هناك أكثر من مناسبة واحدة ، تربط بين مطلع هذا الدرس ؛ وبين محور السورة كلها ، وموضوعاتها الأساسية من ناحية ؛ وبينه وبين موضوعات الدرس السابق في هذا الجزء من ناحية أخرى .
فهذا الدرس بدء جولة في تنظيم حياة المجتمع المسلم ؛ وتخليصه من رواسب الجاهلية ، وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة ؛ والتحذير من أهل الكتاب - وهم اليهود بالمدينة - وما جبلوا عليه من شر ونكر ؛ وما ينفثونه في المجتمع المسلم ، وما يبذلونه من جهود لتعويق نموه وتكامله - وبخاصة من الناحية الأخلاقية ، وناحية التكافل والتعاون ، اللتين هما موضع القوة النامية في هذا المجتمع الجديد . .
ولأن الدرس الجديد جولة جديدة ، فقد بدأ بالقاعدة الأولية التي يقوم عليها المجتمع المسلم - قاعدة التوحيد الخالص - التي تنبثق منها حياته ؛ وينبثق منها منهج هذه الحياة ، في كل جانب ، وفي كل اتجاه .
وقد سبق هذا الدرس أشواط منوعة في التنظيم العائلي ، والتنظيم الاجتماعي . وكان الحديث في الدرس السابق عن الأسرة وتنظيمها ووسائل صيانتها ، والروابط التي تشدها وتوثق بناءها . . فجاء هذا الدرس يتناول علاقات إنسانية - في المجتمع المسلم - أوسع مدى من علاقات الأسرة ؛ ومتصلة بها كذلك . متصلة بها بالحديث عن الوالدين . ومتصلة بها في توسعها بعد علاقة الوالدين ، لتشمل علاقات أخرى ؛ ينبع الشعور بها من المشاعر الودود الطيبة التي تنشأ في جو الأسرة المتحابة ؛ حتى تفيض على جوانب الإنسانية الأخرى ؛ ويتعلمها الإنسان - أول من يتعلمها - في جو الأسرة الحاني ومحضنها الرفيق . ومن هناك يتوسع في علاقاته بأسرة الإنسانية كلها ؛ بعدما بذرت بذورها في حسه أسرته الخاصة القريبة .
ولأن في الدرس الجديد توجيهات إلى رعاية الأسرة القريبة - العائلة - والأسرة الكبيرة - الإنسانية - وإقامة قيم وموازين في هذا الحقل ، للباذلين وللباخلين . . فقد ابتدأ الدرس بالقاعدة الأساسية التي تنبثق منها كل القيم والموازين - كما ينبثق منها منهج الحياة كله في المجتمع المسلم - وهي قاعدة التوحيد . . وربط كل حركة وكل نشاط ، وكل خالجة وكل انفعال بمعنى العبادة لله . التي هي غاية كل نشاط إنساني ، في ضمير المسلم وفي حياته . .
وبسبب من الحديث عن عبادة الله وحده - في محيطها الشامل - جاءت الفقرة الثانية في الدرس ؛ تبين بعض أحكام الصلاة والطهارة ؛ وتتخذ خطوة في طريق تحريم الخمر - ولم تكن قد حرمت بعد - باعتبار هذه الخطوة جزءا من برنامج التربية الإسلامية العامة الدائبة الخطى في المجتمع الوليد . وباعتبار علاقتها بالعبادة والصلاة والتوحيد . .
حلقات متماسكة بعضها مع بعض . ومع الدرس السابق . ومع محور السورة كذلك .
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا ، وبالوالدين إحسانًا ، وبذي القربي واليتامى والمساكين ، والجار ذي القربي والجار الجنب والصاحب بالجنب ، وابن السبيل ، وما ملكت أيمانكم . . إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ، الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله . وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا . والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر . ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ! وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله ، وكان الله بهم عليما . إن الله لا يظلم مثقال ذرة ، وإن تك حسنة يضاعفها ، ويؤت من لدنه أجرا عظيما . فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ، وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ؟ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ، ولا يكتمون الله حديثا . .
هذه الفقرة تبدأ بالأمر بعبادة الله وحده ، والنهي عن إشراك شيء به . . تبدأ بحرف عطف يربط بين هذا الأمر ، وهذا النهي ، والأوامر السابقة الخاصة بتنظيم الأسرة في أواخر الدرس الماضي . فيدل هذا الربطبين الموضوعين على الوحدة الكلية الشاملة المتكاملة في هذا الدين . فليس هو مجرد عقيدة تستكن في الضمير ؛ ولا مجرد شعائر تقام وعبادات ؛ ولا مجرد تنظيم دنيوي منقطع الصلة بالعقيدة وبالشعائر التعبدية . . إنما هو منهج يشمل هذا النشاط كله ، ويربط بين جوانبه ، ويشدها جميعا إلى الأصل الأصيل . وهو توحيد الله . والتلقي منه وحده - في هذا النشاط كله - دون سواه . توحيده إلها معبودا . وتوحيده مصدرا للتوجيه والتشريع لكل النشاط الإنساني أيضا . لا ينفك هذا التوحيد عن ذاك - في الإسلام - وفي دين الله الصحيح على الإطلاق .
ويلي الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك ، الأمر بالإحسان إلى تلك المجموعات من الأسرة الخاصة ، والأسرة الإنسانية ؛ وتقبيح البخل والخيلاء والفخر وأمر الناس بالبخل ، وكتمان فضل الله - من أي نوع سواء كان من المال أم من العلم والدين - والتحذير من اتباع الشيطان ؛ والتلويح بعذاب الآخرة ، وما فيه من خزي وافتضاح . . لربط هذا كله بالتوحيد ؛ وتحديد المصدر الذي يتلقى منه من يعبد الله ولا يشرك به شيئا . وهو مصدر كذلك واحد لا يتعدد ولا يشاركه أحد في التوجيه والتشريع ؛ كما لا يشاركه أحد في الألوهية وعبادة الناس له بلا شريك .
( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا . وبالوالدين إحسانا . وبذي القربى واليتامى والمساكين ، والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب . وابن السبيل ، وما ملكت أيمانكم . . . ) .
إن التشريعات والتوجيهات - في منهج الله - إنما تنبثق كلها من أصل واحد ، وترتكز على ركيزة واحدة . إنها تنبثق من العقيدة في الله ، وترتكز على التوحيد المطلق سمة هذه العقيدة . . ومن ثم يتصل بعضها ببعض ؛ ويتناسق بعضها مع بعض ؛ ويصعب فصل جزئية منها عن جزئية ؛ وتصبح دراسة أي منها ناقصة بدون الرجوع إلى أصلها الكبير الذي تلتقي عنده ؛ ويصبح العمل ببعضها دون البعض الآخر غير واف بتحقيق صفة الإسلام ؛ كما أنه غير واف بتحقيق ثمار المنهج الإسلامي في الحياة .
من العقيدة في الله تنبع كل التصورات الأساسية للعلاقات الكونية والحيوية والإنسانية . تلك التصورات التي تقوم عليها المناهج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والعالمية . والتي تؤثر في علاقات الناس بعضهم ببعض ، في كل مجالي النشاط الإنساني في الأرض ؛ والتي تكيف ضمير الفرد وواقع المجتمع ؛ والتي تجعل المعاملات عبادات - بما فيها من اتباع لمنهج الله ومراقبة الله - والعبادات قاعدة للمعاملات - بما فيها من تطهير للضمير والسلوك - والتي تحيل الحياة في النهاية وحدة متماسكة ؛ تنبثق من المنهج الرباني ، وتتلقى منه وحده دون سواه ، وتجعل مردها في الدنيا والآخرة إلى الله .
هذه السمة الأساسية في العقيدة الإسلامية ، وفي المنهج الإسلامي ، وفي دين الله الصحيح كله ، تبرز هنا في تصدير آية الإحسان إلى الوالدين والأقربين ، وغيرهم من طوائف الناس . بعبادة الله وتوحيده - كما أسلفنا - ثم في الجمع بين قرابة الوالدين ، وقرابة هذه الطوائف من الناس ، متصلة هذه وتلك بعبادة الله وتوحيده - كذلك - وذلك بعد أن جعل هذه العبادة وهذا التوحيد واسطة ما بين دستور الأسرة القريبة في نهاية الدرس الماضي ، ودستور العلاقات الإنسانية الواسعة في هذا الدرس - على النحو الذي بينا من قبل - ليصلها جميعا بتلك الآصرة التي تضم الأواصر جميعا ؛ وليوحد المصدر الذي يشرع ويوجه في شأن هذه الأواصر جميعا . .
اعبدوا الله . . ولا تشركوا به شيئًا . .
الأمر الأول بعبادة الله . . والنهي الثاني لتحريم عبادة أحد - معه - سواه . نهيا باتا ، شاملا ، لكل أنواع المعبودات التي عرفتها البشرية : ( ولا تشركوا به شيئًا ) شيئا كائنا ما كان ، من مادة أو حيوان أو إنسانأو ملك أو شيطان . . فكلها مما يدخل في مدلول كلمة شيء ، عند إطلاق التعبير على هذا المنوال . .
ثم ينطلق إلى الأمر بالإحسان إلى الوالدين - على التخصيص - ولذوي القربي - على التعميم - ومعظم الأوامر تتجه إلى توصية الذرية بالوالدين - وإن كانت لم تغفل توجيه الوالدين إلى الذرية ؛ فقد كان الله أرحم بالذراري من آبائهم وأمهاتهم في كل حال . والذرية بصفة خاصة أحوج إلى توجيهها للبر بالوالدين . بالجيل المدبر المولي . إذ الأولاد - في الغالب - يتجهون بكينونتهم كلها ، وبعواطفهم ومشاعرهم واهتماماتهم إلى الجيل الذي يخلفهم ؛ لا الجيل الذي خلفهم ! وبينما هم مدفوعون في تيار الحياة إلى الأمام ، غافلون عن التلفت إلى الوراء ، تجيئهم هذه التوجيهات من الرحمن الرحيم ، الذي لا يترك والدا ولا مولودا ، والذي لا ينسى ذرية ولا والدين ؛ والذي يعلم عباده الرحمة بعضهم ببعض ، ولو كانوا ذرية أو والدين !
