت يوما في هذه الأرض .
وقد اقتضى هذا - كما قلنا في أول هذا الجزء - إعدادا طويلا في خطوات ومراحل . وكانت الأحداث التي تقع في محيط هذه الجماعة ، أو تتعلق بها ، مادة من مواد هذا الإعداد . مادة مقدرة في علم الله ، تقوم عليها مادة أخرى هي التفسير والتوضيح والتعقيب والتوجيه .
وفي مضطرب الأحداث ، وفي تيار الحياة المتدفق ، تمت عملية بناء النفوس المختارة لتحقيق ذلك المنهج الإلهي في الأرض . فلم تكن هناك عزلة إلا العزلة بالتصور الإيماني الجديد ، وعدم خلطه بأية رقع غريبة عنه في أثناء التكوين النفسي لهذه الجماعة . وكانت التربية المستمرة متجهة دائما إلى إنشاء هذا التصور الإيمانيالخاص المميز ، المنعزل بحقيقته وطبيعته عن التصورات السائدة في العالم كله يومذاك ، وفي الجزيرة العربية بصفة خاصة . أما الناس الذين ينشأ هذا التصور المتميز في نفوسهم فلم يكونوا بمعزل عن واقع الحياة ومضطرب الأحداث ، بل كانوا يصهرون في بوتقة الحوادث يوما بعد يوم ، ومرة بعد مرة ، ويعاد صهرهم في الأمر الواحد والخلق الواحد مرات كثيرة ، وتحت مؤثرات متنوعة ؛ لأن الله الذي خلق هذه النفوس يعلم أنها ليست كلها مما يتأثر ويستجيب ويتكيف ويستقر على ما تكيف به منذ اللمسة الأولى . وكان يعلم أن رواسب الماضي ، وجواذب الميول الطبيعية ، والضعف البشري ، وملامسات الواقع ، وتحكم الإلف والعادة ، كلها قد تكون معوقات قوية تغلب عوامل التربية والتوجيه مرة بعد مرة . وتحتاج في مقاومتها إلى التذكير المتكرر ، والصهر المتوالي . . فكانت الأحداث تتوالى كما هي منسوقة في قدر الله ، وتتوالى الموعظة بها . والتحذير على ضوئها ، والتوجيه بهديها ، مرة بعد مرة .
وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقوم في يقظة دائمة وإلهام بصير ، بالتقاط الأحداث والوقائع والمناسبات في كل فرصة ، واستخدامها بحكمة بالغة في بناء هذه النفوس . والوحي والإلهام يؤيدانه ويسددانه [ صلى الله عليه وسلم ] حتى تصنع تلك الجماعة المختارة على عين الله . بتوفيق الله . على يدي رسول الله .
هذه السورة حلقة في سلسلة ذلك الإعداد الطويل ، تستهدف - مع غيرها مما جاء في مثل موضوعها - إقامة عالم رباني خالص في ضمير المسلم . عالم محوره الإيمان بالله وحده ، يشد المسلمين إلى هذا المحور وحده ، بعروة واحدة لا انفصام لها ؛ ويبرئ نفوسهم من كل عصبية أخرى . عصبية للقوم أو للجنس أو للأرض أو للعشيرة أو للقرابة . ليجعل في مكانها جميعا عقدة واحدة . هي عقدة الإيمان بالله . والوقوف تحت راية الله . في حزب الله .
إن العالم الذي يريده الإسلام عالم رباني إنساني . رباني بمعنى أنه يستمد كل مقوماته من توجيه الله وحكمه ، ويتجه إلى الله بكل شعوره وعمله . وإنساني بمعنى أنه يشمل الجنس الإنساني كله - في رحاب العقيدة - وتذوب فيه فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب . وسائر ما يميز إنسانا عن إنسان ، عدا عقيدة الإيمان . وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على الله ، المتضمن كيانه نفحة من روح الله .
ودون إقامة هذا العالم تقف عقبات كثيرة - كانت في البيئة العربية وما تزال في العالم كله إلى اليوم - عقبات من التعصب للبيت ، والتعصب للعشيرة ، والتعصب للقوم ، والتعصب للجنس ، والتعصب للأرض . كما تقف عقبات أخرى من رغائب النفوس وأهواء القلوب ، من الحرص والشح وحب الخير للذات ، ومن الكبرياء الذاتية والالتواءات النفسية . . وألوان غيرها كثير من ذوات الصدور !
وكان على الإسلام أن يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج الله في الأرض في صورة عملية واقعة . وكانت هذه الصورة حلقة في سلسلة هذا العلاج الطويل .
وكان بعض المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم في سبيل عقيدتهم ، ما تزال نفوسهم مشدودة إلى بعض من خلفوا هنالك من ذرية وأزواج وذوي قربى . وعلى الرغم من كل ما ذاقوا من العنت والأذى في قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل مكة المحاسنة والمودة ؛ وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم ، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات !
وكان الله يريد استصفاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج ، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه . وهو - سبحانه - يعلم ثقل الضغط الواقع عليها من الميول الطبيعية ورواسب الجاهلية جميعا - وكان العرب بطبيعتهم أشد الناس احتفالا بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت - فكان يأخذهم يوما بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ ، بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث ، ليكون العلاج على مسرح الحوادث وليكون الطرق والحديد ساخن !
