في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة القلم مكية وآياتها ثنتان وخمسون

لا يمكن تحديد التاريخ الذي نزلت فيه هذه السورة سواء مطلعها أو جملتها . كما أنه لا يمكن الجزم بأن مطلعها قد نزل أولا ، وأن سائرها نزل أخيرا - ولا حتى ترجيح هذا الاحتمال . لأن مطلع السورة وختامها يتحدثان عن أمر واحد ، وهو تطاول الذين كفروا على شخص رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقولهم : إنه مجنون !

والروايات التي تقول : إن هذه السورة هي الثانية في النزول بعد سورة العلق كثيرة ، ومن المتفق عليه في ترتيب المصاحف المختلفة أنها هي السورة الثانية ؛ ولكن سياق السورة وموضوعها وأسلوبها يجعلنا نرجح غير هذا . حتى ليكاد يتعين أنها نزلت بعد فترة من الدعوة العامة ، التي جاءت بعد نحو ثلاث سنوات من الدعوة الفردية ، في الوقت الذي أخذت فيه قريش تدفع هذه الدعوة وتحاربها ، فتقول عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] تلك القولة الفاجرة ؛ وأخذ القرآن يردها وينفيها ، ويهدد المناهضين للدعوة ، ذلك التهديد الوارد في السورة .

واحتمال أن مطلع السورة نزل مبكرا وحده بعد مطلع سورة العلق . وأن الجنون المنفي فيه : ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) . . جاء بمناسبة ما كان يتخوفه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على نفسه في أول الوحي ، من أن يكون ذلك جنونا أصابه . . هذا الاحتمال ضعيف . لأن هذا التخوف ذاته على هذا النحو ليست فيه رواية محققة ، ولأن سياق السورة المتماسك يدل على أن هذا النفي ينصب على ما جاء في آخرها من قوله تعالى : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون : إنه لمجنون ) . . فهذا هو الأمر الذي افتتح السورة بنفيه ، كما يتبادر إلى الذهن عند قراءة السورة المتماسكة الحلقات .

كذلك ذكرت بعض الروايات أن في السورة آيات مدنية من الآية السابعة عشرة إلى نهاية الآية الثالثة والثلاثين . وهي الآيات التي ذكرت قصة أصحاب الجنة وابتلاءهم ، والآيات من الثانية والأربعين إلى نهاية الخمسين وهي التي تشير إلى قصة صاحب الحوت . . ونحن نستبعد هذا كذلك . ونعتقد أن السورة كلها مكية . لأن طابع هذه الآيات عميق في مكيته . وهو أنسب شيء لأن يجيء في سياق السورة عند نزولها متسقا مع الموضوع ومع الحالة التي تعالجها .

والذي نرجحه بشأن السورة كلها أنها ليست الثانية في ترتيب النزول ؛ وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية بعد أمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالدعوة العامة . وبعد قول الله تعالى له : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) . وبعد نزول طائفة من القرآن فيها شيء من قصص الأولين وأخبارهم ، التي قال عنها قائلهم : ( أساطير الأولين ) . . وبعدما أصبحت قريش مدعوة إلى الإسلام كافة ، وأصبحت تدفع هذه الدعوة بالاتهامات الباطلة والحرب العنيفة التي اقتضت تلك الحملة العنيفة الواردة في السورة على المكذبين ، والتهديد القاصم في أولها وفي آخرها على السواء . . والمشهد الأخير في السورة يوحي بهذا كذلك : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون : إنه لمجنون ) . . فهو مشهد دعوة عامة لمجموعات كبيرة . ولم يكن الأمر كذلك في أول الدعوة . إنما كانت الدعوة توجه إلى أفراد . بوسيلة فردية . ولا تلقى إلى الذين كفروا وهم متجمعون . ولم يقع شيء من هذا - كما تقول الروايات الراجحة - إلا بعد ثلاث سنوات من بدء الدعوة .

والسورة تشير إلى شيء من عروض المشركين على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] للالتقاء في منتصف الطريق ، والتهادن على تراض في القضية التي يختلفون عليها وهي قضية العقيدة : ( ودوا لو تدهن فيدهنون ) . . وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية ، ولا خطر منها . إنما تكون بعد ظهورها ، وشعور المشركين بخطرها .

