في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا} (21)

9

ذلك كان حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في الصفوف ، وتلك كانت صورتهم الرديئة . ولكن الهول والكرب والشدة والضيق لم تحول الناس جميعا إلى هذه الصورة الرديئة . . كانت هنالك صورة وضيئة في وسط الظلام ، مطمئنة في وسط الزلزال ، واثقة بالله ، راضية بقضاء الله ، مستيقنة من نصر الله ، بعد كل ما كان من خوف وبلبلة واضطراب .

ويبدأ السياق هذه الصورة الوضيئة برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] .

( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ، وذكر الله كثيرا ) . .

وقد كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على الرغم من الهول المرعب والضيق المجهد ، مثابة الأمان للمسلمين ، ومصدر الثقة والرجاء والاطمئنان . وإن دراسة موقفه [ صلى الله عليه وسلم ] في هذا الحادث الضخم لمما يرسم لقادة الجماعات والحركات طريقهم ؛ وفيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ؛ وتطلب نفسه القدوة الطيبة ؛ ويذكر الله ولا ينساه .

ويحسن أن نلم بلمحات من هذا الموقف على سبيل المثال . إذ كنا لا نملك هنا أن نتناوله بالتفصيل .

خرج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يعمل في الخندق مع المسلمين يضرب بالفأس ، يجرف التراب بالمسحاة ، ويحمل التراب في المكتل . ويرفع صوته مع المرتجزين ، وهم يرفعون أصواتهم بالرجز في أثناء العمل ، فيشاركهم الترجيع ! وقد كانوا يتغنون بأغان ساذجة من وحي الحوادث الجارية : كان هناك رجل من المسلمين اسمه جعيل ، فكره رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] اسمه ، وسماه عمرا . فراح العاملون في الخندق يغنون جماعة بهذا الرجز الساذج :

سماه من بعد جعيل عمرا وكان للبائس يوما ظهرا

فإذا مروا في ترجيعهم بكلمة " عمرو " ، قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " عمرا " . وإذا مروا بكملة " ظهر " قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " ظهرا " .

ولنا أن نتصور هذا الجو الذي يعمل فيه المسلمون ، والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بينهم ، يضرب بالفأس ، ويجرف بالمسحاة ، ويحمل في المكتل ، ويرجع معهم هذا الغناء . ولنا أن نتصور أية طاقة يطلقها هذا الجو في أرواحهم ؛ وأي ينبوع يتفجر في كيانهم بالرضى والحماسة والثقة والاعتزاز .

وكان زيد بن ثابت فيمن ينقل التراب . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] " أما إنه نعم الغلام ! " وغلبته عيناه فنام في الخندق . وكان القر شديدا . فأخذ عمارة بن حزم سلاحه ، وهو لا يشعر . فلما قام فزع . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا أبا رقاد ! نمت حتى ذهب سلاحك " ! ثم قال : " من له علم بسلاح هذا الغلام " ? فقال عمارة : يا رسول الله هو عندي . فقال : " فرده عليه " . ونهى أن يروع المسلم ويؤخذ متاعه لاعبا !

وهو حادث كذلك يصور يقظة العين والقلب ، لكل من في الصف ، صغيرا أو كبيرا . كما يصور روح الدعابة الحلوة الحانية الكريمة : " يا أبا رقاد ! نمت حتى ذهب سلاحك ! " ويصور في النهاية ذلك الجو الذي كان المسلمون يعيشون فيه في كنف نبيهم ، في أحرج الظروف . .

ثم كانت روحه [ صلى الله عليه وسلم ] تستشرف النصر من بعيد ، وتراه رأي العين في ومضات الصخور على ضرب المعاول ؛ فيحدث بها المسلمين ، ويبث فيهم الثقة واليقين .

قال ابن إسحاق : وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال : ضربت في ناحية من الخندق ، فغلظت علي صخرة ، ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قريب مني . فلما رآني أضرب ، ورأى شدة المكان علي ، نزل فأخذ المعول من يدي ، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة . قال : ثم ضرب به ضربة أخرى ، فلمعت تحته برقة أخرى . قال : ثم ضرب به الثالثة ، فلمعت تحته برقة أخرى قال : قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! ما هذا الذي رأيت ، لمع المعول وأنت تضرب ? قال : " أو قد رأيت ذلك يا سلمان " ? قال : قلت . نعم : قال : " أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن . وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب . وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق " . .

