سورة المجادلة مدنية وآيتها ثنتان وعشرون
نحن في هذه السورة - وفي هذا الجزء كله تقريبا - مع أحداث السيرة في المجتمع المدني . مع الجماعة المسلمة الناشئة ؛ حيث تربى وتقوم ، وتعد للنهوض بدورها العالمي ، بل بدورها الكوني ، الذي قدره الله لها في دورة هذا الكون ومقدراته . وهو دور ضخم يبدأ من إنشاء تصور جديد كامل شامل لهذه الحياة ، في نفوس هذه الجماعة ، وإقامة حياة واقعية على أساس هذا التصور ، ثم تحمله هذه الجماعة إلى العالم كله لتنشئ للبشرية حياة إنسانية قائمة على أساس هذا التصور كذلك . . وهو دور ضخم إذن يقتضي إعدادا كاملا .
ولقد كان أولئك المسلمون الذين يعدهم القدر لهذا الدور الضخم ، ناسا من الناس . منهم السابقون من المهاجرين والأنصار الذين نضج إيمانهم ، واكتمل تصورهم للعقيدة الجديدة ، وخلصت نفوسهم لها ، ووصلوا . . وصلوا إلى حقيقة وجودهم وحقيقة هذا الوجود الكبير ؛ واندمجت حقيقتهم مع حقيقة الوجود ، فأصبحوا بهذا طرفا من قدر الله في الكون ؛ لا يجدون في أنفسهم عوجا عنه ، ولا يجدون في خطاهم تخلفا عن خطاه ، ولا يجدون في قلوبهم شيئا إلا الله . . كانوا كما جاء عنهم في هذه السورة : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم . أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ، وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . رضي الله عنهم ورضوا عنه . أولئك حزب الله . ألا إن حزب الله هم المفلحون ) . .
ولكن هؤلاء السابقين كانوا قلة بالقياس إلى الجماعة المسلمة المتزايدة العدد - وبخاصة بعد أن أصبح الإسلام قوة ترهب - حتى قبل الفتح - ودخل فيه من لم يتلق من التربية الإسلامية القسط الكافي ، ولم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة . كما دخل فيه من المنافقين من آثر المصلحة أو العافية على دخل في القلوب ، وتربص بالفرص ، وذبذبة بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات القوية المناوئة له في ذلك الحين . سواء معسكرات المشركين أو اليهود ! ولقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكوني الكبير المقدر لها في الأرض جهودا ضخمة ، وصبرا طويلا ، وعلاجا بطيئا ، في صغار الأمور وفي كبارها . . كانت حركة بناء هائلة هذه التي قام بها الإسلام ، وقام بها رسول الإسلام [ صلى الله عليه وسلم ] بناء النفوس التي تنهض ببناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية ، وتقوم على منهج الله ، تفهمه وتحققه ، وتنقله إلى أطراف الأرض في صورة حية متحركة ، لا في صحائف وكلمات .
ونحن نشهد في هذه السورة - وفي هذا الجزء كله - طرفا من تلك الجهود الضخمة ، وطرفا من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس ، وفي علاج الأحداث والعادات والنزوات ؛ كما نشهد جانبا من الصراع الطويل بين الإسلام وخصومه المختلفين من مشركين ويهود ومنافقين .
وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة ؛ وهو يصنعها على عينه ، ويربيها بمنهجه ، ويشعرها برعايته ، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده - سبحانه - معها في أخص خصائصها ، وأصغر شؤونها ، وأخفى طواياها ؛ وحراسته لها من كيد أعدائها خفيه وظاهره ؛ وأخذها في حماه وكنفه ، وضمها إلى لوائه وظله ؛ وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله ، وتنتسب إليه ، وتؤلف حزبه في الأرض ، وترفع لواءه لتعرف به في الأرض جميعا .
ومن ثم تبدأ السورة بصورة عجيبة من صور هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية . فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة ، ومشاركتها في الحياة اليومية لجماعة من الناس مشاركة ظاهرة : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) . . فنشهد السماءتتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة ، لتقرر حكم الله في قضيتها ، وقد سمع - سبحانه - للمرأة وهي تحاور رسول الله فيها ، ولم تكد تسمعها عائشة وهي قريبة منها ! وهي صورة تملأ القلب بوجود الله وقربه وعطفه ورعايته .
يليها في سياق السورة توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله - وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف الله - مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض ، والعذاب المهين في الآخرة ، مأخوذون بما عملوا مما أحصاه الله عليهم ، ونسوه هم وهم فاعلوه ! ( والله على كل شيء شهيد ) . .
ثم توكيد وتذكير بحضور الله - سبحانه - وشهوده لكل نجوى في خلوة ، يحسب أصحابها أنهم منفردون بها . والله معهم أينما كانوا : ( ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، إن الله بكل شيء عليم ) . . وهي صورة تملأ القلب كذلك بوجود الله وحضوره ، كما تملؤه برقابته واطلاعه .
وهذا التوكيد مقدمة لتهديد الذين يتناجون في خلواتهم لتدبير المكايد للمسلمين ، وملء قلوبهم بالحزن والهم والتوجس . تهديد بأن أمرهم مكشوف ، وأن عين الله مطلعة عليهم ، ونجواهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول مسجلة ، وأن الله آخذهم بها ومعذبهم عليها . ونهي للمسلمين عن التناجي بغير البر والتقوى ، وتربية نفوسهم وتقويمها بهذا الخصوص .
ثم يستطرد في تربية هذه النفوس المؤمنة ؛ فيأخذها بأدب السماحة وبالطاعة في مجلس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومجالس العلم والذكر . كما يأخذها بأدب السؤال والحديث مع الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والجد في هذا الأمر والتوقير .
أما بقية السورة بعد هذا فتنصرف إلى الحديث عن المنافقين الذين يتولون اليهود ؛ ويتآمرون معهم ، ويدارون تآمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين . وتصورهم في الآخرة كذلك حلافين كذابين ؛ يتقون بالحلف والكذب ما يواجههم من عذاب الله ، كما كانوا يتقون بهما في الدنيا ما يواجههم من غضب رسول الله والمؤمنين ! مع توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله كتب الله عليهم أنهم في الأذلين وأنهم هم الأخسرون . كما كتب أنه ورسله هم الغالبون . وذلك تهوينا لشأنهم ، الذي كان بعض المنتسبين إلى الإسلام - وبعض المسلمين - يستعظمه ، فيحافظ على مودته معهم ، ولا يدرك ضرورة تميز الصف المسلم تحت راية الله وحدها ، والاعتزاز برعاية الله وحده ، والاطمئنان إلى حراسته الساهرة للفئة التي يصنعها على عينه ، ويهيئها لدورها الكوني المرسوم .
وفي ختام السورة تجيء تلك الصورة الوضيئة لحزب الله . هذه الصورة التي كان يمثلها بالفعل أولئك السابقون من المهاجرين والأنصار . والتي كانت الآية الكريمة تشير لها كي ينتهي إليها أولئك الذين ما زالوا بعد في الطريق !
( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله . . )الخ الآية . . . كما وردت في أول هذا التقديم .
( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما ، إن الله سميع بصير ) . . وهو مطلع ذو إيقاع عجيب . . إنكما لم تكونا وحدكما . . لقد كان الله معكما . وكان يسمع لكما . لقد سمع قول المرأة . سمعها تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله . وعلم القصة كلها . وهو يعلم تحاوركما وما كان فيه . . إن الله سميع بصير . يسمع ويرى . هذا شأنه وهذه صورة منه في الحادث الذي كان الله ثالثكما فيه . .
( سورة المجادلة مدنية ، وآياتها 22 آية ، نزلت بعد سورة المنافقون )
سورة المجادلة حافلة بآداب التربية وتهذيب السلوك ، وتحذير المسلمين من مكايد المنافقين .
لقد نزلت هذه السورة بعد سورة المنافقون ، وكانت الجماعة الإسلامية في المدينة لا تزال في طور الإعداد والتكوين ، وكان المسلمون يتألفون من المهاجرين والأنصار ، وقد انضم إليهم من لم يتلق من التربية الإسلامية القدر الكافي ، ومن لم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة ، كما دخل في الإسلام جماعة من المنافقين ، حرصوا على الاستفادة المادية وأخذوا يتربصون بالمسلمين الدوائر ، ويعرضون ولاءهم على المعسكرات المناوئة للمسلمين ، وهي معسكرات المشركين واليهود .
وقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكبير المقدر لها في الأرض جهودا ضخمة وصبرا طويلا ، وعلاجا بطيئا في صغار الأمور وكبارها .
ونحن نشهد في هذه السورة – وفي هذا الجزء كله – طرفا من تلك الجهود الضخمة ، وطرفا من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس ، وفي علاج الأحداث والعادات والنزوات ، كما نشهد جانبا من الصراع الطويل بين الإسلام وخصومه المختلفين من مشركين ويهود ومنافقين .
" ونشهد في سورة المجادلة بصفة خاصة صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة ، وهو يصنعها على عينه ، ويربيها بمنهجه ، ويشعرها برعايته ، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده سبحانه معها في أخص خصائصها ، وأصغر شئونها ، وأخفى طواياها ، وحراسته لها من كيد أعدائها خفيه وظاهره ، وأخذها في حماه وكنفه ، وضمها إلى لوائه وظله ، وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله ، وتنتسب إليه ، وترفع لواءه في الأرض " i
سميت سورة المجادلة بهذا الاسم لاشتمالها على قصة المرأة المجادلة ، وقد افتتح الله بها السورة حيث قال سبحانه : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } . ( المجادلة : 1 ) .
وقد روى الإمام أحمد في مسنده ، وأبو داود في كتاب الطلاق من السنن ، عن خولة بنت ثعلبة قالت : فيّ وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة ، قالت : كنت عنده ، وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه ، فدخل علي يوما فراجعته بشيء فغضب ، فقال : أنت عليّ كظهر أمي .
