سورة المجادلة مدنية وآيتها ثنتان وعشرون
نحن في هذه السورة - وفي هذا الجزء كله تقريبا - مع أحداث السيرة في المجتمع المدني . مع الجماعة المسلمة الناشئة ؛ حيث تربى وتقوم ، وتعد للنهوض بدورها العالمي ، بل بدورها الكوني ، الذي قدره الله لها في دورة هذا الكون ومقدراته . وهو دور ضخم يبدأ من إنشاء تصور جديد كامل شامل لهذه الحياة ، في نفوس هذه الجماعة ، وإقامة حياة واقعية على أساس هذا التصور ، ثم تحمله هذه الجماعة إلى العالم كله لتنشئ للبشرية حياة إنسانية قائمة على أساس هذا التصور كذلك . . وهو دور ضخم إذن يقتضي إعدادا كاملا .
ولقد كان أولئك المسلمون الذين يعدهم القدر لهذا الدور الضخم ، ناسا من الناس . منهم السابقون من المهاجرين والأنصار الذين نضج إيمانهم ، واكتمل تصورهم للعقيدة الجديدة ، وخلصت نفوسهم لها ، ووصلوا . . وصلوا إلى حقيقة وجودهم وحقيقة هذا الوجود الكبير ؛ واندمجت حقيقتهم مع حقيقة الوجود ، فأصبحوا بهذا طرفا من قدر الله في الكون ؛ لا يجدون في أنفسهم عوجا عنه ، ولا يجدون في خطاهم تخلفا عن خطاه ، ولا يجدون في قلوبهم شيئا إلا الله . . كانوا كما جاء عنهم في هذه السورة : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ، وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون ) . .
ولكن هؤلاء السابقين كانوا قلة بالقياس إلى الجماعة المسلمة المتزايدة العدد - وبخاصة بعد أن أصبح الإسلام قوة ترهب - حتى قبل الفتح - ودخل فيه من لم يتلق من التربية الإسلامية القسط الكافي ، ولم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة . كما دخل فيه من المنافقين من آثر المصلحة أو العافية على دخل في القلوب ، وتربص بالفرص ، وذبذبة بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات القوية المناوئة له في ذلك الحين . سواء معسكرات المشركين أو اليهود ! ولقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكوني الكبير المقدر لها في الأرض جهودا ضخمة ، وصبرا طويلا ، وعلاجا بطيئا ، في صغار الأمور وفي كبارها . . كانت حركة بناء هائلة هذه التي قام بها الإسلام ، وقام بها رسول الإسلام [ صلى الله عليه وسلم ] بناء النفوس التي تنهض ببناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية ، وتقوم على منهج الله ، تفهمه وتحققه ، وتنقله إلى أطراف الأرض في صورة حية متحركة ، لا في صحائف وكلمات .
ونحن نشهد في هذه السورة - وفي هذا الجزء كله - طرفا من تلك الجهود الضخمة ، وطرفا من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس ، وفي علاج الأحداث والعادات والنزوات ؛ كما نشهد جانبا من الصراع الطويل بين الإسلام وخصومه المختلفين من مشركين ويهود ومنافقين .
وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة ؛ وهو يصنعها على عينه ، ويربيها بمنهجه ، ويشعرها برعايته ، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده - سبحانه - معها في أخص خصائصها ، وأصغر شؤونها ، وأخفى طواياها ؛ وحراسته لها من كيد أعدائها خفيه وظاهره ؛ وأخذها في حماه وكنفه ، وضمها إلى لوائه وظله ؛ وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله ، وتنتسب إليه ، وتؤلف حزبه في الأرض ، وترفع لواءه لتعرف به في الأرض جميعا .
ومن ثم تبدأ السورة بصورة عجيبة من صور هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية . فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة ، ومشاركتها في الحياة اليومية لجماعة من الناس مشاركة ظاهرة : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) . . فنشهد السماءتتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة ، لتقرر حكم الله في قضيتها ، وقد سمع - سبحانه - للمرأة وهي تحاور رسول الله فيها ، ولم تكد تسمعها عائشة وهي قريبة منها ! وهي صورة تملأ القلب بوجود الله وقربه وعطفه ورعايته .
يليها في سياق السورة توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله - وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف الله - مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض ، والعذاب المهين في الآخرة ، مأخوذون بما عملوا مما أحصاه الله عليهم ، ونسوه هم وهم فاعلوه ! ( والله على كل شيء شهيد ) . .