وهكذا تتضافر الشواهد على أن هذه السورة نزلت متأخرة عن أيام الدعوة الأولى . وأن هناك ثلاث سنوات على الأقل - قابلة للزيادة - بين بدء الدعوة وبين وقت نزولها . ولا يعقل أن ثلاث سنوات مرت لم يتنزل فيها قرآن . والطبيعي أن تكون هناك سور كثيرة ، وأجزاء من سور قد نزلت في هذه الفترة ، تتحدث عن ذات العقيدة بدون مهاجمة عنيفة للمكذبين بها كالوارد في هذه السورة منذ مطلعها .

ولكن هذا لا ينفي أن تكون هذه السورة وسورتا المدثر والمزمل قد نزلت في الفترة الأولى من الدعوة . وإن لم يكن ذلك أول ما نزل كما هو وارد في المصاحف ، للأسباب التي أوردناها هنا . وهي تكاد تنطبق كذلك على سورتي المزمل والمدثر .

لقد كانت هذه الغرسة - غرسة العقيدة الإسلامية - تودع في الأرض لأول مرة في صورتها الرفيعة المجردة الناصعة . وكانت غريبة على حس الجاهلية السائدة ، لا في الجزيرة العربية وحدها بل كذلك في أنحاء الأرض جميعا .

وكانت النقلة عظيمة بين الصورة الباهتة المحرفة المشوهة من ملة إبراهيم التي يستمسك بخيوط حائلة منها مشركو قريش ، ويلصقون بها الترهات والأساطير والأباطيل السائدة عندهم ، وبين الصورة الباهرة العظيمة المستقيمة الواضحة البسيطة الشاملة المحيطة التي جاءهم بها محمد [ صلى الله عليه وسلم ] متفقة في أصولها مع الحنيفية الأولى - دين إبراهيم عليه السلام - وبالغة نهاية الكمال الذي يناسب كونها الرسالة الأخيرة للأرض ، الباقية لتخاطب الرشد العقلي في البشرية إلى آخر الزمان .

وكانت النقلة عظيمة بين الشرك بالله وتعدد الأرباب ، وعبادة الملائكة وتماثيلها ، والتعبد للجن وأرواحها ، وسائر هذه التصورات المضطربة المفككة التي تتألف منها العقيدة الجاهلية . . وبين الصورة الباهرة التي يرسمها القرآن للذات الإلهية الواحدة وعظمتها وقدرتها ، وتعلق إرادتها بكل مخلوق .

كذلك كانت النقلة عظيمة بين الطبقية السائدة في الجزيرة ، والكهانة السائدة في ديانتها ، واختصاص طبقات بالذات بالسيادة والشرف وسدانة الكعبة والقيام بينها وبين العرب الآخرين . . وبين البساطة والمساواة أمام الله والاتصال المباشربينه وبين عباده كما جاء بها القرآن .

ومثلها كانت النقلة بين الأخلاق السائدة في الجاهلية والأخلاق التي جاء القرآن يبشر بها ، وجاء محمد [ صلى الله عليه وسلم ] يدعو إليها ويمثلها .

وكانت هذه النقلة وحدها كافية للتصادم بين العقيدة الجديدة وبين قريش ومعتقداتها وأخلاقها . ولكن هذه لم تكن وحدها . فقد كان إلى جانبها اعتبارات - ربما كانت أضخم في تقدير قريش من العقيدة ذاتها - على ضخامتها .

كانت هناك الاعتبارات الاجتماعية التي دعت بعضهم أن يقول كما حكى عنهم القرآن الكريم : ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ! ) . . والقريتان هما مكة والطائف . فإن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مع شرف نسبه ، وأنه في الذؤابة من قريش ، لم تكن له مشيخة فيهم ولا رياسة قبل البعثة . بينما كان هناك مشيخة قريش ومشيخة ثقيف وغيرهما ، في بيئة تجعل للمشيخة والرياسة القبلية كل الاعتبار ، فلم يكن من السهل الانقياد خلف محمد [ صلى الله عليه وسلم ] من هؤلاء المشيخة !