وكان الرجل في الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه ، وكان ذلك أول ظهار في الإسلام ، فندم أوس لساعته ، ثم دعاها لنفسه – أي : طلب ملامستها – فأبت وقالت : والذي نفسي بيده لا تصل إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أوسا تزوجني وأنا شابة غنية ذات أهل ومال ، حتى إذا أكل مالي ، وأفنى شبابي ، وتفرق أهلي ، وكبرت سني ، ظاهر مني ، وقد ندم ، فهل من شيء تجمعني به وإياه تفتيني به ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " حرمت عليه ، أو ما أراك إلا قد حرمت عليه " .
فأعادت الكرّة والرسول صلى الله عليه وسلم يعيد عليها نفس الجواب ، حتى قالت : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ، قد طالت له صحبتي ، ونثرت له بطني ، وإن له صبية صغارا ، إن ضممتهم إليّ جاعوا ، وإن ضممتهم إليه ضاعوا ، فجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتستغيث وتتضرع ، وتشكو إلى الله ، فنزلت الآيات الأربع من صدر سورة المجادلة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا خولة ، قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا " ، ثم تلا عليها الآيات ، وقل لها : " مريه فليعتق رقبة " ، قالت : يا رسول الله ، ليس عنده ما يعتق ، قال : " فليصم شهرين متتابعين " ، قالت : والله إنه لشيخ ما له من صيام ، قال : " فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر " ، قالت : والله يا رسول الله ما ذاك عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإنا سنعينه بعِرق من تمر " ، قالت : يا رسول الله ، وأنا سأعينه بعرق آخر ، قال الرسول : " قد أصبت وأحسنت ، فاذهبي فتصدقي به عنه ، ثم استوصي بابن عمك خيرا " ، قالت : ففعلت .
تلك قصة الظهار ، وهي تشير إلى رعاية السماء لهذه الجماعة المؤمنة ، ونزول الوحي يجيب على أسئلتها ويحل مشاكلها ، ويربي نفوسها ويهذب أخلاقها ، ويأخذ بيدها إلى الصراط القويم .
وقد تضمنت الآيات إحاطة السميع البصير بكل صغيرة وكبيرة ، واطلاعه على جميع الأعمال ، وبينت أن المسارعة إلى ألفاظ الظهار والطلاق منكر وزور ، وأن الزوجة غير الأم ، فالأم حملت وأرضعت وقد حرم الله على الإنسان الزواج بأمه ، والزوجة أحل الله زواجها .
ثم رسم القرآن طريق الحل لمن بدرت منه بادرة بالظهار فقال لامرأته ، أنت علي كظهر أمي ، ثم أراد أن يرجع عن ذلك وأن يراجع زوجته ، فعليه أن يكفر عن هذا الذنب بتحرير رقبة ، فإن لم يجد فإنه يصوم ستين يوما ، فإن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكينا ، وفي ذلك نوع من التهذيب والتأديب حتى يضبط الناس أعصابهم ، ويحفظوا ألسنتهم في ساعة الغضب والتهور .
تبدأ السورة بهذه البداية الكريمة ، وهي سماع الله العلي القدير لشكوى امرأة فقيرة مغمورة ، وقد استمع إليها الله من فوق سبع سماوات ، وكان صوتها ضعيفا لا يكاد يُسمع من يجلس بجوارها .
وفي البخاري ، والنسائي ، عن عائشة رضي الله قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله عز وجل : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ . . . } ( المجادلة : 1 ) . إلى آخر الآيات الأربع من صدر السورة .
وفي الآيتين ( 5-6 ) تأكيد على أن الذين يحادون الله ورسوله – وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف الله – مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض ، ولعذب المهين في الآخرة ، مأخوذون بم عملوا ، أحصاه الله عليهم ، ونسوه هم ، وهم فاعلوه ، { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } . ( المجادلة : 6 ) .
والآية 7 من سورة المجادلة تؤكد سعة علم الله وإحاطته بما في السماوات والأرض ، واطلاعه على السر والنجوى ، ورقابته لكل صغير وكبير ، ثم محاسبة الجميع بما قدموا يوم القيامة ، والآية تخرج هذه المعاني في صورة عميقة التأثير ، تترك القلوب وجلة ترتعش مرة وتأنس مرة ، وهي مأخوذة بمحضر الله الجليل : { هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . ( المجادلة : 7 ) .
وفي الآيات ( 8-10 ) يشهّر القرآن بموقف المنافقين الذين يبيتون الكيد والدس للمؤمنين ، ويهددهم بأن أمرهم مكشوف ، وأن عين الله مطلّعة عليهم ، ونجواهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول مسجلة ، وسيحاسبون عليها ويلقون جزاءهم في جهنم وبئس المصير .
ثم تستطرد الآيات إلى تربية المسلمين وتهذيب نفوسهم بهذا الخصوص ، فتنهاهم عن الحديث الخافت المحتوي على الإثم والعدوان ومعصية الرسول . وذلك يؤكد أنه كان بين جماعة المسلمين قوم لم يترسخ الإيمان في قلوبهم ، وكانوا يقلدون المنافقين في التناجي بالهمز واللمز والإثم والمعصية ، وكان القرآن يواكب هؤلاء جميعا ، فيكشف المنافقين ، ويرشد المسلمين ، وينزل الهدى والرحمة للناس أجمعين . والآيات ( 11-13 ) ، استطراد في تربية المسلمين ، وتعليمهم أدب السماحة والطاعة في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومجالس العلم والذكر ، وهو أدب رفيع قدمه القرآن من عشرات القرون ليحث الناس على التعاون والتكافل والسلوك المهذب : { إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا . . . }( المجادلة : 11 ) . كما تحث الآيات على توفير العلم ، وترسم أدب السؤال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتحث على الجد والتوقير في هذا الأمر .
ويبدأ الربع الثاني في السورة بالآية 14 ، وقد تحدثت مع ما بعدها عن المنافقين الذين يتولون اليهود ويتآمرون معهم ، ويدارون تآمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين .
وهم في الآخرة كذلك حلافون كذابون ، يتقون بالحلف والكذب ما يواجههم من عذاب الله ، كما كانوا يتقون بهما في الدنيا ما يواجههم من غضب رسول الله والمؤمنين ، مع توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله كتب الله عليهم أنهم في الأذلين ، وأنهم هم الأخسرون ، وأن الله ورسله هم الغالبون .
وفي ختام السورة نجد سورة كريمة للمؤمن يستعلي بإيمانه ، ويجعل الإيمان هو النسب وهو الحياة ، وهو العقيدة الغالية التي تصله بالمؤمنين والمسلمين ، وتحجب مودته عن أعداء الله ، ولو كانوا أقرب الناس إليه .
وكذلك كان المهاجرون والأنصار الذين ضحوا بكل شيء في سبيل العقيدة ، فكتب الله في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ، وجعلهم مثلا أعلى لكل فئة مخلصة ولكل مسلم مخلص ، فمودة المسلم وحبه وإخلاصه وتعاونه لا تكون إلا للمسلمين الصادقين ، ثم هو في نفس الوقت يحجب مودته عن الخائنين وإن كانوا أقاربه أو أصهاره أو عشيرته .
ومن سمات هذا الدين أن تحب لله وأن تكره لله : أن تحب المتقين ، وتصل المؤمنين ، وتتعاون مع الهداة الصالحين ، وأن تحجب مودتك عن الفاسقين لأنك بهذا تنفذ أمر الله وتهجر من عصى الله . ( ومن أحب من أحب الله ، فكأنما يحب الله ) .
معظم مقصود سورة المجادلة هو : " بيان حكم الظهار ، وذكر النجوى والسرار ، والأمر بالتوسع في المجالس ، وبيان فضل أهل العلم ، والشكاية من المنافقين ، والفرق بين حزب الرحمن وحزب الشيطان " ii .
والحكم على الأول بالفلاح ، وعلى الثاني بالخسران .
قال تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . ( المجادلة : ( 22 ) .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ( 1 ) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( 2 ) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 3 ) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 4 ) }
سمع : أجاب وقبل ، كما يقال : سمع الله لمن حمده .
التي تجادلك في زوجها : هي خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية .
تجادلك : تراجعك الكلام في أمره ، وفيما صدر منه في شأنها .
وتشتكي إلى الله : تبث إليه ما انطوت عليه نفسها من غم وهم ، وتضرع إليه أن يزيل كربها . وزوجها : هو أوس بن الصامت ، أخو عبادة بن الصامت .
السمع : صفة تدرك بها الأصوات ، أثبتها الله تعالى لنفسه .
تحاوركما : تراجعكما في الكلام ، من حار إذا رجع .
1- { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } .
بهذه البداية الرائعة تبدأ سورة المجادلة ، وتسمى المجادلة بفتح الدال ، والمجادلة بكسرها ، وكلاهما جائز .
والمجادلة بكسر الدال هي خولة بنت ثعلبة ، وزوجها هو أوس بن الصامت ، أخو عبادة بن الصامت الصحابي الجليل .
وكان أوس بن الصامت قد كبرت سنه وساءت خلقه ، فدخل على زوجته يوما فراجعته في شيء ، فغضب ، وقال لها : أنت علي كظهر أمي ، وكان هذا أول ظهار في الإسلام ، وكان الرجل في الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه ، فندم أوس من ساعته ، وجاءت زوجته خولة بنت ثعلبة للنبي صلى الله عليه وسلم تشكو حالها وتقول : يا رسول الله ، إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ ، لي مال وجمال وعشيرة ، فانتظر حتى ذهب مالي ، وولّى جمالي ، وتفرق أهلي فظاهر مني ، وقال لي : أنت علي كظهر أمي ، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله ، تجمعني بها وإياه فحدثني بها ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن ، ما أُراك إلا قد حرمت عليه " .
قالت : يا رسول الله ، إني أنجبت منه أولادا ، كان بطني لهم وعاء ، وكان ثديي لهم سقاء ، وكان حجري لهم كفاء ، وإن ضممتهم إلى جاعوا ، وإن ضمهم إليه جاعوا .
وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك خراب بيتي وتشرد أولادي وضياع زوجي ، اللهم فأنزل على لسان نبيك ، وما برحت حتى ظُلل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزل القرآن فيها ، فقال صلى الله عليه وسلم : " يا خولة ، أبشري " ، قالت : خيرا ، فقرأ عليها هذه الآيات الأربع من أول سورة المجادلة .
