بعد ذلك يجيء الحديث عن الأمثال التي يضربها الله في القرآن :
( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما ، بعوضة فما فوقها ، فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ، وأما الذين كفروا فيقولون : ماذا أراد الله بهذا مثلا ؟ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ، وما يضل به إلا الفاسقين . الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ، ويفسدون في الأرض . . أولئك هم الخاسرون ) . .
وهذه الآيات تشي بأن المنافقين الذين ضرب الله لهم مثل الذي استوقد نارا ومثل الصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق - وربما كان اليهود كذلك والمشركون - قد اتخذوا من ورود هذه الأمثال في هذه المناسبة ، ومن وجود أمثال أخرى في القرآن المكي الذي سبق نزوله وكان يتلى في المدينة ، كالذي ضربه الله مثلا للذين كفروا بربهم ( كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ) . . وكالذي ضربه الله مثلا لعجز آلهتهم المدعاة عن خلق الذباب : ( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه . ضعف الطالب والمطلوب ) . .
نقول : إن هذه الآيات تشي بأن المنافقين - وربما كان اليهود والمشركون - قد وجدوا في هذه المناسبة منفذا للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن ، بحجة أن ضرب الأمثال هكذا بما فيها من تصغير لهم وسخرية منهم لا تصدر عن الله ، وأن الله لا يذكر هذه الأشياء الصغيرة كالذباب والعنكبوت في كلامه ! . . وكان هذا طرفا من حملة التشكيك والبلبلة التي يقوم بها المنافقون واليهود في المدينة ، كما كان يقوم بها المشركون في مكة .
فجاءت هذه الآيات دفعا لهذا الدس ، وبيانا لحكمة الله في ضرب الأمثال ، وتحذيرا لغير المؤمنين من عاقبة الاستدراج بها ، وتطمينا للمؤمنين أن ستزيدهم إيمانا .
( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما ، بعوضة فما فوقها ) . .
فالله رب الصغير والكبير ، وخالق البعوضة والفيل ، والمعجزة في البعوضة هي ذاتها المعجزة في الفيل . إنها معجزة الحياة . معجزة السر المغلق الذي لا يعلمه إلا الله . . على أن العبرة في المثل ليست في الحجم والشكل ، إنما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير . وليس في ضرب الأمثال ما يعاب وما من شأنه الاستحياء من ذكره . والله - جلت حكمته - يريد بها اختبار القلوب ، وامتحان النفوس :
( فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ) . .
ذلك أن إيمانهم بالله يجعلهم يتلقون كل ما يصدر عنه بما يليق بجلاله ؛ وبما يعرفون من حكمته . وقد وهبهم الإيمان نورا في قلوبهم ، وحساسية في أرواحهم ، وتفتحا في مداركهم ، واتصالا بالحكمة الإلهية في كل أمر وفي كل قول يجيئهم من عند الله .
( وأما الذين كفروا فيقولون : ماذا أراد الله بهذا مثلا ؟ ) . .
وهو سؤال المحجوب عن نور الله وحكمته ، المقطوع الصلة بسنة الله وتدبيره . ثم هو سؤال من لا يرجو لله وقارا ، ولا يتأدب معه الأدب اللائق بالعبد أمام تصرفات الرب . يقولونها في جهل وقصور في صيغة الاعتراض والاستنكار ، أو في صورة التشكيك في صدور مثل هذا القول عن الله !
هنا يجيئهم الجواب في صورة التهديد والتحذير بما وراء المثل من تقدير وتدبير :
( يضل به كثيرا ، ويهدي به كثيرا ، وما يضل به إلا الفاسقين ) . .
والله - سبحانه - يطلق الابتلاءات والامتحانات تمضي في طريقها ، ويتلقاها عباده ، كل وفق طبيعته واستعداده ، وكل حسب طريقه ومنهجه الذي اتخذه لنفسه . والابتلاء واحد . . ولكن آثاره في النفوس تختلف بحسب اختلاف المنهج والطريق . . الشدة تسلط على شتى النفوس ، فأما المؤمن الواثق بالله وحكمته ورحمته فتزيده الشدة التجاء إلى الله وتضرعا وخشية . وأما الفاسق أو المنافق فتزلزله وتزيده من الله بعدا ، وتخرجه من الصف إخراجا . والرخاء يسلط على شتى النفوس ، فأما المؤمن التقي فيزيد الرخاء يقظة وحساسية وشكرا . وأما الفاسق أو المنافق فتبطره النعمة ويتلفه الرخاء ويضله الابتلاء . . وهكذا المثل الذي يضربه الله للناس . . ( يضل به كثيرا ) . . ممن لا يحسنون استقبال ما يجيئهم من الله ، ( ويهدي به كثيرا )ممن يدركون حكمة الله . ( وما يضل به إلا الفاسقين ) . . الذين فسقت قلوبهم من قبل وخرجت عن الهدى والحق ، فجزاؤهم زيادتهم مما هم فيه !
{ إِنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللّهُ بِهََذَا مَثَلاً يُضِلّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ }
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أنزل الله جل ثناؤه فيه هذه الآية وفي تأويلها .
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين ، يعني قوله : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا وقوله : أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السّماءِ الاَيات الثلاث ، قال المنافقون : الله أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال . فأنزل الله إنّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً إلى قوله : أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ .
حدثني به أحمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا قُراد عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، في قوله تعالى : إنّ اللّهَ لا يَسْتَحِيِي أنْ يَضرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةٌ فَمَا فَوْقَهَا قال : هذا مثل ضربه الله للدنيا ، إن البعوضة تحيا ما جاعت ، فإذا سمنت ماتت ، وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن ، إذا امتلئوا من الدنيا رِيّا أخذهم الله عند ذلك . قال : ثم تلا فلَمّا نَسُوا ما ذُكّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ الآية .
وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس بنحوه ، إلا أنه قال : فإذا خلت آجالهم ، وانقطعت مدتهم ، صاروا كالبعوضة تحيا ما جاعت وتموت إذا رويت فكذلك هؤلاء الذين ضرب الله لهم هذا المثل إذا امتلئوا من الدنيا ريّا أخذهم الله فأهلكهم ، فذلك قوله : حَتّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أخَذْناهُمْ بَغْتَةً فإذا هُمْ مُبْلِسُونَ .
حدثنا به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : إن اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا أي إن الله لا يستحيي من الحقّ أن يذكر منه شيئا ما قل منه أو كثر . إن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت ، قال أهل الضلالة : ما أراد الله من ذكر هذا ؟ فأنزل الله : إنّ اللّهَ لا يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا .
وحدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : لما ذكر الله العنكبوت والذباب ، قال المشركون : ما بال العنكبوت والذباب يذكران ؟ فأنزل الله : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَها .
وقد ذهب كل قائل ممن ذكرنا قوله في هذه الآية وفي المعنى الذي نزلت فيه مذهبا ، غير أن أولى ذلك بالصواب وأشبهه بالحقّ ما ذكرنا من قول ابن مسعود وابن عباس . وذلك أن الله جل ذكره أخبر عباده أنه لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها عقيب أمثال قد تقدمت في هذه السورة ضربها للمنافقين دون الأمثال التي ضربها في سائر السور غيرها . فلأن يكون هذا القول ، أعني قوله : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما جوابا لنكير الكفار والمنافقين ما ضُرب لهم من الأمثال في هذه السورة أحقّ وأولى من أن يكون ذلك جوابا لنكيرهم ما ضرب لهم من الأمثال في غيرها من السور .
فإن قال قائل : إنما أوجب أن يكون ذلك جوابا لنكيرهم ما ضرب من الأمثال في سائر السور لأن الأمثال التي ضربها الله لهم ولاَلهتهم في سائر السور أمثال موافقة المعنى ، لما أخبر عنه أنه لا يستحي أن يضربه مثلاً ، إذْ كان بعضها تمثيلاً لاَلهتهم بالعنكبوت وبعضها تشبيها لها في الضعف والمهانة بالذباب ، وليس ذكر شيء من ذلك بموجود في هذه السورة فيجوز أن يقال : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما فإن ذلك بخلاف ما ظن ، وذلك أن قول الله جل ثناؤه : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا إنما هو خبر منه جل ذكره أنه لا يستحيي أن يضرب في الحقّ من الأمثال صغيرها وكبيرها ابتلاءً بذلك عباده واختبارا منه لهم ليميز به أهل الإيمان والتصديق به من أهل الضلال والكفر به ، إضلالاً منه به لقوم وهداية منه به لاَخرين كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : مَثَلاً مَا بَعُوضَةً يعني الأمثال صغيرها وكبيرها ، يؤمن بها المؤمنون ، ويعلمون أنها الحقّ من ربهم ، ويهديهم الله بها ، ويضلّ بها الفاسقين . يقول : يعرفه المؤمنون فيؤمنون به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به .
وحدثني المثنى ، قال حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله .
وحدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .
قال أبو جعفر : لا أنه جل ذكره قصد الخبر عن عين البعوضة أنه لا يستحيي من ضرب المثل بها ، ولكن البعوضة لما كانت أضعف الخلق ، كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : البعوضة أضعف ما خلق الله .
وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج بنحوه . خصها الله بالذكر في القلة ، فأخبر أنه لا يستحيي أن يضرب أقلّ الأمثال في الحقّ وأحقرها وأعلاها إلى غير نهاية في الارتفاع جوابا منه جل ذكره لمن أنكر من منافقي خلقه ما ضرب لهم من المثل بموقد النار والصيّب من السماء على ما نَعَتهما به من نَعْتهما .
فإن قال لنا قائل : وأين ذكر نكير المنافقين الأمثال التي وصفت الذي هذا الخبر جوابه ، فنعلم أن القول في ذلك ما قلت ؟ قيل : الدلالة على ذلك بينها جلّ ذكره في قوله : فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ وأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً وأن القوم الذين ضرب لهم الأمثال في الاَيتين المقدمتين ، اللتين مثّل ما عليه المنافقون مقيمون فيهما بمُوقِدِ النار وبالصيب من السماء على ما وصف من ذلك قبل قوله : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً قد أنكروا المثل وقالوا : ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً ، فأوضح خطأ قيلهم ذلك ، وقبح لهم ما نطقوا به وأخبرهم بحكمهم في قيلهم ما قالوا منه ، وأنه ضلال وفسوق ، وأن الصواب والهدى ما قاله المؤمنون دون ما قالوه .
وأما تأويل قوله : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي فإن بعض المنسوبين إلى المعرفة بلغة العرب كان يتأول معنى : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي إن الله لا يخشى أن يضرب مثلاً ، ويستشهد على ذلك من قوله بقول الله تعالى : وَتَخْشَى الناسَ وَاللّهُ أحَقّ أنْ تَخْشاهُ ويزعم أن معنى ذلك : وتستحي الناسَ والله أحقّ أن تستحيه فيقول : الاستحياء بمعنى الخشية ، والخشية بمعنى الاستحياء .