وكانت هناك الاعتبارات العائلية التي تجعل رجلا كأبي جهل " عمرو بن هشام " يأبى أن يسلم بالحق الذي يواجهه بقوة في الرسالة الإسلامية ، لأن نبيها من بني عبد مناف . . وذلك كما ورد في قصته مع الأخنس بن شريق وأبي سفيان بن حرب ، حين خرجوا ثلاث ليال يستمعون القرآن خفية ، وهم في كل ليلة يتواعدون على عدم العودة خيفة أن يراهم الناس فيقع في نفوسهم شيء . فلما سأل الأخنس بن شريق أبا جهل رأيه فيما سمع من محمد كان جوابه : " ماذا سمعت ? تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا . حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء . فمتى ندرك مثل هذه ? والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ! " .

وكانت هناك اعتبارات أخرى نفعية وطبقية ونفسية من ركام الجاهلية في المشاعر والتصورات والأوضاع كلها تحاول قتل تلك الغرسة الجديدة في مغرسها بكل وسيلة قبل أن تثبت جذورها وتتعمق ، وقبل أن تمتد فروعها وتتشابك . وبخاصة بعد أن تجاوزت دور الدعوة الفردية ؛ وأمر الله تعالى نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] أن يجهر بالدعوة ؛ وأخذت معالم الدعوة الجديدة تبرز ، كما أخذ القرآن يتنزل بتسفيه عقيدة الشرك وما وراءها من الآلهة المدعاة والتصورات المنحرفة والتقاليد الباطلة .

والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ولو أنه نبي ، ولو أنه يتلقى من ربه الوحي ، ولو أنه يتصل بالملأ الأعلى . . هو بشر ، تخالجه مشاعر البشر . وكان يتلقى هذه المقاومة العنيفة ، وتلك الحرب التي شنها عليه المشركون ، ويعاني وقعها العنيف الأليم ، هو والحفنة القليلة التي آمنت به على كره من المشركين .

وكان [ صلى الله عليه وسلم ] يسمع والمؤمنون به يسمعون ، ما كان يتقوله عليه المشركون ، ويتطاولون به على شخصه الكريم ، ( ويقولون : إنه لمجنون ) . . ولم تكن هذه إلا واحدة من السخريات الكثيرة ، التي حكاها القرآن في السور الأخرى ؛ والتي كانت توجه إلى شخصه [ صلى الله عليه وسلم ] وإلى الذين آمنوا معه . وغير الأذى الذي كان يصيب الكثيرين منهم على أيدي أقربائهم الأقربين !

والسخرية والاستهزاء - مع الضعف والقلة - مؤذيان أشد الإيذاء للنفس البشرية ، ولو كانت هي نفس رسول .

ومن ثم نرى في السور المكية - كسور هذا الجزء - أن الله كأنما يحتضن - سبحانه - رسوله والحفنة المؤمنة معه ، ويواسيه ويسري عنه ، ويثني عليه وعلى المؤمنين . ويبرز العنصر الأخلاقي الذي يتمثل في هذه الدعوة وفي نبيها الكريم . وينفي ما يقوله المتقولون عنه ، ويطمئن قلوب المستضعفين بأنه هو يتولى عنهم حرب أعدائهم ، ويعفيهم من التفكير في أمر هؤلاء الأعداء الأقوياء الأغنياء !

ونجد من هذا في سورة القلم مثل قوله تعالى عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] :

( ن . والقلم وما يسطرون . ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم ) . .

وقوله تعالى عن المؤمنين :

إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم . أفنجعل المسلمين كالمجرمين ? مالكم ? كيف تحكمون ? ! . .

ويقول عن أحد أعداء النبي البارزين :

( ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم . مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . أن كان ذا مال وبنين . إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين . سنسمه على الخرطوم ! ) . .

ثم يقول عن حرب المكذبين عامة :

( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث . سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين ) . .

وذلك غير عذاب الآخرة المذل للمتكبرين :

يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون . خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة . وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون . .

ويضرب لهم أصحاب الجنة - جنة الدنيا - مثلا على عاقبة البطر تهديدا لكبراء قريش المعتزين بأموالهم وأولادهم ممن لهم مال وبنون ؛ الكائدون للدعوة بسبب مالهم من مال وبنين .

وفي نهاية السورة يوصي النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالصبر الجميل : ( فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت . . ) .