ثم توكيد وتذكير بحضور الله - سبحانه - وشهوده لكل نجوى في خلوة ، يحسب أصحابها أنهم منفردون بها . والله معهم أينما كانوا : ( ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، إن الله بكل شيء عليم ) . . وهي صورة تملأ القلب كذلك بوجود الله وحضوره ، كما تملؤه برقابته واطلاعه .
وهذا التوكيد مقدمة لتهديد الذين يتناجون في خلواتهم لتدبير المكايد للمسلمين ، وملء قلوبهم بالحزن والهم والتوجس . تهديد بأن أمرهم مكشوف ، وأن عين الله مطلعة عليهم ، ونجواهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول مسجلة ، وأن الله آخذهم بها ومعذبهم عليها . ونهي للمسلمين عن التناجي بغير البر والتقوى ، وتربية نفوسهم وتقويمها بهذا الخصوص .
ثم يستطرد في تربية هذه النفوس المؤمنة ؛ فيأخذها بأدب السماحة وبالطاعة في مجلس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومجالس العلم والذكر . كما يأخذها بأدب السؤال والحديث مع الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والجد في هذا الأمر والتوقير .
أما بقية السورة بعد هذا فتنصرف إلى الحديث عن المنافقين الذين يتولون اليهود ؛ ويتآمرون معهم ، ويدارون تآمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين . وتصورهم في الآخرة كذلك حلافين كذابين ؛ يتقون بالحلف والكذب ما يواجههم من عذاب الله ، كما كانوا يتقون بهما في الدنيا ما يواجههم من غضب رسول الله والمؤمنين ! مع توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله كتب الله عليهم أنهم في الأذلين وأنهم هم الأخسرون . كما كتب أنه ورسله هم الغالبون . وذلك تهوينا لشأنهم ، الذي كان بعض المنتسبين إلى الإسلام - وبعض المسلمين - يستعظمه ، فيحافظ على مودته معهم ، ولا يدرك ضرورة تميز الصف المسلم تحت راية الله وحدها ، والاعتزاز برعاية الله وحده ، والاطمئنان إلى حراسته الساهرة للفئة التي يصنعها على عينه ، ويهيئها لدورها الكوني المرسوم .
وفي ختام السورة تجيء تلك الصورة الوضيئة لحزب الله . هذه الصورة التي كان يمثلها بالفعل أولئك السابقون من المهاجرين والأنصار . والتي كانت الآية الكريمة تشير لها كي ينتهي إليها أولئك الذين ما زالوا بعد في الطريق !
( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله . . )الخ الآية . . . كما وردت في أول هذا التقديم .
( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما ، إن الله سميع بصير ) . . وهو مطلع ذو إيقاع عجيب . . إنكما لم تكونا وحدكما . . لقد كان الله معكما . وكان يسمع لكما . لقد سمع قول المرأة . سمعها تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله . وعلم القصة كلها . وهو يعلم تحاوركما وما كان فيه . . إن الله سميع بصير . يسمع ويرى . هذا شأنه وهذه صورة منه في الحادث الذي كان الله ثالثكما فيه . .
{ 1-4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
نزلت هذه الآيات الكريمات في رجل من الأنصار اشتكته زوجته [ إلى الله ، وجادلته ]{[1000]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حرمها على نفسه ، بعد الصحبة الطويلة ، والأولاد ، وكان هو رجلا شيخا كبيرا ، فشكت حالها وحاله إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكررت ذلك ، وأبدت فيه وأعادت .
فقال تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا } أي : تخاطبكما فيما بينكما ، { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } لجميع الأصوات ، في جميع الأوقات ، على تفنن الحاجات .