وأما معنى قوله : أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً فهو أن يبين ويصف ، كما قال جل ثناؤه : ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ بمعنى وصف لكم ، وكما قال الكميت :
وذَلِكَ ضَرْبُ أخْماسٍ أُرِيدَت ْلأِسْدَاسٍ عَسَى أنْ لا تَكُونا
بمعنى وصف أخماس . والمثل : الشبه ، يقال : هذا مَثَلُ هذا ومِثْلُه ، كما يقال : شَبَهُه وشِبْهُه ، ومنه قول كعب بن زهير :
كانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلاً *** وَمَا مَوَاعِيدُها إلاّ الأباطِيلُ
فمعنى قوله إذا : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلاً : إن الله لا يخشى أن يصف شبها لما شبه به وأما «ما » التي مع «مثل » فإنها بمعنى «الذي » ، لأن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة في الصغر والقلة فما فوقها مثلاً .
فإن قال لنا قائل : فإن كان القول في ذلك كما قلت فما وجه نصب البعوضة ، وقد علمت أن تأويل الكلام على ما تأوّلت : إنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أن يَضْرِبَ مَثَلاً الذي هو بعوضة ، فالبعوضة على قولك في محل الرفع ، فأنّى أتاها النصب ؟ قيل : أتاها النصب من وجهين : أحدهما أن «ما » لما كانت في محل نصب بقوله : يَضْرِب وكانت البعوضة لها صلة أعربت بتعريبها فألزمت إعرابها كما قال حسان بن ثابت :
وكَفَى بِنا فَضْلاً على مَنْ غَيْرِنا حُبّ النّبِيّ مُحَمّدٍ إيّانا
فعرّبت غير بإعراب «مَنْ » ، فالعرب تفعل ذلك خاصة في «من » و«ما » تعرب صلاتهما بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة أحيانا ونكرة أحيانا .
وأما الوجه الاَخر ، فأن يكون معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة إلى ما فوقها ، ثم حذف ذكر «بين » و«إلى » ، إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في «ما » الثانية دلالة عليهما ، كما قالت العرب : «مُطرنا ما زبالة فالثعلبية » ، و«له عشرون ما ناقة فجملاً » ، و«هي أحسن الناس ما قرنا فقدما » ، يعنون : ما بين قرنها إلى قدمها ، وكذلك يقولون في كل ما حسن فيه من الكلام دخول «ما بين كذا إلى كذا » ، ينصبون الأول والثاني ليدلّ النصب فيهما على المحذوف من الكلام . فكذلك ذلك في قوله : ما بعوضة فما فوقها .
وقد زعم بعض أهل العربية أن «ما » التي مع المَثَل صلة في الكلام بمعنى التطوّل ، وأن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلاً فما فوقها . فعلى هذا التأويل يجب أن تكون بعوضة منصوبة ب«يضرب » ، وأن تكون «ما » الثانية التي في «فما فوقها » معطوفة على البعوضة لا على «ما » .
وأما تأويل قوله : فَمَا فَوْقَهَا : فما هو أعظم منها عندي لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جريج أن البعوضة أضعف خلق الله ، فإذا كانت أضعف خلق الله فهي نهاية في القلة والضعف ، وإذ كانت كذلك فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء لا يكون إلا أقوى منه ، فقد يجب أن يكون المعنى على ما قالاه فما فوقها في العظم والكبر ، إذ كانت البعوضة نهاية في الضعف والقلة .
وقيل في تأويل قوله : فَمَا فَوْقَها في الصغر والقلة ، كما يقال في الرجل يذكره الذاكر فيصفه باللؤم والشحّ ، فيقول السامع : نعم ، وفوق ذاك ، يعني فوق الذي وصف في الشحّ واللؤم . وهذا قول خلاف تأويل أهل العلم الذين تُرتضى معرفتهم بتأويل القرآن .
فقد تبين إذا بما وصفنا أن معنى الكلام : إن الله لا يستحيي أن يصف شبها لما شبه به الذي هو ما بين بعوضة إلى ما فوق البعوضة . فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة فغير جائز في «ما » إلا ما قلنا من أن تكون اسما لا صلة بمعنى التطول .
القول في تأويل قوله تعالى : فَأما الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ وأما الّذِينَ كَفَروا فَيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ الله بِهَذَا مَثَلاً .
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ذكره : فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فأما الذين صدقوا الله ورسوله . وقوله : فَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ يعني فيعرفون أن المثل الذي ضربه الله لما ضربه له مثل . كما .
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ أن هذا المثل الحق من ربهم أنه كلام الله ومن عنده . وكما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، قوله : فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ : أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه الحقّ من الله .
وأمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذا مَثَلاً
قال أبو جعفر : وقوله : وأما الّذِينَ كَفَرُوا يعني الذين جحدوا آيات الله وأنكروا ما عرفوا وستروا ما علموا أنه حقّ . وذلك صفة المنافقين ، وإياهم عنى الله جل وعزّ ومن كان من نظرائهم وشركائهم من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم بهذه الآية ، فيقولون : ماذا أراد الله بهذا مثلاً ، كما قد ذكرنا قبل من الخبر الذي رويناه عن مجاهد الذي .
حدثنا به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فأمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنّهُ الحَق مِنْ رَبّهِمْ الآية ، قال : يؤمن بها المؤمنون ، ويعلمون أنها الحقّ من ربهم ، ويهديهم الله بها ويضلّ بها الفاسقون . يقول : يعرفه المؤمنون فيؤمنون به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به .
وتأويل قوله : ماذَا أرَادَ الله بِهَذَا مَثَلاً ما الذي أراد الله بهذا المثل مثلاً ، ف«ذا » الذي مع «ما » في معنى «الذي » وأراد صلته ، وهذا إشارة إلى المثل .
القول في تأويل قوله تعالى : يضلّ به كَثِيرا ويَهْدِي بِهِ كَثِيرا .