ومن خلال هذه المواساة وهذا الثناء وهذا التثبيت ، مع الحملة القاصمة على المكذبين والتهديد الرهيب ، يتولى الله - سبحانه - بذاته حربهم في ذلك الأسلوب العنيف . . من خلال هذا كله نتبين ملامح تلك الفترة ، فترة الضعف والقلة ، وفترة المعاناة والشدة ، وفترة المحاولة القاسية لغرس تلك الغرسة الكريمة في تلك التربة العنيدة !

كذلك نلمح من خلال أسلوب السورة وتعبيرها وموضوعاتها ملامح البيئة التي كانت الدعوة الإسلامية تواجهها . وهي ملامح فيها سذاجة وبدائية في التصور والتفكير والمشاعر والاهتمامات والمشكلات على السواء .

نلمح هذه السذاجة في طريقة محاربتهم للدعوة بقولهم للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ( إنه لمجنون ) !

وهو اتهام لا حبكة فيه ولا براعة ، وأسلوب من لايجد إلا الشتمة الغليظة يقولها بلا تمهيد ولا برهان ، كما يفعل السذج البدائيون .

ونلمحها في الطريقة التي يرد الله بها عليهم فريتهم ردا يناسب حالهم : ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم . فستبصر ويبصرون . بأيكم المفتون ) . . وكذلك في التهديد المكشوف العنيف : ( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث . سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين ) . .

ونلمحها في رد هذا السب على رجل منهم : ( ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم . مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . . . ) .

ونلمحها في القصة - قصة أصحاب الجنة - التي ضربها الله لهم . وهي قصة قوم سذج في تفكيرهم وتصورهم وبطرهم ، وفي حركاتهم كذلك وأقوالهم ( وهم يتخافتون . ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين . . الخ ) .

وأخيرا نلمح سذاجتهم من خلال ما يوجهه إليهم من الجدل : ( أم لكم كتاب فيه تدرسون : إن لكم فيه لما تخيرون ? أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون ? سلهم أيهم بذلك زعيم ? ) . . .

وهي ملامح تظهر بوضوح من خلال التعبير القرآني ، وتفيد في دراسة السيرة ووقائعها وخطوات الدعوة فيها ؛ ومدى ما ارتفع القرآن بعد ذلك بهذه البيئة وبتلك الجماعة في أواخر عهد الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومدى ما نقلها من هذه السذاجة في التفكير والتصور والشعور والاهتمام . كما يتضح في أساليب الخطاب فيما بعد ، وفي الحقائق والمشاعر والتصورات والاهتمامات بعد عشرين عاما لا تزيد . وهي في حياة الأمم ومضة لا تذكر . ولا تقاس إليها تلك النقلة الواسعة الشاملة . . التي انتقلتها الجماعة في هذا الوقت القصير . والتي تسلمت بها قيادة البشرية فارتفعت بتصوراتها وأخلاقها إلى القمة التي لم ترتفع إليها قيادة قط في تاريخ البشرية ، لا من ناحية طبيعة العقيدة ، ولا من ناحية آثارها الواقعية في حياة الإنسان في الأرض ، ولا من ناحية السعة والشمول لتضم الإنسانية كلها بين جوانحها في سماحة وعطف ، وفي تلبية لكل حاجاتها الشعورية ، وحاجاتها الفكرية ، وحاجاتها الاجتماعية ، وحاجاتها التنظيمية في شتى الميادين . .

إنها المعجزة تتجلى في النقلة من هذه السذاجة التي تبدو ملامحها من خلال مثل هذه السورة إلى ذلك العمق والشمول . وهي نقلة أوسع وأكبر من تحول القلة إلى كثرة ، والضعف إلى قوة ، لأن بناء النفوس والعقول أعسر من بناء الأعداد والصفوف .

( ن ، والقلم وما يسطرون . ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم . فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون . إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بالمهتدين . فلا تطع المكذبين . ودوا لو تدهن فيدهنون . ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم . مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . أن كان ذا مال وبنين . إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين . سنسمه على الخرطوم ) . .