وجاء في " إمتاع الاسماع للمقريزي " أن هذا الحادث وقع لعمر بن الخطاب بحضور سلمان . رضي الله عنهما .

ولنا أن نتصور اليوم كيف يقع مثل هذا القول في القلوب ، والخطر محدق بها محيط .

ولنا أن نضيف إلى تلك الصور الوضيئة صورة حذيفة عائدا من استطلاع خبر الأحزاب وقد أخذه القرالشديد ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قائم يصلي في ثوب لإحدى أزواجه . فإذا هو في صلاته واتصاله بربه ، لا يترك حذيفة يرتعش حتى ينتهي من صلاته بل يأخذه - صلوات الله وسلامه عليه - بين رجليه ، ويلقي عليه طرف الثوب ليدفئه في حنو . ويمضي في صلاته . حتى ينتهي ، فينبئه حذيفة النبأ ، ويلقي إليه بالبشرى التي عرفها قلبه [ صلى الله عليه وسلم ] فبعث حذيفة يبصر أخبارها !

أما أخبار شجاعته [ صلى الله عليه وسلم ] في الهول ، وثباته ويقينه ، فهي بارزة في القصة كلها ، ولا حاجة بنا إلى نقلها ، فهي مستفيضة معروفة .

وصدق الله العظيم : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ، وذكر الله كثيرا ) . .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا} (21)

فيه مسألتان :

الأولى- قوله تعالى : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " هذا عتاب للمتخلفين عن القتال ، أي كان لكم قدوة في النبي صلى الله عليه وسلم حيث بذل نفسه لنصرة دين الله في خروجه إلى الخندق . والأسوة القدوة . وقرأ عاصم " أسوة " بضم الهمزة . الباقون بالكسر ، وهما لغتان . والجمع فيهما واحد عند الفراء . والعلة عنده في الضم على لغة من كسر في الواحدة : الفرق بين ذوات الواو وذوات الياء ، فيقولون كسوة وكسا ، ولحية ولحى . الجوهري : والأسوة والإسوة بالضم والكسر لغتان . والجمع أسى وإسى . وروى عقبة بن حسان الهجري عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " قال : في جوع النبي صلى الله عليه وسلم . ذكره الخطيب أبو بكر أحمد وقال : تفرد به عقبة بن حسان عن مالك ، ولم أكتبه إلا بهذا الإسناد .

الثانية-قوله تعالى " أسوة " الأسوة القدوة . والأسوة ما يتأسى به ، أي يتعزى به . فيقتدى به في جميع أفعاله ويتعزى به في جميع أحواله ، فلقد شج وجهه ، وكسرت رباعيته ، وقتل عمه حمزة ، وجاع بطنه ، ولم يلف إلا صابرا محتسبا ، وشاكرا راضيا . وعن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا{[12780]} عن حجر حجر ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين . خرجه أبو عيسى الترمذي وقال فيه : حديث غريب . وقال صلى الله عليه وسلم لما شج : ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) وقد تقدم . " لمن كان يرجو الله واليوم الآخر " قال سعيد بن جبير : المعنى لمن كان يرجو لقاء الله بإيمانه ويصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأفعال . وقيل : أي لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر . ولا يجوز عند الحذاق من النحويين أن يكتب " يرجو " إلا بغير ألف إذا كان لواحد ؛ لأن العلة التي في الجمع ليست في الواحد . " وذكر الله كثيرا " خوفا من عقابه ، ورجاء لثوابه . وقيل : إن " لمن " بدل من قوله : " لكم " ولا يجيزه البصريون ؛ لأن الغائب لا يبدل من المخاطب ، وإنما اللام من " لمن " متعلقة ب " حسنة " ، و " أسوة " اسم " كان " و " لكم " الخبر . واختلف فيمن أريد بهذا الخطاب على قولين : أحدهما : المنافقون ، عطفا على ما تقدم من خطابهم . الثاني : المؤمنون ؛ لقوله : " لمن كان يرجو الله واليوم الآخر " واختلف في هذه الأسوة بالرسول عليه السلام ، هل هي على الإيجاب أو على الاستحباب ، على قولين : أحدهما : على الإيجاب حتى يقوم دليل على الاستحباب . الثاني : على الاستحباب حتى يقوم دليل على الإيجاب . ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين ، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا .


[12780]:زيادة عن سنن الترمذي.