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل وعزّ : يُضِلّ بِهِ كَثِيرا يضلّ الله به كثيرا من خلقه ، والهاء في «به » من ذكر المثل . وهذا خبر من الله جل ثناؤه مبتدأ ، ومعنى الكلام : أن الله يضلّ بالمثل الذي يضرّبه كثيرا من أهل النفاق والكفر . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : يُضِلّ بِهِ كَثِيرا يعني المنافقين ، وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرا يعني المؤمنين فيزيد هؤلاء ضلالاً إلى ضلالهم لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا من المثل الذي ضربه الله لما ضربه له وأنه لما ضربه له موافق ، فذلك إضلال الله إياهم به .
ويهدي به يعني بالمثل كثيرا من أهل الإيمان والتصديق ، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانا إلى إيمانهم ، لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا أنه موافق ما ضربه الله له مثلاً وإقرارهم به ، وذلك هداية من الله لهم به .
وقد زعم بعضهم أن ذلك خبر عن المنافقين ، كأنهم قالوا : ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد يضلّ به هذا ويهدي به هذا . ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله فقال الله : وَما يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفاسِقِينَ وفيما في سورة المدثر من قول الله : ( وَلِيَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ ماذَا أرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلّ اللّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) ما ينبىء عن أنه في سورة البقرة كذلك مبتدأ ، أعني قوله : يُضِلّ بِهِ كَثِيرا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما يُضِلِ بِهِ إِلاّ الفَاسِقِينَ .
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : وَما يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفَاسِقِينَ : هم المنافقون .
وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة : وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الفَاسِقِينَ فسقوا فأضلهم الله على فسقهم .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : وَما يُضِل بِهِ إِلاّ الفَاسِقِينَ : هم أهل النفاق .
قال أبو جعفر : وأصل الفسق في كلام العرب : الخروج عن الشيء ، يقال منه : فسقت الرطبة ، إذا خرجت من قشرها ومن ذلك سميت الفأرة فويسقة ، لخروجها عن جحرها . فكذلك المنافق والكافر سُميا فاسقين لخروجهما عن طاعة ربهما ، ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس : إلاّ إبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجنّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ يعني به : خرج عن طاعته واتباع أمره . كما :
حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق عن داود بن الحصين ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس في قوله : بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ أي بما بعدوا عن أمري .
فمعنى قوله : وَمَا يُضِلِ بِهِ إِلاّ الفاسِقِينَ : وما يضلّ الله بالمثل الذي يضربه لأهل الضلال والنفاق إلا الخارجين عن طاعته والتاركين اتباع أمره من أهل الكفر به من أهل الكتاب وأهل الضلال من أهل النفاق .
{ إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } .
قد يبدو في بادىء النظر عدم التناسب بين مساق الآيات السالفة ومساق هاته الآية ، فبينما كانت الآية السابقة ثناء على هذا الكتاب المبين ، ووصف حالي المهتدين بهديه والناكبين عن صراطه وبيان إعجازه والتحدي به مع ما تخلل وأعقب ذلك من المواعظ والزواجر النافعة والبيانات البالغة والتمثيلات الرائعة ، إذا بالكلام قد جاء يخبر بأن الله تعالى لا يعبأ أن يضرب مثلاً بشيء حقير أو غير حقير ، فحقيق بالناظر عند التأمل أن تظهر له المناسبة لهذا الانتقال ، ذلك أن الآيات السابقة اشتملت على تحدي البلغاء بأن يأتوا بسورة مثل القرآن ، فلما عجزوا عن معارضة النظم سلكوا في المعارضة طريقة الطعن في المعاني فلبسوا على الناس بأن في القرآن من سخيف المعنى ما ينزه عنه كلام الله ليصلوا بذلك إلى إبطال أن يكون القرآن من عند الله بإلقاء الشك في نفوس المؤمنين وبذر الخصيب في تنفير المشركين والمنافقين .
روى الواحدي في « أسباب النزول » عن ابن عباس أن الله تعالى لما أنزل قوله : { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه } [ الحج : 73 ] وقوله : { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } [ العنكبوت : 41 ] قال المشركون أرأيتم أي شيء يصنع بهذا فأنزل الله : { إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها } وروي عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب بها المثل ضحك اليهود وقالوا ما يشبه أن يكون هذا كلام الله فأنزل الله : { إن الله لا يستحي } الآية .
والوجه أن نجمع بين الروايتين ونبين ما انطوتا عليه بأن المشركين كانوا يفزعون إلى يهود يثرب في التشاور في شأن نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وخاصة بعد أن هاجر النبيء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فيتلقون منهم صوراً من الكيد والتشغيب فيكون قد تظاهر الفريقان على الطعن في بلاغة ضرب المثل بالعنكبوت والذباب فلما أنزل الله تعالى تمثيل المنافقين بالذي استوقد ناراً وكان معظمهم من اليهود هاجت أحناقهم وضاق خناقهم فاختلقوا هذه المطاعن فقال كل فريق ما نسب إليه في إحدى الروايتين ونزلت الآية للرد على الفريقين ووضح الصبح لذي عينين .
فيحتمل أن ذلك قاله علماء اليهود الذين لا حظ لهم في البلاغة ، أو قد قالوه مع علمهم بفنون ضرب الأمثال مكابرة وتجاهلاً . وكون القائلين هم اليهود هو الموافق لكون السورة نزلت بالمدينة ، وكان أشد المعاندين فيها هم اليهود ، ولأنه الأوفق بقوله تعالى : { وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله } وهذه صفة اليهود ، ولأن اليهود قد شاع بينهم التشاؤم والغلو في الحذر من مدلولات الألفاظ حتى اشتهروا باستعمال الكلام الموجه بالشتم والذم كقولهم{ رَاعنا } [ البقرة : 104 ] ، قال تعالى : { فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم } [ البقرة : 59 ] كما ورد تفسيره في « الصحيح » ولم يكن ذلك من شأن العرب .