ونلحظ استجابة السماء ، واستجابة الله العلي القدير ، مالك الملك والملكوت ، ذي العزة والجبروت ، لامرأة من عوام الناس ، ونزول القرآن بشأنها ، واستماع الله لشكواها ، وحوارها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لقد استجاب الله أو سمع قول المجادلة خولة بنت ثعلبة التي جاءت إليك تجادلك في شأن زوجها الذي ظاهر منها ، وقال لها ، حرمت علي كما حرمت علي أمي ، وجعلت تجادلك ، وترد عليك ، وتقول إن زوجها لن يذكر طلاقا ، وإنما ذكر الظهار فقط ، ثم اتجهت بشكواها إلى الله وهو سبحانه يسمع تحاورها معك أيها الرسول ، وترديدها للشكوى ، إن الله سَمِيعٌ . لكل شيء مهما كان خفيا أو هامسا ، بَصِيرٌ . بكل شيء مهما كان دقيقا ، فسبحانه وتعالى من سميع بصير . أخرج البخاري والنسائي ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت ، ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله عز وجل :
{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } .
والآية بعد ذلك وقبله ، رسالة موجهة إلى كل قلب : ما أقرب الله إليك وأنت لا تشعر قربه ، وما أحبك إليه وأنت لا تشعر حبه ، إنه يسمعك ويراك ، ويعلم متقلبك ومثواك ، ألا تستحيي منه حق الحياء ، بأن تحفظ السمع وما وعى ، والبطن وما حوى ، وأن تذكر الموت والبلى .
والآية موجهة إلى كل زوج وزوجة : حافظوا على بيوتكم ، وعلى أولادكم ، وعلى استقراركم ، وعلى عش الزوجية هادئا هانئا بالمودة والرحمة ، والألفة والتضحية ، والصبر والوفاء ، فبهذه الصفات تربى الأسر ، وتنشأ الذرية في كنف العطف والرعاية ، ونجد شبابا صالحا وفتيات صالحات ، يساهمون جميعا في مجتمع سليم وأمة كريمة ، لتكون بحق : خير أمة أخرجت للناس . . . ( آل عمران : 110 ) .
سورة المجادلة مدنية وآياتها ثنتان وعشرون ، نزلت بعد سورة المنافقين . والجزء الثامن والعشرون بكامله مدني ، وسوره تسع ، كلها تعالج أمور المجتمع الإسلامي الجديد بما فيه من أوضاع مستجدة وسكان مختلفي العقائد والمشارب : من السابقين المهاجرين ، والأنصار المخلصين ، والمسلمين الجدد الذين لم يتمكن الإيمان في قلوبهم ، واليهود . وكان لهؤلاء سلطة كبيرة مؤثرة ، ففيهم أصحاب المال والحرف والزراعة ، وهم أهل كتاب يتميزون على غيرهم ، كما أنهم بطبيعتهم متكبرون مختالون . وهناك فئة جديدة نبتت في المدينة ، هم المنافقون الذين كانوا يُظهرون الإسلام خوفا على مصالحهم وطمعا في الغنائم ، ويضمرون الكفر ويتوددون إلى اليهود .
هكذا كان المجتمع في " المدينة " ، فجاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وأخذ يبني مجتمعا إسلاميا نظيفا أساسه العدل والمساواة والإخاء بين الناس ، والله تعالى يؤيده بالقرآن الكريم .
وقد نجح النبي على أعلى المستويات في تأسيس دين قويم ، وبناء دولة إسلامية مثالية .
وتعالج سورة المجادلة بعض القضايا التي حدثت في المدينة ، بادئة بمعالجة موضوع كان شائعا في الجاهلية : يغضب الرجل لأمر من الأمور من زوجته فيقول لها : أنت عليّ كظهر أمي ، فتحرم عليه ، ولا تطلق منه ، بل تبقى معلقة ، لا هي حل له فتقوم بينهما الصلات الزوجية ولا هي مطلقة منه فتجد لها طريقا آخر . وكان هذا بعض ما تلاقيه المرأة من العَنت في الجاهلية . روى الإمام أحمد وأبو داود في سننه عن خولة بنت ثعلبة قالت : فيَّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر هذه السورة ، كنت عنده ، وكان شيخا قد ساء خلقه . فدخل عليّ يوما فراجعته بشيء . فغضب ، فقال : أنتِ علي كظهر أمي . . . فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه ، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه . وجعل الرسول يقول : يا خويلة ، ابنُ عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه .
قالت : فوالله ما برحتُ حتى نزل فيّ قرآن ، فقال لي رسول الله :
يا خويلة ، قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا :
{ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير } إلى آخر الآيات . ثم قال لي رسول الله : " مريه فليعتق رقبة " . فقلت : يا رسول الله ما عنده ما يعتق ! قال : " فليصمْ شهرين متتابعين " قلت : والله إنه لشيخ ما له من صيام ! قال : " فليطعم ستين مسكينا وَسْقا من تمر " . قلت : والله يا رسول الله ما ذاك عنده ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإنا سنعينه بعرق من تمر .
قلت : وأنا سأعينه بعرق آخر ، قال :
" أصبت وأحسنتِ ، فاذهبي وتصدقي به عنه ، ثم استوصي بابن عمك خيرا " .
ما أجمل هذا الإسلام ، وما أعظم هذا التشريع { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وهكذا أبطل الإسلام هذه العادة من الجاهلية .
ثم بعد ذلك ينعَى الله في هذه السورة في أكثر من آية على المعاندين لدينه ، ويحذّرهم من التناجي بالإثم والعدوان ، ويرشد المؤمنين إلى أدب المناجاة بين بعضهم البعض ، وبينهم وبين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم . كما ينعَى على المنافقين موالاتهم لليهود ، ويصفهم بأنهم حزب الشيطان الخاسرون .
وختمت السورة بوصف جامع لما يجب أن يكون عليه المؤمنون من إيثار رضا الله ورسوله على من عداهما ، ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم ، أو عشيرتهم ، ويصفهم بأنهم حزب الله المفلحون .
تُجادلك : تراجعك في أمرها ، وهي خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية الأنصارية ، وزوجها : أوس بن الصامت ، أخو عبادة بن الصامت الصحابيّ الجليل المدفون بالقدس .
واللهُ يسمع تحاوركما : يسمع ما يدور بينكما من الكلام .
قد سمع اللهُ قولَ التي تراجعك في موضوع طلاقها من زوجها ، وتشتكي إلى الله ما أصابها ، والله يسمع ما يدور بينكما من المحاورة والكلام { إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } .
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الدال في السين في قوله : قد سمع . والباقون : بالإظهار : قد سمع ، بإسكان الدال وفتح السين .
{ 1-4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
نزلت هذه الآيات الكريمات في رجل من الأنصار اشتكته زوجته [ إلى الله ، وجادلته ]{[1000]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حرمها على نفسه ، بعد الصحبة الطويلة ، والأولاد ، وكان هو رجلا شيخا كبيرا ، فشكت حالها وحاله إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكررت ذلك ، وأبدت فيه وأعادت .
فقال تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا } أي : تخاطبكما فيما بينكما ، { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } لجميع الأصوات ، في جميع الأوقات ، على تفنن الحاجات .
{ بَصِيرٌ } يبصر دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، وهذا إخبار عن كمال سمعه وبصره ، وإحاطتهما بالأمور الدقيقة والجليلة ، وفي ضمن ذلك الإشارة بأن الله [ تعالى ] سيزيل شكواها ، ويرفع بلواها ، ولهذا ذكر حكمها ، وحكم غيرها{[1001]} على وجه العموم ، فقال :
قوله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } الآية . نزلت في خولة بنت ثعلبة كانت تحت أوس بن الصامت ، وكانت حسنة الجسم ، وكان به لمم فأرادها فأبت ، فقال لها : أنت علي كظهر أمي ، ثم ندم على ما قال . وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية . فقال لها : ما أظنك إلا قد حرمت علي . فقالت : والله ما ذاك طلاق ، وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وعائشة رضي الله عنها تغسل شق رأسه- فقالت : يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات مال وأهل حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبر سني ظاهر مني ، وقد ندم ، فهل من شيء يجمعني وإياه تنعشني به ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليه ، فقالت : يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقاً وإنه أبو ولدي وأحب الناس إلي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليه ، فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي قد طالت صحبتي ونفضت له بطني . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أراك إلا قد حرمت عليه ، ولم أؤمر في شأنك بشيء ، فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليه هتفت وقالت : أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي وإن لي صبيةً صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك ، اللهم فأنزل على لسان نبيك فرجي ، وكان هذا أول ظهار في الإسلام ، فقامت عائشة تغسل شق رأسه الآخر ، فقالت : انظر في أمري جعلني الله فداءك يا نبي الله ، فقالت عائشة : أقصري حديثك ومجادلتك أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه أخذه مثل السبات- ، فلما قضى الوحي قال لها : ادعي زوجك فدعته ، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : { قد سمع الله قول التي تجادلك } الآيات . قالت عائشة : تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها ، إن المرأة لتحاور رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ، ويخفى علي بعضه إذ أنزل الله : { قد سمع الله } الآيات . ومعنى قوله : { قول التي تجادلك } تخاصمك وتحاورك وتراجعك في زوجها ، { وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما } مراجعتكما الكلام ، { إن الله سميع بصير } سميع لما تناجيه وتتضرع إليه ، بصير بمن يشكو إليه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
سورة المجادلة مدنية بإجماع، إلا أن النقاش حكى أن قوله تعالى {ما يكون من نجوى ثلاثة} [المجادلة: 7] الآية مكي.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
الإعلام بإيقاع البأس الشديد، الذي أشارت إليه الحديد، بمن حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لما له سبحانه من تمام العلم، اللازم عنه تمام القدرة، اللازم عنه الإحاطة بجميع صفات الكمال، وعلى ذلك دلت تسميتها بالمجادلة بأول قصتها وآخرها، وعلى تكرير الاسم الأعظم الجامع في القصة وجميع السورة تكريرا لم يكن في سواها بحيث لم تخل منه آية، وأما الآيات التي تكرر في كل منها المرتين فأكثر، فكثرة كل ذلك للدلالة على أن الأكثر منها المراد فيها بالخطاب من يصح أن ينظر إليه تارة بالجلال، وتارة بالكمال، فيجمع له الوصفان، وهو من آمن ووقع منه هفوة أو عصيان، ولهذا ضمتها أشياء شدد النكير فيها حين وقع فيها بعض أهل الإيمان، ولم يبحها لهم عند وقوعهم فيها ردا للشرع إلى ما دعا إليه الطبع كما فعل في غيرها كالأكل والجماع في ليل رمضان من غير تقييد بيقظة ولا منام لمنابذتها للحكمة، وبعدها عن موجبات الرحمة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
نحن في هذه السورة -وفي هذا الجزء كله تقريبا- مع أحداث السيرة في المجتمع المدني. مع الجماعة المسلمة الناشئة؛ حيث تربى وتقوم، وتعد للنهوض بدورها العالمي، بل بدورها الكوني، الذي قدره الله لها في دورة هذا الكون ومقدراته. وهو دور ضخم يبدأ من إنشاء تصور جديد كامل شامل لهذه الحياة، في نفوس هذه الجماعة، وإقامة حياة واقعية على أساس هذا التصور، ثم تحمله هذه الجماعة إلى العالم كله لتنشئ للبشرية حياة إنسانية قائمة على أساس هذا التصور كذلك.. وهو دور ضخم إذن يقتضي إعدادا كاملا.