{ بَصِيرٌ } يبصر دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، وهذا إخبار عن كمال سمعه وبصره ، وإحاطتهما بالأمور الدقيقة والجليلة ، وفي ضمن ذلك الإشارة بأن الله [ تعالى ] سيزيل شكواها ، ويرفع بلواها ، ولهذا ذكر حكمها ، وحكم غيرها{[1001]} على وجه العموم ، فقال :
قوله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } الآية . نزلت في خولة بنت ثعلبة كانت تحت أوس بن الصامت ، وكانت حسنة الجسم ، وكان به لمم فأرادها فأبت ، فقال لها : أنت علي كظهر أمي ، ثم ندم على ما قال . وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية . فقال لها : ما أظنك إلا قد حرمت علي . فقالت : والله ما ذاك طلاق ، وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وعائشة رضي الله عنها تغسل شق رأسه- فقالت : يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات مال وأهل حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبر سني ظاهر مني ، وقد ندم ، فهل من شيء يجمعني وإياه تنعشني به ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليه ، فقالت : يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقاً وإنه أبو ولدي وأحب الناس إلي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليه ، فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي قد طالت صحبتي ونفضت له بطني . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أراك إلا قد حرمت عليه ، ولم أؤمر في شأنك بشيء ، فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليه هتفت وقالت : أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي وإن لي صبيةً صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك ، اللهم فأنزل على لسان نبيك فرجي ، وكان هذا أول ظهار في الإسلام ، فقامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر ، فقالت : انظر في أمري جعلني الله فداءك يا نبي الله ، فقالت عائشة : أقصري حديثك ومجادلتك أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه أخذه مثل السبات- ، فلما قضى الوحي قال لها : ادعي زوجك فدعته ، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : { قد سمع الله قول التي تجادلك } الآيات . قالت عائشة : تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها ، إن المرأة لتحاور رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ، ويخفى علي بعضه إذ أنزل الله : { قد سمع الله } الآيات . ومعنى قوله : { قول التي تجادلك } تخاصمك وتحاورك وتراجعك في زوجها ، { وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما } مراجعتكما الكلام ، { إن الله سميع بصير } سميع لما تناجيه وتتضرع إليه ، بصير بمن يشكو إليه .
{ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } نزلت في سبب خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت ظاهر منها وكان ذلك أول ظهار في الاسلام وكان الظهار من طلاق الجاهلية فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أن زوجها ظاهر منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت عليه فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وصبية صغارا وجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قال لها حرمت عليه هتفت وشكت إلى الله وقوله { والله يسمع تحاوركما } أي تخاطبكما ومراجعتكما الكلام .
مدنية في قول الجميع . إلا رواية عن عطاء : أن العشر الأول منها مدني وباقيها مكي ، وقال الكلبي : نزل جميعها بالمدينة غير قوله تعالى : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم }[ المجادلة : 7 ] نزلت بمكة .
الأولى- قوله تعالى : " { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } التي اشتكت إلى الله هي خولة بنت ثعلبة . وقيل بنت حكيم . وقيل اسمها جميلة . وخولة أصح ، وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت ، وقد مر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته والناس معه على حمار فاستوقفته طويلا ووعظته وقالت : يا عمر قد كنت تدعى عميرا ، ثم قيل لك عمر ، ثم قيل لك أمير المؤمنين ، فاتق الله يا عمر ، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت ، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب ، وهو واقف يسمع كلامها ، فقيل له : يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف ؟ فقال : والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة ، أتدرون من هذه العجوز ؟ هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات ، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر ؟ وقالت عائشة رضي الله عنها : تبارك الذي وسع سمعه كل شيء ، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفي علي بعضه ، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي تقول : يا رسول الله ! أكل شبابي ونثرت له بطني ، حتى إذا كبر سني وانقطع ولدى ظاهر مني ، اللهم إني أشكو إليك ! فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } خرجه ابن ماجه في السنن . والذي في البخاري من هذا عن عائشة قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله عز وجل : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } . وقال الماوردي : هي خولة بنت ثعلبة . وقيل : بنت خويلد . وليس هذا بمختلف ؛ لأن أحدهما أبوها والآخر جدها فنسبت إلى كل واحد منهما . وزوجها أوس بن الصامت أخو عباد بن الصامت .
وقال الثعلبي قال ابن عباس : هي خولة بنت خويلد الخزرجية ، كانت تحت أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت ، وكانت حسنة الجسم ، فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها ، فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها قال عروة{[14741]} : وكان أمرأً به لَمَم{[14742]} فأصابه بعض لَمَمِه فقال لها : أنت علي كظهر أمي . وكان الإيلاء والظهار من الطلاق في الجاهلية ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها : ( حرمتِ عليه ) فقالت : والله ما ذكر طلاقا ، ثم قالت : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي وقد نفضت له بطني ، فقال : ( حرمت عليه ) فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزلت عليه الآية . وروى الحسن : أنها قالت : يا رسول الله ! قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهر مني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أوحى إلي في هذا شيء ) فقالت : يا رسول الله ، أوحي إليك في كل شيء وطوي عنك هذا ؟ ! فقال : ( هو ما قلت لك ) فقالت : إلى الله أشكو لا إلى رسوله . فأنزل الله :{ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله }الآية .