كذلك يلحظ في هذه الآية - وفي كثير غيرها - أن التوجيه إلى البر يبدأ بذوي القربي - قرابة خاصة أو عامة - ثم يمتد منها ويتسع نطاقه من محورها ، إلى بقية المحتاجين إلى الرعاية من الأسرة الأنسانية الكبيرة . وهذا المنهج يتفق - أولا - مع الفطرة ويسايرها . فعاطفة الرحمة ، ووجدان المشاركة ، يبدآن أولا في البيت . في الأسرة الصغيرة . وقلما ينبثقان في نفس لم تذق طعم هذه العاطفة ولم تجد مس هذا الوجدان في المحضن الأول . والنفس كذلك أميل إلى البدء بالأقربين - فطرة وطبعا - ولا بأس من ذلك ولا ضير ؛ ما دامت توجه دائما إلى التوسع في الدائرة من هذه النقطة ومن هذا المحور . . ثم يتفق المنهج - ثانيا - مع طريقة التنظيم الاجتماعي الإسلامية : من جعل الكافل يبدأ في محيط الأسرة ؛ ثم ينساح في محيط الجماعة . كي لا يركز عمليات التكافل في يد الأجهزة الحكومية الضخمة - إلا عندما تعجز الأجهزة الصغيرة المباشرة - فالوحدات المحلية الصغيرة أقدر على تحقيق هذا التكافل : في وقته المناسب وفي سهولة ويسر . وفي تراحم وود يجعل جو الحياة لائقا ببني الإنسان !
وهنا يبدأ بالإحسان إلى الوالدين . ويتوسع منهما إلى ذوي القربي . ومنهم إلى اليتامى والمساكين - ولو أنهم قد يكونون أبعد مكانا من الجار . ذلك أنهم أشد حاجة وأولى بالرعاية - ثم الجار ذو القرابة . فالجار الأجنبي - مقدمين على الصاحب المرافق - لأن الجار قربه دائم ، أما الصاحب فلقاؤه على فترات - ثم الصاحب المرافق - وقد ورد في تفسيره أنه الجليس في الحضر ، الرفيق في السفر - ثم ابن السبيل . العابر المنقطع عن أهله وماله . ثم الرقيق الذين جعلتهم الملابسات " ملك اليمين " ولكنهم يتصلون بآصرة الإنسانية الكبرى بين بني آدم أجمعين .
{ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىَ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وذلّوا لله بالطاعة ، واخضعوا له بها ، وأفردوه بالربوبية ، وأخلصوا له الخضوع والذلة ، بالانتهاء إلى أمره ، والانزجار عن نهيه ، ولا تجعلوا له في الربوبية والعبادة شريكا تعظمونه تعظيمكم إياه . { وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا } يقول : وأمركم بالوالدين إحسانا ، يعني برّا بهما¹ ولذلك نصب الإحسان ، لأنه أمر منه جلّ ثناؤه بلزوم الإحسان إلى الوالين على وجه الإغراء . وقد قال بعضهم : معناه : واستوصوا بالوالدين إحسانا ، وهو قريب المعنى مما قلناه .
وأما قوله : { وَبِذِي القُرْبَى } فإنه يعني : وأمر أيضا بذي القربى ، وهم ذوو قرابة أحدنا من قبل أبيه أو أمه ممن قربت منه قرابته برحمه من أحد الطرفين إحسانا بصلة رحمه . وأما قوله : { واليَتَامى } فإنهم جمع يتيم ، وهو الطفل الذي قد مات والده وهلك . { وَالمَساكِينِ } وهو جمع مسكين ، وهو الذي قد ركبه ذلّ الفاقة والحاجة ، فتمسكن لذلك . يقول تعالى ذكره : استوصوا بهؤلاء إحسانا إليهم ، وتعطفوا عليهم ، والزموا وصيتي في الإحسان إليهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { والجارِ ذِي القُرْبَي } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك والجار ذي القرابة والرحم منك . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { والجارِ ذِي القُرْبَي } يعني : الذي بينك وبينه قرابة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { والجارِ ذي القُرْبَي } يعني : ذا الرحم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { والجارِ ذِي القُرْبَي } قال : جارك هو ذو قرابتك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد في قوله : { والجارِ ذِي القُرْبَي } قالا : القرابة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : { والجارِ ذِي القُرْبَي } قال : جارك الذي بينك وبينه قرابة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { والجارِ ذِي القُرْبَي } جارك ذو القرابة .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { والجارِ ذِي القُرْبَي } إذا كان له جار له رحم ، فله حقان اثنان : حقّ القرابة ، وحقّ الجار .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { والجارِ ذِي القُرْبَي } قال : الجار ذو القربى : ذو قرابتك .
وقال آخرون : بل هو جار ذي قرابتك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن ميمون بن مهران ، في قوله : { والجارِ ذِي القُرْبَي } قال : الرجل يتوسل إليك بجوار ذي قرابتك .
قال أبو جعفر : وهذا القول قول مخالف المعروف من كلام العرب ، وذلك أن الموصوف بأنه ذو القرابة في قوله : { والجارِ ذِي القُرْبَي } الجار دون غيره ، فجعله قائل هذه المقالة جار ذي القرابة ، ولو كان معنى الكلام كما قال ميمون بن مهران لقيل : وجار ذي القربى ، ولم يقل : والجار ذي القربي ، فكان يكون حينئذً إذا أضيف الجار إلى ذي القرابة الوصية ببرّ جار ذي القرابة دون الجار ذي القربي . وأما والجار بالألف واللام فغير جائز أن يكوى «ذي القربى » إلا من صفة الجار . وإذا كان ذلك كذلك كانت الوصية من الله في قوله : { والجارِ ذِي القُرْبَي } ببرّ الجار ذي القربى دون جار ذي القرابة ، وكان بينا خطأ ما قال ميمون بن مهران في ذلك .
وقال آخرون : معنى ذلك : والجار ذي القربي منكم بالإسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال¹ حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نوف الشامي : { والجارِ ذِي القُرْبَي } المسلم .
وهذا أيضا مما لا معنى له ، وذلك أن تأويل كتاب الله تبارك وتعالى غير جائز صرفه إلا إلى الأغلب من كلام العرب ، الذين نزل بلسانهم القرآن المعروف فيهم دون الأنكر الذي لا تتعارفه ، إلا أن يقوم بخلاف ذلك حجة يجب التسليم لها . وإذا كان ذلك كذلك ، وكان معلوما أن المتعارف من كلام العرب إذا قيل فلان ذو قرابة ، إنما يعني به : إنه قريب الرحم منه دون القرب بالدين ، كان صرفه إلى القرابة بالرحم أوّلَى من صرفه إلى القرب بالدين .
القول في تأويل قوله تعالى : { والجارِ الجُنُبِ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : والجار البعيد الذي لا قرابة بينك وبينه . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { والجارِ الجُنُبِ } الذي ليس بينك وبينه قرابة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { والجارِ الجُنُبِ } يعني : الجار من قوم جنب .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { والجارِ الجُنُبِ } : الذي ليس بينهما قرابة وهو جار ، فله حقّ الجوار .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { والجاره الجُنُبِ } الجار الغريب يكون من القوم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { والجارِ الجُنُبِ } جارك من قوم آخرين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { والجارِ الجُنُبِ } : جارك لا قرابة بينك وبينه ، البعيد في النسب وهو جار .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد ، في قوله : { والجارِ الجُنُبِ } قال : المجانب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { والجارِ الجُنُبِ } : الذي ليس بينك وبينه وجه ولا قرابة .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : { والجارِ الجُنُبِ } قال : من قوم آخرين .
وقال آخرون : هو الجار المشرك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة الأسديّ ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نوف الشامي { والجارِ الجُنُبِ } قال : اليهودي والنصرانيّ .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معنى الجنب في هذا الموضع : الغريب البعيد ، مسلما كان أو مشركا ، يهوديا كان أو نصرانيا¹ لما بينا قبل أن الجار ذي القربى : هو الجار ذو القرابة والرحم ، والواجب أن يكون الجار ذو الجنابة الجار البعيد ، ليكون ذلك وصية بجميع أصناف الجيران ، قريبهم وبعيدهم . وبعد فإن الجُنب في كلام العرب البعيد كما قال أعشى بني قيس :
أتَيْتُ حُرَيْثا زَائِرا عَنْ جَنابَةٍ ***فكانَ حُرَيْثٌ فِي عَطائيَ جامِدَا
يعني بقوله : «عن جنابة » : عن بعد وغربة ، ومنه قيل : اجتنب فلان فلانا : إذا بعد منه . وتجنبه غيره : إذا منعه إياه¹ ومنه قيل للجنب : جُنُب ، لاعتزاله الصلاة حتى يغتسل . فمعنى ذلك : والجار المجانب للقرابة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالصّاحِب بالجَنْبِ } .
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بذلك ، فقال بعضهم : هو رفيق الرجل في سفره . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَالصّاحِب بالجَنْبِ } : الرفيق في السفر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن أبي بكير ، قال : سمعت سعيد ابن جبير ، يقول : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } : الرفيق في السفر .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَالصّاحِب بالجَنْب } : صاحبك في السفر .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَالصّاحِب بالجَنْب } وهو الرفيق في السفر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَالصّاحِب بالجَنْب } : الرفيق في السفر ، منزله منزلك ، وطعامه طعامك ، ومسيره مسيرك .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة ومجاهد : { وَالصّاحِب بالجَنْب } قالا : الرفيق في السفر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن جابر ، عن عامر ، عن عليّ وعبد الله ، قال : { الصّاحِب بالجَنْب } : الرفيق الصالح .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني سليم ، عن مجاهد ، قال : { وَالصّاحِب بالجَنْب } : رفيقك في السفر الذي يأتيك ويده مع يدك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة على ابن جريج ، قال : أخبرنا سليم أنه سمع مجاهدا يقول : { والصّاحبِ بالجنْب } فذكر مثله .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } : الصاحب في السفر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو دكين ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي بكير ، عن سعيد بن جبير : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } : الرفيق الصالح .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي بكير ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } قال : الرفيق في السفر .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثله .
وقال آخرون : بل هو امرأة الرجل التي تكون معه إلى جنبه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر أو القاسم ، عن عليّ وعبد الله : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } قالا : هي المرأة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن بعض أصحابه ، عن جابر ، عن عليّ وعبد الله ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن بيه ، عن ابن عباس : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } يعني الذي معك في منزلك .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن هلال ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال في هذه الاَية : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } قال : هي المرأة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : ثناسفيان ، عن أبي الهيثم ، عن إبراهيم : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } قال : المرأة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : قال الثوري ، قال أبو الهيثم ، عن إبراهيم : هي المرأة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن محمد بن سوقة ، عن أبي الهيثم ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثني عمرو بن بيذق ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن محمد بن سوقة ، عن أبي الهيثم ، عن إبراهيم ، مثله .
وقال آخرون : هو الذي يلزمك ويصحبك رجاء نفعك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } : الملازم . وقال أيضا : رفيقك الذي يرافقك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } : الذي يلصق بك وهو إلى جنبك ، ويكون معك إلى جنبك رجاء خيرك ونفعك .
والصواب من القول في تأويل ذلك عندي : أن معنى : { وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ } : الصاحب إلى الجنب ، كما يقال : فلان بجنب فلان وإلى جنبه ، وهو من قولهم : جَنَب فلان فلانا فهو يَجْنُبُهُ جَنْبا ، إذا كان لجنبه ، ومن ذلك : جَنَبَ الخَيْلَ ، إذا قاد بعضها إلى جنب بعض . وقد يدخل في هذا الرفيق في السفر ، والمرأة ، والمنقطع إلى الرجل الذي يلازمه رجاء نفعه ، لأن كلهم بجنب الذي هو معه وقريب منه ، وقد أوصى الله تعال بجميعهم لوجوب حقّ الصاحب على المصحوب . وقد :
حدثنا سهل بن موسى الرازي ، قال : حدثنا ابن أبي فديك ، عن فلان بن عبد الله ، عن الثقة عنده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين ، فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم وسلم في غيضة طرفاء ، فقطع فصيلين أحدهما معوجّ والاَخر معتدل ، فخرج بهما فأعطى صاحبه المعتدل وأخذ لنفسه المعوجّ ، فقال الرجل : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، أنت أحقّ بالمعتدل مني ! فقال : «كَلاّ يا فُلانُ ، إنّ كُلّ صَاحِبٍ يَصْحَبُ صَاحِبا مَسْئُولٌ عَنْ صَحَابَتِهِ وَلَوْ ساعَةً مِنْ نَهارٍ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن حيوة ، قال : ثني شرحبيل بن شريك ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ خَيْرَ الأصحَابِ عِنْدَ اللّهِ تَبارَكَ وَتَعالى خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِه ، وَخَيْرُ الجِيرانَ عِنْدَ اللّه خَيْرُهُمْ لِجارِه » .
وإن كان الصاحب بالجنب معناه ما ذكرناه من أن يكون داخلاً فيه كل من جنب رجلاً يصحبه في سفر أو نكاح أو انقطاع إليه واتصال به ، ولم يكن الله جلّ ثناؤه خصّ بعضهم مما احتمله ظاهر التنزيل¹ فالصواب أن يقال : جميعهم معنيون بذلك ، وبكلهم قد أوصى الله بالإحسان إليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَابْنِ السّبِيلِ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : ابن السبيل : هو المسافر الذي يجتاز مارّا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَابْنِ السّبِيلِ } هو الذي يمرّ عليك وهو مسافر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وقتادة ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَابْنِ السّبِيلِ } قال : هو المارّ عليك وإن كان في الأصل غنيّا .
وقال آخرون : هو الضيف . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { وَابْنِ السَبِيلِ } قال : الضيف له حقّ في السفر والحضر .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَابْنِ السّبِيلِ } وهو الضيف .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وَابْنِ السّبِيلِ } قال : الضيف .
حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثله .
والصواب من القول في ذلك : أن ابن السبيل : هو صاحب الطريق ، والسبيل : هو الطريق ، وابنه : صاحبه الضارب فيه ، فله الحقّ على من مرّ به محتاجا منقطعا به إذا كان سفره في غير معصية الله أن يعينه إن احتاج إلى معونة ، ويضيفه إن احتاج إلى ضيافة ، وأن يحمله إن احتاج إلى حُمْلان .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : والذين ملكتموهم من أرقائكم . فأضاف الملك إلى اليمين ، كما يقال : تكلم فوك ، ومشت رجلُك ، وبطشت يدُك ، بمعنى : تكلمتَ ، ومشيتَ ، وبطشتَ . غير أن ما وصفت به كل عضو من ذلك ، فإنما أضيف إليه ما وصفت به ، لأنه بذلك يكون في المتعارف في الناس دون سائر جوارح الجسد ، فكان معلوما بوصف ذلك العضو بما وُصف به من ذلك المعنى المراد من الكلام ، فكذلك قوله : { وَمَا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } لأن مماليك أحدنا تحت يده ، إنما يَطعم ما تناوله أيماننا ويكتسي ما تكسوه وتصرّفه فيما أحبّ صرفه فيه بها . فأضيف ملكهم إلى الأيمان لذلك .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ } مما خوّلك الله كل هذا أوصى الله به .
وإنما يعني مجاهد بقوله : «كل هذا أوصى الله به » الوالدين وذا القربى واليتامى والمساكين والجار ذا القربى ، والجار الجنب ، والصاحب بالجنب ، وابن السبيل ، فأوصى ربنا جلّ جلاله بجميع هؤلاء عباده إحسانا إليهم ، وأمر خلقه بالمحافظة على وصيته فيهم ، فحقّ على عباده حفظ وصية الله فيهم ثم حفظ وصية رسوله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُورا } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً } : إن الله لا يحبّ من كان ذا خيلاء ، والمختال المفتعل من قولك : خال الرجل فهو يَخُول خَوْلاً وخَالاً ، ومنه قول الشاعر :
فإنْ كُنْتَ سَيّدَنا سُدْتَنا ***وإن كُنْتَ للخالِ فاذْهبْ فَخَلْ
*** والخالِ ثَوْبٌ مِنْ ثِيابِ الجُهّالْ ***
وأما الفخور : فهو المفتخر على عباد الله بما أنعم الله عليه من آلائه ، وبسط له من فضله ، ولا يحد على ما أتاه من طوله ، ولكنه به مختال مستكبر ، وعلى غيره به مستطيل مفتخر . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً } قال : متكبرا فخورا ، قال : يعدّ ما أُعطي ، وهو لا يشكر الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا محمد بن كثير ، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي ، قال : لا تجد سييء الملكة إلا وجدته مختالاً فخورا ، وتلا : { وَما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُورا } . ولا عاقّا إلا وجدته جبارا شقيا ، وتلا : { وَبَرّا بِوَالِدِتي وَلْم يَجْعَلْنِي جَبّارا شَقيّا } .
«الواو » لعطف جملة الكلام على جملة غيرها ، والعبادة : التذلل بالطاعة ، ومنه : طريق معبد ، وبعير معبد ، إذا كانا معلمين ، و { إحساناً } نصب على المصدر ، والعامل فعل مضمر تقديره : وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، وما ذكر الطبري أنه نصب بالإغراء خطأ ، والقيام بحقوق الوالدين اللازمة لهما من التوقير والصون والإنفاق إذا احتاجا واجب ، وسائر ذلك من وجوه البر والألطاف ، وحسن القول ، والتصنع لهما مندوب إليه مؤكد فيه ، وهو البر الذي تفضل فيه الأم على الأب ، حسب قوله عليه السلام للذي قال له من أبر ؟ قال أمك . قال ثم من ؟ قال أمك . قال ثم من ؟ قال أمك : قال ثم من ؟ قال أباك ، ثم الأقرب فالأقرب ، وفي رواية : ثم أدناك أدناك{[4013]} ، وقرأ ابن أبي عبلة «إحسان » بالرفع{[4014]} .
و«ذو القربى » : هو القريب النسب من قبل الأب والأم ، وهذا من الأمر بصلة الرحم وحفظها ، { واليتامى } : جمع يتيم ، وهو فاقد الأب قبل البلوغ ، وإن ورد في كلام العرب يتم من قبل الأم فهو مجاز واستعارة ، { والمساكين } : المقترون من المسلمين الذين تحل لهم الزكاة ، وجاهروا بالسؤال ، واختلف في معنى { الجار ذي القربى } وفي معنى { الجنب } ، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم : الجار ذو القربى هو الجارالقريب النسب ، و { الجار الجنب } هو الجار الأجنبي الذي لا قرابة بينك وبينه{[4015]} ، وقال نوف الشامي : الجار ذو القربى هو الجار المسلم ، و { الجار الجنب } هو الجار اليهودي أو النصراني ، فهي عنده قرابة الإسلام وأجنبية الكفر ، وقالت فرقة : الجار ذو القربى هو الجار القريب المسكن منك ، والجار الجنب هو البعيد المسكن منك ، وكأن هذا القول منتزع من الحديث ، قالت عائشة ، يا رسول الله إن لي جارين ، فإلى أيهما أهدي ؟ قال إلى أقربهما منك باباً{[4016]} ، واختلف الناس في حد الجيرة ، فقال الأوزاعي : أربعون داراً من كل ناحية جيرة ، وقالت فرقة : من سمع إقامة الصلاة فهو جار ذلك المسجد ، وبقدر ذلك في الدور وقالت فرقة : من ساكن رجلاً في محلة أو مدينة فهو جاره ، والمجاورة مراتب بعضها ألصق من بعض ، أدناها الزوج كما قال الأعشى : [ الطويل ]
أَيَا جَارَتِي بِينِي . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4017]}
وبعد ذلك الجيرة الخلط ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
سَائِلْ مُجَاوِرَ جرْمٍ هَلْ جَنَيت لَها حَرْباً تُفَرِّقُ بَيْنَ الْجِيرَةِ الخُلُطِ{[4018]}
وحكى الطبري عن ميمون بن مهران : أن الجار ذا القربى أريد به جار القريب ، وهذا خطأ في اللسان ، لأنه جمع على تأويله بين الألف واللام والإضافة ، وكأن وجه الكلام وجار ذي القربى{[4019]} ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «والجار ذا القربى » بنصب الجار ، وحكى مكي عن ابن وهب أنه قال عن بعض الصحابة في { الجار الجنب } : إنها زوجة وروى المفضل عن عاصم أنه قرأ «والجار الجَنْبِ » بفتح الجيم وسكون النون ، و { الجنب } في هذه الآية معناه :
البعيد ، والجنابة البعد ، ومنه قول الشاعر وهو الأعشى : [ الطويل ]
أَتيْتُ حُرَيثاً زائراً عَنْ جنابة . *** فَكانَ حُرَيْثٌ عَنْ عَطَائيَ جَامِدا{[4020]}
ومنه قول الآخر ، وهو علقمة بن عبدة : [ الطويل ]
فلا تحرمنّي نائلاً عن جنابة *** فإني امرؤٌ وَسْطَ القِبَابِ غَرِيبُ{[4021]}
وهو من الاجتناب ، وهو أن يترك الشيء جانباً ، وسئل أعرابي عن { الجار الجنب } ، فقال : هو الذي يجيء فيحل حيث تقع عينك عليه ، قال أبو علي : جنب صفة كناقة أجد{[4022]} ، ومشية سجح{[4023]} ، وجنب التطهر مأخوذ من الجنب{[4024]} .