يقسم الله - سبحانه - بنون ، وبالقلم ، وبالكتابة . والعلاقة واضحة بين الحرف " نون " . بوصفه أحد حروف الأبجدية وبين القلم ، والكتابة . . فأما القسم بها فهو تعظيم لقيمتها ، وتوجيه إليها ، في وسط الأمة التي لم تكن تتجه إلى التعلم عن هذا الطريق ، وكانت الكتابة فيها متخلفة ونادرة ، في الوقت الذي كان دورها المقدر لها فيعلم الله يتطلب نمو هذه المقدرة فيها ، وانتشارها بينها ، لتقوم بنقل هذه العقيدة وما يقوم عليها من مناهج الحياة إلى أرجاء الأرض . ثم لتنهض بقيادة البشرية قيادة رشيدة . وما من شك أن الكتابة عنصر أساسي في النهوض بهذه المهمة الكبرى .

ومما يؤكد هذا المفهوم أن يبدأ الوحي بقوله تعالى : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) . . وأن يكون هذا الخطاب موجها للنبي الأمي - الذي قدر الله أن يكون أميا لحكمة معينة - ولكنه بدأ الوحي إليها منوها بالقراءة والتعليم بالقلم . ثم أكد هذه اللفتة هنا بالقسم بنون ، والقلم وما يسطرون . وكان هذا حلقة من المنهج الإلهي لتربية هذه الأمة وإعدادها للقيام بالدور الكوني الضخم الذي قدره لها في علمه المكنون .

يقسم الله - سبحانه - بنون والقلم وما يسطرون ، منوها بقيمة الكتابة معظما لشأنها كما أسلفنا لينفي عن رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] تلك الفرية التي رماه بها المشركون ، مستبعدا لها ، ونعمته على رسوله ترفضها .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة القلم مكية وآياتها ثنتان وخمسون ، نزلت بعد سورة العلق . ويستبعد المرحوم سيد قطب أنها نزلت بعد سورة اقرأ ، فيقول : " والذي نرجّحه بشأن هذه السورة أنها ليست الثانية في ترتيب النزول ، وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية ، بعد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة العامة ، وبعد قوله تعالى : { وأنذر عشيرتك الأقربين } 214 الشعراء . وبعد نزول طائفة من القرآن فيها شيء من قصص الأولين وأخبارهم . . . " ويقدّر أنها نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة .

والسورة تُعنى بالدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث همته ، وتقوية عزيمته ، ليبقى متمسكا بالحق من غير ملاينة فيه لأحد ، بعد أن تُثبت له الأجر العظيم ، والخُلق العظيم وتثبته بقوله تعالى : { فستبصر ويبصرون ، بأيكم المفتون } . . . .

ثم قوّت عزيمته حول موقف المجرمين من دعوته ، وما أعد لهم من العذاب { فلا تطع المكذبين ، ودّوا لو تدهن فيدهنون ، ولا تطع كل حلاّف مهين . . . } .

ثم ضربت مثلا لكفار مكة في جحودهم وكفرانهم نعمة الله العظمى ، ببعثه الرسول العظيم إليهم ، رحمة وتشريفا لهم لأنه منهم ، وشبهت ما وقع لأهل مكة من العذاب ، بما وقع لأصحاب الجنة البخلاء ، الذين حذر بعضهم بعضا بقولهم : { أن لا يدخلنّها اليوم عليكم مسكين } ، وساروا إليها في أول النهار ، وهم على هذه النية السيئة ، فلما وصلوا إليها وإذا بها محترقة خاوية على عروشها ، فلما رأوها كذلك { قالوا إنا لضالون } .

ثم بشرت المؤمنين بما لهم عند ربهم من جنات ونعيم ، { أفنجعل المسلمين كالمجرمين ، ما لكم كيف تحكمون } . ثم أنكرت على المكذبين ما يدعونه لأنفسهم بغير حق ، وعمدت إلى تخويفهم بوصف حالهم في الآخرة ، وتهديدهم ، ثم إلى النصح لرسول الله بالصبر والاحتمال { فاصبر لحكم ربك . . . } ثم ختمت السورة بتمجيد القرآن الكريم ، وأن دعوته صلى الله عليه وسلم للعالمين أجمعين .

وما يسطرون : وما يكتبون .

ن : حرف من حروف المعجم التي بُدئت بها بعض السور ، وقد تقدّم الكلام عليها .