وتذكر الروايات حادثا معينا نزل فيه صدر هذه السورة . وقد تكون هذه الروايات صحيحة في سبب النزول المباشر . ولكن مدى النصوص القرآنية دائما أبعد من الحوادث المباشرة .
وقد قيل في هذا الحادث : إن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من المهاجرين . وكان من أهل بدر أيضا . وكان له بمكة أولاد ومال ، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفا لعثمان . فلما عزم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على فتح مكة لما نقض أهلها عهد الحديبية أمر المسلمين بالتجهيز لغزوهم ، وقال : " اللهم عم عليهم خبرنا " . . وأخبر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] جماعة من أصحابه بوجهته ، كان منهم حاطب . فعمد حاطب فكتب كتابا وبعثه مع امرأة مشركة - قيل من مزينة - جاءت المدينة تسترفد - إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على غزوهم ، ليتخذ بذلك عندهم يدا . فأطلع الله - تعالى - رسوله على ذلك استجابة لدعائه . وإمضاء لقدره في فتح مكة . فبعث في أثر المرأة ، فأخذ الكتاب منها .
وقد روى البخاري في المغازي ، ورواه مسلم في صحيحه من حديث حصين بن عبدالرحمن ، عن سعد ابن عبيدة عن أبي عبدالرحمن السلمي ، عن علي - رضي الله عنه - قال : " بعثني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأبا مرثد والزبير بن العوام - وكلنا فارس - وقال : " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين " . فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلنا : الكتاب ? فقالت ما معي كتاب . فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا . فقلنا : ما كذب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لتخرجن الكتاب أو لنجردنك . فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها ، وهي محتجزة بكساء ، فأخرجته . فانطلقنا به إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال عمر : يا رسول الله . قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضربن عنقه . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " ما حملك على ما صنعت ? " قال حاطب : والله ما بي إلا أن أكون مؤمنا بالله ورسوله [ صلى الله عليه وسلم ] أردت أن تكون لي عند القوم يد . يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله . فقال : " صدق لا تقولوا إلا خيرا " . فقال عمر : إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه . فقال : " أليس من أهل بدر ? - فقال - : لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو - قد غفرت لكم " فدمعت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم . . وزاد البخاري في كتاب المغازي : فأنزل الله السورة : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) . . وفي رواية أخرى أن الذين أرسلوا كانوا هم علي والزبير والمقداد .
ولوقوف قليلا أمام هذا الحادث وما دار بشأنه لا يخرج بنا عن " ظلال القرآن " والتربية به وبالأحداث والتوجيهات والتعقيبات عن طريق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] القائد المربي العظيم . .
وأول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب ، وهو المسلم المهاجر ، وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على سر الحملة . . وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة ، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها ؛ وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها .
ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وهو لا يعجل حتى يسأل : " ما حملك على ما صنعت " في سعة صدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه ، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق ، ومن ثم يكف الصحابة عنه : " صدق لا تقولوا إلا خيرا " . . ليعينه وينهضه من عثرته ، فلا يطارده بها ولا يدع أحدا يطارده . بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر : " إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين . فدعني فلأضرب عنقه " . . فعمر - رضي الله عنه - إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم . أما رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها ، ومن كل جوانبها ، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية . في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف . .
ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب ، وهو في لحظة ضعفه ، ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح . . ذلك حين يقول : " أردت أن تكون لي عند القوم يد . . يدفع الله بها عن أهلي ومالي " . . فالله هو الذي يدفع ، وهذه اليد لا تدفع بنفسها ، إنما يدفع الله بها . ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول : " وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع . . الله . . به عن أهله وماله " فهو الله حاضر في تصوره ، وهو الذي يدفع لا العشيرة . إنما العشيرة أداة يدفع الله بها . .
ولعل حس رسول الله الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل ، فكان هذا من أسباب قوله [ صلى الله عليه وسلم ] : " صدق . لا تقولوا إلا خيرا " . .
وأخيرا يقف الإنسان أمام تقدير الله في الحادث ؛ وهو أن يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بسر الحملة . وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة . ثم يجري قدر الله بكف ضرر هذه اللحظة عن المسلمين . كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها ! ثم لا يكون من الآخرين الذين لم يعهد إليهم بالسر اعتراض على ما وقع ، ولا تنفج بالقول : ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه ، ولو أودعناه نحن ما بحنا به ! فلم يرد من هذا شيء . مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم ، وتواضعهم في الظن بأنفسهم ، واعتبارهم بما حدث لأخيهم . . .
والحادث متواتر الرواية . أما نزول هذه الآيات فيه فهو أحد روايات البخاري . ولا نستبعد صحة هذه الرواية ؛ ولكن مضمون النص القرآني - كما قلنا - أبعد مدى ، وأدل على أنه كان يعالج حالة نفسية أوسع من حادث حاطب الذي تواترت به الروايات ، بمناسبة وقوع هذا الحادث ، على طريقة القرآن .
كان يعالج مشكلة الأواصر القريبة ، والعصبيات الصغيرة ، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ليخرج بها من هذا الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني .
وكان ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة ، وقيما جديدة ، وموازين جديدة ، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان ، ووظيفة المؤمنين في الأرض ، وغاية الوجود الإنساني .
وكان كأنما يجمع هذه النبتات الصغيرة الجديدة في كنف الله ؛ ليعلمهم الله ويبصرهم بحقيقة وجودهم وغايته ، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد ، وليشعرهم أنهم رجاله وحزبه ، وأنه يريد بهم أمرا ، ويحقق بهم قدرا . ومن ثم فهم يوسمون بسمته ويحملون شارته ، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعا . في الدنيا والآخرة . وإذن فليكونوا خالصين له ، منقطعين لولايته ، متجردين من كل وشيجة غير وشيجته . في عالم الشعور وعالم السلوك .
والسورة كلها في هذا الاتجاه . حتى الآيات التشريعية التنظيمية الواردة في آخرها عن معاملة المهاجرات المؤمنات ، ومبايعة من يدخلن في الإسلام ، والفصل بين المؤمنات وأزواجهن من الكفار . وبين المؤمنين وزوجاتهم من الكوافر . . فكلها تنظيمات منبثقة من ذلك التوجيه العام .
ثم ختام السورة كما بدأت بالنهي عن موالاة أعداء الله ، ممن غضب عليهم الله ، سواء من المشركين أو من اليهود . ليتم التمييز والانفراد والمفاصلة من جميع الوشائج والروابط غير رابطة العقيدة وغير وشيجة الإيمان . .
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ، وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، يخرجون الرسول وإياكم ، أن تؤمنوا بالله ربكم . إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ؛ ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل . إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ، ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ، وودوا لو تكفرون ) . .
تبدأ السورة بذلك النداء الودود الموحي : يا أيها الذين آمنوا . . نداء من ربهم الذي آمنوا به ، يدعوهم باسم الإيمان الذي ينسبهم إليه . يدعوهم ليبصرهم بحقائق موقفهم ، ويحذرهم حبائل أعدائهم ، ويذكرهم بالمهمة الملقاة على عاتقهم .
وفي مودة يجعل عدوهم عدوه ، وعدوه عدوهم :
( لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) . .
فيشعر المؤمنين بأنهم منه وإليه . يعاديهم من يعاديه . فهم رجاله المنتسبون إليه الذين يحملون شارته في هذه الأرض ، وهم أوداؤه وأحباؤه . فلا يجوز أن يلقوا بالمودة إلى أعدائهم وأعدائه .
ويذكرهم بجريرة هؤلاء الأعداء عليهم وعلى دينهم وعلى رسولهم ، وعدوانهم على هذا كله في تجن وظلم :
( وقد كفروا بما جاءكم من الحق . يخرجون الرسول وإياكم . أن تؤمنوا بالله ربكم ) . .
فماذا أبقوا بعد هذه الجرائر الظالمة للموالاة والمودة ? كفروا بالحق . وأخرجوا الرسول والمؤمنين ، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله ربهم ? إنه يهيج في قلوب المؤمنين هذه الذكريات المرتبطة بعقيدتهم . وهي التي حاربهم المشركون من أجلها ، لا من أجل أي سبب آخر . ويبرز القضية التي عليها الخلاف والخصومة والحرب . فهي قضية العقيدة دون سواها . قضية الحق الذي كفروا به والرسول الذي أخرجوه ، والإيمان الذي من أجله أخرجوهم .
وإذا تمحضت القضية هكذا وبرزت ، ذكرهم بأنه لا محل إذن للمودة بينهم وبين المشركين إن كانوا قد خرجوا من ديارهم ابتغاء رضوان الله وجهادا في سبيله :
( إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وإبتغاء مرضاتي . . )
فما يجتمع في قلب واحد أن يهاجر جهادا في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله ، مع مودة لمن أخرجه من أجل إيمانه بالله ، وهو عدو الله وعدو رسول الله !
ثم يحذرهم تحذيرا خفيا مما تكن قلوبهم ، وما يسرون به إلى أعدائهم وأعداء الله من المودة ، وهو مطلع على خفية القلوب وعلانيتها : ( تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ) .
ثم يهددهم تهديدا مخيفا ، يثير في القلب المؤمن الوجل والمخافة :
( ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ) . .
وهل يخيف المؤمن شيء ما يخيفه أن يضل سواء السبيل بعد الهداية والوصول ? !
وهذا التهديد وذلك التحذير يتوسطان تبصير المؤمنين بحقيقة أعدائهم وما يضمرون لهم من الشر والكيد . ثم تجيء البقية :
{ لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء . . . } نزلت في حاطب بن أبي بلتعة . وكان من المهاجرين وممن شهد بدرا ، وكان له في مكة قرابة قريبة ، وليس له في قريش نسب ؛ إذ هو مولى . فأرسل كتابا إلى أناس من المشركين بمكة ، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عيه وسلم في شأن غزوهم ؛ ليتخذ عندهم يدا فيحموا بها أقاربهم – مع مولاة تسمى سارة . فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بما كان منه ؛ فأرسل في أثرها عليا – كرم الله وجهه – ومعه آخرون فأحضروا الكتاب ، واعتذر حاطب ؛ وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم عذره . نهى الله تعالى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأعدائهم ، وفسرها بقوله تعالى : " تلقون إليهم بالمودة " أي ترسلون إليهم أخباره صلى الله عليه وسلم بسبب ما بينكم وبينهم من المودة ، وبقوله : " تسرون إليهم بالمودة " . والحكم عام ولا عبرة بخصوص السبب . وقد ورد النهي عن موالاتهم ، واتخاذهم بطانة ووليجة من دون المؤمنين في غير آية ، وبينت حكمة النهي في هذه الآية وفي غيرها بما يشهد به الواقع . { أن تؤمنوا بالله ربكم } أي لأجل إيمانكم بربكم ؛ فهو العلة لإخراج الرسول والمؤمنين من مكة ، وهو العلة دائما في كراهة الكفار للمسلمين . { ومن يفعله منكم . . . } أي ومن يتخذهم منكم أولياء فقد أخطأ طريق الحق والصواب .
سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة ، نزلت بعد سورة الأحزاب . وهي من السور المدنية التي تعالج التنظيم الاجتماعي والتربية الإيمانية ، وبناء الدولة الحديثة في المجتمع المدني ، لإقامة مجتمع رباني خالص ، محوره الإيمان بالله وحده . ويشدّ المسلمين إلى هذا المحور عروة واحدة لا انفصام لها ، تنقي نفوسهم من كل شائبة وعصبية ، سواء أكانت للقوام أو للجنس أو للأرض ، أو للعشيرة أو للقرابة ، وليجعل الله في مكانها عقيدة واحدة ، هي عقيدة التوحيد ، تحت راية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
روى البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث " أن سارة ، مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف ، وكانت مغنيّة ونائحة بمكة ، أتت المدينة تشكو الحاجة ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمهاجرة أنتِ يا سارة ؟ فقالت لا . قال : أمسلمة جئت ؟ قالت : لا . قال : فما جاء بك ؟ قالت : كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة ، وقد ذهب الموالي- تعني قُتلوا يوم بدر-وقد احتجت حاجة شديدة حاجة شديدة فقدِمت عليكم لتعطوني وتكسوني . فقال عليه الصلاة والسلام : فأين أنتِ من شباب أهل مكة ؟ وكانت مغنية ، قالت : ما طُلب مني شيء بعد وقعة بدر . فحث رسول الله بني عبد المطلب وبني المطلب على إعطائها ، فكسوها وأعطوها وحملوها فخرجت إلى مكة . وكان الرسول يتأهب للخروج إلى غزو مكة . فأتاها حاطب بن أبي بلتعة ( وكان رجلا من أهل اليمن ) ، له حلف بمكة في بني أسد بن عبد العزى ، رهط الزبير بن العوام . فقال لها : أعطيك عشرة دنانير وبُردا على أن تبلغني هذا الكتاب إلى أهل مكة . . يخبرهم فيه أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم .
فقال علي بن أبي طالب راوي الحديث : بعثنا رسول الله أنا والزبير والمقداد ، وفي رواية وأبا مرثد الغنوي ، وعمار بن ياسر ، فقال لهم : ائتوا روضة خاخ-وهي موضع بين مكة والمدينة-فإن بها امرأة في هودج معها كتاب فخذوه منها .
فانطلقنا تجري بنا خيلنا ، فإذا نحن بالمرأة . فقلنا : أخرجي الكتاب ، قالت : ما معي كتاب . فقلنا : لتخرجنّ الكتاب أو لتلقينّ الثياب . فأخرجته من عقاصها . فأتينا به رسول الله فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة ، يخبرهم ببعض أمر رسول الله . فقال رسول الله : يا حاطب ما هذا ؟ قال :
لا تعجلْ عليّ يا رسول الله ، إني كنت امرءا ملصَقا في قريش ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ يدا يحمون بها قرابتي ، ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق ، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال : إنه شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله اطّلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } .
وسميت السورة { الممتحنة } بكسر الحاء يعني المختبرة ، لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } .
ومن قال في هذه السورة : { الممتحنة } بفتح الحاء ، فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها ، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط لقوله تعالى : { فامتحنوهنّ ، الله أعلم بإيمانهن } وسيأتي تفصيل عنها .
وقد بدأت السورة بنهي المؤمنين عن موالاة المشركين أعداء الله وأعدائهم ، لإصرارهم على الكفر ، وإخراجهم رسول الله والمؤمنين من ديارهم بمكة ، وأشارت إلى أن عداوة هؤلاء عداوة دائمة للمؤمنين .
ثم انتقلت إلى بيان الأسوة الحسنة في إبراهيم والذين معهم في تبرّئهم من المشركين ، ثم بينت من تجوز صلتهم من غير المسلمين ومن لا تجوز ، فأما الذين لا يقاتلوننا في الدين ولا يعينون علينا فإن لنا أن نبرّهم ونقسط إليهم ، وأما غيرهم من الذين قاتلونا وظاهروا على إخراج المؤمنين فأولئك نهى الله عن برّهم والصلة بهم .
ثم بينت حكم المؤمنات اللاتي هاجرن إلى دار الإسلام أن يمتحنهنّ المسلمون ، فإن تبيّن صدقهن فلا يجوز إعادتهن إلى المشركين . ثم ذكرت بيان بيعة النساء ، وما بايعن عليه الرسول الكريم . ثم خُتمت السورة بالنهي عن موالاة الأعداء الذين غضب الله عليهم ، كما بدأت به { يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم ، قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور } .
تلقون إليهم بالمودَة : تودونهم وتخبرونهم بأخبارنا .
يُخرجون الرسولَ وإياكم : من مكة .
أن تؤمنوا بالله : من أجل إيمانكم بالله .
سواء السبيل : الطريق القويم المستقيم .
تقدم الكلامُ عن سبب نزول هذه الآيات ، في الصحابيّ حاطب بن أبي بلتعة ، وهو صحابي من المهاجرين الذين جاهدوا في بدرٍ ( وهؤلاء لهم ميزة خاصة ) وأنه كتب إلى قريش يحذّرهم من غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لمكة مع امرأة ، وأن الرسول الكريم كشف أمره ، وأرسل سيدنا علي بن أبي طالب مع عددٍ من الصحابة الكرام وأخذوا الكتاب من المرأة . وقد اعترف حاطب بذنبه ، وقال للرسول عليه الصلاة والسلام : واللهِ ما كفرتُ منذ أسلمت ، ولا غششتُ منذ آمنت ، لكنّي كتبت إلى قريش حمايةً لأهلي من شرهم ، لأني لست قرشياً
ولا يوجد لي عشيرةٌ تحميهم . فعفا عنه وقبل عذره . والآية عامة في كل من يصانع العدوَّ أو يُطْلعه على أسرار المسلمين ، أو يتعاون معه .
ومعناها : يا أيها الذين آمنوا ، لا تصادِقوا الأعداء ، فلا تتخذوا أعداء الله وأعداءَكم أنصارا .
{ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } تعطونهم المحبة الخالصة ، مع أنهم كفروا بما جاءكم من الإيمان بالله ورسوله ، وقد أخرجوا رسول الله وأخرجوكم من دياركم { أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبِّكُمْ } لأنكم آمنتم بالله ربكم . فإن كنتم خرجتُم من دياركم للجهاد في سبيلي وطلبِ رضاي فلا تُسِرّوا إليهم بالمحبة ، أو تسرِّبوا إليهم الأخبار ، وأنا أعلمُ بما أَسررتم وما أعلنتم .
{ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل }ومن يتخذْ أعداءَ الله أولياءَ وأنصاراً فقد انحرف وضل عن الطريق المستقيم .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } الآية . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، حدثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار ، أخبرني الحسن بن محمد أنه سمع عبد الله بن أبي رافع يقول سمعت علياً رضي الله عنه يقول : " بعثني النبي صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ، قال : فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة ، فقلنا : أخرجي الكتاب فقالت : ما معي كتاب ، فقلنا : لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب ، قال : فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا حاطب ما هذا ؟ قال : يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقاً في قريش -يقول كنت حليفاً ولم أكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم ، فأحببت -إذ فاتني ذلك من النسب فيهم- أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي ، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام ، فقال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله اطلع على منى شهد بدرا فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، فأنزل الله تعالى هذه السورة : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } إلى قوله : { سواء السبيل } " . قال المفسرون : نزلت الآية في حاطب بن أبي بلتعة كما جاء في الحديث ، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة من مكة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أمسلمة جئت ؟ قالت : لا ، قال أمهاجرة جئت ؟ قالت : لا ، قال : فما جاء بك قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالي وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتطعموني وتكسوني وتحملوني ، فقال لها : وأين أنت من شبان مكة ؟ وكانت مغنية نائحة ، قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر ، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب فأعطوها نفقة وكسوها وحملوها ، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى ، فكتب معها إلى أهل مكة ، وأعطاها عشرة دنانير ، وكساها برداً ، على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة ، وكتب في الكتاب : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم ، فخذوا حذركم . فخرجت سارة ، ونزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وعماراً والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد فرساناً ، فقال لهم : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين ، فخذوه منها وخلوا سبيلها ، وإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها . قال : فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا لها : أين الكتاب ؟ فحلفت بالله ما معها كتاب ، فبحثوها وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً ، فهموا بالرجوع ، فقال علي رضي الله عنه : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسل سيفه فقال : أخرجي الكتاب وإلا لأجردنك ولأضربن عنقك . فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها ، وكانت قد خبأته في شعرها ، فخلوا سبيلها ولم يتعرضوا لها ولا لما معها ، فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاطب ، فأتاه فقال : هل تعرف الكتاب ؟ قال : نعم ، قال : فما حملك على ما صنعت ؟ فقال : يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته ، وكنت غريباً فيهم ، وكان أهلي بين ظهرانيهم ، فخشيت على أهلي ، فأردت أن أتخذ عندهم يداً ، وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه ، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً ، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذره . فقام عمر بن الخطاب فقال : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ؟ فأنزل الله عز وجل في شأن حاطب : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } . { تلقون إليهم بالمودة } قيل : أي المودة ، والباء زائدة ، كقوله : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم }( الحج- 25 ) وقال الزجاج : معناه تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وسره بالمودة التي بينكم وبينهم ، { وقد كفروا } الواو للحال ، أي : وحالهم أنهم كفروا ، { بما جاءكم من الحق } يعني القرآن { يخرجون الرسول وإياكم } من مكة ، { أن تؤمنوا } أي لأن آمنتم ، كأنه قال : يفعلون ذلك لإيمانكم ، { بالله ربكم إن كنتم خرجتم } هذا شرط جوابه متقدم وهو قوله : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم } { جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة } قال مقاتل : بالنصيحة ، { وأنا أعلم بما أخفيتم } من المودة للكفار ، { وما أعلنتم } أظهرتم بألسنتكم { ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } أخطأ طريق الهدى .