وقال ابن عباس وابن جبير وقتادة ومجاهد والضحاك : الصاحب بالجنب هو الرفيق في السفر ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وابن مسعود وابن أبي ليلى وإبراهيم النخعي : الصاحب بالجنب الزوجة وقال ابن زيد : هو الرجل يعتريك ويلم بك لتنفعه ، وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه ، وهما على راحلتين ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة{[4025]} فقطع قضيبين ، أحدهما معوج وخرج فأعطى صاحبه القويم وحبس هو المعوج ، فقال له الرجل : كنت يا رسول الله أحق بهذا ، فقال له : يا فلان إن كل صاحب يصحب آخر فإنه مسؤول عن صحبته ولو ساعة من نهار ){[4026]} .
وقال المفسرون : ابن السبيل هو المسافر على ظهر طريقه ، وسمي ابنه للزومه له كما قيل ابن ماء للطائر الملازم للماء ، ومنه قول النبي عليه السلام : «لا يدخل الجنة ابن زنى » أي : ملازمه الذي يستحق بالمثابرة عليه أن ينسب إليه ، وذكر الطبري أن مجاهداً فسره بأنه المار عليك في سفره ، وأن قتادة وغيره فسره بأنه الضيف .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله قول واحد ، { وما ملكت أيمانكم }{[4027]} يريد العبيد الأرقاء ، ونسب الملك إلى اليمين إذ هي في المعتاد جارحة البطش والتغلب والتملك ، فأضيفت هذه المعاني وإن لم تكن بها إليها تجوزاً والعبيد موصى بهم في غير ما حديث يطول ذكرها ، ويغنى عن ذلك اشتهارها{[4028]} .
ومعنى { لا يحب } في هذه الآية لا تظهر عليه آثار نعمه في الآخرة ولا آثار حمده في الدنيا ، فهي المحبة التي هي صفة فعل أبعدها عمن صفته الخيلاء والفخر ، يقال خال الرجل يخول خلاً إذا تكبر وأعجب بنفسه ، وأنشد الطبري : [ المتقارب ]
فَإنْ كَنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا *** وإنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فاذهَبْ فَخَلْ{[4029]}
قال القاضي أبو محمد : ونفي المحبة عمن هذه صفته ضرب من التوعد ، وخص هاتين الصفتين هنا إذ مقتضاهما العجب والزهو ، وذلك هو الحامل على الإخلال بالأصناف الذين تقدم أمر الله بالإحسان إليهم ، ولكل صنف نوع من الإحسان يختص به ، ولا يعوق عن الإحسان إليهم إلا العجب أو البخل ، فلذلك نفى الله محبته عن المعجبين والباخلين على أحد التأويلين حسبما نذكره الآن بعد هذا ، وقال أبو رجاء الهروي : لا تجده سيء الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً ، ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً ، والفخر عد المناقب تطاولاً بذلك{[4030]} .
عطف تشريع يختصّ بالمعاملة مع ذوي القربى والضعفاء ، وقُدّم له الأمرُ بعبادة الله تعالى وعدمِ الإشراك على وجه الإدماج ، للاهتمام بهذا الأمر وأنّه أحقّ ما يتوخّاه المسلم ، تجديداً لمعنى التوحيد في نفوس المسلمين كما قُدّم لذلك في طالع السورة بقوله : { اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } [ النساء : 1 ] . والمناسبة هي ما أريد جمعه في هذه السورة من أحكام أواصر القرابة في النسب والدين والمخالطة .
والخطاب للمؤمنين ، قُدّم الأمر بالعبادة على النهي عن الإشراك ، لأنّهم قد تقرّر نفي الشرك بينهم وأريد منهم دوام العبادة لله ، والاستزادة منها ، ونُهُوا عن الشرك تحذيراً ممّا كانوا عليه في الجاهلية . ومجموع الجملتين في قوة صيغة حصْر ؛ إذ مفاده : اعبدوا الله ولا تعبدوا غيره فاشتمل على معنى إثبات ونفي ، كأنّه قيل : لا تعبدوا إلاّ الله . والعدول عن طريق القصر في مثل هذا طريقة عربية جاء عليها قول السموأل ، أو عبدِ الملك بن عبد الرحيم الحَارثي :
تَسيلُ على حَدّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنا *** وليستْ على غَيْرِ الظُّبَات تَسيل
وإنّما يصار إليها عندما يكون الغرض الأول هو طرف الإثبات ، ثم يقصد بعد ذلك نفي الحكم عمّا عدا المثبت له ، لأنّه إذا جيء بالقصر كان المقصد الأوّل هو نفي الحكم عمّا عدا المذكور وذلك غير مقتضَى المقام هنا ، ولأجل ذلك لمّا خوطب بنو إسرائيل بنظير هذه الآية خوطبوا بطريقة القصر في قوله : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تبعدون إلاّ الله وبالوالدين إحساناً } [ البقرة : 83 ] الآية ، لأنّ المقصود الأوّل إيقاظهم إلى إبطال عبادة غير الله ، لأنّهم قالوا لموسى : « اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة » ولأنّهم عبدوا العجل في مدّة مناجاة موسى ربَّه ، فأخذ عليهم الميثاق بالنهي عن عبادة غير الله .
وكذلك البيت فإنّ الغرض الأهمّ هو التمدّح بأنّهم يُقتلون في الحرب ، فتزهق نفوسهم بالسيوف ، ثم بدا له فأعقبه بأنّ ذلك شنشنة فيهم لا تتخلّف ولا مبالغةَ فيها .
و { شيئاً } منصوب على المفعولية ل ( تُشركوا ) أي لا تجعلوا شريكاً شيئاً ممّا يعبد كقوله : { ولن نشرك بربنا أحداً } [ الجن : 2 ] ويجوز انتصابه على المصدرية للتأكيد ، أي شيئاً من الإشراك ولو ضعيفاً كقوله : { فلن يضروك شيئاً } [ المائدة : 42 ] .
وقوله : { وبالوالدين إحسانا } اهتمام بشأن الوالدين إذ جعل الأمر بالإحسان إليهما عقب الأمر بالعبادة ، كقوله : { أن اشكر لى ولوالديك } [ لقمان : 14 ] ، وقوله : { يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه } [ لقمان : 13 ، 14 ] ، ولذا قدّم معمول ( إحساناً ) عليه تقديماً للاهتمام إذ لا معنى للحصر هنا لأنّ الإحسان مكتوب على كلّ شيء ، ووقع المصدر موقع الفعل . وإنّما عدّي الإحسان بالباء لتضمينه معنى البرّ . وشاعت تعديته بالباء في القرآن في مثل هذا . وعندي أنّ الإحسان إنّما يعدّى بالباء إذا أريد به الإحسان المتعلّق بمعاملة الذات وتوقيرها وإكرامها ، وهو معنى البرّ ولذلك جاء « وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن » ؛ وإذا أريد به إيصال النفع المالي عُديّ بإلى ، تقول : أحْسَنَ إلى فلان ، إذا وصله بمال ونحوه .
{ وذُو القربى } صاحب القرابة ، والقربى فُعلى ، اسم للقُرب مصدرِ قَرُب كالرجعي ، والمراد بها قرابة النسب ، كما هو الغالب في هذا المركّب الإضافي : وهو قولهم : ذو القربى ، وإنّما أمر بالإحسان إليه استبقاء لأواصر الودّ بين الأقارب ، إذ كان العرب في الجاهلية قد حرّفوا حقوق القرابة فجعلوها سبب تنافس وتحاسد وتقاتل . وأقوالهم في ذلك كثيرة في شعرهم ؛ قال ارطأة بن سهية :
ونحو بنو عمّ على ذاكَ بيننا *** زَرَابِيّ فيها بِغْضَةٌ وتَنَافُس
وحسبك ما كان بين بَكر وتغلب في حرب البَسُوس ، وهما أقارب وأصهار ، وقد كان المسلمون يومَها عَرَبا قَريبي عهد بالجاهلية ؛ فلذلك حثّهم على الإحسان إلى القرابة . وكانوا يحسنون بالجار ، فإذا كان من قرابتهم لم يكترثوا بالإحسان إليه ، وأكّد ذلك بإعادة حرف الجرّ بعد العاطف . ومن أجل ذلك لم تؤكّد بالباء في حكاية وصية بني إسرائيل { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } إلى قوله : { وذي القربى } [ البقرة : 83 ] لأنّ الإسلام أكّد أوامر القرابة أكثر من غيره . وفي الأمر بالإحسان إلى الأقارب تنبيه على أنّ من سفالة الأخلاق أن يستخفّ أحد بالقريب لأنّه قريبه ، وآمِن من غوائله ، ويصرف برّه وودّه إلى الأباعد ليستكفي شرّهم ، أو ليُذكر في القبائل بالذكر الحسن ، فإنّ النفس التي يطوّعها الشرّ ، وتَدينها الشدّة ، لنفس لَئيمة ، وكما ورد « شرّ الناس من اتّقاه الناس لشرّه » فكذلك نقول : « شرّ الناس من عَظَّم أحداً لشرّه » .
وقوله : { واليتامى والمساكين } هذان صنفان ضعيفان عديما النصير ، فلذلك أوصي بهما .