وروى الدارقطني من حديث قتادة أن أنس بن مالك حدثه قال : إن أوس بن الصامت ظاهر من امرأته خويلة بنت ثعلبة فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ظاهر حين كبرت سني ورق عظمي . فأنزل الله تعالى آية الظهار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأوس : ( اعتق رقبة ) قال : مالي بذلك يَدَانِ . قال : ( فصم شهرين متتابعين ) قال : أما إني إذا أخطأني أن آكل في يوم ثلاث مرات يكل بصري . قال : ( فأطعم ستين مسكينا ) قال : ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة . قال : فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا حتى جمع الله له والله غفور رحيم{[14743]} . " إن الله سميع بصير " قال : فكانوا يرون أن عنده مثلها وذلك لستين مسكينا ، وفي الترمذي وسنن ابن ماجه : أن سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ( أعتق رقبة ) قال : فضربت صفحة عنقي بيدي . فقلت : لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها . قال : ( فصم شهرين ) فقلت : يا رسول الله ! وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام . قال : ( فأطعم ستين مسكينا ) الحديث . وذكر ابن العربي في أحكامه : روي أن خولة بنت دليج ظاهر منها زوجها ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قد حرمت عليه ) فقالت : أشكو إلى الله حاجتي . ثم عادت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( حرمت عليه ) فقالت : إلى الله أشكو حاجتي إليه{[14744]} وعائشة تغسل شق رأسه الأيمن ، ثم تحولت إلى الشق الآخر وقد نزل عليه الوحي ، فذهبت أن تعيد ، فقالت عائشة : اسكتي فإنه قد نزل الوحي . فلما نزل القرآن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجها : ( اعتق رقبة ) قال : لا أجد . قال : ( صم شهرين متتابعين ) قال : إن لم آكل في اليوم ثلاث مرات خفت أن يعشو بصري . قال : ( فأطعم ستين مسكينا ) . قال : فأعني . فأعانه بشيء . قال أبو جعفر النحاس : أهل التفسير على أنها خولة وزوجها أوس بن الصامت ، واختلفوا في نسبها ، قال بعضهم : هي أنصارية وهي بنت ثعلبة ، وقال بعضهم : هي بنت دليج ، وقيل : هي بنت خويلد ، وقال بعضهم : هي بنت الصامت ، وقال بعضهم : هي أمة كانت لعبدالله بن أبي ، وهي التي أنزل الله فيها{ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا } [ النور : 33 ] لأنه كان يكرهها على الزنى . وقيل : هي بنت حكيم . قال النحاس : وهذا ليس بمتناقض ، يجوز أن تنسب مرة إلى أبيها ، ومرة إلى أمها ، ومرة إلى جدها ، ويجوز أن تكون أمة كانت لعبدالله بن أبي فقيل لها أنصارية بالولاء ، لأنه كان في عداد الأنصار وإن كان من المنافقين .
الثانية- قرئ " قد سمع الله " بالإدغام و " قد سمع الله " بالإظهار . والأصل في السماع إدراك المسموعات ، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن . وقال ابن فورك : الصحيح أنه إدراك المسموع . وقال الحاكم أبو عبد الله في معنى السميع : إنه المدرك للأصوات التي يدركها المخلقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن ، وذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عليه ، وإن كان غير موصوف بالحس المركب في الأذن ، كالأصم من الناس لما لم تكن له هذه الحاسة لم يكن أهلا لإدراك الصوت . والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة والحياة والإرادة ، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه وتعالى متصفا بهما . وشكى واشتكى بمعنى واحد . وقرئ " تحاورك " أي تراجعك الكلام و " تجادلك " أي تسائلك .
{ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } نزلت الآية في خولة بنت حكيم ، وقيل : خولة بنت ثعلبة ، وقيل : خولة بنت خويلد ، وقيل : اسمها جميلة وكانت امرأة أوس بن الصامت الأنصاري أخو عبادة بن الصامت فظاهر منها وكان الظهار في الجاهلية يوجب تحريما مؤبدا ، فلما فعل أوس ذلك جاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : " يا رسول الله إن أوسا أكل شبابي ونشرت له بطني فلما كبرت ومات أهلي ظاهر مني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما رأيتك إلا قد حرمت عليه ، فقالت : يا رسول الله لا تفعل إني وحيدة ليس لي أهل سواه فراجعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل مقالته فراجعته ، فهذا هو جدالها " .