ولقد كان أولئك المسلمون الذين يعدهم القدر لهذا الدور الضخم، ناسا من الناس. منهم السابقون من المهاجرين والأنصار الذين نضج إيمانهم، واكتمل تصورهم للعقيدة الجديدة، وخلصت نفوسهم لها، ووصلوا.. وصلوا إلى حقيقة وجودهم وحقيقة هذا الوجود الكبير؛ واندمجت حقيقتهم مع حقيقة الوجود، فأصبحوا بهذا طرفا من قدر الله في الكون؛ لا يجدون في أنفسهم عوجا عنه، ولا يجدون في خطاهم تخلفا عن خطاه، ولا يجدون في قلوبهم شيئا إلا الله.. كانوا كما جاء عنهم في هذه السورة: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. أولئك كتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها. رضي الله عنهم ورضوا عنه. أولئك حزب الله. ألا إن حزب الله هم المفلحون)..
ولكن هؤلاء السابقين كانوا قلة بالقياس إلى الجماعة المسلمة المتزايدة العدد -وبخاصة بعد أن أصبح الإسلام قوة ترهب- حتى قبل الفتح -ودخل فيه من لم يتلق من التربية الإسلامية القسط الكافي، ولم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة. كما دخل فيه من المنافقين من آثر المصلحة أو العافية على دخل في القلوب، وتربص بالفرص، وذبذبة بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات القوية المناوئة له في ذلك الحين. سواء معسكرات المشركين أو اليهود! ولقد اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكوني الكبير المقدر لها في الأرض جهودا ضخمة، وصبرا طويلا، وعلاجا بطيئا، في صغار الأمور وفي كبارها.. كانت حركة بناء هائلة هذه التي قام بها الإسلام، وقام بها رسول الإسلام [صلى الله عليه وسلم] بناء النفوس التي تنهض ببناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، وتقوم على منهج الله، تفهمه وتحققه، وتنقله إلى أطراف الأرض في صورة حية متحركة، لا في صحائف وكلمات.
ونحن نشهد في هذه السورة- وفي هذا الجزء كله -طرفا من تلك الجهود الضخمة، وطرفا من الأسلوب القرآني كذلك في بناء تلك النفوس، وفي علاج الأحداث والعادات والنزوات؛ كما نشهد جانبا من الصراع الطويل بين الإسلام وخصومه المختلفين من مشركين ويهود ومنافقين.
وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة؛ وهو يصنعها على عينه، ويربيها بمنهجه، ويشعرها برعايته، ويبني في ضميرها الشعور الحي بوجوده- سبحانه -معها في أخص خصائصها، وأصغر شؤونها، وأخفى طواياها؛ وحراسته لها من كيد أعدائها خفيه وظاهره؛ وأخذها في حماه وكنفه، وضمها إلى لوائه وظله؛ وتربية أخلاقها وعاداتها وتقاليدها تربية تليق بالجماعة التي تنضوي إلى كنف الله، وتنتسب إليه، وتؤلف حزبه في الأرض، وترفع لواءه لتعرف به في الأرض جميعا.
ومن ثم تبدأ السورة بصورة عجيبة من صور هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية. فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة، ومشاركتها في الحياة اليومية لجماعة من الناس مشاركة ظاهرة: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير).. فنشهد السماء تتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة، لتقرر حكم الله في قضيتها، وقد سمع- سبحانه -للمرأة وهي تحاور رسول الله فيها، ولم تكد تسمعها عائشة وهي قريبة منها! وهي صورة تملأ القلب بوجود الله وقربه وعطفه ورعايته.
يليها في سياق السورة توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله- وهم أعداء الجماعة المسلمة التي تعيش في كنف الله -مكتوب عليهم الكبت والقهر في الأرض، والعذاب المهين في الآخرة، مأخوذون بما عملوا مما أحصاه الله عليهم، ونسوه هم وهم فاعلوه! (والله على كل شيء شهيد)..
ثم توكيد وتذكير بحضور الله- سبحانه -وشهوده لكل نجوى في خلوة، يحسب أصحابها أنهم منفردون بها. والله معهم أينما كانوا: (ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة، إن الله بكل شيء عليم).. وهي صورة تملأ القلب كذلك بوجود الله وحضوره، كما تملؤه برقابته واطلاعه.
وهذا التوكيد مقدمة لتهديد الذين يتناجون في خلواتهم لتدبير المكايد للمسلمين، وملء قلوبهم بالحزن والهم والتوجس. تهديد بأن أمرهم مكشوف، وأن عين الله مطلعة عليهم، ونجواهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول مسجلة، وأن الله آخذهم بها ومعذبهم عليها. ونهي للمسلمين عن التناجي بغير البر والتقوى، وتربية نفوسهم وتقويمها بهذا الخصوص.
ثم يستطرد في تربية هذه النفوس المؤمنة؛ فيأخذها بأدب السماحة وبالطاعة في مجلس رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ومجالس العلم والذكر. كما يأخذها بأدب السؤال والحديث مع الرسول [صلى الله عليه وسلم] والجد في هذا الأمر والتوقير.
أما بقية السورة بعد هذا فتنصرف إلى الحديث عن المنافقين الذين يتولون اليهود؛ ويتآمرون معهم، ويدارون تآمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين. وتصورهم في الآخرة كذلك حلافين كذابين؛ يتقون بالحلف والكذب ما يواجههم من عذاب الله، كما كانوا يتقون بهما في الدنيا ما يواجههم من غضب رسول الله والمؤمنين! مع توكيد أن الذين يحادون الله ورسوله كتب الله عليهم أنهم في الأذلين وأنهم هم الأخسرون. كما كتب أنه ورسله هم الغالبون. وذلك تهوينا لشأنهم، الذي كان بعض المنتسبين إلى الإسلام- وبعض المسلمين -يستعظمه، فيحافظ على مودته معهم، ولا يدرك ضرورة تميز الصف المسلم تحت راية الله وحدها، والاعتزاز برعاية الله وحده، والاطمئنان إلى حراسته الساهرة للفئة التي يصنعها على عينه، ويهيئها لدورها الكوني المرسوم.
وفي ختام السورة تجيء تلك الصورة الوضيئة لحزب الله. هذه الصورة التي كان يمثلها بالفعل أولئك السابقون من المهاجرين والأنصار. والتي كانت الآية الكريمة تشير لها كي ينتهي إليها أولئك الذين ما زالوا بعد في الطريق!
(لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله..) الخ الآية... كما وردت في أول هذا التقديم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة في كتب التفسير وفي المصاحف وكتب السنة {سورة المجادلة} بكسر الدال أو بفتحه كما سيأتي. وتسمى {سورة قد سمع} وهذا الاسم مشتهر في الكتاتيب في تونس، وسميت في مصحف أبي بن كعب {سورة الظهار}.
ووجه تسميتها {سورة المجادلة} لأنها افتتحت بقضية مجادلة امرأة أوس بن الصامت لدى النبي صلى الله عليه وسلم في شأن مظاهرة زوجها.
ولم يذكر المفسرون ولا شاركوا كتب السنة ضبطه بكسر الدال أو فتحها. وذكر الخفاجي في حاشية البيضاوي عن الكشف أن كسر الدال هو المعروف ولم أدر ما أراد الخفاجي بالكشف الذي عزا إليه هذا، فكشف القزويني على الكشاف لا يوجد فيه ذلك، ولا في التفسير المسمى الكشف والبيان للثعلبي. فلعل الخفاجي رأى ذلك في الكشف الذي ينقل عنه الطيبي في مواضع تقريرات لكلام الكشاف وهو غير معروف في عداد شروح الكشاف، وكسر الدال أظهر لأن السورة افتتحت بذكر التي تجادل في زوجها فحقيقة أن تضاف إلى صاحبة الجدال، وهي التي ذكرها الله بقوله {التي تجادلك في زوجها}. ورأيت في نسخة من حاشية محمد الهمذاني على الكشاف المسماة توضيح المشكلات، بخط مؤلفها جعل علامة كسرة تحت دال المجادلة. وأما فتح الدال فهو مصدر مأخوذ من فعل {تجادلك} كما عبر عنها بالتحاور في قوله تعالى {والله يسمع تحاوركما}.
وهذه السورة مدنية قال ابن عطية بالإجماع. وفي تفسير القرطبي عن عطاء: أن العشر الأولى منها مدني وباقيها مكي. وفيه عن الكلبي أنها مدنية إلا قوله تعالى {وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} الآية نزلت بمكة...
الحكم في قضية مظاهرة أوس بن الصامت من زوجه خولة.