والجار هو النزيل بقرب منزلك ، ويطلق على النزيل بين القبيلة في جوارها ، فالمراد ب { الجار ذي القربى } الجار النسيب من القبيلة ، وب { الجار الجنب } الجار الغريب الذي نزل بين القوم وليس من القبيلة ، فهو جُنُب ، أي بعيد ، مشتقّ من الجَانب ، وهو وصف على وزن فُعُل ، كقولهم : ناقة أجُد ، وقيل : هو مصدر ، ولذلك لم يُطابق موصوفه ، قال بَلْعَاء بن قيس :
لا يجتوينا مُجَاور أبداً *** ذُو رحم أو مُجَاور جُنُب
ويشهد لهذا المعنى قول علقمة بن عبدة في شعره الذي استشفع به عند الملك الحارث ابن جبلة الغسّاني ، ليطلق له أخاه شَاسا ، حين وقع في أسر الحارث :
فلا تَحْرِمَنِّي نَائِلاً عن جَنَابَةٍ *** فإنِّي امرؤٌ وَسْط القباب غريب
وفسّر بعضهم الجار ذا القربى بقريب الدار ، والجُنُبُ بعيدها ، وهذا بعيد ، لأنّ القربى لا تعرف في القرب المكاني ، والعرب معروفون بحفظ الجوار والإحسان إلى الجار ، وأقوالهم في ذلك كثيرة ، فأكّد ذلك في الإسلام لأنّه من محامد العرب التي جاء الإسلام لتكميلها من مكارم الأخلاق ، ومن ذلك الإحسان إلى الجار .
وأكّدت السنّة الوصاية بالجار في أحاديث كثيرة : ففي « البخاري » عن عائشة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه " . وفيه عن أبي شريح : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج وهو يقول : " والله لاَ يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن " . قيل : « ومن يا رسول الله » قال : " من لا يأمن جارُه بوائقه " وفيه عن عائشة ، قلت : « يا رسول الله إنّ لي جارين فإلى أيّهما أهدي » قال " إلى أقربهما منك بابا " وفي « صحيح مسلم » : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذرّ " إذا طبخت مَرَقة فأكْثِر ماءها وتعاهده جيرانك " . واختلف في حدّ الجوار : فقال ابن شهاب ، والأوزاعي : أربعون داراً من كلّ ناحية ، وروي في ذلك حديث : وليس عن مالك في ذلك حدّ ، والظاهر أنّه موكول إلى ما تعارفه الناس .
وقوله : { والصاحب بالجنب } هو المصاحب الملازم للمكان ، فمنه الضيف ، ومنه الرفيق في السفر ، وكلّ من هو مُلمّ بك لطلب أن تنفعه ، وقيل : أراد الزوجة .
{ وابن السبيل } هو الغريب المجتاز بقوم غيرَ نَاو الإقامة ، لأنّ من أقام فهو الجار الجُنب . وكلمة ( ابن ) فيه مستعملة في معنى الانتساب والاختصاص ، كقولهم : أبو الليل ، وقولهم في المثل : أبوها وكيَّالُها . والسبيل : الطريق السابلة ، فابن السبيل هو الذي لازمَ الطريق سائراً ، أي مسافراً ، فإذا دخل القبيلة فهو ليس من أبنائها ، فعرَّفوه بأنه ابن الطريق ، رمى به الطريق إليهم ، فكأنّه وَلَدَه . والوصاية به لأنّه ضعيف الحيلة ، قليل النصير ، إذ لا يهتدي إلى أحوال قوم غير قومه ، وبلد غير بلده .
وكذلك { ما ملكت أيمانكم } لأنّ العبيد في ضعف الرقّ والحاجة وانقطاع سبل الخلاص من سادتهم ، فلذلك كانوا أحقّاء بالوصاية .
وجملة : { إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً } تذييل لجملة الأمر بالإحسان إلى من سمّاهم بذمّ موانع الإحسان إليهم الغالبة على البشر . والاختيال : التكبّر ، افتعال مشتقّ من الخُيَلاء ، يقال : خالَ الرجلُ خَوْلا وخَالا . والفخور : الشديد الفخر بما فعل ، وكلا الوصفين منشأ للغلظة والجفاء ، فهما ينافيان الإحسان المأمور به ، لأنّ المراد الإحسان في المعاملة وترك الترفّع على من يظنّ به سبب يمنعه من الانتقام .
ومعنى نفي محبّة الله تعالى نفي رضاه وتقريبه عمّن هذا وصفه ، وهذا تعريض بأخلاق أهل الشرك ، لما عرفوا به من الغلطة والجفاء ، فهو في معنى التحذير من بَقايا الأخلاق التي كانوا عليها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا}: وذلّوا لله بالطاعة، واخضعوا له بها، وأفردوه بالربوبية، وأخلصوا له الخضوع والذلة، بالانتهاء إلى أمره، والانزجار عن نهيه، ولا تجعلوا له في الربوبية والعبادة شريكا تعظمونه تعظيمكم إياه. {وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا}: وأمركم بالوالدين إحسانا، يعني برّا بهما¹ ولذلك نصب الإحسان، لأنه أمر منه جلّ ثناؤه بلزوم الإحسان إلى الوالين على وجه الإغراء. وقد قال بعضهم: معناه: واستوصوا بالوالدين إحسانا، وهو قريب المعنى مما قلناه.
{وَبِذِي القُرْبَى}: وأمر أيضا بذي القربى، وهم ذوو قرابة أحدنا من قبل أبيه أو أمه ممن قربت منه قرابته برحمه من أحد الطرفين إحسانا بصلة رحمه. {واليَتَامى}: جمع يتيم، وهو الطفل الذي قد مات والده وهلك.
{وَالمَساكِينِ}: جمع مسكين، وهو الذي قد ركبه ذلّ الفاقة والحاجة فتمسكن لذلك. يقول تعالى ذكره: استوصوا بهؤلاء إحسانا إليهم، وتعطفوا عليهم، والزموا وصيتي في الإحسان إليهم.
{والجارِ ذِي القُرْبَي}؛ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: والجار ذي القرابة والرحم منك... إذا كان له جار له رحم، فله حقان اثنان: حقّ القرابة، وحقّ الجار.
وقال آخرون: بل هو جار ذي قرابتك... الرجل يتوسل إليك بجوار ذي قرابتك.
وهذا القول قول مخالف المعروف من كلام العرب، وذلك أن الموصوف بأنه ذو القرابة في قوله: {والجارِ ذِي القُرْبَي} الجار دون غيره، فجعله قائل هذه المقالة جار ذي القرابة، ولو كان معنى الكلام كما قال، لقيل: وجار ذي القربى، ولم يقل: والجار ذي القربي، فكان يكون حينئذً إذا أضيف الجار إلى ذي القرابة الوصية ببرّ جار ذي القرابة دون الجار ذي القربي. وأما والجار بالألف واللام فغير جائز أن يكوى «ذي القربى» إلا من صفة الجار. وإذا كان ذلك كذلك كانت الوصية من الله في قوله: {والجارِ ذِي القُرْبَي} ببرّ الجار ذي القربى دون جار ذي القرابة.
وقال آخرون: معنى ذلك: والجار ذي القربي منكم بالإسلام...
{والجارِ ذِي القُرْبَي}: المسلم.
وهذا أيضا مما لا معنى له، وذلك أن تأويل كتاب الله تبارك وتعالى غير جائز صرفه إلا إلى الأغلب من كلام العرب، الذين نزل بلسانهم القرآن المعروف فيهم دون الأنكر الذي لا تتعارفه، إلا أن يقوم بخلاف ذلك حجة يجب التسليم لها. وإذا كان ذلك كذلك، وكان معلوما أن المتعارف من كلام العرب إذا قيل فلان ذو قرابة، إنما يعني به: إنه قريب الرحم منه دون القرب بالدين، كان صرفه إلى القرابة بالرحم أولَى من صرفه إلى القرب بالدين.
{والجارِ الجُنُبِ}؛ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: والجار البعيد الذي لا قرابة بينك وبينه.
وقال آخرون: هو الجار المشرك... اليهودي والنصرانيّ.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى الجنب في هذا الموضع: الغريب البعيد، مسلما كان أو مشركا، يهوديا كان أو نصرانيا¹، لما بينا قبل أن الجار ذي القربى: هو الجار ذو القرابة والرحم، والواجب أن يكون الجار ذو الجنابة الجار البعيد، ليكون ذلك وصية بجميع أصناف الجيران، قريبهم وبعيدهم. وبعد فإن الجُنب في كلام العرب البعيد، ومنه قيل: اجتنب فلان فلانا: إذا بعد منه. وتجنبه غيره: إذا منعه إياه¹ ومنه قيل للجنب: جُنُب، لاعتزاله الصلاة حتى يغتسل. فمعنى ذلك: والجار المجانب للقرابة.
{وَالصّاحِب بالجَنْبِ}؛ اختلف أهل التأويل في المعنيّ بذلك؛
فقال بعضهم: هو رفيق الرجل في سفره.
وقال آخرون: بل هو امرأة الرجل التي تكون معه إلى جنبه.
وقال آخرون: هو الذي يلزمك ويصحبك رجاء نفعك.
والصواب من القول في تأويل ذلك عندي: أن معنى: {وَالصّاحِبِ بالجَنْبِ}: الصاحب إلى الجنب، كما يقال: فلان بجنب فلان وإلى جنبه، وهو من قولهم: جَنَب فلان فلانا فهو يَجْنُبُهُ جَنْبا، إذا كان لجنبه، ومن ذلك: جَنَبَ الخَيْلَ، إذا قاد بعضها إلى جنب بعض. وقد يدخل في هذا الرفيق في السفر، والمرأة، والمنقطع إلى الرجل الذي يلازمه رجاء نفعه، لأن كلهم بجنب الذي هو معه وقريب منه، وقد أوصى الله تعال بجميعهم لوجوب حقّ الصاحب على المصحوب. وقد: حدثنا سهل بن موسى الرازي، قال: حدثنا ابن أبي فديك، عن فلان بن عبد الله، عن الثقة عنده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين، فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم في غيضة طرفاء، فقطع فصيلين أحدهما معوجّ والاَخر معتدل، فخرج بهما فأعطى صاحبه المعتدل وأخذ لنفسه المعوجّ، فقال الرجل: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أنت أحقّ بالمعتدل مني! فقال: «كَلاّ يا فُلانُ، إنّ كُلّ صَاحِبٍ يَصْحَبُ صَاحِبا مَسْؤولٌ عَنْ صَحَابَتِهِ وَلَوْ ساعَةً مِنْ نَهارٍ».
حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة، قال: ثني شرحبيل بن شريك، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «إنّ خَيْرَ الأصحَابِ عِنْدَ اللّهِ تَبارَكَ وَتَعالى خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِه، وَخَيْرُ الجِيرانَ عِنْدَ اللّه خَيْرُهُمْ لِجارِه».
وإن كان الصاحب بالجنب معناه ما ذكرناه من أن يكون داخلاً فيه كل من جنب رجلاً يصحبه في سفر أو نكاح أو انقطاع إليه واتصال به، ولم يكن الله جلّ ثناؤه خصّ بعضهم مما احتمله ظاهر التنزيل فالصواب أن يقال: جميعهم معنيون بذلك، وبكلهم قد أوصى الله بالإحسان إليه.
{وَابْنِ السّبِيلِ}؛ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: ابن السبيل: هو المسافر الذي يجتاز مارّا. وقال آخرون: هو الضيف.
والصواب من القول في ذلك: أن ابن السبيل: هو صاحب الطريق، والسبيل: هو الطريق، وابنه: صاحبه الضارب فيه، فله الحقّ على من مرّ به محتاجا منقطعا به إذا كان سفره في غير معصية الله أن يعينه إن احتاج إلى معونة، ويضيفه إن احتاج إلى ضيافة، وأن يحمله إن احتاج إلى حُمْلان.
{وَما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ}: والذين ملكتموهم من أرقائكم. فأضاف الملك إلى اليمين، كما يقال: تكلم فوك، ومشت رجلُك، وبطشت يدُك، بمعنى: تكلمتَ، ومشيتَ، وبطشتَ. غير أن ما وصفت به كل عضو من ذلك، فإنما أضيف إليه ما وصفت به، لأنه بذلك يكون في المتعارف في الناس دون سائر جوارح الجسد، فكان معلوما بوصف ذلك العضو بما وُصف به من ذلك المعنى المراد من الكلام، فكذلك قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} لأن مماليك أحدنا تحت يده، إنما يَطعم ما تناوله أيماننا ويكتسي ما تكسوه وتصرّفه فيما أحبّ صرفه فيه بها. فأضيف ملكهم إلى الأيمان لذلك.
عن مجاهد: {وَما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} مما خوّلك الله كل هذا أوصى الله به.
وإنما يعني مجاهد بقوله: «كل هذا أوصى الله به» الوالدين وذا القربى واليتامى والمساكين والجار ذا القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، فأوصى ربنا جلّ جلاله بجميع هؤلاء عباده إحسانا إليهم، وأمر خلقه بالمحافظة على وصيته فيهم، فحقّ على عباده حفظ وصية الله فيهم ثم حفظ وصية رسوله صلى الله عليه وسلم.
{إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً}: إن الله لا يحبّ من كان ذا خيلاء، والمختال المفتعل من قولك: خال الرجل فهو يَخُول خَوْلاً وخَالاً. وأما الفخور: فهو المفتخر على عباد الله بما أنعم الله عليه من آلائه، وبسط له من فضله، ولا يحد على ما أتاه من طوله، ولكنه به مختال مستكبر، وعلى غيره به مستطيل مفتخر... عن مجاهد: {إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً} قال: متكبرا فخورا، قال: يعدّ ما أُعطي، وهو لا يشكر الله.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَاعْبُدُوا اللهَ}: العبودية معانقة الأمر ومفارقة الزجر.
{وَلاَ تُشْرِكُوا} الشِّركُ جَلِيُّه اعتقادُ معبودٍ سواه، وخفِيُّه: ملاحظةُ موجود سواه، والتوحيد أن تعرف أنَّ الحادثاتِ كلَّها حاصلةٌ بالله، قائمةٌ به؛ فهو مجريها ومنشيها ومبقيها، وليس لأحد ذرة ولا شظية ولا سينة ولا شمة من الإيجاد والإبداع. ودقائق الرياء وخفايا المصانعات وكوامن الإعجاب والعمل على رؤية الخلْق، واستحلاء مدحهم والذبول تحت ردّهم وذمِّهم -كلُّ ذلك من الشِّرْكِ الخَفِّي...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(وبالوالدين إحسانا) أي: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، ومن الإحسان بالوالدين: لين الجانب، وألا يرفع صوته فوق صوتهما، ولا يجبه بالرد، ويكون لهما كالعبد الذليل لسيده (وبذي القربى) أي: أحسنوا بذي القربى (واليتامى والمساكين (والجار ذي القربى) فيه قولان: أحدهما: انه الجار الذي له قرابة. والثاني: أنه الجار الذي بقرب داره، وهو الملاصق، (والجار الجنب) فيه قولان: أحدهما: أنه الجار الغريب الأجنبي، والثاني: أنه الجار الذي يبعد داره...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{إنّ اللّهَ لا يُحِبّ مَنْ كانَ مُخْتالاً}: ونفي المحبة عمن هذه صفته ضرب من التوعد، وخص هاتين الصفتين هنا إذ مقتضاهما العجب والزهو، وذلك هو الحامل على الإخلال بالأصناف الذين تقدم أمر الله بالإحسان إليهم، ولكل صنف نوع من الإحسان يختص به، ولا يعوق عن الإحسان إليهم إلا العجب أو البخل، فلذلك نفى الله محبته عن المعجبين والباخلين على أحد التأويلين حسبما نذكره الآن بعد هذا، وقال أبو رجاء الهروي: لا تجده سيء الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً، ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً، والفخر عد المناقب تطاولاً بذلك.
اعلم أنه تعالى لما أرشد كل واحد من الزوجين إلى المعاملة الحسنة مع الآخر وإلى إزالة الخصومة والخشونة، أرشد في هذه الآية إلى سائر الأخلاق الحسنة وذكر منها عشرة أنواع...
النوع الأول: قوله: {واعبدوا الله} قال ابن عباس: المعنى وحدوه، واعلم أن العبادة عبارة عن كل فعل وترك يؤتى به لمجرد أمر الله تعالى بذلك، وهذا يدخل فيه جميع أعمال القلوب وجميع أعمال الجوارح، فلا معنى لتخصيص ذلك بالتوحيد، وتحقيق الكلام في العبادة قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم}...
النوع الثاني: قوله: {ولا تشركوا به شيئا} وذلك لأنه تعالى لما أمر بالعبادة بقوله: {واعبدوا الله} أمر بالإخلاص في العبادة بقوله: {ولا تشركوا به شيئا} لأن من عبد مع الله غيره كان مشركا ولا يكون مخلصا، ولهذا قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}.
النوع الثالث: قوله: {وبالوالدين إحسانا} واتفقوا على أن ههنا محذوفا، والتقدير: وأحسنوا بالوالدين إحسانا...
النوع الرابع: قوله تعالى: {وبذي القربى} وهو أمر بصلة الرحم كما ذكر في أول السورة بقوله: {والأرحام}. واعلم أن الوالدين من الأقارب أيضا، إلا أن قرابة الولادة لما كانت مخصوصة بكونها أقرب القرابات وكانت مخصوصة بخواص لا تحصل في غيرها، لا جرم ميزها الله تعالى في الذكر عن سائر الأنواع، فذكر في هذه الآية قرابة الولاد، ثم أتبعها بقرابة الرحم...
النوع الخامس: قوله: {واليتامى} واعلم أن اليتيم مخصوص بنوعين من العجز: أحدهما: الصغر، والثاني: عدم المنفق، ولا شك أن من هذا حاله كان في غاية العجز واستحقاق الرحمة. قال ابن عباس: يرفق بهم ويربيهم ويمسح رأسهم، وإن كان وصيا لهم فليبالغ في حفظ أموالهم...
النوع السادس: قوله: {والمساكين} واعلم أنه وإن كان عديم المال إلا أنه لكبره يمكنه أن يعرض حال نفسه على الغير، فيجلب به نفعا أو يدفع به ضررا، وأما اليتيم فلا قدرة له عليه، فلهذا المعنى قدم الله اليتيم في الذكر على المسكين، والإحسان إلى المسكين إما بالإجمال إليه، أو بالرد الجميل. كما قال تعالى: {وأما السائل فلا تنهر}...
النوع السابع: قوله: {والجار ذي القربى} قيل: هو الذي قرب جواره، والجار الجنب هو الذي بعد جواره. قال عليه الصلاة والسلام: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ألا وإن الجوار أربعون دارا» وكان الزهري يقول: أربعون يمنة، وأربعون يسرة، وأربعون أماما وأربعون خلفا...
النوع التاسع: قوله: {والصاحب بالجنب} وهو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقا في سفر، وإما جارا ملاصقا، وإما شريكا في تعلم أو حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه، فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان. وقيل: الصاحب الجنب: المرأة فأنها تكون معك وتضجع إلى جنبك...
النوع العاشر: قوله: {وابن السبيل} وهو المسافر الذي انقطع عن بلده، وقيل: الضيف. النوع الحادي عشر: قوله: {وما ملكت أيمانكم}...