وإما أن يكون قائله المشركون من أهل مكة مع علمهم بوقوع مثلِه في كلام بلغائهم كقولهم أَجرأُ من ذُبابة ، وأسْمَع من قُرادٍ ، وأطْيَشُ من فَراشة ، وأضعف من بَعُوضَة . وهذا الاحتمال أدَلُّ ، على أنهم ما قالوا هذا التمثيل إلا مكابرة ومعاندة فإنهم لما غُلبوا بالتحدي وعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله تعلقوا في معاذيرهم بهاته السفاسف ، والمكابرُ يقول ما لا يعتقد ، والمحجوج المبهوت يستعوج المستقيم ويخفي الواضح ، وإلى هذا الثاني ينزع كلام صاحب « الكشاف » وهو أوفق بالسياق .
والسورة وإن كانت مدنية فإن المشركين لم يزالوا يُلقون الشبه في صحة الرسالة ويشيعون ذلك بعد الهجرة بواسطة المنافقين . وقد دل على هذا المعنى قوله بعده : { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا } إلى قوله : { ويهدي به كثيراً } .
فإن قيل : لم يكن الرد عقب نزول الآيات الواقع فيها التمثيل الذي أنكروه فإن البدار بالرد على من في مقاله شبهة رائجة يكون أقطع لشبهته من تأخيره زماناً .
قلنا : الوجه في تأخير نزولها أن يقع الرد بعد الإتيان بأمثال معجبة اقتضاها مقام تشبيه الهيآت ، فذلك كما يمنع الكريم عدوه من عطاء فيلمزه الممنوع بلمز البخل ، أو يتأخر الكمي عن ساحة القتال مكيدة فيظنه ناس جبناً فيسرها الأول في نفسه حتى يأتيه القاصد فيعطيه عطاء جزلا ، والثاني حتى يكر كرة تكون القاضية على قرنه . فكذلك لما أتى القرآن بأعظم الأمثال وأروعها وهي قوله : { مثلهم كمثل الذي استوقد } [ البقرة : 17 ] { أو كصيب } [ البقرة : 19 ] الآيات وقوله : { صم بكم عمي } [ البقرة : 18 ] أتى إثر ذلك بالرد عليهم فهذا يبين لك مناسبة نزول هذه الآية عقب التي قبلها وقد غفل عن بيانه المفسرون .
والمراد بالمثل هنا الشبه مطلقاً لا خصوص المركب من هيئة ، بخلاف قوله فيما سبق { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } لأن المعنىَّ هنا ما طعنوا به في تشابيه القرآن مثل قوله : { لن يخلقوا ذباباً } [ الحج : 73 ] وقوله : { كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً } [ العنكبوت : 41 ] .
وأما الإتيان بالمسند إليه علماً دون غيره من الصفات فلأن هذا العلم جامع لجميع صفات الكمال فذكره أوقع في الإقناع بأن كلامه هو أعلى كلام في مراعاة ما هو حقيق بالمراعاة وفي ذلك أيضاً إبطال لتمويههم بأن اشتمال القرآن على مثل هذا المثل دليل على أنه ليس من عند الله فليس من معنى الآية أن غير الله ينبغي له أن يستحي أن يضرب مثلاً من هذا القبيل .
ولهذا أيضاً اختير أن يكون المسند خصوص فعل الاستحياء زيادة في الرد عليهم لأنهم أنكروا التمثيل بهاته الأشياء لمراعاة كراهة الناس ومثل هذا ضرب من الاستحياء كما سنبينه فنبهوا على أن الخالق لا يستحي من ذلك إذ ليس مما يستحي منه ، ولأن المخلوقات متساوية في الضعف بالنسبة إلى خالقها والمتصرف فيها ، وقد يكون ذكر الاستحياء هنا محاكاة لقولهم أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت .
فإن قلت : إذا كان استعمال هذه الألفاظ الدالة على معان حقيرة غير مخل بالبلاغة فما بالُنا نرى كثيراً من أهل النقد قد نقدوا من كلام البلغاء ما اشتمل على مثل هذا كقول الفرزدق :
من عِزّهم حجرَتْ كليبٌ بيتها *** زَرباً كأنهمُ لديهِ القُمَّل
أماتكمُ من قبل موتِكم الجهلُ *** وجركمُ من خفة بكمُ النمل
ولو أن بُرغوثاً على ظهر قملة *** يكرُّ على ضَبْعَيْ تميم لولَّت
قلت أصول الانتقاد الأدبي تؤول إلى بيان ما لا يحسن أن يشتمل عليه كلام الأديب من جانب صناعة الكلام ، ومن جانب صور المعاني ، ومن جانب المستحسن منها والمكروه وهذا النوع الثالث يختلف باختلاف العوائد ومدارك العقول وأصالة الأفهام بحسب الغالب من أحوال أهل صناعة الأدب ، ألا ترى أنه قد يكون اللفظ مقبولاً عند قوم غير مقبول عند آخرين ، ومقبولاً في عصر مرفوضاً في غيره ، ألا ترى إلى قول النابغة يخاطب الملك النعمان :
فإنكَ كالليل الذي هو مُدْركي *** وإن خِلْتُ أن المُنْتَأَى عنك واسع
فإن تشبيه الملك بالليل لو وقع في زمان المولدين لعُدَّ من الجفاء أو العجرفة ، وكذلك تشبيههم بالحية في الإقدام وإهلاك العدو في قول ذي الإصبع :
عَذير الحي من عَدوَا *** نَ كانُوا حَيَّةَ الأرض
وقول النابغة في رثاء الحارث الغسّاني :
ماذا رُزِئْنا به من حيَّةٍ ذَكَرٍ *** نَضْنَاضَةٍ بالرزايا صِلّ أَصلاَلِ
وقد زعم بعض أهل الأدب أن عليًّا بن الجهم مدح الخليفة المتوكل بقوله :
أنت كالكلب في وفائك بالعه *** د وكالتيْس في قراع الخطوب
وأنه لما سكن بغداد وعلقت نضارة الناس بخياله قال في أول ما قاله :
عيون المها بين الرصافة والجسر *** جلبن الهوى من حيث أَدري ولا أدري{[101]}
وقد انتقد بشارٌ على كُثيِّر قوله :
ألا إنما ليلى عصا خيزُرانة *** إذا لمسوها بالأكُف تلينُ
فقال لو جعلها عصا مخ أو عصا زبد لما تجاوز من أن تكون عصا ، على أن بشاراً هو القائل :
إذا قامت لجارتها تثنت *** كأن عظامها من خيزران
وشبَّه بشار عبدة بالحيَّة في قوله :
وكأنها لما مشت *** أَيْمٌ تأود في كثيبْ
والاستحياء والحياء واحد ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأخر واستجاب ، وهو انقباض النفس من صدور فعل أو تلقيه لاستشعار أنه لا يليق أو لا يحسن في متعارف أمثاله ، فهو هيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال يظهر أثرها على الوجه وفي الإمساك عن ما من شأنه أن يُفعل .