وإبطال ما كان في الجاهلية من تحريم المرأة إذا ظاهر منها زوجها وإن عمله المخالف لما أراده الله وأنه من أوهامهم وزورهم التي كبتهم الله بإبطالها. وتخلص من ذلك إلى ضلالات المنافقين ومنها مناجاتهم بمرأى المؤمنين ليغيضوهم ويحزنوهم.
ومنها موالاتهم اليهود. وحلفهم على الكذب.
وتخلل ذلك التعرض بآداب مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم.
وشرع التصدق قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والثناء على المؤمنين في مجافاتهم اليهود والمشركين.
وأن الله ورسوله وحزبهما هم الغالبون.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في السورة تسفيه لعادة الظهار وتشريع فيها. وحكاية لشكوى وجدال امرأة مسلمة في سياق ذلك. وتنديد بفريق كان يتآمر بالسر بما فيه إثم وعدوان. ونهي للمسلمين عن مثل هذا الخلق. وتعليم لهم بما هو الأمثل بهم. وتعليم المسلمين كذلك آداب المجالس وتلقينهم الاهتمام بالأخلاق والعلم وأهلهما. ومشهد فيه حث المسلمين على تقديم صدقات عند اجتماعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وحكاية لاستثقالهم ذلك وعتاب لهم ونسخ للتكليف بسبب ذلك. وحملة شديدة على المنافقين لموادتهم لمن غضب الله عليهم الذين تتفق الروايات والأقوال على أنهم اليهود، وتنزيه للمخلصين عن مثل هذا الموقف...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ونستطيع أن نلخّص أهمّ أبحاثها في ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: يتحدّث عن حكم (الظهار) الذي كان يعتبر نوعاً من الطلاق والانفصال الدائم، حيث قوّمه الإسلام وجعله في الطريق الصحيح.
الثاني: يتحدّث عن مجموعة من التعليمات الخاصّة بآداب المجالسة، والتي منها: «التفسّح» في المجالس ومنع النجوى.
الثالث: يتعرّض إلى بحث واف ومفصّل عن المنافقين، تلك الفئة التي تتظاهر بالإسلام، إلاّ أنّها تتعاون مع أعدائه، ويحذّر المسلمين المؤمنين من الدخول في حزب الشيطان والنفاق، ويدعوهم إلى الحبّ في الله والبغض في الله والالتحاق بحزب الله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قَدْ سَمِعَ اللّهُ "يا محمد "قَوْلَ الّتي تجادلُكَ فِي زَوْجِها" والتي كانت تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها امرأة من الأنصار.
واختلف أهل العلم في نسبها واسمها؛
فقال بعضهم: خولة بنت ثعلبة، وقال بعضهم: اسمها خُوَيلة بنت ثعلبة. وقال آخرون: هي خويلة بنت خويلد.
وقال آخرون: هي خويلة بنت الصامت.
وقال آخرون: هي خويلة ابنة الدليج. وكانت مجادلتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها، وزوجها أوس بن الصامت، مراجعتها إياه في أمره، وما كان من قوله لها: أنتِ عليّ كظهر أمي. ومحاورتها إياه في ذلك...
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا أبو داود، قال: سمعت أبا العالية يقول: إن خويلة ابنة الدليج أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم وعائشة تغسل شقّ رأسه، فقالت: يا رسول الله، طالت صحبتي مع زوجي، ونفضت له بطني، وظاهَرَ مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حَرُمْتِ عَلَيْهِ» فقالت: أشكو إلى الله فاقتي، ثم قالت: يا رسول الله طالت صحبتي، ونفضت له بطني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حَرُمْتِ عَلَيْهِ» فجعل إذا قال لها: «حرمت عليه»، هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي، قال: فنزل الوحي، وقد قامت عائشة تغسل شقّ رأسه الآخر، فأومأت إليها عائشة أن اسكتي، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أخذه مثل السبات، فلما قضي الوحي، قال: «ادْعي زَوْجَكِ»، فَتَلاها عَلَيْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ واللّهُ يَسْمَع تَحاوُرَكُما" إلى قوله: "والّذِين يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائهِمْ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قالُوا": أي يرجع فيه "فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أن يَتَماسّا" أتَسْتَطَيعُ رَقَبَةً؟ قال: لا، قال: "فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ" قال: يا رسول الله، إني إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرّات خشيت أن يعشو بصري. قال: "فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فإطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينا" قال: «أتَسْتَطيعُ أنْ تُطْعِمَ سِتّينَ مِسْكِينا؟» قال: لا يا رسول الله إلا أن تعينني، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعم...
عن ابن عباس، قال: كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية: أنت عليّ كظهر أمي، حَرُمت في الإسلام، فكان أوّل من ظاهر في الإسلام أوس بن الصامت، وكانت تحته ابنة عمّ له يقال لها خويلة بنت خُوَيلد وظاهر منها، فأُسْقِطَ في يديه وقال: ما أراكِ إلا قد حَرُمْتِ عليّ، وقالت له مثلَ ذلك، قال: فانطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدتْ عنده ماشطة تمشطُ رأسه، فأخبرته، فقال: «يا خُوَيْلَة ما أمرْنا فِي أمْرِكِ بِشَيْءٍ»، فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا خُوَيْلَةُ أبْشِرِي»، قالت: خيرا، قال: فقرأ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكي إلى اللّهِ" إلى قوله: "فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أن يَتَماسّا"...
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة بن الزبير، قال: قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه كلّ شيء، إني لأسمع كلام خولة ابنة ثعلبة، ويخفى عليّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهمّ إني أشكو إليك، قال: فما برحت حتى نزل جبريل عليه السلام بهؤلاء الآيات "قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّتِي تجادِلُكَ فِي زَوْجِها" قال: زوجها أوس بن الصامت.
وقوله: "وَتَشْتَكي إلى اللّهِ" يقول: وتشتكي المجادلة ما لديها من الهمّ بظهار زوجها منها إلى الله وتسأله الفرج.
"وَاللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما" يعني تحاور رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمجادلة خولة ابنة ثعلبة.
"إنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" يقول تعالى ذكره: إن الله سميع لما يتجاوبانه ويتحاورانه، وغير ذلك من كلام خلقه، بصير بما يعلمون، ويعمل جميع عباده.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...كانت عائشة حاضرة لهذه القصة كلها فكانت تقول: سبحان من وسع سمعه الأصوات، لقد كنت حاضرة وكان بعض كلام خولة يخفى علي، وسمع الله جدالها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوس فقال له: «أتعتق رقبة؟ فقال والله ما أملكها، فقال أتصوم شهرين متتابعين؟ فقال: والله ما أقدر أن أصبر إلا على أكلات ثلاث في اليوم، ومتى لم أفعل ذلك غشي بصري فقال له: أتطعم؟» فقال له لا أجد إلا أن تعينني يا رسول الله بمعونة وصلاة يريد الدعاء، فأعانه رسول الله بخمسة عشر صاعاً ودعا له، وقيل بثلاثين صاعاً، فكفر بالإطعام وأمسك أهله. وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «تحاورك في زوجها»، والمحاورة مراجعة القول ومعاطاته...
... الظهار كان من أشد طلاق الجاهلية، لأنه في التحريم أوكد ما يمكن، وإن كان ذلك الحكم صار مقررا بالشرع كانت الآية ناسخة له، وإلا لم يعد نسخا، لأن النسخ إنما يدخل في الشرائع لا في عادة الجاهلية، لكن الذي روى أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "حرمت " أو قال: " ما أراك إلا قد حرمت " كالدلالة على أنه كان شرعا. وأما ما روي أنه توقف في الحكم فلا يدل على ذلك.
البحث الثالث: أن هذه الواقعة تدل على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق، ولم يبق له في مهمة أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك المهم، ولنرجع إلى التفسير، أما قوله: {قد سمع الله} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله: {قد} معناه التوقع، لأن رسول الله والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها، وينزل في ذلك ما يفرج عنها.
المسألة الثانية:... واعلم أن الله تعالى حكى عن هذه المرأة أمرين (أولهما) المجادلة وهي قوله: {تجادلك في زوجها} أي تجادلك في شأن زوجها، وتلك المجادلة أنه عليه الصلاة والسلام كلما قال لها: « حرمت عليه» قالت: والله ما ذكر طلاقا (وثانيهما) شكواها إلى الله، وهو قولها: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي، وقولها: إن لي صبية صغارا.
ثم قال سبحانه: {والله يسمع تحاوركما} والمحاورة المراجعة في الكلام، من حار الشيء يحور حورا، أي رجع يرجع رجوعا، ومنها نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومنه فما أحار بكلمة، أي فما أجاب، ثم قال: {إن الله سميع بصير} أي يسمع كلام من يناديه، ويبصر من يتضرع إليه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كان الرجل في الجاهلية يغضب لأمر من امرأته فيقول:أنت علي كظهر أمي. فتحرم عليه، ولا تطلق منه. وتبقى هكذا، لا هي حل له فتقوم بينهما الصلات الزوجية؛ ولا هي مطلقة منه فتجد لها طريقا آخر. وكان هذا طرفا من العنت الذي تلاقيه المرأة في الجاهلية.
فلما كان الإسلام وقعت هذه الحادثة التي تشير إليها هذه الآيات، ولم يكن قد شرع حكم للظهار. قال الإمام أحمد:حدثنا سعد بن إبراهيم ويعقوب، قالا:حدثنا أبي، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني معمر ابن عبد الله بن حنظلة، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن خويلة بنت ثعلبة. قالت:في والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة. قالت:كنت عنده، وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، قالت:فدخل علي يوما فراجعته بشيء فغضب، فقال:أنت علي كظهر أمي. قالت:ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل علي، فإذا هو يريدني عن نفسي، قالت:قلت:كلا والذي نفس خويلة بيده، لا تخلص إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه. قالت: فواثبني، فامتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني. قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابا، ثم خرجت حتى جئت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه. قالت:فجعل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يقول: "يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه " قالت:فوالله ما برحت حتى نزل في قرآن؛ فتغشى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ما كان يتغشاه، ثم سري عنه، فقال لي: " يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا".. ثم قرأ علي -: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير).. إلى قوله تعالى: (وللكافرين عذاب أليم).. قالت:فقال لي رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " مريه فليعتق رقبة". قالت:فقلت:يا رسول الله ما عنده ما يعتق. قال: " فليصم شهرين متتابعين". قالت:فقلت:والله إنه لشيخ ما له من صيام. قال: " فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر". قالت:فقلت:والله يا رسول الله ما ذاك عنده. قالت:فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: " فإنا سنعينه بعرق من تمر". قالت:فقلت يا رسول الله وأنا سأعينه بعرق آخر. قال: " قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرا". قالت:ففعلت.