واعلم أن الإحسان إلى المماليك طاعة عظيمة، روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع شيئا من الخدم فلم توافق شيمته شيمته فليبع وليشتر حتى توافق شيمته شيمته فإن للناس شيما ولا تعذبوا عباد الله» وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان آخر كلامه: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» وروي أنه كان رجل بالمدينة يضرب عبده، فيقول العبد أعوذ بالله ويستمعه الرسول عليه السلام، والسيد كان يزيده ضربا، فطلع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: أعوذ برسول الله فتركه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كان أحق أن يجار عائذه» قال يا رسول الله فإنه حر لوجه الله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «والذي نفس محمد بيده لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار». واعلم أن الإحسان إليهم من وجوه: أحدها: أن لا يكلفهم ما لا طاقة لهم به، وثانيها: أن لا يؤذيهم بالكلام الخشن بل يعاشرهم معاشرة حسنة، وثالثها: أن يعطيهم من الطعام والكسوة ما يحتاجون إليه. وكانوا في الجاهلية يسيئون إلى المملوك فيكلفون الإماء البغاء، وهو الكسب بفروجهن وبضوعهن. وقال بعضهم: كل حيوان فهو مملوك، والإحسان إلى الكل بما يليق به طاعة عظيمة. واعلم أن ذكر اليمين تأكيد وهو كما يقال: مشت رجلك، وأخذت يدك، قال عليه الصلاة والسلام: «على اليد ما أخذت» وقال تعالى: {مما عملت أيدينا أنعاما} ولما ذكر تعالى هذه الأصناف قال: {إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا} والمختال ذو الخيلاء والكبر. قال ابن عباس: يريد بالمختال العظيم في نفسه الذي لا يقوم بحقوق أحد. قال الزجاج: وإنما ذكر الاختيال ههنا، لأن المختال يأنف من أقاربه إذا كانوا فقراء، ومن جيرانه إذا كانوا ضعفاء فلا يحسن عشرتهم. وذكرنا اشتقاق هذه اللفظة عند قوله: {والخيل المسومة} ومعنى الفخر التطاول، والفخور الذي يعدد مناقبه كبرا وتطاولا. قال ابن عباس: هو الذي يفخر على عباد الله بما أعطاه الله من أنواع نعمه، وإنما خص الله تعالى هذين الوصفين بالذم في هذا الموضع، لأن المختال هو المتكبر، وكل من كان متكبرا فإنه قلما يقوم برعاية الحقوق، ثم أضاف إليه ذم الفخور لئلا يقدم على رعاية هذه الحقوق لأجل الرياء والسمعة، بل لمحض أمر الله تعالى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كثرت في هذه السورة الوصايا من أولها إلى هنا بنتيجة التقوى: العدل والفضل، والترغيب في نواله، والترهيب من نكاله -إلى أن ختم ذلك بإرشاد الزوجين إلى المعاملة بالحسنى، وختم الآية بما هو في الذروة من حسن الختام من صفتي العلم والخبر، وكان ذلك في معنى ما ختم به الآية الآمرة بالتقوى من الوصف بالرقيب، اقتضى ذلك تكرير التذكير بالتقوى التي افتتحت السورة بالأمر بها، فكان التقدير حتماً: فاتقوه؛ عطف عليه، أو على نحو
{وسئلوا الله من فضله} [النساء: 32] أو على {اتقوا ربكم} الخُلق المقصود من الخلق المبثوثين على تلك الصفة، وهو العبادة الخالصة التي هي الإحسان في معاملة الخالق، وأتبعها الإحسان في معاملة الخلائق فقال: {واعبدوا الله} أي أطيعوا- الذي له الكمال كله فلا يشبهه شيء -طاعة محضة من غير شائبة خلاف مع الذل والانكسار، لأن ملاك ذلك كله التعبد بامتثال الأوامر واجتناب الزواجر.
ولما كان سبحانه غنياً لم يقبل إلا الخالص، فقال مؤكداً لما أفهمه ما قبله: {ولا تشركوا به شيئاً}.
ولما أمر للواحد الحقيقي بما ينبغي له، وكان لذلك درجتان: أولاهما الإيمان، وأعلاهما الإحسان، فصار المأمور بذلك مخلصاً في عبادته؛ أمره بالإحسان في خلافته، وبدأ بأولى الناس بذلك، وهو من جعله سبباً لإيجاده فقال- مشيراً إلى أنه لا يرضى له من ذلك إلا درجة الإحسان، وإلى أن من أخلص له أغناه عن كل ما سواه، فلا يزال منعماً على من عداه -: {وبالوالدين} أي وأحسنوا بهما {إحساناً} وكفى دلالة على تعظيم أمرهما جعل برهما قرين الأمر بتوحيده سبحانه.
ولما كان مبنى السورة على الصلة لاسيما الذي الرحم، قال مفصلاً لما ذكر أول السورة تأكيداً له: {وبذي القربى} لتأكد حقهم بمزيد قربهم، ولاقتضاء هذه السورة مزيد الحث على التعاطف أعاد الجار، ثم أتبع ذلك من تجب مراعاته لله، أو لمعنى تفسد بالإخلال به ذات البين، وبدأ بما لله لأنه إذا صح تبعه غيره فقال: {واليتامى والمساكين} أي وإن لم تكن رحمهم معروفة، وخصهم لضعفهم وقدم اليتيم لأنه أضعف، لأنه لصغره يضعف عن دفع حاجته ورفعها إلى غيره {والجار ذي القربى} أي لأن له حقين {والجار الجنب} أي الذي لا قرابة له، للبلوى بعشرته خوفاً من بالغ مضرته "اللهم! إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول "{والصاحب الجنب} أي الملاصق المخالط في أمر من الأمور الموجبة لامتداد العشرة {وابن السبيل} أي المسافر لغربته وقلة ناصره ووحشته {وما ملكت أيمانكم} أي من العبيد والإماء كذلك، فإن الإحسان إليهم طاعة عظيمة "آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة وما ملكت أيمانكم".
ولما ذكر الإحسان الذي عماده التواضع والكرم، ختم الآية ترغيباً فيه وتحذيراً من منعه معللاً للأمر به بقوله: {إن الله} أي بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى {لا يحب} أي لا يفعل فعل المحب مع {من كان مختالاً} أي متكبراً معجباً بنفسه متزيناً بحليته مرائياً بما آتاه الله تعالى من فضله على وجه العظم واحتقار الغير، يأنف من أن ينسب إليه أقاربه الفقراء، ويقذر جيرانه إذا كانوا ضعفاء، فلا يحسن إليهم لئلا يلمّوا به فيعيَّر بهم.
ولما كان المختال ربما أحسن رياء، قال معلماً أنه لا يقبل إلا الخالص: {فخوراً} مبالغاً في التمدح بالخصال، يأنف من عشرة الفقراء، وفي ذلك أتم ترهيب من الخلق المانع من الإحسان، وهو الاختيال على عباد الله والافتخار عليهم ازدراء بهم، فإنه لا مقتضى لذلك لأن الكل من نفس واحدة، والفضل نعمة منه سبحانه، يجب شكرها بالتواضع لتدوم، ويحذر كفرها بالفخار خوفاً من أن تزول.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الأستاذ الإمام: كل ما تقدم من الأحكام كان خاصا بنظام القرابة والمصاهرة وحال البيوت التي تتكون منها الأمة، ثم إنه تعالى بعد بيان تلك الأحكام الخصوصية، أراد أن ينبهنا إلى بعض الحقوق العمومية، وهي العناية بكل من يستحق العناية وحسن المعاملة من الناس، فبدأ ذلك بالأمر بعبادته تعالى، وعبادته ملاك حفظ الأحكام والعمل بها وهي الخضوع له تعالى وتمكين هيبته وخشيته من النفس، والخشوع لسلطانه في السر والجهر، فمتى كان الإنسان على هذا فإنه يقيم هذه الأحكام وغيرها حتى تصلح جميع أعماله ولذلك كانت النية عندنا تجعل الأعمال العادية عبادات كالزارع يزرع ليقيم أمر بيته ويعول من يمونه ويفيض من فضل كسبه على الفقراء والمساكين ويساعد على الأعمال ذات المنافع العامة فعمله بهذه النية يجعل حرثه من أفضل العبادات فليست العبادة في قوله هنا: {واعبدوا الله} خاصة بالتوحيد كما قال المفسر (الجلال) بل هي عامة كما قلنا تشمل التوحيد وجميع ما يمده من الأعمال...
أقول: ثم عقب الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك بالوصية بالوالدين فقال: {وبالوالدين إحسانا} أي وأحسنوا بالوالدين إحسانا تاما لا تقصروا في شيء منه يقال أحسن به وأحسن له وأحسن إليه، وقيل إذا تعدى الإحسان بالباء يكون متضمنا لمعنى العطف وعندي أن التعدية بالباء أبلغ لإشعارها بإلصاق الإحسان بمن يوجه إليه من غير إشعار بالفرق بينه وبين المحسن، والتعدية ب"إلى" تشعر بطرفين متباعدين يصل الإحسان من أحدهما إلى الآخر...
والإحسان في المعاملة يعرفه كل أحد وهو يختلف باختلاف أحوال الناس وطبقاتهم وإن العامي الجاهل ليدري كيف يحسن إلى والديه ويرضيهما ما لا يدري العالم النحرير إذا أراد أن يحدد له ذلك، وقال بعضهم إن جماع الإحسان المأمور به أن يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما ولا يخشن في الكلام معهما، وأن يسعى في تحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما بقدر سعته، وأنت تعلم أن من فعل ذلك وهو لا يلقاهما إلا عابسا مقطبا، أو أدى النفقة التي يحتاجان إليها وهو يظهر الفاقة والقلة فإنه لا يعد محسنا بهما، فالتعليم الحرفي لا يحدد الإحسان المطلوب من كل أحد بل العمدة فيها اجتهاد المرء وإخلاص قلبه في تحري ذلك بقدر طاقته وحسب فهمه لأكمل الإرشاد الإلهي التفصيلي في ذلك بقوله عز وجل: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما* واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا* ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا} [الإسراء:23 25] فأنت ترى الرب العليم الحكيم الرحيم قد قفى هذه الوصية البليغة الدقيقة ببيان أن العبرة بما في نفس الولد من قصد البر والإحسان والإخلاص فيه وأن التقصير مع هذا مرجو الغفران، وقد فصل بعض العلماء القول في ذلك كالغزالي في الإحياء وابن حجر في الزواجر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هناك أكثر من مناسبة واحدة، تربط بين مطلع هذا الدرس؛ وبين محور السورة كلها، وموضوعاتها الأساسية من ناحية؛ وبينه وبين موضوعات الدرس السابق في هذا الجزء من ناحية أخرى. فهذا الدرس بدء جولة في تنظيم حياة المجتمع المسلم؛ وتخليصه من رواسب الجاهلية، وتثبيت الملامح الإسلامية الجديدة؛ والتحذير من أهل الكتاب -وهم اليهود بالمدينة- وما جبلوا عليه من شر ونكر؛ وما ينفثونه في المجتمع المسلم، وما يبذلونه من جهود لتعويق نموه وتكامله -وبخاصة من الناحية الأخلاقية، وناحية التكافل والتعاون، اللتين هما موضع القوة النامية في هذا المجتمع الجديد.. ولأن الدرس الجديد جولة جديدة، فقد بدأ بالقاعدة الأولية التي يقوم عليها المجتمع المسلم- قاعدة التوحيد الخالص -التي تنبثق منها حياته؛ وينبثق منها منهج هذه الحياة، في كل جانب، وفي كل اتجاه. وقد سبق هذا الدرس أشواط منوعة في التنظيم العائلي، والتنظيم الاجتماعي. وكان الحديث في الدرس السابق عن الأسرة وتنظيمها ووسائل صيانتها، والروابط التي تشدها وتوثق بناءها.. فجاء هذا الدرس يتناول علاقات إنسانية- في المجتمع المسلم -أوسع مدى من علاقات الأسرة؛ ومتصلة بها كذلك. متصلة بها بالحديث عن الوالدين. ومتصلة بها في توسعها بعد علاقة الوالدين، لتشمل علاقات أخرى؛ ينبع الشعور بها من المشاعر الودود الطيبة التي تنشأ في جو الأسرة المتحابة؛ حتى تفيض على جوانب الإنسانية الأخرى؛ ويتعلمها الإنسان- أول من يتعلمها -في جو الأسرة الحاني ومحضنها الرفيق. ومن هناك يتوسع في علاقاته بأسرة الإنسانية كلها؛ بعدما بذرت بذورها في حسه أسرته الخاصة القريبة. ولأن في الدرس الجديد توجيهات إلى رعاية الأسرة القريبة- العائلة -والأسرة الكبيرة- الإنسانية -وإقامة قيم وموازين في هذا الحقل، للباذلين وللباخلين.. فقد ابتدأ الدرس بالقاعدة الأساسية التي تنبثق منها كل القيم والموازين- كما ينبثق منها منهج الحياة كله في المجتمع المسلم -وهي قاعدة التوحيد.. وربط كل حركة وكل نشاط، وكل خالجة وكل انفعال بمعنى العبادة لله. التي هي غاية كل نشاط إنساني، في ضمير المسلم وفي حياته.. وبسبب من الحديث عن عبادة الله وحده- في محيطها الشامل -جاءت الفقرة الثانية في الدرس؛ تبين بعض أحكام الصلاة والطهارة؛ وتتخذ خطوة في طريق تحريم الخمر- ولم تكن قد حرمت بعد -باعتبار هذه الخطوة جزءا من برنامج التربية الإسلامية العامة الدائبة الخطى في المجتمع الوليد. وباعتبار علاقتها بالعبادة والصلاة والتوحيد...
