على أن الدين في أصله واضح والعقيدة في ذاتها بسيطة :
( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة )وهذه هي قاعدة دين الله على الإطلاق :
عبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له ، والميل عن الشرك وأهله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة : ( وذلك دين القيمة ) . . عقيدة خالصة في الضمير ، وعبادة لله ، تترجم عن هذه العقيدة ، وإنفاق للمال في سبيل الله ، وهو الزكاة . . فمن حقق هذه القواعد ، فقد حقق الإيمان كما أمر به أهل الكتاب ، وكما هو في دين الله على الإطلاق . دين واحد . وعقيدة واحدة ، تتوالى بها الرسالات ، ويتوافى عليها الرسل . . دين لا غموض فيه ولا تعقيد . وعقيدة لا تدعو إلى تفرق ولا خلاف ، وهي بهذه النصاعة ، وبهذه البساطة ، وبهذا التيسير . فأين هذا من تلك التصورات المعقدة ، وذلك الجدل الكثير ?
حنفاء : مفردها حنيف ، وهو المائل عن الشِرك المؤمنُ الخالص الإيمان .
لماذا لم يُؤمنوا بهذا النبيّ الكريم الذي يَعرفونه حقَّ المعرفة ، مع أنه ما أَمَرَهُم إلا بعبادة الله وحدَه مخلِصين له الدينَ حُنفاء مستقيمين على الحق ، وأن يُحافِظوا على الصلاة ، ويؤدوا الزكاة . . وهذه الأوامر السامية هي دينُ الإسلام ، دينُ الملّة المستقيمة ! ؟
فما أمروا في سائر الشرائع إلا أن يعبدوا { اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي : قاصدين بجميع عباداتهم الظاهرة والباطنة وجه الله ، وطلب الزلفى لديه ، { حُنَفَاءَ } أي : معرضين [ مائلين ] عن سائر الأديان المخالفة لدين التوحيد . وخص الصلاة والزكاة [ بالذكر ] مع أنهما داخلان في قوله { لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ } لفضلهما وشرفهما ، وكونهما العبادتين اللتين من قام بهما قام بجميع شرائع الدين .
{ وَذَلِكَ } أي التوحيد والإخلاص في الدين ، هو { دِينُ الْقَيِّمَةِ } أي : الدين المستقيم ، الموصل إلى جنات النعيم ، وما سواه فطرق موصلة إلى الجحيم .
الأولى- قوله تعالى : { وما أمروا } أي وما أمر هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل { إلا ليعبدوا الله } أي ليوحدوه . واللام في { ليعبدوا } بمعنى " أن " ، كقوله : { يريد الله ليبين{[16262]} لكم } [ النساء : 26 ] أي أن يبين . و{ يريدون ليطفئوا نور الله }{[16263]} [ الصف : 8 ] . و{ أمرنا لنسلم لرب العالمين }{[16264]} [ الأنعام : 71 ] . وفي حرف عبد الله : " وما أمروا إلا أن يعبدوا اللّه " . { مخلصين له الدين } أي العبادة ، ومنه قوله تعالى : { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين }{[16265]} [ الزمر : 11 ] . وفي هذا دليل على وجوب النية في العبادات ، فإن الإخلاص من عمل القلب ، وهو الذي يراد به وجه اللّه تعالى لا غيره .
الثانية- قوله تعالى : { حنفاء } أي مائلين عن الأديان كلها ، إلى دين الإسلام ، وكان ابن عباس يقول : حنفاء : على دين إبراهيم عليه السلام . وقيل : الحنيف : من اختتن وحج . قاله سعيد بن جبير . قال أهل اللغة : وأصله أنه تحنف إلى الإسلام ، أي مال إليه .
الثالثة- { ويقيموا الصلاة } أي بحدودها في أوقاتها . { ويؤتوا الزكاة } أي يعطوها عند محلها . { وذلك دين القيمة } أي ذلك الدين الذي أمروا به دين القيامة ، أي الدين المستقيم . وقال الزجاج : أي ذلك دين الملة المستقيمة . و{ القيمة } : نعت لموصوف محذوف . أو يقال : دين الأمة القيمة بالحق ، أي القائمة بالحق . وفي حرف عبد الله " وذلك الدين القيم " . قال الخليل : " القيمة " جمع القيم ، والقيم والقائم : واحد . وقال الفراء : أضاف الدين إلى القيمة وهو نعته ، لاختلاف اللفظين . وعنه أيضا : هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه ، ودخلت الهاء للمدح والمبالغة . وقيل : الهاء راجعة إلى الملة أو الشريعة . وقال محمد بن الأشعث ، الطالقاني : " القيمة " ها هنا : الكتب التي جرى ذكرها ، والدين مضاف إليها .
{ وما أمروا } الآية : معناها : ما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بعبادة الله ، ولكنهم حرفوا وبدلوا ، ويحتمل أن يكون المعنى ما أمروا في القرآن إلا بعبادة الله ، فلأي شيء ينكرونه ويكفرون به . { مخلصين له الدين } استدل المالكية بهذا على وجوب النية في الوضوء وهو بعيد ، لأن الإخلاص هنا يراد به التوحيد وترك الشرك أو ترك الرياء ، وذلك أن الإخلاص مطلوب في التوحيد وفي الأعمال ، وهذا الإخلاص في التوحيد هو الشرك الجلي ، وهذا الإخلاص في الأعمال هو الشرك الخفي ، وهو الرياء ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الرياء الشرك الأصغر " ، وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه تعالى يقول : " أنا أغنى الأغنياء عن الشرك ، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه " واعلم أن الأعمال ثلاثة أنواع : مأمورات ، ومنهيات ومباحات ، فأما المأمورات : فالإخلاص فيها عبارة عن خلوص النية لوجه الله بحيث لا يشوبها بنية أخرى ، فإن كانت كذلك فالعمل خالص مقبول ، وإن كانت النية لغير وجه الله من طلب منفعة دنيوية أو مدح أو غير ذلك فالعمل رياء محض مردود ، وإن كانت النية مشتركة ففي ذلك تفصيل فيه نظر واحتمال . وأما المنهيات : فإن تركها دون نية خرج عن عهدتها ، ولم يكن له أجر في تركها وإن تركها ، بنية وجه الله حصل له الخروج عن عهدتها مع الأجر . وأما المباحات : كالأكل والنوم والجماع وشبه ذلك فإن فعلها بغير نية لم يكن له فيها أجر ، وإن فعلها بنية وجه الله فله أجر ، فإن كل مباح يمكن أن يصير قربة إذا قصد به وجه الله مثل أن يقصد بالأكل القوة على العبادة ، ويقصد بالجماع التعفف عن الحرام .
{ وذلك دين القيمة } تقديره الملة القيمة ، أو الجماعة القيمة ، وقد فسرنا القيمة ، ومعناه : أن الذي أمروا به من عبادة الله ، والإخلاص له ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة هو دين الإسلام ، فلأي شيء لا يدخلون فيه ؟