{ وتشتكي إلى الله } كانت تقول : اللهم إني أشكو إليك حالي وانفرادي وفقري ، وروي : أنها كانت تقول : اللهم إن لي منه صبية صغارا إن ضممتهم إلي جاعوا ، وإن ضممتهم إليه ضاعوا .
{ والله يسمع تحاوركما } المحاورة هي المراجعة في الكلام قالت عائشة رضي الله عنها : سبحان من وسع سمعه الأصوات لقد كنت حاضرة وكان بعض كلام خولة يخفى عليه وسمع الله كلامها ، ونزل القرآن في ذلك فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زوجها وقال له : " أتعتق رقبة ، فقال : والله ما أملكها فقال : أتصوم شهرين متتابعين ، فقال : والله ما أقدر ، فقال له : أتطعم ستين مسكينا ، فقال : لا أجد إلا أن يعينني رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعونة وصلاة يريد الدعاء فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا ، وقيل : بثلاثين صاعا ودعا له فكفر بالإطعام وأمسك زوجته " .
سورة المجادلة{[1]}
مقصودها الإعلام بإيقاع البأس الشديد ، الذي{[2]} أشارت إليه الحديد ، بمن حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لما له سبحانه من تمام العلم ، اللازم عنه تمام القدرة ، اللازم عنه الإحاطة بجميع صفات الكمال ، وعلى ذلك{[3]} دلت تسميتها بالمجادلة بأول قصتها{[4]} وآخرها ، وعلى تكرير الاسم الأعظم الجامع في القصة وجميع السورة تكريرا لم يكن في سواها بحيث لم تخل منه آية ، وأما الآيات التي تكرر{[5]} في كل منها{[6]} المرتين فأكثر فكثرة كل ذلك للدلالة على أن الأكثر منها المراد فيها بالخطاب{[7]} من يصح أن ينظر إليه تارة بالجلال ، وتارة بالكمال ، فيجمع له الوصفان ، وهو من آمن ووقع منه هفوة أو عصيان ، ولهذا ضمتها أشياء شدد النكير{[8]} فيها حين وقع فيها بعض أهل الإيمان ، ولم يبحها لهم عند وقوعهم فيها ردا للشرع إلى ما دعا إليه الطبع كما فعل في غيرها كالأكل والجماع في ليل رمضان من غير تقييد بيقظة{[9]} ولا منام لمنابذتها للحكمة ، وبعدها عن موجبات الرحمة .
وهذا مؤيد لما تقدم من سر إخلاء الواقعة والرحمن والقمر من هذا الاسم الجامع- والله الموفق ( بسم الله ) الذي أحاط علمه فتمت قدرته فكملت جميع صفاته ( الرحمن ) الذي شمل الخلائق جودا بالإيجاد وإرسال هداته{[10]}( الرحيم ) الذي خص أصفياءه فتمت عليهم نعمة مرضاته .
لما ختمت الحديد بعث إثبات عجز{[62918]} الخلق بعظيم الفضل له سبحانه ، وكان سماع أصوات جميع الخلائق من غير أن يشغل{[62919]} صوت عن صوت وكلام عن كلام من الفضل العظيم ، وكان قد تقدم ابتداع بعض المتعبدين{[62920]} من الرهبانية بما لم يصرح لهم بالإذن فيه ، فكان سبباً للتضييع ، وكان الظهار على نوعين : موقت ومطلق ، وكان الموقت مما يدخل في الرهبانية لأنه من التبتل وتحريم ما أحل الله من الطيبات ، وكان بعض الصحابة رضي الله عنهم قد منع نفسه{[62921]} بالموقت منه من مرغوبها مما لم يأت عن الله ، فظاهر من امرأته محافظة على كمال التعبد خوفاً من الجماع في نهار رمضان ، وكان ذلك مما لم يأذن به بل نهى عنه كما روى أبو داود{[62922]} عن أنس رضي الله عنه والطبراني في الأوسط عن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تشددوا على أنفسكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم ، وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات " وكان بعض الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - قد ظاهر مطلقاً فشكت امرأته ما لحقها من الضرر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهتفت{[62923]} باسم الله ، وكان علمه سبحانه بخصوص شكاية هذه المرأة المسكينة{[62924]} وإزالة ضررها بحكم{[62925]} عام لها ولغيرها من عباده حتى صارت واقعتها رخصة عامة للمسلمين إلى يوم القيامة معلماً بأنه ذو الفضل العظيم ، وأنه الظاهر الباطن ، ذو الملك كله ، وكان قد أمر بالإيمان به وبرسوله ووعد على ذلك بالنور ، كان{[62926]} السامع لذلك جديراً{[62927]} بتوقع البيان الذي هو النور