( وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ) . .
فأمام مثل هذا الخطر ، والموج يغشاهم كالظلل والفلك كالريشة الحائرة في الخضم الهائل . . تتعرى النفوس من القوة الخادعة ، وتتجرد من القدرة الموهومة ، التي تحجب عنها في ساعات الرضاء حقيقة فطرتها ، وتقطع ما بين هذه الفطرة وخالقها . حتى إذا سقطت هذه الحوائل ، وتعرت الفطرة من كل ستار ، استقامت إلى ربها ، واتجهت إلى بارئها ، وأخلصت له الدين ، ونفت كل شريك ، ونبذت كل دخيل . ودعوا الله مخلصين له الدين .
( فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد ) . .
لا يجرفه الأمن والرخاء إلى النسيان والاستهتار إنما يظل ذاكرا شاكرا ، وإن لم يوف حق الله في الذكر والشكر فأقصى ما يبلغه ذاكر شاكر أن يكون مقتصدا في الأداء .
ومنهم من يجحد وينكر آيات الله بمجرد زوال الخطر وعودة الرخاء : ( وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ) . . والختار الشديد الغدر ، والكفور الشديد الكفر ؛ وهذه المبالغة الوصفية تليق هنا بمن يجحد آيات الله بعد هذه المشاهد الكونية ، ومنطق الفطرة الخالص الواضح المبين .
وذكر تعالى حال الناس ، عند ركوبهم البحر ، وغشيان الأمواج كالظل{[675]} فوقهم ، أنهم يخلصون الدعاء [ للّه ]{[676]} والعبادة : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ } انقسموا فريقين :
فرقة مقتصدة ، أي : لم تقم بشكر اللّه على وجه الكمال ، بل هم مذنبون ظالمون لأنفسهم .
وفرقة كافرة بنعمة اللّه ، جاحدة لها ، ولهذا قال : { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ }{[677]} أي غدار ، ومن غدره ، أنه عاهد ربه ، لئن أنجيتنا من البحر وشدته ، لنكونن من الشاكرين ، فغدر ولم يف بذلك ، { كَفُور } بنعم اللّه . فهل يليق بمن نجاهم اللّه من هذه الشدة ، إلا القيام التام بشكر نعم اللّه ؟
قوله تعالى : " وإذا غشيهم موج كالظلل " قال مقاتل : كالجبال . وقال الكلبي : كالسحاب . وقاله قتادة جمع ظلة ، شبه الموج بها لكبرها وارتفاعها . قال النابغة في وصف بحر :
يماشيهن أخضر ذو ظلال *** على حافاته فِلَقُ الدِّنان
وإنما شبه الموج وهو واحد بالظل وهو جمع ؛ لأن الموج يأتي شيئا بعد شيء ويركب بعضه بعضا كالظلل . وقيل : هو بمعنى الجمع ، وإنما لم يجمع لأنه مصدر . وأصله من الحركة والازدحام ، ومنه : ماج البحر ، والناس يموجون . قال كعب :
فجئنا إلى موج من البحر وسطه *** أحابيش منهم حاسر ومقنع
وقرأ محمد ابن الحنفية : " موج كالظلال " جمع ظل . " دعوا الله مخلصين له الدين " موحدين له لا يدعون لخلاصهم سواه ، وقد تقدم{[12625]} . " فلما نجاهم " يعني من البحر . " إلى البر فمنهم مقتصد " قال ابن عباس : موف بما عاهد عليه الله في البحر . النقاش : يعني عدل في العهد ، وفي في البر بما عاهد عليه الله في البحر . وقال الحسن : " مقتصد " مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة . وقال مجاهد : " مقتصد " في القول مضمر للكفر . وقيل : في الكلام حذف . والمعنى : فمنهم مقتصد ومنهم كافر . ودل على المحذوف قوله تعالى : " وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور " الختار : الغدار . والختر : أسوأ الغدر . قال عمرو بن معد يكرب :
فإنك لو رأيت أبا عمير *** ملأت يديك من غدْر وخَتْر
بالأبلَقِ الفَرْدِ من تيماء منزلُه *** حصنٌ حصين وجارٌ غير خَتَّار
قال الجوهري : الختر الغدر . يقال : ختره فهو ختار . الماوردي : وهو قول الجمهور . وقال عطية : إنه الجاحد . ويقال : ختر يختِر ويختُر ( بالضم والكسر ) خترا . ذكره القشيري . وجحد الآيات إنكار أعيانها . والجحد بالآيات إنكار دلائلها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.