( وما قدروا الله حق قدره ) . .
نعم . ما قدروا الله حق قدره ، وهم يشركون به بعض خلقه . وهم لا يعبدونه حق عبادته . وهم لا يدركون وحدانيته وعظمته . وهم لا يستشعرون جلاله وقوته .
ثم يكشف لهم عن جانب من عظمة الله وقوته . على طريقة التصوير القرآنية ، التي تقرب للبشر الحقائق الكلية في صورة جزئية ، يتصورها إدراكهم المحدود :
( والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة . والسماوات مطويات بيمينه . سبحانه وتعالى عما يشركون ) . .
وكل ما يرد في القرآن وفي الحديث من هذه الصور والمشاهد إنما هو تقريب للحقائق التي لا يملك البشر إدراكها بغير أن توضع لهم في تعبير يدركونه ، وفي صورة يتصورونها . ومنه هذا التصوير لجانب من حقيقة القدرة المطلقة ، التي لا تتقيد بشكل ، ولا تتحيز في حيز ، ولا تتحدد بحدود .
ما قدروا الله حق قدره : ما عظّموه كما يليق به .
والأرض جميعا قَبضتُه : في ملكه وتحت أمره .
ثم بين الله تعالى جهل أولئك الجاحدين بقوله : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } :
إذ أشركوا معه غيره ودعوا الرسول إلى الشرك به ، واللهُ سبحانه هو مالك هذا الكون ، وتكون السموات مطوية بيمينه يوم القيامة { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
والغرض من هذا الكلام تصوير عظمة الله وجلاله ، وكل ما يرد في القرآن الكريم من هذه الصورة والمشاهد إنما هو من باب تقريب الحقائق إلى أفهام الناس الذين لا يدركونها بغير أن توضع لهم في تعبير يدركونه .
{ وما قدروا الله حق قدره } : أي ما عظموا الله حق عظمته ولا عرفوه حق معرفته حين أشركوا في عبادته غيره من أوثانهم .
{ والأرض جميعا قبضته } : أي والأرض بجميع أجزائها قبضته .
{ والسموات مطويات } : أي والسموات السبع مطويات بيمينه .
{ سبحانه وتعالى عما يشركون } : أي تقدس وتنزه عما يشرك به المشركون من أوثان .
قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } إنه بعد أن قرر تعالى التوحيد وندد بالشرك والمشركين أخبر تعالى ناعياً على المشركين شركهم ودعوتهم نبيه للشرك بأنهم بفعلهم ذلك ما قدروا الله حق قدره أي ما عظموه حق عظمته وذلك لجهلهم به تعالى حين عبدوا معه غيره ودعوا نبيه إلى ذلك ، وقوله : { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه } فالذي يجعل الأرض بكل طبقاتها وأجزائها في قبضته والسموات يطويها بيمينه فالسموات والأرض جميعا في يده ، ويقول أنا الملك أين الملوك . فصاحب هذه القدرة العظمى كيف يعبد معه آلهة أخرى هي أصنام وتماثيل أوثان . ولذا نزه تعالى نفسه بقوله { سبحانه } أي تنزه وتقدس عن الشريك والنظير والصاحبة والولد وعن صفات المحدثين ، وتعالى عما يشركون أي ترفع عن أن يكون له شريك وهو رب كل شيء ومليكه .
- بيان مظاهر عظمة الرب تعالى التي يتنافى معها الشرك به عز وجل في عباداته .
{ 67 } { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
يقول تعالى : وما قدر هؤلاء المشركون ربهم حق قدره ، ولا عظموه حق تعظيمه ، بل فعلوا ما يناقض ذلك ، من إشراكهم به من هو ناقص في أوصافه وأفعاله ، فأوصافه ناقصة من كل وجه ، وأفعاله ليس عنده نفع ولا ضر ، ولا عطاء ولا منع ، ولا يملك من الأمر شيئا .
فسووا هذا المخلوق الناقص بالخالق الرب العظيم ، الذي من عظمته الباهرة ، وقدرته القاهرة ، أن جميع الأرض يوم القيامة قبضة للرحمن ، وأن السماوات - على سعتها وعظمها - مطويات بيمينه ، فلا عظمه حق عظمته من سوَّى به غيره ، ولا أظلم منه .
{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : تنزه وتعاظم عن شركهم به .
قوله تعالى : " وما قدروا الله حق قدره " قال المبرد : ما عظموه حق عظمته من قولك فلان عظيم القدر . قال النحاس : والمعنى على هذا وما عظموه حق عظمته إذا عبدوا معه غيره وهو خالق الأشياء ومالكها . ثم أخبر عن قدرته وعظمته فقال : " والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه " . ثم نزه نفسه عن أن يكون ذلك بجارحة فقال : " سبحانه وتعالى عما يشركون " . وفي الترمذي عن عبد الله قال : جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد إن الله يمسك السماوات على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول أنا الملك . فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال : " وما قدروا الله حق قدره " . قال : هذا حديث حسن صحيح . وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض ) . وفي الترمذي عن عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : " والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه " قالت : قلت فأين الناس يومئذ يا رسول الله ؟ قال : ( على جسر جهنم ) في رواية ( على الصراط يا عائشة ) قال : حديث حسن صحيح . وقوله : " والأرض جميعا قبضته " ( ويقبض الله الأرض ) عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته ، يقال : ما فلان إلا في قبضتي ، بمعنى ما فلان إلا في قدرتي ، والناس يقولون الأشياء في قبضته يريدون في ملكه وقدرته . وقد يكون معنى القبض والطي إفناء الشيء وإذهابه فقوله جل وعز : " والأرض جميعا قبضته " يحتمل أن يكون المراد به والأرض جميعا ذاهبة فانية يوم القيامة ، والمراد بالأرض الأرضون السبع ، يشهد لذلك شاهدان : قوله : " والأرض جميعا " ولأن الموضع موضع تفخيم وهو مقتضٍ للمبالغة . وقوله : " والسماوات مطويات بيمينه " ليس يريد به طيا بعلاج وانتصاب ، وإنما المراد بذلك الفناء والذهاب ، يقال : قد انطوى عنا ما كنا فيه وجاءنا غيره . وانطوى عنا دهر بمعنى المضي والذهاب . واليمين في كلام العرب قد تكون بمعنى القدرة والملك ، ومنه قوله تعالى : " أو ما ملكت أيمانكم " [ النساء :3 ] يريد به الملك ، وقال : " لأخذنا منه باليمين " [ الحاقة : 45 ] أي بالقوة والقدرة أي لأخذنا قوته وقدرته . قال الفراء والمبرد : اليمين القوة والقدرة . وأنشدا :
إذا ما رايةٌ رفعت لمجد *** تلقاها عَرابَةُ باليمين{[13336]}
ولما رأيتُ الشمس أشرق نورها *** تناولتُ منها حاجتي بيمين{[13337]}
قَتَلتُ شُنَيْفًا ثم فَارَانَ بعده *** وكان على الآيات غيرَ أمينِ
وإنما خص يوم القيامة بالذكر وإن كانت قدرته شاملة لكل شيء أيضا ؛ لأن الدعاوى تنقطع ذلك اليوم ، كما قال : " والأمر يومئذ لله " [ الانفطار : 19 ] وقال : " مالك يوم الدين " [ الفاتحة : 3 ] حسب ما تقدم في " الفاتحة " {[13338]} ولذلك قال في الحديث : ( ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض ) وقد زدنا هذا الباب في التذكرة بيانا ، وتكلمنا على ذكر الشمال في حديث ابن عمر قوله : ( ثم يطوي الأرض بشماله ) .