سورة الممتحنة{[1]} .
مقصودها براءة من أقر بالإيمان{[2]} ممن اتسم{[3]} بالعدوان دلالة على صحة مدعاه كما أن الكفار تبرأوا{[4]} من المؤمنين وكذبوا بما جاءهم من الحق لئلا يكونوا{[5]} على باطلهم أحرص من المؤمنين على حقهم ، وتسميتها بالممتحنة أوضح شيء فيها وأدله على ذلك لأن الصهر أعظم الوصل وأشرفها بعد الدين ، فإذا نفى{[6]} ومنع دل على أعظم المقاطعة لدلالته على الامتهان بسبب الكفران الذي هو أقبح العصيان ( بسم الله ) الكافي من لجأ إليه فمن تولاه أغناه عمن{[7]} سواه ( الرحمان ) الذي عم بنعمة الإيجاد من فلق عن وجوده العدم وبراه وشمل ، برحمته البيان من حاطه بالعقل{[8]} ورعاه ( الرحيم ) الذي خص بالتوفيق من أحبه وارتضاه .
لما كان التأديب عقب الإنعام جديراً بالقبول ، وكان قد أجرى سبحانه سنته الإلهية بذلك ، فأدب عباده المؤمنين عقب سورة الفتح السبي بسورة الحجرات ، وكانت سورة الحشر مذكرة بالنعمة في فتح بني النضير و{[64372]}معلمة بأنه لا ولي إلا الله ، ولذلك ختمها بصفتي العزة والحكمة بعد {[64373]}أن افتتحها{[64374]} بهما ، وثبت أن من الحكمة حشر الخلق ، وأن أولياء الله هم المفلحون ، وأن أعداءه هم الخاسرون ، وكان الحب في الله والبغض في الله أفضل الأعمال وأوثق عرى الإيمان ، ولذلك{[64375]} ذم سبحانه من والى أعداءه وناصرهم{[64376]} ، وسماهم مع التكلم بكلمة الإسلام منافقين ، أنتج ذلك{[64377]} قطعاً وجوب البراءة من أعدائه والإقبال على خدمته وولائه{[64378]} ، فقال معيداً للتأديب{[64379]} عقب سورة الفتح على أهل الكتاب بسورة جامعة تتعلق بالفتح الأعظم والفتح السبي : { يا أيها الذين آمنوا{[64380]} } منادياً بأداة البعد وإن كان من نزلت بسببه من أهل القرب ، ومعبراً بالماضي إقامة{[64381]} لمن والى الكفار نوع موالاة في ذلك المحل إلهاباً له وتهييجاً إلى الترفع عنه{[64382]} لئلا يقدح في خصوصيته ويحط من{[64383]} عليّ رتبته مع اللطف به{[64384]} بالتسمية له بالإيمان حيث شهد سبحانه على من فعل نحو فعله مع{[64385]} بني النضير بالنفاق{[64386]} وأحله محل أهل الشقاق ، فحكم على القلوب في الموضعين فقال هناك : { الذين نافقوا } كما قال هنا : { الذين آمنوا } .
ولما كان قد تقدم في المجادلة النهي الشديد عن إظهار{[64387]} مطلق الموادة للكفار ، وفي الحشر الزجر{[64388]} العظيم عن إبطان ذلك فتكفلت{[64389]} السورتان بالمنع من مصاحبة ودهم ظاهراً أو {[64390]}باطناً ، {[64391]}بكت هنا{[64392]} من اتصف بالإيمان وقرعه ووبخه على السعي في موادتهم والتكلف لتحصيلها ، فإن ذلك قادح في اعتقاد تفرده سبحانه بالعزة والحكمة ، فعبر لذلك{[64393]} بصيغة الافتعال فقال بعد التبكيت بالنداء بأداة البعد والتعبير بأدنى أسنان الإيمان : { لا تتخذوا } وزاد في ذلك المعنى من وجهين : التعبير بما منه العداوة تجرئة عليهم وتنفيراً منهم والتوحيد لما يطلق على الجمع لئلا يظن أن المنهي عنه المجموع بقيد الاجتماع والإشارة إلى أنهم في العداوة على قلب واحد ، فأهل الحق أولى بأن{[64394]} يكونوا كذلك في الولاية فقال : { عدوي } أي وأنتم تدعون موالاتي ومن المشهور أن مصادق العدو أدنى مصادقة لا يكون ولياً فكيف بما هو فوق الأدنى{[64395]} وهو فعول من عدى ، وأبلغ في الإيقاظ بقوله : { وعدوكم } أي العريق في عداوتكم ما دمتم على مخالفته في الدين .
