ويعقب على الحديث عن ولاية الظالمين بعضهم لبعض وولاية الله للمتقين ؛ وعن طبيعة هذا القرآن بالقياس إلى المتقين ، وأنه بصائر وهدى ورحمة لأهل اليقين . يعقب على هذا الحديث بالتفرقة الحاسمة بين حال الذين يجترحون السيئات وحال الذين يعملون الصالحات وهم مؤمنون . ويستنكر أن يسوى بينهم في الحكم ، وهم مختلفون في ميزان الله . والله قد أقام السماوات والأرض على أساس الحق والعدل ؛ والحق أصيل في تصميم هذا الكون .
( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات . سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون . وخلق الله السماوات والأرض بالحق ، ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ) . .
ويجوز أن يكون الحديث هنا عن أهل الكتاب ، الذين انحرفوا عن كتابهم ، واجترحوا السيئات ، وظلوا يحسبون أنفسهم في صفوف المؤمنين ، ويجعلون أنفسهم أكفاء للمسلمين الذين يعملون الصالحات ، أنداداً لهم في تقدير الله سواء في الحياة أو بعد الممات . أي عند الحساب والجزاء . . كما يجوز أن يكون حديثاً عاماً بقصد بيان قيم العباد في ميزان الله . ورجحان كفة المؤمنين أصحاب العمل الصالح ؛ واستنكار التسوية بين مجترحي السيئات وفاعلي الحسنات ، سواء في الحياة أو في الممات . ومخالفة هذا للقاعدة الثابتة الأصيلة في بناء الوجود كله . قاعدة الحق . الذي يتمثل في بناء الكون ، كما يتمثل في شريعة الله . والذي يقوم به الكون كما تقوم به حياة الناس . والذي يتحقق في التفرقة بين المسيئين والمصلحين في جميع الأحوال ؛ وفي مجازاة كل نفس بما كسبت من هدى أو ضلال ؛ وفي تحقيق العدل للناس أجمعين : ( وهم لا يظلمون ) . .
ومعنى أصالة الحق في بناء الكون ، وارتباطه بشريعة الله للبشر ، وحكمه عليهم يوم الحساب والجزاء ، معنى يتكرر في القرآن الكريم ، لأنه أصل من أصول هذه العقيدة ، تجتمع عليه مسائلها المتفرقة ، وترجع إليه في الأنفس والآفاق ، وفي ناموس الكون وشريعة البشر . وهو أساس " فكرة الإسلام عن الكون والحياة والإنسان "
اجترحوا السيئات : اكتسبوا الكفر والمعاصي .
ساء ما يحكمون : قبح ما يقضون به .
21- { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } .
زعم الكافرون أن القيامة إذا قامت فإن لهم منزلة سامية عند الله ، كما كانوا في الدنيا ، فسيكونون كذلك في الآخرة ، وقد رد الله عليهم بأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات قد أطاعوا الله وأطاعوا رسوله ، فاستحقوا رضوان الله في الدنيا ، وجنته في الآخرة ، أما الكافرون فقد خالفوا أمر الله وكذبوا رسوله ، فاستحقوا غضب الله في الدنيا ، وعذاب النار في الآخرة .
المعنى : إنكار أن يستوي المحسنون والمسيئون محيا ، وأن يستووا مماتا ، لافتراق أحوالهم في ذلك ، والآية متضمنة للرد على الكفار ، كما يعرف بأدنى تدبر ، لأن الله إذا أنكر عليهم المساواة ، فكيف بالأفضلية ؟
المؤمنون عملوا أعمالا صالحة ، فحافظوا على الإيمان والطاعة ، وابتعدوا عن معصية الله ، والكافرون اقترفوا المعاصي والفسوق في الدنيا ، وإذا لم يستويا في الدنيا عملا ، فلن يستويا في الآخرة في الجزاء .
وقد جاء هذا المعنى في سورة السجدة ، قال تعالى : { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون * أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا فمأواهم النار . . . } ( السجدة : 18-20 ) .
وقال تعالى : { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون } . ( الحشر : 20 ) .
أي : ساء ما ظنوا ، وبعد أن نساوي بين الأبرار والفجار في الآخرة ، وفي هذه الدار .
المؤمن يموت مؤمنا ويبعث مؤمنا ، والكافر يموت كافرا ويبعث كافرا ، نقله القرطبي في تفسيره .