في هذه الرهبانية التي ابتدعت في{[62928]} هذه الأمة ، وتخفيف الشديد الذي وقع عن بعضهم ليعلم أهل الكتاب ما لهذه الأمة من الكرامة {[62929]}على ربها{[62930]} وأنه يختص برحمته من يشاء فقال : { قد سمع الله } أي أجاب{[62931]} بعظيم فضله الذي أحاط بجميع صفات الكمال فوسع{[62932]} سمعه الأصوات { قول } وعبر بالوصف دون الاسم تعريفاً برحمته الشاملة فقال : { التي تجادلك } أي تبالغ في أن تقبلك إلى مرادها { في زوجها } أي في الأمر المخلص له من ظهاره رحمة لها { وتشتكي } أي تتعمد بتلك المجادلة الشكوى ، منتهية { إلى الله } أي الملك العظيم الرحيم الذي أحاط بكل شيء علماً ، ولصدقها في شكواها وقطع رجائها في كشف ما بها من غير الله كانت هي والنبيُّ صلى الله عليه وسلم متوقعين أن الله يكشف ضرها { والله } أي والحال أن الذي وسعت رحمته كل شيء لأن له الأمر كله { يسمع تحاوركما } أي مراجعتكما التي يحور - أي يرجع فيها{[62933]} إلى كل منكما جواب كلامه من الآخر كأنها لثقل ما قدح في أمرها ونزل من ضرها ناشئة عن{[62934]} حيرة .
ولما كان ذلك في غاية ما يكون من خرق العادة بحيث إن الصديقة عائشة رضي الله عنها قالت عند نزول الآية : " الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد كلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جانب البيت ما أسمع كثيراً مما تقول " أكده تنبيهاً على شدة غرابته ولأنه{[62935]} ربما استبعده من اشتد جهله لعراقته في التقيد{[62936]} بالعادات فقال : { إن الله } أي الذي أحاط بجميع صفات الكمال فلا كفؤ له { سميع بصير * } أي بالغ السمع لكل مسموع ، والبصر لكل ما يبصر والعلم لكل ما يصح أن يعلم أزلاً وأبداً ، وقد مضى نحو هذا التناسب في المائدة حين أتبع تعالى آية القسيسين والرهبان قوله تعالى :{ يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم }{[62937]} غير أن هذا خاص وذاك{[62938]} عام ، فهذا فرد منه ، فالمناسبة واحدة لأن الأخص في ضمن الأعم ، والحاصل أنه سبحانه امتنَّ عليهم بما جعل في قلوبهم من الرهبانية وغيرها ، وأخبر أنهم لم يوفوها حقها ، وأنه آتى مؤمنيهم الأجر ، وأمر المسلمين بالتقوى واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ليحصل لهم من فضله العظيم ضعف ما حصل لأهل الكتاب ، ونهاهم عن التشديد على أنفسهم بالرهبانية ، فصاروا مفضلين من وجهين : كثرة الأجر وخفة العمل ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء - والله أعلم ، روى البزار{[62939]} من طريق خصيف عن عطاء ومن غيرها أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال : يا رسول الله ! إني ظاهرت من امرأتي ورأيت ساقها في القمر فواقعتها{[62940]} قبل أن أكفر ، قال " كفِّر ولا تعد " وروى أبو داود{[62941]} عن عكرمة أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : " ما حملك على ما صنعت ؟ قال : رأيت بياض ساقيها في القمر ، قال : فاعتزلها حتى تكفر عنك " قال المنذري : وأخرجه أيضاً عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عكرمة عن ابن{[62942]} عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه ، وأخرجه النسائي{[62943]} وابن ماجة{[62944]} والترمذي{[62945]} - وقال : حديث{[62946]} حسن غريب صحيح - وقال النسائي : المرسل أولى بالصواب من المسند ، وقال أبو بكر المعافري{[62947]} : ليس في الظهار حديث صحيح يعول{[62948]} عليه ، قال المنذري : وفيما قاله نظر ، فقد صححه {[62949]}الترمذي كما ترى ، ورجال إسناده ثقات ، وسماع بعضهم من بعض مشهور ، وترجمة عكرمة{[62950]} عن ابن عباس رضي الله عنهما احتج بها البخاري في غير موضع - انتهى . وللترمذي{[62951]} - وقال حسن غريب - عن سلمة بن صخر رضي الله عنه في المظاهر يواقع قبل أن يكفر قال : " كفّارة واحدة " ، " وروى أحمد{[62952]} والحاكم{[62953]} وأصحاب السنن{[62954]} إلا النسائي وحسنه الترمذي ، قال ابن الملقن : وصححه ابن