أقسَم اللهُ تعالى بالقلم وما يُسطَر من الكتب ، وفي هذا تعظيمٌ للقلم والكتابة والعِلم الذي جاء به الإسلام وحثّ عليه من أول آية نزلت { اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ . . . . } [ العلق : 1 ] .

يقسم الله تعالى بنون والقلم وما يسطرون ، منوّهاً بقيمة الكتابة معظّماً لشأنها .

 
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة القلم

هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة فقد نزلت على ما روي عن ابن عباس اقرأ باسم ربك ثم هذه ثم المزمل ثم المدثر وفي البحر أنها مكية بلا خلاف فيها بين أهل التأويل وفي الإتقان استثنى منها إنا بلوناهم إلى يعملون ومن فاصبر إلى الصالحين فإنه مدني حكاه السخاوي وفي جمال القراء وآيها ثنتان وخمسون آية بالإجماع ومناسبتها لسورة الملك على ما قيل من جهة ختم تلك بالوعيد وافتتاح هذه به وقال الجلال السيوطي في ذلك إنه تعالى لما ذكر في آخر الملك التهديد بتغوير الماء استظهر عليه في هذه بإذهاب ثمر أصحاب البستان في ليلة بطائف طاف عليهم وهم نائمون فأصبحوا ولم يجدوا له أثرا حتى ظنوا أنهم ضلوا الطريق وإذا كان هذا في الثمار وهي أجرام كثيفة فالماء الذي هو لطيف أقرب إلى الإذهاب ولهذا قال سبحانه هنا وهم نائمون فأصبحت كالصريم وقال جل وعلا هناك إن أصبح ماؤكم غورا إشارة إلى أنه يسري عليه في ليلة كما أسري على الثمر في ليلة انتهى ولا يخلو عن حسن وقال أبو حيان فيه أنه ذكر فيما قبل أشياء من أحوال السعداء والأشقياء وذكر قدرته الباهرة وعلمه تعالى الواسع وأنه عز وجل لو شاء لخسف بهم الأرض أو لأرسل عليهم حاصبا وكان ما أخبر به سبحانه هو ما أوحى به إلى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فتلاه عليه الصلاة والسلام وكان الكفار ينسبونه في ذلك مرة إلى الشعر ومرة إلى السحر ومرة إلى الجنون فبدأ جل شأنه هذه السورة الكريمة ببراءته صلى الله تعالى عليه وسلم مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون وتعظيم أجره على صبره على أذاهم وبالثناء على خلقه

بسْم اللَّهِ الرحمن الرَّحِيم { ن } بالسكون على الوقف وقرأ الأكثرون بسكون النون وإدغامها في واو { والقلم } بغنة عند بعض وبدونها عند آخرين وقرئ بكسر النون وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحق وعيسى بخلاف عنه بفتحها وكل لالتقاء الساكنين وجوز أن يكون الفتح بإضمار حرف القسم في موضع الجر كقولهم الله لأفعلن بالجر وأن يكون ذلك نصباً بإضمار اذكر ونحوه لا فتحاً وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث على أنه علم للسورة ثم إن جعل اسماً للحرف مسروداً على نمط التعديد للتحدي على ما اشتهر وبين في موضعه أو اسماً للسورة منصوباً على الوجه المذكور أو مرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف فالواو في قوله تعالى والقلم للقسم وإن جعل مقسماً به فهي للعطف عليه على الشائع واختار السلف إن { ن } من المتشابه وغير واحد من الخلف أنه هنا من أسماء الحروف وقالوا يؤيد ذلك أنه لو كان اسم جنس أو علماً لا عرب منوناً أو ممنوعاً من الصرف ولكتب كما يتلفظ به وكون كتابته كما ترى لنية الوقف وإجراء الوصل مجراه خلاف الأصل وكون خط المصحف لا يقاس مسلم إلا أن الأصل إجراؤه على القياس ما أمكن وقيل هو اسم لحوت عليه الأرض يقال له اليهموت بفتح الياء المثناة التحتية وسكون الهاء ففي حديث رواه الضياء في المختار والحاكم وصححه وجمع عن ابن عباس خلق الله تعالى النون فبسطت الأرض عليه فاضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالحبال ثم قرأ { ن } والقلم الخ وروى ذلك عن مجاهد وروى عن ابن عباس أيضاً والحسن وقتادة والضحاك أنه اسم للدواة وأنكر الزمخشري ورود النون بمعنى الدواة في اللغة أو في الاستعمال المعتد به وقال ابن عطية يحتمل أن يكون لغة لبعض العرب أو لفظة أعجمية عربية وأنشد قول الشاعر

