في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

أولئك المهتدون بالكتاب وآياته ، المحسنون ، المقيمون للصلاة ، المؤتون للزكاة ، الموقنون بالآخرة ، المفلحون في الدنيا والآخرة . . أولئك فريق . . وفي مقابلهم فريق :

( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا . أولئك لهم عذاب مهين . وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها ، كأن في أذنيه وقرا . فبشره بعذاب أليم ) . .

ولهو الحديث كل كلام يلهي القلب ويأكل الوقت ، ولا يثمر خيرا ولا يؤتي حصيلة تليق بوظيفة الإنسان المستخلف في هذه ا لأرض لعمارتها بالخير والعدل والصلاح . هذه الوظيفة التي يقرر الإسلام طبيعتها وحدودها ووسائلها ، ويرسم لها الطريق . والنص عام لتصوير نموذج من الناس موجود في كل زمان وفي كل مكان . وبعض الروايات تشير إلى أنه كان تصويرا لحادث معين في الجماعة الإسلامية الأولى . وقد كان النضر بن الحارث يشتري الكتب المحتوية لأساطير الفرس وقصص أبطالهم وحروبهم ؛ ثم يجلس في طريق الذاهبين لسماع القرآن من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] محاولا أن يجذبهم إلى سماع تلك الأساطير والاستغناء بها عن قصص القرآن الكريم . ولكن النص أعم من هذا الحادث الخاص إذا صح أنه وارد فيه . وهو يصور فريقا من الناس واضح السمات ، قائما في كل حين . وقد كان قائما على عهد الدعوة الأولى في الوسط المكي الذي نزلت فيه هذه الآيات .

( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ) . . يشتريه بماله ويشتريه بوقته ، ويشتريه بحياته . يبذل تلك الأثمان الغالية في لهو رخيص ، يفني فيه عمره المحدود ، الذي لا يعاد ولا يعود ، يشتري هذا اللهو ( ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا ) فهو جاهل محجوب ، لا يتصرف عن علم ، ولا يرمي عن حكمة وهوسيىء النية والغاية ، يريد ليضل عن سبيل الله . يضل نفسه ويضل غيره بهذا اللهو الذي ينفق فيه الحياة . وهو سيىء الأدب يتخذ سبيل الله هزوا ، ويسخر من المنهج الذي رسمه الله للحياة وللناس . ومن ثم يعالج القرآن هذا الفريق بالمهانة والتهديد قبل أن يكمل رسم الصورة : ( أولئك لهم عذاب مهين ) . . ووصف العذاب بأنه مهين مقصود هنا للرد على سوء الأدب والاستهزاء بمنهج الله وسبيله القويم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

{ 6 - 9 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

أي : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ } هو محروم مخذول { يَشْتَرِي } أي : يختار ويرغب رغبة من يبذل الثمن في الشيء . { لَهْوَ الْحَدِيثِ } أي : الأحاديث الملهية للقلوب ، الصادَّة لها عن أجلِّ مطلوب . فدخل في هذا كل كلام محرم ، وكل لغو ، وباطل ، وهذيان من الأقوال المرغبة في الكفر ، والفسوق ، والعصيان ، ومن أقوال الرادين على الحق ، المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق ، ومن غيبة ، ونميمة ، وكذب ، وشتم ، وسب ، ومن غناء ومزامير شيطان ، ومن الماجريات الملهية ، التي لا نفع فيها في دين ولا دنيا .

فهذا الصنف من الناس ، يشتري لهو الحديث ، عن هدي الحديث { لِيُضِلَّ } الناس { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : بعدما ضل بفعله ، أضل غيره ، لأن الإضلال ، ناشئ عن الضلال .

وإضلاله في هذا الحديث ؛ صده عن الحديث النافع ، والعمل النافع ، والحق المبين ، والصراط المستقيم .

ولا يتم له هذا ، حتى يقدح في الهدى والحق ، ويتخذ آيات اللّه هزوا ويسخر بها ، وبمن جاء بها ، فإذا جمع بين مدح الباطل والترغيب فيه ، والقدح في الحق ، والاستهزاء به وبأهله ، أضل من لا علم عنده وخدعه بما يوحيه إليه ، من القول الذي لا يميزه ذلك الضال ، ولا يعرف حقيقته .

{ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } بما ضلوا وأضلوا ، واستهزءوا [ بآيات اللّه ]{[1]}  وكذبوا الحق الواضح .


[1]:- هذا التنبيه جعله الشيخ -رحمه الله- على غلاف المجلد الأول فصدرت به التفسير كما فعل -رحمه الله-.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

ولما كان فطم النفس عن الشهوات . أعظم هدى قائد{[53629]} إلى حصول المرادات ، وكان اتباعها{[53630]} الشهوات أعظم قاطع عن الكمالات ، وكان في ختام الروم أن{[53631]} من وقف مع الموهومات عن طلب المعلومات مطبوع على قلبه ، وكان ما دعا إليه الكتاب هو{[53632]} الحكمة التي نتيجتها الفوز ، وما دعا إليه اللهو هو السفه المضاد للحكمة ، بوضع الأشياء في غير مواضعها ، المثمر للعطب{[53633]} ، قال تعالى معجباً ممن يترك الجد إلى اللهو ، ويعدل

عن{[53634]} جوهر العلم إلى صدق{[53635]} السهو ، عاطفاً على ما تقديره : فمن الناس من يتحلى بهذا الحال فيرقى إلى حلبة{[53636]} أهل الكمال : { ومن } ويمكن أن يكون حالاً من فاعل الإشارة . أي أشير إلى آيات الكتاب الحكيم حال كونه هدى لمن ذكر والحال أن من { الناس } أي الذين هم في أدنى رتبة{[53637]} الإحساس ، لم يصلوا إلى رتبة أهل الإيمان ، فضلاً عن مقام أولي الإحسان .

ولما كان التقدير : من يسير بغير هذا السير ، فيقطع{[53638]} نفسه عن كل خير ، عبر عنه بقوله : { من يشتري } أي{[53639]} غير مهتد{[53640]} بالكتاب ولا مرحوم{[53641]} به { لهو الحديث } أي ما يلهي من الأشياء المتجددة التي تستلذ فيقطع بها{[53642]} الزمان من الغناء والمضحكات وكل شيء لا اعتبار فيه ، فيوصل النفس بما أوصلها إليه من اللذة إلى مجرد الطبع البهيمي فيدعوها إلى العبث{[53643]} من اللعب كالرقص{[53644]} ونحوه مجتهداً{[53645]} في ذلك معملاً الحيل في تحصيله باشتراء سببه ، معرضاً عن اقتناص العلوم وتهذيب النفس بها{[53646]} عن الهموم{[53647]} والغموم ، فينزل إلى أسفل سافلين {[53648]}كما علا الذي{[53649]} قبله بالحكمة إلى أعلى عليين - قال{[53650]} ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في رجل اشترى جارية تغنيه ليلاً ونهاراً ، وقال مجاهد{[53651]} : في شرى القيان والمغنين والمغنيات ، وقال{[53652]} ابن مسعود : اللهو الغناء ، وكذا قال ابن عباس وغيره .

ولما كان من المعلوم أن عاقبة هذه الملاهي الضلال ، بانهماك النفس في ذلك ، لما طبعت عليه من الشهوة لمطلق البطالة ، فكيف مع ما يثير ذلك ويدعو إليه من اللذاذة ، فتصير أسيرة{[53653]} الغفلة عن الذكر ، وقبيلة الإعراض عن الفكر ، وكان المخاطب بهذا الكتاب قوماً{[53654]} يدعون العقول الفائقة ، والأذهان الصافية{[53655]} الرائقة قال تعالى : { ليضل } من الضلال والإضلال على القراءتين{[53656]} ، ضد{[53657]} ما كان عليه المحسنون من الهدى { عن سبيل الله } أي الطريق {[53658]}الواضح الواسع{[53659]} الموصل إلى رضى الملك الأعلى المستجمع لصفات{[53660]} الكمال والجلال والجمال التي هم مقرّون بكثير منها ، منبهاً لهم{[53661]} على أن هذا مضل عن السبيل ولا بد ، وأن ذلك بحيث لا يخفى عليهم ، فإن كان {[53662]}مقصوداً لهم{[53663]} فهو ما لا يقصده من له عداد البشر ، وإلا كانوا من الغفلة وسوء النظر وعمى البصيرة بمنزلة هي دون ذلك بمراحل .