ولما وحد لأجل ما تقدم من الإشارة إلى اتحاد الكلمة ، بين أن المراد الجمع فقال : { أولياء } ثم استأنف بيان هذا الاتحاد بقوله مشيراً إلى غاية الإسراع والمبادرة إلى ذلك بالتعبير بقوله : { تلقون } أي جميع ما هو في حوزتكم مما لا تطمعون فيه{[64396]} إلقاء الشيء الثقيل من علو { إليهم } على بعدهم منكم حساً ومعنى { بالمودة } أي{[64397]} بسببها .
ولما توقع السامع التصريح بمضادتهم في الوصف الذي ناداهم به بعد التلويح إليه ، ملهياً ومهيجاً إلى عداوتهم بالتذكير بمخالفهم إياه في الاعتقاد المستلزم لاستصغارهم لأنه أشد المخالفة { وقد } أي هو الحال أنهم قد { كفروا } أي غطوا جميع ما لكم من الأدلة { بما } أي بسبب ما { جاءكم من الحق } أي الأمر الثابت الكامل في الثبات الذي لا شيء أعظم ثباتاً منه ، ثم استأنف بين كفرهم بما يبعد من مطلق موادتهم فضلاً عن السعي فيها بقوله مذكراً لهم بالحال الماضية زيادة في التنفير منهم ومصوراً لها بما يدل على الإصرار بأنهم { يخرجون الرسول } أي الكامل في الرسلية الذي يجب على كل أحد عداوة من عاداه أدنى{[64398]} عداوة{[64399]} ولو كان أقرب الناس فكيف إذا كان عدواً ، وبين أن المخاطب من{[64400]} أول السورة من المهاجرين وأن إيراده على وجه الجمع للسير والتعميم في النهي بقوله : { وإياكم } أي من دياركم من مكة المشرفة .
ولما بين كفرهم ، معبراً بالمضارع إشارة إلى دوام أذاهم لمن آمن المقتضي لخروجه عن وطنه ، علل الإخراج بما يحقق معنى الكفر والعداوة فقال : { أن } أي أخرجوكم من أوطانكم{[64401]} لأجل أن{[64402]} { تؤمنوا } أي توقعوا حقيقة الإيمان مع التجديد والاستمرار .
ولما كان الإيمان به سبحانه مستحقاً من وجهي{[64403]} الذات والوصف لفت الخطاب من التكلم إلى الغيبة للتنبيه عليهما فقال : { بالله } أي الذي اختص بجميع صفات الكمال ، ولما عبر بما أبان أنه مستحق للإيمان لذاته أردفه بما يقتضي وجوب ذلك لإحسانه فقال : { ربكم } ولما ألهبهم على {[64404]}مباينتهم لهم{[64405]} بما فعلوا معهم وانقضى ما أريد من التنبيه بسياق الغيبة عاد إلى التكلم لأنه أشد تحبباً وأعظم استعطافاً وأدل على الرضا فألهبهم بما كان من جانبهم من ذلك الفعل{[64406]} أن لا يضيعوه ، فقال معلماً إن ولايته سبحانه لا تصح إلا بالإيمان ، ولا يثبت الإيمان إلا بدلائله من الأعمال ، ولا تصح الأعمال إلا بالإخلاص ، ولا يكون الإخلاص إلا بمباينة الأعداء : { إن كنتم } أي كوناً راسخاً حين أخرجوكم من أوطانكم لأجل إيمانكم بي ، { خرجتم } أي منها وهي أحب البلاد إليكم { جهاداً } أي لأجل الجهاد { في سبيلي } أي بسبب إرادتكم تسهيل طريقي التي شرعتها لعبادي أن{[64407]} يسلكوها { وابتغاء مرضاتي } أي ولأجل تطلبكم بأعظم الرغبة لرضاي ولكل فعل يكون موضعاً له ، وجواب هذا الشرط محذوف لدلالة { لا تتخذوا } عليه .
ولما فرغ من بيان حال{[64408]} العدو وشرط إخلاص الولي ، وكان التقدير : فلا تتخذوهم أولياء ، بنى عليه قوله مبيناً { تلقون } إعلاماً بأن الإسرار إلى أحد بما فيه نفعه لا يكون إلا تودداً : { تسرون } أي توجدون إسرار جميع ما يدل على مناصحتهم والتودد إليهم ، وأشار إلى بعدهم عنهم بقوله : { إليهم } إبلاغاً في التوبيخ بالإشارة إلى أنهم يتجشمون في ذلك مستفتين{[64409]} إبلاغ الأخبار التي يريد النبي صلى الله عليه وسلم وهو المؤيد بالوحي كتمها عنهم على وجه الإسرار خوف الافتضاح والإبلاغ إلى المكان البعيد { بالمودة } أي بسببها أو{[64410]} بسبب الإعلام بأخبار يراد بها أو يلزم منها المودة .
ولما كان المراد بالإسرار الستر على من يكره ذلك ، قال مبكتاً لمن يفعله : { وأنا } أي والحال أني { أعلم } أي من كل أحد من نفس الفاعل { بما أخفيتم } أي من ذلك { وما أعلنتم } فأيّ فائدة لإسراركم إن كنتم تعلمون أني عالم به ، وإن كنتم تتوهمون{[64411]} أني لا أعلمه فهي القاصمة .