: إذا ما الشوق برح بي إليهم *** ألقت النون بالدمع السجوم

والأولون منهم من فسر القلم بالذي خط في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة ومنهم من فسره بقلم الملائكة الكرام الكاتبين وال فيه على التفسيرين للعهد والآخرون منهم من فسره بالجنس على أن التعريف فيه جنسي ومنهم وهم قليل من فسره بما تقدم أيضاً لكن الظاهر من كلامهم أن الدواة ليست عبارة عن الدواة المعروفة بل هي دواة خلقت يوم خلق ذلك القلم وعن معاوية بن قرة يرفعه أن ن لوح من نور والقلم قلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة وعن جعفر الصادق أنه نهر من أنهار الجنة وفي «البحر » لعله لا يصح شيء من ذلك أي من جميع ما ذكر في ن ما عدا كونه اسماً من أسماء الحروف وكأنه إن كان كان مطلعاً على الروايات التي ذكرناها لم يعتبر تصحيح الحاكم فيما روى أولاً عن ابن عباس ولا كون أحد رواته الضياء في المختارة التي هي في الاعتبار قرينة من الصحاح ولا كثرة راويه عنه وهو الذي يغلب على الظن لكثرة الاختلاف فيما روى عنه في تعيين المراد به حتى أنه روى عنه أنه آخر حرف من حروف الرحمن وإن هذا الاسم الجليل فرق في الر وحم ون ولا يخفي أنه إن أريد الحوت أو نهر في الجنة يصير الكلام من باب كم الخليفة وألف بادنجانة وأما إن أريد الدواة فالتنكير آب عن ذلك أشد الإباء على أنه كما سمعت عن الزمخشري لغة لم تثبت والرد عليه إنما يتأتى بإثبات ذلك عن الثقات وأنى به وذكر «صاحب القاموس » لا ينتهض حجة على أنه معنى لغوي وفي صحة الروايات كلام والبيت الذي أنشده ابن عطية لم يثبت عربياً وكونه بمعنى الحوت أطلق على الدواة مجازاً بعلاقة المشابهة فإن بعض الحيتان يستخرج منه شيء أشد سواداً من النقس يكتب به لا يخفي ما فيه من السماجة فإن ذلك البعض لم يشتهر حتى يصح جعله مشبهاً به مع إنه لا دلالة للمنكر على ذلك الصنف بعينه وكونه بمعنى الحرف مجازاً عنها أدهى وأمر كذا قيل وللبحث في البعض مجال وللقصاص هذا الفصل روايات لا يعول عليها ولا ينبغي الإصغاء إليها ثم إن استحقاق القلم للإعظام بالإقسام به إذا أريد به قلم اللوح الذي جاء في الاخبار أنه أول شيء خلقه الله تعالى أو قلم الكرام الكاتبين ظاهر وأما استحقاق ما في أيدي الناس إذا أريد به الجنس لذلك فلكثرة منافعه ولو لم يكن له مزية سوى كونه آلة لتحرير كتب الله عز وجل لكفي به فضلاً موجباً لتعظيمه والضمير في قوله سبحانه : { وَمَا يَسْطُرُونَ } أي يكتبون اما للقلم مراداً به قلم اللوح وعبر عنه بضمير الجمع تعظيماً له أو له مراداً به جنس ما به الخط فضمير الجمع لتعدده لكنه ليس بكاتب حقيقة بل هو آلة للكاتب فالإسناد إليه إسناد إلى الآلة مجازاً والتعبير عنه بضمير العقلاء لقيامه مقامهم وجعله فاعلاً أو للكتبة أو الحفظة المفهومين من القلم أو لهم باعتبار أنه أريد بالقلم أصحابه تجوزاً أو بتقدير مضاف معه ولا يخفي ما هو إلا وجه من ذلك وأما كونه لما وهي بمعنى من فتكلف بارد والظاهر فيها أنها إما موصولة أي والذي يسطرونه أو مصدرية أي وسطرهم .