ولما كان المراد : من قصد الضلال عن الشيء ، ترك ذلك الشيء ، وكان العاقل لا يقدم على ترك شيء إلا {[53664]}وهو عالم{[53665]} بأنه لا خير فيه قال : { بغير علم } ونكره ليفيد السلب العام لكل نوع من أنواع العلم ، أي لأنهم لا علم لهم بشيء من حال السبيل ولا حال غيرها ، علماً يستحق إطلاق العلم عليه بكونه يفيد ربحاً أو يبقى على رأس مال من دين أو دنيا ، فإن هذا حال{[53666]} من استبدل الباطل بالحق والضلال بالهدى .

ولما كان المستهزئ بالشيء المحتقر له لا يتمكن{[53667]} من ذلك إلا بعد الخبرة التامة بحال ذلك الشيء وأنه لا يصلح لصالحه{[53668]} ولا يروج له حال بحال قال{[53669]} معجباً تعجيباً آخر أشد من الأول بالنصب عطفاً{[53670]} على " يضل " في قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ، وبالرفع للباقين عطفاً على { يشتري } : { ويتخذها } أي يكلف نفسه ضد ما تدعوه إليه فطرته الأولى{[53671]} أن يأخذ السبيل التي لا أشرف منها مع ما ثبت له من الجهل الطلق { هزواً } .

ولما أنتج له{[53672]} هذا الفعل الشقاء الدائم . بينه بقوله ، جامعاً حملاً{[53673]} على معنى " من " بعد أن{[53674]} أفرد حملاً على لفظها ، لأن الجمع في مقام الجزاء أهول ، والتعجيب من الواحد أبلغ{[53675]} { أولئك } أي{[53676]} الأغبياء البعيدون عن{[53677]} رتبة الإنسان ، وتهكم{[53678]} بهم التعبير باللام الموضوعة لما يلائم{[53679]} فقال : { لهم عذاب مهين * } أي يثبت لهم الخزي الدائم ضد ما كان للمحسنين{[53680]} من الرحمة .


[53629]:من م ومد، وفي الأصل وظ: قايدا.
[53630]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: اتباع.
[53631]:سقط من ظ ومد.
[53632]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: فهو.
[53633]:في ظ ومد: للعطف.
[53634]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: من.
[53635]:في ظ: صدق.
[53636]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: حلية.
[53637]:في ظ ومد: رتب.
[53638]:زيد في الأصل: به، ولم تكن الزيادة في ظ وم ومد فحذفناها.
[53639]:زيد من ظ ومد.
[53640]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مستحل.
[53641]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مرحوا.
[53642]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: به.
[53643]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: العتب.
[53644]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: كالرقعة.
[53645]:في ظ: مجتهلا.
[53646]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بما.
[53647]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: المهموم.
[53648]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: كا علاء الدين.
[53649]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: كا علاء الدين.
[53650]:راجع الدر المنثور 5/159.
[53651]:راجع الدر المنثور 5/159.
[53652]:راجع الدر المنثور 5/159.
[53653]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أسير.
[53654]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: قوم.
[53655]:سقط من ظ.
[53656]:راجع نثر المرجان 5/321.
[53657]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: عند.
[53658]:في ظ ومد: الواسع الواضح.
[53659]:في ظ ومد: الواسع الواضح.
[53660]:زيد من ظ وم ومد.
[53661]:سقط من ظ.
[53662]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مقصود.
[53663]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مقصود.
[53664]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: يعلم.
[53665]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: يعلم.
[53666]:في ظ ومد: شأن.
[53667]:في ظ: لا يمكن.
[53668]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بصالحة.
[53669]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: فقال.
[53670]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: عاطفا.
[53671]:زيد من ظ وم ومد.
[53672]:سقط من ظ.
[53673]:في ظ: حمل.
[53674]:في ظ ومد: ما.
[53675]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: أهول.
[53676]:سقط من ظ.
[53677]:في ظ: من.
[53678]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: تهكمكم.
[53679]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لا يلائم.
[53680]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: للمحسن.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } .

ثمة قولان في سبب نزول هذه الآية . أحدهما : أنها نزلت في النضر بن الحارث وذلك أنه كان يخرج تاجرا إلى فارس ، فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها ، ويحدث بها قريشا ويقول لهم : إن محمدا عليه الصلاة والسلام يحدثكم بحديث عاد وثمود ، وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة ، فيستملحون حديثه ، ويتركون استماع القرآن . فنزلت فيه هذه الآية .

القول الثاني : إنها نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية فشُغل الناس بلهوها عن استماع النبي صلى الله عليه وسلم{[3633]} .

أما المراد بلهو الحديث وشرائه فهو موضع تفصيل نعرض له في هذا البيان فنقول : لهو الحديث يشمل بعمومه كل ما يلهي عن طاعة الله وفعل الخيرات والقربات . وذلك كالغناء والملاهي والأحاديث المفتراة والمصطنعة التي تنشغل بها القلوب والأذهان عن دين الله وطاعته .

وقيل : المراد بلهو الحديث ، الكفر والشرك . وهو قول الحسن البصري ، وروي عنه قول : إنه الغناء والمعازف .

وقيل : المراد من يشتري ذا لهو ، أو ذات لهو . فيكون التقدير : من يشتري أهل لهو الحديث وهم المغنّون والمغنيات والقينات . كقوله تعالى : { واسأل القرية } يعني واسأل أهل القرية .

وقيل : المراد به الغناء . وقد قال بذلك أكثر السلف من الصحابة والتابعين وقد حلف على ذلك عبد الله بن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أنه الغناء . وكان يقول : الغناء ينبت النفاق في القلب . وعن ابن عمر أنه الغناء . وقال الإمام الطبري : أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه . ويؤيد هذا القول ما ورد في ذلك من أخبار . منها ما رواه الترمذي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما : صوت مزمار ، ورنة شيطان عند نغمة ومرح ، ورنة عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب " .

وروى الترمذي أيضا من حديث علي ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء " فذكر منها : " إذا اتخذت القينات والمعازف " وفيما رواه أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من جلس إلى قينة يسمع منها صُبَّ في أذنه الآنُك{[3634]} يوم القيامة " .

على أن الغناء المنهي عنه هو المعتاد عند المشتهرين به ، والذي يحرك النفوس فيستميلها للذة والطرب ، ويجنح بها للهوى والغزل والمجون بعد سكون الشهوة ورقادها . إلى غير ذلك من الشعر الذي يُشَبَّب فيه بالنساء ووصف محاسنهن والافتتان بهن ووصف الخمور والمحرمات ، فإن ذلك حرام قطعا . أما ما كان من غناء يخلو من ذلك فيجوز منه القليل في بعض الأحوال والظروف كالأعراس والأعياد حيث السرور والبهجة تغمر قلوب الناس في مثل هذه المناسبات . وكذلك عند التنشيط على الأعمال الشاقة مما يروح النفس ترويحا ويكفكف عنها غبار الكد والنصَب .

وذلك كما كان في حفر الخندق وحدو أنجشه ، وهو أسود كان يسوق الإبل بنساء النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع وكان حسن الحداء ، وكانت الإبل تزيد في الحركة بحدائه . وفي ذلك روى الديلمي عن أنس مرفوعا : " روحوا القلوب ساعة فساعة " .

أما ما ابتدعته الصوفية من سماع المغاني وقد اختلطت بالمعازف وآلات الطرب كالشبابات والمزامير والأوتار فذلكم حرام .

أما الضرب على الدف لإظهار النكاح فمباح . وقال القرطبي في هذا الصدد : إن الطبل في النكاح كالدف ، وكذلك الآلات المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه بما يحسن من الكلام ولم يكن فيه رفث .