وقد كان الصحابة والتابعون يرددون هذه الآية هضما لأنفسهم ، وترغيبا لأنفسهم في الحسنات ، وتزهيدا في السيئات ، فقد أخرج الطبراني ، عن أبي الضحى ، عن مسروق أن تميما الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات . . . }
وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه إذا قرأها : ليت شعري ، من أي الفريقين أنت ؟
{ 21 } { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }
أي : أم حسب المسيئون المكثرون من الذنوب المقصرون في حقوق ربهم { أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بأن قاموا بحقوق ربهم ، واجتنبوا مساخطه ولم يزالوا مؤثرين رضاه على هوى أنفسهم ؟ أي : أحسبوا أن يكونوا { سَوَاءً } في الدنيا والآخرة ؟ ساء ما ظنوا وحسبوا وساء ما حكموا به ، فإنه حكم يخالف حكمة أحكم الحاكمين وخير العادلين ، ويناقض العقول السليمة والفطر المستقيمة ، ويضاد ما نزلت به الكتب وأخبرت به الرسل ، بل الحكم الواقع القطعي أن المؤمنين العاملين الصالحات لهم النصر والفلاح والسعادة والثواب في العاجل والآجل كل على قدر إحسانه ، وأن المسيئين لهم الغضب والإهانة والعذاب والشقاء في الدنيا والآخرة .
{ أم حسب الذين اجترحوا السيئات } اكتسبوا الكفر والمعاصي { أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم } مستويا حياتهم وموتهم ، أي المؤمن مؤمن حيا وميتا والكافر كافر حيا وميتا فلا يستويان { ساء ما يحكمون } بئس ما يقضون إذ حسبوا أنهم كالمؤمنين . نزلت هذه الآية حين قال المشركون لئن كان ما تقولون حقا لنفضلن عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا .
قوله تعالى : " أم حسب الذين اجترحوا السيئات " أي اكتسبوها . والاجتراح : الاكتساب ، ومنه الجوارح ، وقد تقدم في " المائدة " {[13787]} . " أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات " قال الكلبي : " الذين اجترحوا " عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة . و " الذين آمنوا " علي وحمزة وعبيدة بن الحارث - رضي الله عنهم - حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم . وقيل : نزلت في قوم من المشركين قالوا : إنهم يعطون في الآخرة خيرا مما يعطاه المؤمن ، كما أخبر الرب عنهم في قوله : " ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى " {[13788]} [ فصلت : 50 ] . وقوله : " أم حسب " استفهام معطوف معناه الإنكار . وأهل العربية يجوزون ذلك من غير عطف إذا كان متوسطا للخطاب . وقوم يقولون : فيه إضمار ، أي والله ولي المتقين أفيعلم المشركون ذلك أم حسبوا أنا نسوي بينهم . وقيل : هي أم المنقطعة ، ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان . وقراءة العامة " سواء " بالرفع على أنه خبر ابتداء مقدم ، أي محياهم ومماتهم سواء . والضمير في " محياهم ومماتهم " يعود على الكفار ، أي محياهم محيا سوء ومماتهم كذلك . وقرأ حمزة والكسائي والأعمش بالنصب ، واختاره أبو عبيد قال : معناه نجعلهم سواء . وقرأ الأعمش أيضا وعيسى بن عمر " ومماتهم " بالنصب ، على معنى سواء في محياهم ومماتهم ، فلما أسقط الخافض انتصب . ويجوز أن يكون بدلا من الهاء والميم في نجعلهم . المعنى : أن نجعل محياهم ومماتهم سواء كمحيا الذين آمنوا ومماتهم . ويجوز أن يكون الضمير في " محياهم ومماتهم " للكفار والمؤمنين جميعا . قال مجاهد : المؤمن يموت مؤمنا ويبعث مؤمنا ، والكافر يموت كافرا ويبعث كافرا . وذكر ابن المبارك أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحا عن مسروق قال : قال رجل من أهل مكة : هذا مقام تميم الداري ، لقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله ويركع ويسجد ويبكي " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات " الآية كلها . وقال بشير : بت عند الربيع بن خيثم ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية فمكث ليله حتى أصبح لم يعْدُهَا ببكاء شديد . وقال إبراهيم بن الأشعث : كثيرا ما رأيت الفضيل بن عياض يردد من أول الليل إلى آخره هذه الآية ونظيرها ، ثم يقول : ليت ، شعري ! من أي الفريقين أنت ؟ وكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين ؛ لأنها محكمة .
{ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا } : { أم } هنا للإنكار ، و{ اجترحوا } اكتسبوا ، والمراد ب{ الذين اجترحوا السيئات } الكفار لمقابلته بالذين آمنوا ، ولأن الآية مكية : وقد يتناول لفظها المذنبين من المؤمنين ، ولذلك يذكر أن الفضيل بن عياض قرأها بالليل فما زال يرددها ويبكي طول الليل ويقول لنفسه : من أي الفريقين أنت ، ومعناها : إنكار ما حسبه الكفار من أن يكونوا هم والمؤمنون سواء في المحيا والممات ، وفي تأويلها مع ذلك قولان :
أحدهما : أن المراد ليس المؤمنون سواء مع الكفار لا في المحيا ولا في الممات ، فإن المؤمنين عاشوا على التقوى والطاعة ، والكفار عاشوا على الكفر والمعصية وكذلك ملتهم ليست سواء . والقول الآخر : أنهم استووا في المحيا في أمور الدنيا من الصحة والرزق فلا يستوون في الممات ، بل يسعد المؤمنون ويشقى الكافرون ، فالمراد بها إثبات الجزاء في الآخرة وتفضيل المؤمنين على الكافرين في الآخرة ، وهذا المعنى هو الأظهر والأرجح فيكون معنى الآية كقوله : { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } [ القلم : 35 ] وكقوله : { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } [ ص : 28 ] .
{ سواء محياهم ومماتهم } هذه الجملة بدل من الكاف في قوله : ك{ الذين آمنوا } وهي مفسرة للتشبيه ، وهي داخلة فيما أنكره الله مما حسبه الكفار وقيل : هي كلام مستأنف ؛ والمعنى على هذا أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء وأن محيا الكفار ومماتهم سواء ؛ لأن كل واحد يموت على ما عاش عليه ، وهذا المعنى على هذا بعيد ، والصحيح أنها من تمام ما قبلها على المعنى الذي اخترناه ، وأما إعرابها فمن قرأ سواء بالرفع فهو مبتدأ وخبره محياهم ومماتهم والجملة بدل من الجار والمجرور الواقع مفعولا ثانيا لنجعل ، ومن قرأ سواء بالنصب فهو حال أو مفعول ثان لنجعل ، ومحياهم فاعل بسواء ، لأنه في معنى مستو .
{ ساء ما يحكمون } أي : ساء حكمهم في تسويتهم بين أنفسهم وبين المؤمنين .
ولما كان{[58118]} التقدير بعد هذا البيان الذي لم يدع لبساً في أمر الحساب بما حده من الملك الذي يوجب ما له-{[58119]} من العظمة والحكمة أن يحاسب عبيده لثواب المحسن وعقاب المسيء ، أعلم{[58120]} هؤلاء المخاطبون - لأنهم لا يعدون أن يكونوا من الناس أو من الذين يوقنون بهذه البصائر لما لهم من حسن الغرائز المعلية{[58121]} لهم عن حضيض الحيوان إلى أوج الإنسان أنا نفرق{[58122]} بين{[58123]} المسيئين الذين بعضهم أولياء بعض وبين المحسنين الذين نحن أولياؤهم ، عطف عليه سبحانه وتعالى قوله : { أم } قال الأصبهاني : قال الإمام : كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفاً على آخر سواء كان المعطوف مذكوراً أو مضمراً - انتهى . وكان الأصل : حسبوا{[58124]} ، ولكنه عدل-{[58125]} عنه {[58126]}للتنبيه على أن ارتكاب{[58127]} السوء معم للبصيرة مضعف للعقل كما أفاده التعبير بالحسبان كما تقدم بيانه في البقرة فقال : { حسب الذين اجترحوا } أي فعلوا{[58128]} بغاية جهدهم ونزوع{[58129]} شهواتهم { السيئات أن نجعلهم } مع ما لنا من العظمة المانعة من الظلم المقتضية للحكمة { كالذين آمنوا وعملوا } تصديقاً لإقرارهم {[58130]}ظاهراً وباطناً وسراً وعلانية{[58131]} { الصالحات } بأن نتركهم بلا حساب للفصل بين المحسن والمسيء .
ولما كانت المماثلة مجملة ، بينها استئنافاً بقوله {[58132]}مقدماً ما{[58133]} هو عين المقصود من الجملة الأولى : { سواء } أي مستو استواء عظيماً { محياهم ومماتهم } أي حياتهم وموتهم وزمان ذلك ومكانه في الارتفاع والسفول واللذة والكدر وغير ذلك من الأعيان والمعاني{[58134]} . ولما كان هذا مما لا يرضاه أحد لمن تحت يده ولا لغيره ، قال معبراً بمجمع الذم : { ساء ما يحكمون * } أي بلغ حكمهم هذا في نفسه ولا سيما وهم بإصرارهم عليه في تجديد له-{[58135]} كل ساعة أقصى نهايات السوء ، فهو مما يتعجب منه ، لأنه لا يدري الحامل عليه ، وذلك أنهم نسبوا الحكيم الذي لا حكيم في الحقيقة غيره إلى ما لا يفعله أقل الناس فيمن تحت يده .