والاستحياء هنا منفي عن أن يكون وصفاً لله تعالى فلا يحتاج إلى تأويل في صحة إسناده إلى الله ، والتعللُ لذلك بأن نفي الوصف يستلزم صحة الاتصاف تعللٌ غير مسلم .
والضرب في قوله : { أن يضرب مثلاً } مستعمل مجازاً في الوضع والجعل من قولهم ضربَ خيمة وضرب بيتاً قال عبدة بن الطبيب :
إنَّ التي ضربتْ بيتاً مُهاجِرَةً *** بكوفةِ الجُندِ غالت ودَّها غُولُ
ضربت عليك العنكبوت بنسجها *** وقضى عليك به الكتابُ المُنْزَلُ
أي جعل شيئاً مثلاً أي شبهاً ، قال تعالى : { فلا تضربوا لله الأمثال } [ النحل : 74 ] أي لا تجعلوا له مماثلاً من خلقه فانتصاب { مثلاً } على المفعول به . وجوز بعض أئمة اللغة أن يكون فعل ضرب مشتقاً من الضرب بمعنى المماثل فانتصاب { مثلاً } على المفعولية المطلقة للتوكيد لأن مثلاً مرادف مصدر فعله على هذا التقدير ، والمعنى لا يستحي أن يشبِّه بشيء ما .
والمثل المثيل والمشابه وغلب على مماثلة هيئة بهيئة وقد تقدم عند قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } [ البقرة : 17 ] وتقدم هناك معنى ضرب المثل بالمعنى الآخر وتنكير { مثلاً } للتنويع بقرينة بيانه بقوله { بعوضة فما فوقها } .
وما إبهامية تتصل بالنكرة فتؤكد معناها من تنويع أو تفخيم أو تحقير ، نحو لأمر ما وأعطاه شيئاً ما . والأظهر أنها مزيدة لتكون دلالتها على التأكيد أشد . وقيل اسم بمعنى النكرة المبهمة .
و { بعوضة } بدل أو بيان من قوله : { مثلاً } . والبعوضة واحدة البعوض وهي حشرة صغيرة طائرة ذات خرطوم دقيق تحوم على الإنسان لتمتص بخرطومها من دمه غذاء لها ، وتعرف في لغة هذيل بالخموش ، وأهل تونس يسمونه الناموس واحدته الناموسة وقد جعلت هنا مثلاً لشدة الضعف والحقارة .
وقوله : { فما فوقها } عطف على { بعوضة } ، وأصل فوق اسم للمكان المعتلي على غيره فهو اسم مبهم فلذلك كان ملازماً للإضافة لأنه تتميز جهته بالاسم الذي يضاف هو إليه فهو من أسماء الجهات الملازمة للإضافة لفظاً أو تقديراً ويستعمل مجازاً في المتجاوز غيره في صفة تجاوزاً ظاهراً تشبيهاً بظهور الشيء المعتلي على غيره على ما هو معتل عليه ، ففوق في مثله يستعمل في معنى التغلب والزيادة في صفة سواء كانت من المحامد أو من المذام يقال : فلان خسيس وفوق الخسيس وفلان شجاع وفوق الشجاع ، وتقول : أعطى فلان فوق حقه أي زائداً على حقه . وهو في هذه الآية صالح للمعنيين أي ما هو أشد من البعوضة في الحقارة وما هو أكبر حجماً . ونظيره قول النبيء صلى الله عليه وسلم « ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة » رواه مسلم ، يحتمل أقل من الشوكة في الأذى مثل نَخْبة النملة كما جاءَ في حديث آخر ، أو ما هو أشد من الشوكة مثل الوخز بسكين وهذا من تصاريف لفظ فوق في الكلام ولذلك كان لاختياره في هذه الآية دون لفظ أقل ودون لفظ أقوى مثلاً موقع من بليغ الإيجاز .
والفاء عاطفة { ما فوقها } على { بعوضة } أفادت تشريكهما في ضرب المثل بهما ، وحقها أن تفيد الترتيب والتعقيب ولكنها هنا لا تفيد التعقيب وإنما استعملت في معنى التدرج في الرتب بين مفاعيل { أن يضرب } ولا تفيد أن ضرب المثل يكون بالبعوضة ويعقبه ضربه بما فوقها بل المراد بيان المثل بأنه البعوضة وما يتدرج في مراتب القوة زائداً عليها درجة تلي درجة فالفاء في مثل هذا مجاز مرسل علاقته الإطلاق عن القيد لأن الفاء موضوعة للتعقيب الذي هو اتصال خاص ، فاستعملت في مطلق الاتصال ، أو هي مستعارة للتدرج لأنه شبيه بالتعقيب في التأخر في التعقل كما أن التعقيب تأخر في الحصول ومنه : « رحم الله المحلقين فالمقصرين » .