فهذا هو الشأن الذي سمع الله ما دار فيه من حوار بين رسول الله [صلى الله عليه وسلم] والمرأة التي جاءت تجادله فيه. وهذا هو الشأن الذي أنزل الله فيه حكمه من فوق سبع سماوات، ليعطي هذه المرأة حقها، ويريح بالها وبال زوجها، ويرسم للمسلمين الطريق في مثل هذه المشكلة العائلية اليومية!
وهذا هو الشأن الذي تفتتح به سورة من سور القرآن:كتاب الله الخالد، الذي تتجاوب جنبات الوجود بكل كلمة من كلماته، وهي تتنزل من الملأ الأعلى.. تفتتح بمثل هذا الإعلان: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها...) فإذا الله حاضر هذا الشأن الفردي لامرأة من عامة المسلمين، لا يشغله عن سماعه تدبيره لملكوت السماوات والأرض؛ ولا يشغله عن الحكم فيه شأن من شؤون السماوات والأرض!
وإنه لأمر.. إنه لأمر أن يقع مثل هذا الحادث العجيب؛ وأن تشعر جماعة من الناس أن الله هكذا معها، حاضر شؤونها، جليلها وصغيرها، معني بمشكلاتها اليومية، مستجيب لأزماتها العادية.. وهو الله.. الكبيرالمتعال، العظيم الجليل، القهار المتكبر، الذي له ملك السماوات والأرض وهو الغني الحميد.
تقول عائشة -رضي الله عنها -:الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات. لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في جانب البيت، ما أسمع ما تقول. فأنزل الله عز وجل: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله... الآية.
وفي رواية خولة- أو خويلة للتصغير والتدليل -للحادث، وتصرفها هي فيه، وذهابها إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ومجادلتها له، ونزول القرآن بالحكم.. في هذا كله صورة من حياة تلك الجماعة الفريدة في تلك الفترة العجيبة. وشعورها بتلك الصلة المباشرة، وانتظارها التوجيه من السماء في كل شأن من شؤونها واستجابة السماء لهذا الانتظار، الذي يجعل الجماعة كلها- عيال الله -هو يرعاها وهي تتطلع إليه تطلع الطفل الصغير لأبيه وراعيه!
وننظر في رواية الحادث في النص القرآني، فنجد عناصر التأثير والإيحاء والتربية والتوجيه تسير جنبا إلى جنب مع الحكم وتتخلله وتعقب عليه، كما هو أسلوب القرآن الفريد: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله، والله يسمع تحاوركما، إن الله سميع بصير).. وهو مطلع ذو إيقاع عجيب.. إنكما لم تكونا وحدكما.. لقد كان الله معكما. وكان يسمع لكما. لقد سمع قول المرأة. سمعها تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله. وعلم القصة كلها. وهو يعلم تحاوركما وما كان فيه.. إن الله سميع بصير. يسمع ويرى. هذا شأنه وهذه صورة منه في الحادث الذي كان الله ثالثكما فيه..
وكلها إيقاعات ولمسات تهز القلوب..
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
هذا وفي الآيات أمور جديرة بالتنبيه والتعليق: فأولا: إنها توخت رفع الحيف والظلم عن المرأة وكانت مظهرا آخر من مظاهر عناية القرآن بها. وثانيا: إن في الكفارة المفروضة وسيلة إلى تحرير العبيد والبر بالمساكين وهذا وذاك مما حث عليهما القرآن في مواضع عديدة. وثالثا: إن الآية الأولى بخاصة احتوت صورة قوية لشخصية المرأة العربية المسلمة في عهد النبي صلى الله عليه مسلم في مجادلتها عن حقها ومحاولة دفع الضيم عنها، وفي ما انتهى الموقف إليه من سماع الله لقولها وإنزاله قرآنا بإنصافها وحمايتها. وفي هذا سند يسند حق المرأة المسلمة في الدفاع عن نفسها، واحترام هذا الحق وما يترتب عليه من التسليم لها به من قبل أولياء الأمر والأفراد والأزواج وفيه أسوة حسنة دائمة للمرأة المسلمة تتأسى به في كل ظرف ومكان في الجرأة والدفاع عن حقها أمام أولياء الأمر والأفراد والأزواج. وفيه دليل على أن المرأة العربية المسلمة كانت في حالة عقلية وشخصية تجعلها تقف مثل هذا الموقف. وفي القرآن والآثار أدلة كثيرة مؤيدة. وقد مرت أمثلة منها في المناسبات السابقة.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
"الظهار " يستلزم تحريم مساس المرأة على الزوج، وتحريم جميع أنواع الاستمتاع، إلا أن مجرد " الظهار " لا يعتبر في الإسلام نوعا من أنواع الطلاق ولا قائما مقامه، نعم، إن رغبة الزوج في مساس زوجته والاستمتاع بها بعد ظهاره منها، وعودته إلى ما حرمه على نفسه بالظهار، لا بد أن تسبقه " كفارة " يكفر بها الزوج، عن الإثم الذي وقع فيه بالإقدام على إعلان الظهار...
وفي نفس الوقت الذي شرع فيه كتاب الله هذه الحدود والقيود للظهار، حتى لا يقبل عليه المسلمون كما كان الأمر في " الجاهلية"، نادى كتاب الله بتسفيه رأي أولئك الذين يعتقدون أنهم بمجرد ما يشبهون زوجاتهم بوالداتهم تصبح زوجاتهم في حكم الأمهات فعلا، مبينا أن أمهاتهم على الحقيقة وفي هذا المقام هنّ النساء اللاتي ولدنهم، لا غيرهن من النساء، أما في غير هذا المقام فإن " المرضعات " ملحقات بالأمهات، وكذلك أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمهات المؤمنين " لأن الله حرم نكاحهن على الأمة، فدخلن بذلك في حكم الأمهات،...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وأنزل الله هذه الآيات ليعالج المسألة الكلية في التشريع الحاسم الذي يجمع بين الحل في إعادة العلاقة الجنسية إلى طبيعتها الشرعية، لأن الكلمة لم تلغ الزواج، وبين العقوبة العملية التي لا بدّ من أن يتحملها الرجل قبل أن يعود إلى سابق عهده...
وهكذا سمع الله قول هذه المرأة المستضعفة التي كانت تتحدث مع النبي {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} فتطلب منه حلاً شرعياً، فلم تكن مقتنعة بأن هذه الكلمة الطائشة الصادرة من زوجها تستطيع إنهاء الزواج، فهي كلمة غير واقعية، فكيف يشبهها بأمه لتحرم عليه كما تحرم عليه أمه، فللأم عمق النسب الخاضع لحرمة العلاقة العضوية في اللحم والدم، فكيف يكون للزوجة ذلك؟! فإذا لم تكن الكلمة واقعيةً، فلن يكون مضمونها الشرعي في ما يستهدفه الزوج منها واقعياً؟ ربما كانت تفكر بهذه الطريقة. {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} وهو اللطيف بعباده، الرحيم بهم {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِير} حيث يسمع كل شكاواهم في داخل ذواتهم، ونجاواهم في دائرة حوارهم مع الآخرين، ويبصر كل مواقع الحزن والألم في حياتهم...
{ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } نزلت في سبب خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت ظاهر منها وكان ذلك أول ظهار في الاسلام وكان الظهار من طلاق الجاهلية فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أن زوجها ظاهر منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت عليه فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وصبية صغارا وجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قال لها حرمت عليه هتفت وشكت إلى الله وقوله { والله يسمع تحاوركما } أي تخاطبكما ومراجعتكما الكلام .
مدنية في قول الجميع . إلا رواية عن عطاء : أن العشر الأول منها مدني وباقيها مكي ، وقال الكلبي : نزل جميعها بالمدينة غير قوله تعالى : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم }[ المجادلة : 7 ] نزلت بمكة .
الأولى- قوله تعالى : " { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } التي اشتكت إلى الله هي خولة بنت ثعلبة . وقيل بنت حكيم . وقيل اسمها جميلة . وخولة أصح ، وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت ، وقد مر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته والناس معه على حمار فاستوقفته طويلا ووعظته وقالت : يا عمر قد كنت تدعى عميرا ، ثم قيل لك عمر ، ثم قيل لك أمير المؤمنين ، فاتق الله يا عمر ، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت ، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب ، وهو واقف يسمع كلامها ، فقيل له : يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف ؟ فقال : والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة ، أتدرون من هذه العجوز ؟ هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات ، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر ؟ وقالت عائشة رضي الله عنها : تبارك الذي وسع سمعه كل شيء ، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفي علي بعضه ، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي تقول : يا رسول الله ! أكل شبابي ونثرت له بطني ، حتى إذا كبر سني وانقطع ولدى ظاهر مني ، اللهم إني أشكو إليك ! فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله } خرجه ابن ماجه في السنن . والذي في البخاري من هذا عن عائشة قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله عز وجل : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } . وقال الماوردي : هي خولة بنت ثعلبة . وقيل : بنت خويلد . وليس هذا بمختلف ؛ لأن أحدهما أبوها والآخر جدها فنسبت إلى كل واحد منهما . وزوجها أوس بن الصامت أخو عباد بن الصامت .
وقال الثعلبي قال ابن عباس : هي خولة بنت خويلد الخزرجية ، كانت تحت أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت ، وكانت حسنة الجسم ، فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها ، فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها قال عروة{[14741]} : وكان أمرأً به لَمَم{[14742]} فأصابه بعض لَمَمِه فقال لها : أنت علي كظهر أمي . وكان الإيلاء والظهار من الطلاق في الجاهلية ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها : ( حرمتِ عليه ) فقالت : والله ما ذكر طلاقا ، ثم قالت : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي وقد نفضت له بطني ، فقال : ( حرمت عليه ) فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزلت عليه الآية . وروى الحسن : أنها قالت : يا رسول الله ! قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهر مني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أوحى إلي في هذا شيء ) فقالت : يا رسول الله ، أوحي إليك في كل شيء وطوي عنك هذا ؟ ! فقال : ( هو ما قلت لك ) فقالت : إلى الله أشكو لا إلى رسوله . فأنزل الله :{ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله }الآية .