ولما كان التقدير بما هدى{[64412]} إليه العاطف : فمن فعل منكم فقد ظن أني لا أعلم الغيب أو فعل ما يقتضي ظن ذلك ، عطف عليه قوله{[64413]} : { ومن يفعله } أي يوجد الاتخاذ سراً أو علناً أو يوجد الإسرار بالمودة فالإعلان أولى في وقت من الأوقات ماض أو حال أو استقبال . ولما كان المحب قد يفعل بسبب الإدلال ما يستحق به التبكيت ، فإذا بكت ظن أن ذلك ليس على حقيقته لأن محبته لا يضرها شيء ، وكان قد ستر المعايب بأن أخرج{[64414]} الكلام مخرج العموم ، صرح بأن هذا العتاب مراد به الإحباب فقال : { منكم } وحقق الأمر وقربه بقوله : { فقد ضل } أي عمي ومال وأخطأ { سواء السبيل * } أي قويم الطريق الواسع الموسع إلى القصد قويمه وعدله ، وسبب نزول هذه الآية روي من وجوه كثيرة فبعضه في الصحيح عن علي ومنه في الطبراني عن أنس ومنه في التفاسير{[64415]} " أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة فسألها ما أقدمها ، فقالت : ذهب موالي وقد احتجت حاجة شديدة ، وكنتم الأهل والعشيرة والموالي ، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب فأعطوها وكسوها وحملوها ، فكتب معها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد{[64416]} بن عبد العزى من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم{[64417]} فخذوا حذركم ، فأعطاها عشرة دنانير ، فنزل جبريل عليه السلام بالخبر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر وعلياً وعماراً والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد وكانوا كلهم فرساناً فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاط إلى المشركين ، فخذوه{[64418]} منها وخلوا سبيلها ، وإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها . فانطلقوا تعادي بهم خيلهم ، فأدركوها {[64419]}في ذلك{[64420]} المكان فأنكرت وحلفت بالله ، ففتشوها فلم يجدوه{[64421]} فهموا بالرجوع ، فقال علي رضي الله عنه : ما كذبنا ولا كذبنا ، وسل سيفه فقال : أخرجي الكتاب أو لألقين الثياب و{[64422]}لأضربن عنقك ، فقالت : على أن لا تردوني ، ثم أخرجته{[64423]} من عقاصها قد لفت عليه شعرها ، فخلوا سبيلها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب : هل تعرف الكتاب قال : نعم ، قال : فما حملك على هذا ؟ قال : لا تعجل يا رسول الله ، والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششت{[64424]} منذ صحبتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يدفع الله به عن عشيرته ، وكنت غريباً خليفاً فيهم{[64425]} ، وكان أهلي بين ظهرانيهم فأردت أن أتخذ{[64426]} عندهم يداً{[64427]} يدفع الله بها عن أهلي ، وقد علمت أن الله تعالى ينزل بهم بأسه ، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق ولا تقولوا له إلا خيراً ، فقال عمر{[64428]} بن الخطاب رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما يدريك يا عمر لعل{[64429]} الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، ففاضت عينا عمر رضي الله عنه وقال : الله ورسوله أعلم ، فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم } " الآيات .
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : افتتحت - يعني هذه السورة - بوصية المؤمنين على ترك{[64430]} موالاة أعدائهم ونهيهم عن ذلك وأمرهم{[64431]} بالتبرؤ منهم ، وهو المعنى الوارد في قوله خاتمة المجادلة { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم } إلى آخر السورة ، وقد حصل منها{[64432]} أن أسنى أحوال أهل الإيمان وأعلى مناصبهم .
{ أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه }[ المجادلة : 22 ] فوصى عباده في افتتاح الممتحنة بالتنزه عن موالاة الأعداء {[64433]}ووعظهم بقصة{[64434]} إبراهيم عليه الصلاة والسلام والذين معه في تبرئهم من قومهم ومعاداتهم ، والاتصال في هذا بين ، وكأن سورة الحشر وردت مورد الاعتراض المقصود بها تمهيد الكلام وتنبيه{[64435]} السامع على ما به تمام الفائدة لما ذكر أن شأن المؤمنين أنهم لا يوادون من حاد الله ورسوله ولو{[64436]} كانوا أقرب الناس إليهم ، اعترض بتنزيهه عن مرتكباتهم ، ثم أتبع ذلك ما{[64437]} عجله لهم من النقمة والنكال ، ثم عاد الأمر إلى النهي عن موالاة الأعداء جملة له ، ثم لما كان أول سورة الممتحنة إنما نزل{[64438]} في حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وكتابه{[64439]} لكفار قريش بمكة ، والقصة مشهورة وكفار مكة ليسوا من يهود ، وطلبوا المعادة {[64440]}للجميع واحد{[64441]} ، فلهذا فضل بما هو من تمام الإخبار بحال يهود ، وحينئذ عاد الكلام إلى الوصية عن نظائرهم من الكفار المعاندين ، والتحمت السور الثلاث وكثر في سورة الممتحنة تزداد الوصايا والعهود ، وطلب بذلك كله ولهذا المناسبة ذكر فيها الحكم في بيعة النساء وما يشترط عليهن في ذلك ، فمبنى{[64442]} السورة على طلب الوفاء افتتاحاً واختتاماً حسب{[64443]} ما بين في التفسير لينزه المؤمن عن حال من قدم ذكره في سورة الحشر و{[64444]}في خاتمة{[64445]} سورة المجادلة - انتهى .