أما الاشتغال بالغناء على الدوام فهو سفه . تُرد به الشهادة وقد ذهب الإمام مالك إلى أن الغناء حرام . ولما سئل عن ذلك قال : إنما يفعله عندنا الفساق . وذهبت الحنيفية والشافعية ، وكذا الحنبلية في رواية لهم إلى أن الغناء مكروه ، وأن سماعه من الذنوب ، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته .

والذي نميل إليه أن الآية تتناول بعمومها سائر الأقوال والأحاديث التي تلهي عن طاعة الله والتي تشغل البال والقلب عن الخشوع والورع والتذكر ، وسماع المواعظ ودروس العلم . سواء في ذلك الغناء أو قص الأساطير الموهومة بقصد الإلهاء عن سماع الإسلام بأفكاره ومعانيه ، وكذلك اللغو من الكلام الذي يلهي الناس عن سماع القرآن ويضلهم عن الحق ليتيهوا في الباطل . وهو قوله : { ليضل عن سبيل الله } المضل يراد به صاحب اللهو على اختلاف وجوهه فهو بتلهيته يضل الناس عن دين الله فيحول بينهم وبين سماع القرآن والاتعاظ بكلماته وإيقاعاته المؤثرة . أو يلهيهم عن الاستفادة من علوم الإسلام ؛ إذ لا يستبقي لهم من الفراغ أو الوقت ما يقرأون فيه أو يسمعون القرآن وروائع الإسلام ، فضلا عن تلهيتهم عن أداء الواجبات والطاعات المفروضة والمندوبة .

وهذا هو دأب الحكام والساسة الذين يقودون المسلمين في عصرهم الراهن ؛ إذ يسوسونهم بغير شريعة الإسلام ؛ يسوسونهم بشرائع الكفر وملل الضلال والباطل مما ابتدعوه من نظم الحضارة المادية الظالمة . أولئك يصطنعون كل أسباب التلهية من مختلف وجوه اللهو الفارغ الذي تُسخّر لنشره وإشاعته كل الوسائل والأسباب وبخاصة وسائل الإعلام المختلفة ؛ وذلك من أجل أن تلتهي الأمة عن الاهتمام بدينها وقيمها ومقوماتها الثقافية والمعنوية والسلوكية ؛ وكيما تغض الطرف عن تعاليم الإسلام ولا تعبأ بسماع القرآن ، فضلا عما يبتغيه الساسة الظالمون من إفساد النفس لدى الأفراد وتشويه العقول والتصورات فتزهد في الإقبال على الإسلام كل الزهد أو تنفر منه نفورا .

قوله : { وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا } الضمير في { وَيَتَّخِذَهَا } عائد إلى { سبيل الله } والمراد بسبيل الله منهج الحق وصراط الله المستقيم ودينه الحنيف القويم . والمعنى : أن المضل عن سبيل الله بلهوه وضلاله إنما يسخر من دين الله وشرعه ، ويهزأ بالإسلام وما فيه من أحكام وقيم وتصورات . وذلك هو دأب الغاوين الذين يغوون الناس بفسقهم وفجورهم ويضلونهم عن دين الله بما ابتدعوه واصطنعوه من فتن الملاهي والمعازف والغناء الفاجر المستهجن .

قوله : { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } هؤلاء المضلون الفسّاق الذين يلهون الناس عن دينهم ويضلونهم عن فعل الطاعات والواجبات بما ابتدعوه من لهو فاسد ماجن –صائرون إلى عذاب الخزي والهوان في النار{[3635]} .


[3633]:أسباب النزول للنيسابوري ص 232، أحكام القرآن لابن جزء 3 ص 1482
[3634]:الآنك: الرصاص الخالص. انظر المصباح المنير ج 1 ص 31.
[3635]:1 تفسير القرطبي جزء 14 ص 51-56 تفسير تبن كثير جزء 3 ص 442 وفتح القدير جزء 3 ص 234، وتفسير الطبري ج 21 ص 40-41، وتفسير الرازي ج 25 ص 142.