وروى الدارقطني من حديث قتادة أن أنس بن مالك حدثه قال : إن أوس بن الصامت ظاهر من امرأته خويلة بنت ثعلبة فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ظاهر حين كبرت سني ورق عظمي . فأنزل الله تعالى آية الظهار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأوس : ( اعتق رقبة ) قال : مالي بذلك يَدَانِ . قال : ( فصم شهرين متتابعين ) قال : أما إني إذا أخطأني أن آكل في يوم ثلاث مرات يكل بصري . قال : ( فأطعم ستين مسكينا ) قال : ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة . قال : فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا حتى جمع الله له والله غفور رحيم{[14743]} . " إن الله سميع بصير " قال : فكانوا يرون أن عنده مثلها وذلك لستين مسكينا ، وفي الترمذي وسنن ابن ماجه : أن سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ( أعتق رقبة ) قال : فضربت صفحة عنقي بيدي . فقلت : لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها . قال : ( فصم شهرين ) فقلت : يا رسول الله ! وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام . قال : ( فأطعم ستين مسكينا ) الحديث . وذكر ابن العربي في أحكامه : روي أن خولة بنت دليج ظاهر منها زوجها ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قد حرمت عليه ) فقالت : أشكو إلى الله حاجتي . ثم عادت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( حرمت عليه ) فقالت : إلى الله أشكو حاجتي إليه{[14744]} وعائشة تغسل شق رأسه الأيمن ، ثم تحولت إلى الشق الآخر وقد نزل عليه الوحي ، فذهبت أن تعيد ، فقالت عائشة : اسكتي فإنه قد نزل الوحي . فلما نزل القرآن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجها : ( اعتق رقبة ) قال : لا أجد . قال : ( صم شهرين متتابعين ) قال : إن لم آكل في اليوم ثلاث مرات خفت أن يعشو بصري . قال : ( فأطعم ستين مسكينا ) . قال : فأعني . فأعانه بشيء . قال أبو جعفر النحاس : أهل التفسير على أنها خولة وزوجها أوس بن الصامت ، واختلفوا في نسبها ، قال بعضهم : هي أنصارية وهي بنت ثعلبة ، وقال بعضهم : هي بنت دليج ، وقيل : هي بنت خويلد ، وقال بعضهم : هي بنت الصامت ، وقال بعضهم : هي أمة كانت لعبدالله بن أبي ، وهي التي أنزل الله فيها{ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا } [ النور : 33 ] لأنه كان يكرهها على الزنى . وقيل : هي بنت حكيم . قال النحاس : وهذا ليس بمتناقض ، يجوز أن تنسب مرة إلى أبيها ، ومرة إلى أمها ، ومرة إلى جدها ، ويجوز أن تكون أمة كانت لعبدالله بن أبي فقيل لها أنصارية بالولاء ، لأنه كان في عداد الأنصار وإن كان من المنافقين .
الثانية- قرئ " قد سمع الله " بالإدغام و " قد سمع الله " بالإظهار . والأصل في السماع إدراك المسموعات ، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن . وقال ابن فورك : الصحيح أنه إدراك المسموع . وقال الحاكم أبو عبد الله في معنى السميع : إنه المدرك للأصوات التي يدركها المخلقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن ، وذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عليه ، وإن كان غير موصوف بالحس المركب في الأذن ، كالأصم من الناس لما لم تكن له هذه الحاسة لم يكن أهلا لإدراك الصوت . والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة والحياة والإرادة ، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه وتعالى متصفا بهما . وشكى واشتكى بمعنى واحد . وقرئ " تحاورك " أي تراجعك الكلام و " تجادلك " أي تسائلك .
سورة المجادلة{[1]}
مقصودها الإعلام بإيقاع البأس الشديد ، الذي{[2]} أشارت إليه الحديد ، بمن حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لما له سبحانه من تمام العلم ، اللازم عنه تمام القدرة ، اللازم عنه الإحاطة بجميع صفات الكمال ، وعلى ذلك{[3]} دلت تسميتها بالمجادلة بأول قصتها{[4]} وآخرها ، وعلى تكرير الاسم الأعظم الجامع في القصة وجميع السورة تكريرا لم يكن في سواها بحيث لم تخل منه آية ، وأما الآيات التي تكرر{[5]} في كل منها{[6]} المرتين فأكثر فكثرة كل ذلك للدلالة على أن الأكثر منها المراد فيها بالخطاب{[7]} من يصح أن ينظر إليه تارة بالجلال ، وتارة بالكمال ، فيجمع له الوصفان ، وهو من آمن ووقع منه هفوة أو عصيان ، ولهذا ضمتها أشياء شدد النكير{[8]} فيها حين وقع فيها بعض أهل الإيمان ، ولم يبحها لهم عند وقوعهم فيها ردا للشرع إلى ما دعا إليه الطبع كما فعل في غيرها كالأكل والجماع في ليل رمضان من غير تقييد بيقظة{[9]} ولا منام لمنابذتها للحكمة ، وبعدها عن موجبات الرحمة .
وهذا مؤيد لما تقدم من سر إخلاء الواقعة والرحمن والقمر من هذا الاسم الجامع- والله الموفق ( بسم الله ) الذي أحاط علمه فتمت قدرته فكملت جميع صفاته ( الرحمن ) الذي شمل الخلائق جودا بالإيجاد وإرسال هداته{[10]}( الرحيم ) الذي خص أصفياءه فتمت عليهم نعمة مرضاته .
لما ختمت الحديد بعث إثبات عجز{[62918]} الخلق بعظيم الفضل له سبحانه ، وكان سماع أصوات جميع الخلائق من غير أن يشغل{[62919]} صوت عن صوت وكلام عن كلام من الفضل العظيم ، وكان قد تقدم ابتداع بعض المتعبدين{[62920]} من الرهبانية بما لم يصرح لهم بالإذن فيه ، فكان سبباً للتضييع ، وكان الظهار على نوعين : موقت ومطلق ، وكان الموقت مما يدخل في الرهبانية لأنه من التبتل وتحريم ما أحل الله من الطيبات ، وكان بعض الصحابة رضي الله عنهم قد منع نفسه{[62921]} بالموقت منه من مرغوبها مما لم يأت عن الله ، فظاهر من امرأته محافظة على كمال التعبد خوفاً من الجماع في نهار رمضان ، وكان ذلك مما لم يأذن به بل نهى عنه كما روى أبو داود{[62922]} عن أنس رضي الله عنه والطبراني في الأوسط عن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تشددوا على أنفسكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم ، وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات " وكان بعض الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - قد ظاهر مطلقاً فشكت امرأته ما لحقها من الضرر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهتفت{[62923]} باسم الله ، وكان علمه سبحانه بخصوص شكاية هذه المرأة المسكينة{[62924]} وإزالة ضررها بحكم{[62925]} عام لها ولغيرها من عباده حتى صارت واقعتها رخصة عامة للمسلمين إلى يوم القيامة معلماً بأنه ذو الفضل العظيم ، وأنه الظاهر الباطن ، ذو الملك كله ، وكان قد أمر بالإيمان به وبرسوله ووعد على ذلك بالنور ، كان{[62926]} السامع لذلك جديراً{[62927]} بتوقع البيان الذي هو النور في هذه الرهبانية التي ابتدعت في{[62928]} هذه الأمة ، وتخفيف الشديد الذي وقع عن بعضهم ليعلم أهل الكتاب ما لهذه الأمة من الكرامة {[62929]}على ربها{[62930]} وأنه يختص برحمته من يشاء فقال : { قد سمع الله } أي أجاب{[62931]} بعظيم فضله الذي أحاط بجميع صفات الكمال فوسع{[62932]} سمعه الأصوات { قول } وعبر بالوصف دون الاسم تعريفاً برحمته الشاملة فقال : { التي تجادلك } أي تبالغ في أن تقبلك إلى مرادها { في زوجها } أي في الأمر المخلص له من ظهاره رحمة لها { وتشتكي } أي تتعمد بتلك المجادلة الشكوى ، منتهية { إلى الله } أي الملك العظيم الرحيم الذي أحاط بكل شيء علماً ، ولصدقها في شكواها وقطع رجائها في كشف ما بها من غير الله كانت هي والنبيُّ صلى الله عليه وسلم متوقعين أن الله يكشف ضرها { والله } أي والحال أن الذي وسعت رحمته كل شيء لأن له الأمر كله { يسمع تحاوركما } أي مراجعتكما التي يحور - أي يرجع فيها{[62933]} إلى كل منكما جواب كلامه من الآخر كأنها لثقل ما قدح في أمرها ونزل من ضرها ناشئة عن{[62934]} حيرة .