حبان والحاكم - من طريق سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه قال : كنت أمرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري ، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً يتابع بي{[62955]} حتى أصبح{[62956]} فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان ، فبينا هي تخدمني ذات ليلة تكشف{[62957]} لي منها شيء فما لبث أن نزوت عليها{[62958]} ، فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر وقلت : امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : لا والله : فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال{[62959]} " أنت بذاك{[62960]} يا سلمة ؟ قلت : أنا بذاك{[62961]} يا رسول الله مرتين ، وأنا صابر لأمر الله ، فاحكم فيّ بما أراك الله ، وفي رواية : فأمض فيَّ حكم الله فإني صابر لذلك ، قال حرر رقبة . قلت : والذي بعثك بالحق ما أملك غيرها - وضربت صفحة رقبتي{[62962]} ، قال : فصم شهرين متتابعين ، قلت : وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام ، قال : فاطعم وسقاً من تمر بين ستين مسكيناً ، قال : والذي بعثك بالحق ، لقد بتنا وحشين ما لنا طعام ، قال : فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها " فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي ، وفي رواية : والبركة وقد أمرني - {[62963]}أو أمر لي{[62964]} - بصدقتكم ، وفي رواية : فادفعوها إليّ ، فدفعوها إليّ ) . وأعله عبد الحق بالانقطاع ، وأن سليمان لم يدرك سلمة ، حكى ذلك الترمذي عن البخاري ، وقال الترمذي : إن سلمة بن صخر يقال له سلمان أيضاً ، ورواه الإمام أحمد أيضاً{[62965]} من طريق أخرى{[62966]} قال " حدثنا عبد الله بن إدريس - هو الأودي - عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن{[62967]} سلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه قال : كنت أمرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري ، فلما دخل شهر رمضان خفت فتظاهرت من امرأتي في الشهر فبينا{[62968]} هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فلم ألبث{[62969]} أن وقعت عليها ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال " حرر رقبة ، فقلت : والذي بعثك بالحق ، ما أملك غير رقبتي ، قال : صم شهرين متتابعين ، قلت : وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام ؟ قال : فأطعم ستين مسكيناً " وهذا سند حسن متصل إن شاء الله إن سلم من تدليس ابن إسحاق ، ، وروى الحاكم و{[62970]}البيهقي{[62971]} من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وأبي سلمة بن عبد الرحمن
" أن سلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه جعل امرأته عليه كظهر أمه إن غشيها حتى يمضي رمضان ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اعتق رقبة " {[62972]} وقصة سلمة هذه أصل الظهار المؤقت ، وقد دلت على أنه لا عود فيه فلا كفارة عليه إلا{[62973]} بوطئها في مدة الظهار ، " وروى أبو داود{[62974]} عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة رضي الله عنها قالت : " ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت رضي الله عنه فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكوا إليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلني فيه ويقول{[62975]} :اتقي{[62976]} الله فإنه ابن عمك ، فما برحت حتى نزل القرآن{[62977]} { قد سمع الله } إلى الفرض ، فقال : يعتق رقبة ، قالت : لا يجد ، قال : يصوم شهرين متتابعين ، قالت : يا رسول الله ، إنه شيخ كبير ما به من صيام ، قال فليطعم ستين مسكيناً ، قالت : ما عنده من شيء يتصدق به قالت{[62978]} : فأتي ساعتئذ بعرق {[62979]}من{[62980]} تمر ، قلت : يا رسول الله ، فإني أعينه بعرق آخر ، قال : قد أحسنت أذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكيناً ، وارجعي إلى ابن عمك " قال : والعرق ستون صاعاً ، وفي رواية : والعرق مكتل{[62981]} يسع ثلاثين صاعاً ، " وروى الدارقطني{[62982]} أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " إن أوس بن الصامت رضي الله عنه ظاهر من امرأته خويلة بنت ثعلبة رضي الله عنها فشكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ظاهر مني حين{[62983]} كبر سني ورق عظمي ، فأنزل الله آية الظهار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأوس اعتق رقبة ، قال : مالي بذلك يدان ، قال : فصم{[62984]} شهرين متتابعين ، قال : أما إني إذا أخطأني أن آكل في اليوم مرتين يكل بصري{[62985]} ، قال فأطعم ستين مسكيناً " ، قال : ما أجد إلا أن{[62986]} تعينني{[62987]} منك بعون{[62988]} وصلة ، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعاً{[62989]} حتى جمع{[62990]} الله له ، والله{[62991]} رحيم " قال : وكانوا يرون أن عنده مثلها ، و{[62992]}ذلك لستين{[62993]} مسكيناً ، وللدراقطني{[62994]} أيضاً{[62995]} والبيهقي{[62996]} " أن خولة{[62997]} بنت ثعلبة رضي الله عنها رآها زوجها وهو أوس بن الصامت أخو عبادة{[62998]} رضي الله عنهما وهي تصلي فراودها فأبت فغضب ، وكان به{[62999]} لمم وخفة فظاهر منها ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب فيَّ ، فلما خلا سني ونثرت له بطني جعلني عليه كأمه " وللطبراني{[63000]} من طريق أبي معشر عن{[63001]} محمد بن كعب القرظي قال{[63002]} : " كانت خولة بنت ثعلبة تحت أوس بن الصامت وكان به لمم ، فقال في بعض هجراته : أنت عليّ كظهر أمي ، قال : ما أظنك إلا قد حرمت عليّ ، {[63003]}فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أوس بن الصامت أبو ولديَّ وأحب الناس إليّ والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقاً ، قال : ما أراك إلا قد حرمت عليه ، فقالت : يا رسول الله لا تقل كذلك والله ما ذكر طلاقاً ، فرادّت النبي صلى الله عليه وسلم مراراً ، ثم قالت : اللهم إني أشكو إليك فاقتي ووحدتي وما يشق عليّ من فراقه " الحديث ، ومن طريق أبي العالية قال : فجعل كلما قال لها " حرمت عليه " هتفت وقالت : أشكو إلى الله ، فلم ترم مكانها حتى نزلت الآية ، وروى أبو داود{[63004]} عن هشام بن عروة أن جميلة كانت تحت أوس ابن الصامت وكان رجلاً{[63005]} به لمم فكان إذا اشتد به لممه ظاهر من امرأته فأنزل الله عز وجل فيه كفارة الظهار ، وأخرجه من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها مثله . و{[63006]}قال القشيري : وفي الخبر أنها قالت : يا سول الله إن أوساً تزوجني شابة غنية ذات أهل ومال كثير ، فلما كبر عنده سني ، وذهب مالي وتفرق أهلي ، جعلني عليه كظهر أمه ، وقد ندم وندمت ، وإن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا ، يعني ففرج الله عنها ، وقد{[63007]} حصل من هذا مسألة ، وهو أن كثيراً من الأشياء ظاهر العلم يحكم فيه بشيء ثم الضرورة تغير ذلك الحكم لصاحبها ، قال البغوي{[63008]} : و{[63009]}كان هذا{[63010]} أول ظهار{[63011]} في الإسلام ، وقال أبو حيان{[63012]} : وكان عمر رضي الله عنه يكرم خولة رضي الله عنها إذا دخلت عليه ويقول{[63013]} : سمع الله لها ، فالمظاهرة في حديث سلمة رضي الله عنه موقتة ، وفي حديث خولة رضي الله عنها مطلقة ، وهي في قصة سلمة رضي الله عنه ومن نحا نحوه رهبانية مبتدعة لم ترع حق رعايتها كرهبانية النصارى ، ولم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداعها حق الاتباع{[63014]} ، وأما في قصة خولة رضي الله عنها فهي مصيبة كان ينبغي فيها التسليم وعدم الحزم كما في آية{ لكيلا تأسوا }[ الحديد : 23 ] الآية على أن امتناعها من زوجها حين راودها فيه إلمام بالرهبانية{[63015]} ، وإزالة شكايتها مع أنها امرأة ضعيفة من عظيم الفضل ، وزاده عظماً جعله حكماً{[63016]} عاماً لمن وقع فيه من جميع الأمة .