والمعنى أن يضرب البعوضة مثلاً فيضرب ما فوقها أي ما هو درجة أخرى أي أحقر من البعوضة مثل الذرة وأعظم منها مثل العنكبوت والحمار .
{ فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } .
الفاء للتعقيب الذكري دون الحصولي أي لتعقيب الكلام المفصل على الكلام المجمل عطفت المقدر في قوله : { لا يستحي } لأن تقديره لا يستحي من الناس كما تقدم ، ولما كان في الناس مؤمنون وكافرون وكلا الفريقين تلقى ذلك المثل واختلفت حالهم في الانتفاع به ، نشأ في الكلام إجمال مقدر اقتضى تفصيل حالهم . وإنما عطف بالفاء لأن التفصيل حاصل عقب الإجمال .
و { أما } حرف موضوع لتفصيل مجمل ملفوظ أو مقدر . ولما كان الإجمال يقتضي استشراف السامع لتفصيله كان التصدي لتفصيله بمنزلة سؤال مفروض كأن المتكلم يقول إن شئت تفصيله فتفصيله كيت وكيت ، فلذلك كانت أما متضمنة معنى الشرط ولذلك لزمتها الفاء في الجملة التي بعدها لأنها كجواب شرط ، وقد تخلو عن معنى التفصيل في خصوص قول العرب أما بعد فتتمحض للشرط وذلك في التحقيق لخفاء معنى التفصيل لأنه مبني على ترقب السامع كلاماً بعد كلامه الأول . وقدرها سيبويه بمعنى مهما يكن من شيء ، وتلقفه أهل العربية بعده وهو عندي تقدير معنى لتصحيح دخول الفاء في جوابها وفي النفس منه شيء لأن دعوى قصد عموم الشرط غير بينة ، فإذا جيء بأداة التفصيل المتضمنة معنى الشرط دل ذلك على مزيد اهتمام المتكلم بذلك التفصيل فأفاد تقوية الكلام التي سماها الزمخشري توكيداً وما هو إلا دلالة الاهتمام بالكلام ، على أن مضمونه محقق ولولا ذلك لما اهتم به وبهذا يظهر فضل قوله : { فأما الذين آمنوا فيعلمون } الخ على أن يقال فالذين آمنوا يعلمون بدون أما والفاء .
وجعل تفصيل الناس في هذه الآية قسمين لأن الناس بالنسبة إلى التشريع والتنزيل قسمان ابتداء مؤمن وكافر ، والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم وتأييس الذين أرادوا إلقاء الشك عليهم فيعلمون أن قلوبهم لا مدخل فيها لذلك الشك .
والمراد بالذين كفروا هنا إما خصوص المشركين كما هو مصطلح القرآن غالباً ، وإما ما يشملهم ويشمل اليهود بناء على ما سلف في سبب نزول الآية .
وإنما عبر في جانب المؤمنين بيعلمون تعريضاً بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عناداً ومكابرة وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز ، كيف وهم أهل اللسان وفرسان البيان ، ولكن شأن المعاند المكابر أن يقول ما لا يعتقد حسداً وعناداً .
وضمير { أنه } عائد إلى المثل .
و { الحق } ترجع معانيه إلى موافقة الشيء لما يحق أن يقع وهو هنا الموافق لإصابة الكلام وبلاغته . و { من ربهم } حال من { الحق } و { من } ابتدائية أي وارد من الله لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب فهو مؤذن بأنه من كلام من يقع منه الخطأ .
وأصل { ماذا } كلمة مركبة من ما الاستفهامية وذا اسمِ الإشارة ولذلك كان أصلها أن يسأل بها عن شيء مشار إليه كقول القائل ماذا مشيراً إلى شيء حاضر بمنزلة قوله ما هذا . غير أن العرب توسعوا فيه فاستعملوه اسم استفهام مركباً من كلمتين وذلك حيث يكون المشار إليه معبراً عنه بلفظ آخر غير الإشارة حتى تصير الإشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر لمجرد التأكيد ، نحو ماذا التواني ، أو حيث لا يكون للإشارة موقع نحو : { وماذا عليهم لو آمنوا بالله } [ النساء : 39 ] ولذلك يقول النحاة إن ذا ملغاة في مثل هذا التركيب . وقد يتوسعون فيها توسعاً أقوى فيجعلون ذا اسم موصول وذلك حين يكون المسؤول عنه معروفاً للمخاطب بشيء من أحواله فلذلك يُجرون عليه جملة أو نحوَها هي صلة ويجعلون ذا موصولاً نحو : { ماذا أنزل ربكم } [ النحل : 24 ] وعلى هذين الاحتمالين يصح إعرابه مبتدأ ويصح إعرابه مفعولاً مقدماً إذا وقع بعده فِعل . والاستفهام هنا إنكاري أي جعل الكلام في صورة الاستفهام كناية به عن الإنكار لأن الشيء المنكر يستفهم عن حصوله فاستعمال الاستفهام في الإنكار من قبيل الكناية ، ومثله لا يجاب بشيء غالباً لأنه غير مقصود به الاستعلام . وقد يلاحظ فيه معناه الأصلي فيجاب بجواب لأن الاستعمال الكنائي لا يمنع من إرادة المعنى الأصلي كقوله تعالى : { عم يتساءلون عن النبأ العظيم } [ النبأ : 1 ، 2 ] .
والإشارة بقوله : { بهذا } مفيدة للتحقير بقرينة المقام كقوله : { أَهذا الذي يذكر آلهتكم } [ الأنبياء : 36 ] .