ولما كان ذلك في غاية ما يكون من خرق العادة بحيث إن الصديقة عائشة رضي الله عنها قالت عند نزول الآية : " الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد كلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جانب البيت ما أسمع كثيراً مما تقول " أكده تنبيهاً على شدة غرابته ولأنه{[62935]} ربما استبعده من اشتد جهله لعراقته في التقيد{[62936]} بالعادات فقال : { إن الله } أي الذي أحاط بجميع صفات الكمال فلا كفؤ له { سميع بصير * } أي بالغ السمع لكل مسموع ، والبصر لكل ما يبصر والعلم لكل ما يصح أن يعلم أزلاً وأبداً ، وقد مضى نحو هذا التناسب في المائدة حين أتبع تعالى آية القسيسين والرهبان قوله تعالى :{ يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم }{[62937]} غير أن هذا خاص وذاك{[62938]} عام ، فهذا فرد منه ، فالمناسبة واحدة لأن الأخص في ضمن الأعم ، والحاصل أنه سبحانه امتنَّ عليهم بما جعل في قلوبهم من الرهبانية وغيرها ، وأخبر أنهم لم يوفوها حقها ، وأنه آتى مؤمنيهم الأجر ، وأمر المسلمين بالتقوى واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ليحصل لهم من فضله العظيم ضعف ما حصل لأهل الكتاب ، ونهاهم عن التشديد على أنفسهم بالرهبانية ، فصاروا مفضلين من وجهين : كثرة الأجر وخفة العمل ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء - والله أعلم ، روى البزار{[62939]} من طريق خصيف عن عطاء ومن غيرها أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال : يا رسول الله ! إني ظاهرت من امرأتي ورأيت ساقها في القمر فواقعتها{[62940]} قبل أن أكفر ، قال " كفِّر ولا تعد " وروى أبو داود{[62941]} عن عكرمة أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : " ما حملك على ما صنعت ؟ قال : رأيت بياض ساقيها في القمر ، قال : فاعتزلها حتى تكفر عنك " قال المنذري : وأخرجه أيضاً عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عكرمة عن ابن{[62942]} عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه ، وأخرجه النسائي{[62943]} وابن ماجة{[62944]} والترمذي{[62945]} - وقال : حديث{[62946]} حسن غريب صحيح - وقال النسائي : المرسل أولى بالصواب من المسند ، وقال أبو بكر المعافري{[62947]} : ليس في الظهار حديث صحيح يعول{[62948]} عليه ، قال المنذري : وفيما قاله نظر ، فقد صححه {[62949]}الترمذي كما ترى ، ورجال إسناده ثقات ، وسماع بعضهم من بعض مشهور ، وترجمة عكرمة{[62950]} عن ابن عباس رضي الله عنهما احتج بها البخاري في غير موضع - انتهى . وللترمذي{[62951]} - وقال حسن غريب - عن سلمة بن صخر رضي الله عنه في المظاهر يواقع قبل أن يكفر قال : " كفّارة واحدة " ، " وروى أحمد{[62952]} والحاكم{[62953]} وأصحاب السنن{[62954]} إلا النسائي وحسنه الترمذي ، قال ابن الملقن : وصححه ابن حبان والحاكم - من طريق سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه قال : كنت أمرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري ، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً يتابع بي{[62955]} حتى أصبح{[62956]} فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان ، فبينا هي تخدمني ذات ليلة تكشف{[62957]} لي منها شيء فما لبث أن نزوت عليها{[62958]} ، فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر وقلت : امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : لا والله : فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال{[62959]} " أنت بذاك{[62960]} يا سلمة ؟ قلت : أنا بذاك{[62961]} يا رسول الله مرتين ، وأنا صابر لأمر الله ، فاحكم فيّ بما أراك الله ، وفي رواية : فأمض فيَّ حكم الله فإني صابر لذلك ، قال حرر رقبة . قلت : والذي بعثك بالحق ما أملك غيرها - وضربت صفحة رقبتي{[62962]} ، قال : فصم شهرين متتابعين ، قلت : وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام ، قال : فاطعم وسقاً من تمر بين ستين مسكيناً ، قال : والذي بعثك بالحق ، لقد بتنا وحشين ما لنا طعام ، قال : فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها " فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي ، وفي رواية : والبركة وقد أمرني - {[62963]}أو أمر لي{[62964]} - بصدقتكم ، وفي رواية : فادفعوها إليّ ، فدفعوها إليّ ) . وأعله عبد الحق بالانقطاع ، وأن سليمان لم يدرك سلمة ، حكى ذلك الترمذي عن البخاري ، وقال الترمذي : إن سلمة بن صخر يقال له سلمان أيضاً ، ورواه الإمام أحمد أيضاً{[62965]} من طريق أخرى{[62966]} قال " حدثنا عبد الله بن إدريس - هو الأودي - عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن{[62967]} سلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه قال : كنت أمرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري ، فلما دخل شهر رمضان خفت فتظاهرت من امرأتي في الشهر فبينا{[62968]} هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فلم ألبث{[62969]} أن وقعت عليها ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال " حرر رقبة ، فقلت : والذي بعثك بالحق ، ما أملك غير رقبتي ، قال : صم شهرين متتابعين ، قلت : وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام ؟ قال : فأطعم ستين مسكيناً " وهذا سند حسن متصل إن شاء الله إن سلم من تدليس ابن إسحاق ، ، وروى الحاكم و{[62970]}البيهقي{[62971]} من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وأبي سلمة بن عبد الرحمن
" أن سلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه جعل امرأته عليه كظهر أمه إن غشيها حتى يمضي رمضان ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اعتق رقبة " {[62972]} وقصة سلمة هذه أصل الظهار المؤقت ، وقد دلت على أنه لا عود فيه فلا كفارة عليه إلا{[62973]} بوطئها في مدة الظهار ، " وروى أبو داود{[62974]} عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة رضي الله عنها قالت : " ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت رضي الله عنه فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكوا إليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلني فيه ويقول{[62975]} :اتقي{[62976]} الله فإنه ابن عمك ، فما برحت حتى نزل القرآن{[62977]} { قد سمع الله } إلى الفرض ، فقال : يعتق رقبة ، قالت : لا يجد ، قال : يصوم شهرين متتابعين ، قالت : يا رسول الله ، إنه شيخ كبير ما به من صيام ، قال فليطعم ستين مسكيناً ، قالت : ما عنده من شيء يتصدق به قالت{[62978]} : فأتي ساعتئذ بعرق {[62979]}من{[62980]} تمر ، قلت : يا رسول الله ، فإني أعينه بعرق آخر ، قال : قد أحسنت أذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكيناً ، وارجعي إلى ابن عمك " قال : والعرق ستون صاعاً ، وفي رواية : والعرق مكتل{[62981]} يسع ثلاثين صاعاً ، " وروى الدارقطني{[62982]} أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " إن أوس بن الصامت رضي الله عنه ظاهر من امرأته خويلة بنت ثعلبة رضي الله عنها فشكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ظاهر مني حين{[62983]} كبر سني ورق عظمي ، فأنزل الله آية الظهار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأوس اعتق رقبة ، قال : مالي بذلك يدان ، قال : فصم{[62984]} شهرين متتابعين ، قال : أما إني إذا أخطأني أن آكل في اليوم مرتين يكل بصري{[62985]} ، قال فأطعم ستين مسكيناً " ، قال : ما أجد إلا أن{[62986]} تعينني{[62987]} منك بعون{[62988]} وصلة ، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعاً{[62989]} حتى جمع{[62990]} الله له ، والله{[62991]} رحيم " قال : وكانوا يرون أن عنده مثلها ، و{[62992]}ذلك لستين{[62993]} مسكيناً ، وللدراقطني{[62994]} أيضاً{[62995]} والبيهقي{[62996]} " أن خولة{[62997]} بنت ثعلبة رضي الله عنها رآها زوجها وهو أوس بن الصامت أخو عبادة{[62998]} رضي الله عنهما وهي تصلي فراودها فأبت فغضب ، وكان به{[62999]} لمم وخفة فظاهر منها ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب فيَّ ، فلما خلا سني ونثرت له بطني جعلني عليه كأمه " وللطبراني{[63000]} من طريق أبي معشر عن{[63001]} محمد بن كعب القرظي قال{[63002]} : " كانت خولة بنت ثعلبة تحت أوس بن الصامت وكان به لمم ، فقال في بعض هجراته : أنت عليّ كظهر أمي ، قال : ما أظنك إلا قد حرمت عليّ ، {[63003]}فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أوس بن الصامت أبو ولديَّ وأحب الناس إليّ والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقاً ، قال : ما أراك إلا قد حرمت عليه ، فقالت : يا رسول الله لا تقل كذلك والله ما ذكر طلاقاً ، فرادّت النبي صلى الله عليه وسلم مراراً ، ثم قالت : اللهم إني أشكو إليك فاقتي ووحدتي وما يشق عليّ من فراقه " الحديث ، ومن طريق أبي العالية قال : فجعل كلما قال لها " حرمت عليه " هتفت وقالت : أشكو إلى الله ، فلم ترم مكانها حتى نزلت الآية ، وروى أبو داود{[63004]} عن هشام بن عروة أن جميلة كانت تحت أوس ابن الصامت وكان رجلاً{[63005]} به لمم فكان إذا اشتد به لممه ظاهر من امرأته فأنزل الله عز وجل فيه كفارة الظهار ، وأخرجه من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها مثله . و{[63006]}قال القشيري : وفي الخبر أنها قالت : يا سول الله إن أوساً تزوجني شابة غنية ذات أهل ومال كثير ، فلما كبر عنده سني ، وذهب مالي وتفرق أهلي ، جعلني عليه كظهر أمه ، وقد ندم وندمت ، وإن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا ، يعني ففرج الله عنها ، وقد{[63007]} حصل من هذا مسألة ، وهو أن كثيراً من الأشياء ظاهر العلم يحكم فيه بشيء ثم الضرورة تغير ذلك الحكم لصاحبها ، قال البغوي{[63008]} : و{[63009]}كان هذا{[63010]} أول ظهار{[63011]} في الإسلام ، وقال أبو حيان{[63012]} : وكان عمر رضي الله عنه يكرم خولة رضي الله عنها إذا دخلت عليه ويقول{[63013]} : سمع الله لها ، فالمظاهرة في حديث سلمة رضي الله عنه موقتة ، وفي حديث خولة رضي الله عنها مطلقة ، وهي في قصة سلمة رضي الله عنه ومن نحا نحوه رهبانية مبتدعة لم ترع حق رعايتها كرهبانية النصارى ، ولم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداعها حق الاتباع{[63014]} ، وأما في قصة خولة رضي الله عنها فهي مصيبة كان ينبغي فيها التسليم وعدم الحزم كما في آية{ لكيلا تأسوا }[ الحديد : 23 ] الآية على أن امتناعها من زوجها حين راودها فيه إلمام بالرهبانية{[63015]} ، وإزالة شكايتها مع أنها امرأة ضعيفة من عظيم الفضل ، وزاده عظماً جعله حكماً{[63016]} عاماً لمن وقع فيه من جميع الأمة .