. حلقات متماسكة بعضها مع بعض. ومع الدرس السابق. ومع محور السورة كذلك...
(واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا. وبالوالدين إحسانا. وبذي القربى واليتامى والمساكين، والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب. وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم...). إن التشريعات والتوجيهات- في منهج الله -إنما تنبثق كلها من أصل واحد، وترتكز على ركيزة واحدة. إنها تنبثق من العقيدة في الله، وترتكز على التوحيد المطلق سمة هذه العقيدة.. ومن ثم يتصل بعضها ببعض؛ ويتناسق بعضها مع بعض؛ ويصعب فصل جزئية منها عن جزئية؛ وتصبح دراسة أي منها ناقصة بدون الرجوع إلى أصلها الكبير الذي تلتقي عنده؛ ويصبح العمل ببعضها دون البعض الآخر غير واف بتحقيق صفة الإسلام؛ كما أنه غير واف بتحقيق ثمار المنهج الإسلامي في الحياة...
من العقيدة في الله تنبع كل التصورات الأساسية للعلاقات الكونية والحيوية والإنسانية. تلك التصورات التي تقوم عليها المناهج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والعالمية. والتي تؤثر في علاقات الناس بعضهم ببعض، في كل مجالي النشاط الإنساني في الأرض؛ والتي تكيف ضمير الفرد وواقع المجتمع؛ والتي تجعل المعاملات عبادات- بما فيها من اتباع لمنهج الله ومراقبة الله -والعبادات قاعدة للمعاملات- بما فيها من تطهير للضمير والسلوك -والتي تحيل الحياة في النهاية وحدة متماسكة؛ تنبثق من المنهج الرباني، وتتلقى منه وحده دون سواه، وتجعل مردها في الدنيا والآخرة إلى الله...
هذه السمة الأساسية في العقيدة الإسلامية، وفي المنهج الإسلامي، وفي دين الله الصحيح كله، تبرز هنا في تصدير آية الإحسان إلى الوالدين والأقربين، وغيرهم من طوائف الناس. بعبادة الله وتوحيده- كما أسلفنا -ثم في الجمع بين قرابة الوالدين، وقرابة هذه الطوائف من الناس، متصلة هذه وتلك بعبادة الله وتوحيده- كذلك -وذلك بعد أن جعل هذه العبادة وهذا التوحيد واسطة ما بين دستور الأسرة القريبة في نهاية الدرس الماضي، ودستور العلاقات الإنسانية الواسعة في هذا الدرس- على النحو الذي بينا من قبل -ليصلها جميعا بتلك الآصرة التي تضم الأواصر جميعا؛ وليوحد المصدر الذي يشرع ويوجه في شأن هذه الأواصر جميعا...
. اعبدوا الله.. ولا تشركوا به شيئًا.. الأمر الأول بعبادة الله.. والنهي الثاني لتحريم عبادة أحد- معه -سواه. نهيا باتا، شاملا، لكل أنواع المعبودات التي عرفتها البشرية: (ولا تشركوا به شيئًا) شيئا كائنا ما كان، من مادة أو حيوان أو إنسان أو ملك أو شيطان.. فكلها مما يدخل في مدلول كلمة شيء، عند إطلاق التعبير على هذا المنوال.. ثم ينطلق إلى الأمر بالإحسان إلى الوالدين- على التخصيص -ولذوي القربي- على التعميم -ومعظم الأوامر تتجه إلى توصية الذرية بالوالدين- وإن كانت لم تغفل توجيه الوالدين إلى الذرية؛ فقد كان الله أرحم بالذراري من آبائهم وأمهاتهم في كل حال. والذرية بصفة خاصة أحوج إلى توجيهها للبر بالوالدين. بالجيل المدبر المولي. إذ الأولاد -في الغالب- يتجهون بكينونتهم كلها، وبعواطفهم ومشاعرهم واهتماماتهم إلى الجيل الذي يخلفهم؛ لا الجيل الذي خلفهم! وبينما هم مدفوعون في تيار الحياة إلى الأمام، غافلون عن التلفت إلى الوراء، تجيئهم هذه التوجيهات من الرحمن الرحيم، الذي لا يترك والدا ولا مولودا، والذي لا ينسى ذرية ولا والدين؛ والذي يعلم عباده الرحمة بعضهم ببعض، ولو كانوا ذرية أو والدين!... كذلك يلحظ في هذه الآية -وفي كثير غيرها- أن التوجيه إلى البر يبدأ بذوي القربي -قرابة خاصة أو عامة- ثم يمتد منها ويتسع نطاقه من محورها، إلى بقية المحتاجين إلى الرعاية من الأسرة الإنسانية الكبيرة. وهذا المنهج يتفق -أولا- مع الفطرة ويسايرها. فعاطفة الرحمة، ووجدان المشاركة، يبدآن أولا في البيت. في الأسرة الصغيرة. وقلما ينبثقان في نفس لم تذق طعم هذه العاطفة ولم تجد مس هذا الوجدان في المحضن الأول. والنفس كذلك أميل إلى البدء بالأقربين -فطرة وطبعا- ولا بأس من ذلك ولا ضير؛ ما دامت توجه دائما إلى التوسع في الدائرة من هذه النقطة ومن هذا المحور.. ثم يتفق المنهج -ثانيا- مع طريقة التنظيم الاجتماعي الإسلامية: من جعل الكافل يبدأ في محيط الأسرة؛ ثم ينساح في محيط الجماعة. كي لا يركز عمليات التكافل في يد الأجهزة الحكومية الضخمة -إلا عندما تعجز الأجهزة الصغيرة المباشرة- فالوحدات المحلية الصغيرة أقدر على تحقيق هذا التكافل: في وقته المناسب وفي سهولة ويسر. وفي تراحم وود يجعل جو الحياة لائقا ببني الإنسان!... وهنا يبدأ بالإحسان إلى الوالدين. ويتوسع منهما إلى ذوي القربي. ومنهم إلى اليتامى والمساكين -ولو أنهم قد يكونون أبعد مكانا من الجار. ذلك أنهم أشد حاجة وأولى بالرعاية- ثم الجار ذو القرابة. فالجار الأجنبي -مقدمين على الصاحب المرافق- لأن الجار قربه دائم، أما الصاحب فلقاؤه على فترات -ثم الصاحب المرافق- وقد ورد في تفسيره أنه الجليس في الحضر، الرفيق في السفر -ثم ابن السبيل. العابر المنقطع عن أهله وماله. ثم الرقيق الذين جعلتهم الملابسات "ملك اليمين "ولكنهم يتصلون بآصرة الإنسانية الكبرى بين بني آدم أجمعين. ويعقب على الأمر بالإحسان، بتقبيح الاختيال والفخر (إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا)...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} هذا أول الخط الذي يسير فيه الفاضل في علاقته بالله وبالناس، وهو أول الخط المستقيم، والعبادة معناها خلوص النفس لله تعالى، والاتجاه إليه وحده، والإخلاص في كل ما يعمل لله تعالى، وهي بهذا المعنى تشمل العبادات من صلاة وحج وصوم، وصدقات. والصلاة لب العبادة، وهي ذات صور مختلفة في الديانات، ولكنها في صميمها لا تكون صلاة إلا إذا تحققت فيها الضراعة التامة، والاتجاه إلى الله وحده، وعدم الانشغال عنه سبحانه بأي عرض من أعراض الدنيا. وهذه هي العبادات المفروضة، وبعدها يكون الاتجاه إلى الله تعالى في كل مقصد وعمل، ولا يحس بالالتجاء إلا له، فالدعاء له وحده، لا يشرك معه أحدا في دعائه، ولذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال:"الدعاء مخ العبادة". ويلي هذه المرتبة في سمو العبادة ألا يفعل العمال إلا لله، ولا يحب إلا في الله ولا يبغض إلا في الله...
بعد أن تكلم الحق على ما سبق من الأحكام في الزواج وفي المحرمات، وأخذنا من مقابلها المحللات، وتكلم عمن لا يستطيع طولا وتكلم عن المال.. وحذرنا أن نأكله بالباطل، وتكلم عن الحال بين الرجل والمرأة، وبعد ذلك لفتنا الحق ووجهنا ونبهنا إلى المنهج الأعلى وهو قوله سبحانه: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا}...