وانتصب قوله : { مثلاً } على التمييز من { هذا } لأنه مبهم فحقَّ له التمييز وهو نظير التمييز للضمير في قولهم « رُبَّهُ رَجُلاً » .
{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين }
بيان وتفسير للجملتين المصدرتين بأَما على طريقة النشر المعكوس لأن معنى هاتين الجملتين قد اشتمل عليهما معنى الجملتين السالفتين إجمالاً فإنَّ علم المؤمنين أنه الحق من ربهم هُدى ، وقولَ الكافرين { ماذا أراد الله } الخ ضلال ، والأظهر أن لا يكون قوله : { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } جواباً للاستفهام في قول الذين كفروا { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } لأن ذلك ليس استفهاماً حقيقياً كما تقدم .
ويجوز أن يجعل جواباً عن استفهامهم تخريجاً للكلام على الأسلوب الحكيم بحمل استفهامهم على ظاهره تنبيهاً على أن اللائق بهم أن يسألوا عن حكمة ما أراد الله بتلك الأمثال فيكون قوله : { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } جواباً لهم وردا عليهم وبياناً لحال المؤمنين ، وهذا لا ينافي كون الاستفهام الذي قبله مكنى به عن الإنكار كما علمته آنفاً من عدم المانع من جمع المعنيين الكنائي والأصلي . وكونُ كلا الفريقين من المضلَّل والمهدى كثيراً في نفسه ، لا ينافي نحو قوله : { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] لأن قوة الشكر التي اقتضاها صيغة المبالغة ، أخصُّ في الاهتداء .
والفاسق لفظ من منقولات الشريعة أصله اسم فاعل من الفِسق بكسر الفاء ، وحقيقة الفسق خروج الثمرة من قشرها وهو عاهة أو رداءة في الثمر فهو خروج مذموم يعد من الأدواء مثل ما قال النابغة :
صِغار النوى مكنوزة ليس قِشْرُها *** إذا طار قِشْر التمر عنها بطائر
قالوا ولم يسمع في كلامهم في غير هذا المعنى حتى نقله القرآن للخروج عن أمر الله تعالى الجازم بارتكاب المعاصي الكبائر ، فوقع بعد ذلك في كلام المسلمين ، قال رؤبة يصف إبلاً :
فواسَقاً عن قَصْدهَا جوائراً *** يَهوين في نجد وغورٍ غائراً
والفسق مراتب كثيرة تبلغ بعضها إلى الكفر . وقد أطلق الفسق في الكتاب والسنة على جميعها لكن الذي يستخلص من الجمع بين الأدلة هو ما اصطلح عليه أهل السنة من المتكلمين والفقهاء وهو أن الفسق غيرُ الكفر وأن المعاصي وإن كثرت لا تزيل الإيمان وهو الحق ، وقد لقب الله اليهود في مواضع كثيرة من القرآن بالفاسقين وأحسب أنه المراد هنا وعزاه ابن كثير لجمهور من المفسرين .
وإسناد الإضلال إلى الله تعالى مراعى فيه أنه الذي مكن الضالين من الكسب والاختيار بما خلق لهم من العقول وما فصل لهم من أسباب الخير وضده . وفي اختيار إسناده إلى الله تعالى مع صحة إسناده لفعل الضال إشارة إلى أنه ضلال متمكن من نفوسهم حتى صار كالجِبلة فيهم فهم مأيوس من اهتدائهم كما قال تعالى : { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] . فإسناد الإضلال إلى الله تعالى منظور فيه إلى خَلق أسبابه القريبة والبعيدةِ وإلا فإنَّ الله أمَر الناس كلهم بالهدى وهي مسألة مفروغ منها في علم الكلام .
وقوله : { وما يضل به إلا الفاسقين } إما مسوق لبيان أن للفسق تأثيراً في زيادة الضلال لأن الفسق يرين على القلوب ويكسب النفوس ظلمة فتتساقط في الضلال المرة بعد الأخرى على التعاقب ، حتى يصير لها دربة .
وهذا الذي يؤذن به التعليق على الوصف المشتق إن كان المراد به هنا المعنى الاشتقاقي ، فكأنه قيل هؤلاء فاسقون وما من فاسق إلا وهو ضال فما ثبت الضلال إلا بثبوت الفسق على نحو طريقة القياس الاقتراني ، وإما مسوق لبيان أن الضلال والفسق أخوان فحيثما تحقق أحدهما أنبأ بتحقق الآخر على نحو قياس المساواة إذا أريد من الفاسقين المعنى اللقبي المشهور فلا يكون له إيذان بتعليل ، وإما لبيان أن الإضلال المتكيف في إنكار الأمثال إضلال مع غباوة فلا يصدر إلا من اليهود وقد عرفوا بهذا الوصف .
والقول في مذاهب علماء الإسلام في الفسق وتأثيره في الإيمان ليس هذا مقام بيانه إذ ليس هو المقصود من الآية .
فإن كان محمل الفاسقين على ما يشمل المشركين واليهود الذين طعنوا في ضرب المثل كان القصر في قوله : { وما يضل به } الخ بالإضافة إلى المؤمنين ليحصل تمييز المراد من المضلل والمهتدى ، وإن كان محمل الفاسقين على اليهود كان القصر حقيقياً ادعائياً أي يضل به كثيراً وهم الطاعنون فيه وأشدهم ضلالاً هم الفاسقون ، ووجه ذلك أن المشركين أبعد عن الاهتداء بالكتاب لأنهم في شركهم ، وأما اليهود فهم أهل كتاب وشأنهم أن يعلموا أفانين الكتب السماوية وضرب الأمثال فإنكارهم إياها غاية الضلال فكأنه لا ضلال سواه .