تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{كُتِبَ عَلَيۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَيۡرًا ٱلۡوَصِيَّةُ لِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِينَ} (180)

{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

أي : فرض الله عليكم ، يا معشر المؤمنين { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي : أسبابه ، كالمرض المشرف على الهلاك ، وحضور أسباب المهالك ، وكان قد { تَرَكَ خَيْرًا } [ أي : مالا ] وهو المال الكثير عرفا ، فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب الناس إليه بالمعروف ، على قدر حاله من غير سرف ، ولا اقتصار على الأبعد ، دون الأقرب ، بل يرتبهم على القرب والحاجة ، ولهذا أتى فيه بأفعل التفضيل .

وقوله : { حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } دل على وجوب ذلك ، لأن الحق هو : الثابت ، وقد جعله الله من موجبات التقوى .

واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث ، وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين ، مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل ، والأحسن في هذا أن يقال : إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة ، ردها الله تعالى إلى العرف الجاري .

ثم إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث ، بعد أن كان مجملا ، وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو وصف ، فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهم أحق الناس ببره ، وهذا القول تتفق عليه الأمة ، ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين ، لأن كلا من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظا ، واختلف المورد .

فبهذا الجمع ، يحصل الاتفاق ، والجمع بين الآيات ، لأنه{[122]}  مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ ، الذي لم يدل عليه دليل صحيح .


[122]:- في ب: فإنه.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{كُتِبَ عَلَيۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَيۡرًا ٱلۡوَصِيَّةُ لِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِينَ} (180)

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( 180 )

وقوله تعالى : { كتب عليكم } الآية ، كأن الآية متصلة بقوله { يا أيها الذين آمنوا } فلذلك سقطت واو العطف( {[1630]} ) ، و { كتب } معناه فرض وأثبت ، وقال بعض أهل العلم : الوصية فرض ، وقال قوم : كانت فرضاً ونسخت ، وقال فريق : هي مندوب إليها ، و { كتب } عامل في رفع { الوصية } على المفعول الذي لم يسم فاعله في بعض التقديرات( {[1631]} ) ، وسقطت علامة التأنيث من { كتب } لطول الكلام فحسن سقوطها ، وقد حكى سيبويه : قام امرأة ، ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل ، ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل { الوصية } في { إذا } لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو { الوصية } ، وقد تقدمت فلا يجوز أن يعمل فيها متقدمة( {[1632]} ) ، ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون { كتب }( {[1633]} ) هو العامل في { إذا } والمعنى توجه إيجاب الله عليكم ومقتضى كتابه إذا حضر ، فعبر عن توجه الإيجاب ب { كتب } لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل ، و { الوصية } مفعول لم يسم فاعله ب { كتب } وجواب الشرطين { إذا } و { إن } مقدّر( {[1634]} ) ، يدل عليه ما تقدم من قوله { كتب عليكم } ، كما تقول شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا ، ويتجه في إعرابها أن يكون التقدير : كتب عليكم الإيصاء ، ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد هو العامل في { إذا } ، وترتفع { الوصية } بالابتداء وفيه جواب الشرطين( {[1635]} ) على نحو ما أنشد سيبويه : [ البسيط ]

مَنْ يَفْعَلِ الصَّالِحَاتِ اللَّهُ يَحْفظُهَا( {[1636]} ) . . . أو يكون رفعها بالابتداء بتقدير : فعليه الوصية ، أو بتقدير الفاء فقط ، كأنه قيل : فالوصية للوالدين ، ويتجه في إعرابها أن تكون { الوصية } مرتفعة ب { كتب } على المفعول الذي لم يسم فاعله ، وتكون { الوصية } هي العامل في { إذا } ، وهذا على مذهب أبي الحسن الأخفش فإنه يجيز أن يتقدم ما في الصلة الموصول بشرطين هما في هذه الآية ، أحدهما أن يكون الموصول ليس بموصول محض بل يشبه الموصول ، وذلك كالألف واللام حيث توصل( {[1637]} ) ، أو كالمصدر ، وهذا في الآية مصدر وهو { الوصية } ، والشرط الثاني أن يكون المتقدم ظرفاً فإن في الظرف يسهل الاتساع ، و { إذا } ظرف ، وهذا هو رأي أبي الحسن في قول الشاعر : [ الطويل ]

تَقُولُ وَصَكَّتْ وَجْهَهَا بِيَمِينِهَا . . . أبَعْلِيَ هذا بِالرَّحَا المُتَقَاعِس( {[1638]} )

فإنه يرى أن «بالرحا » متعلق بقوله المتقاعس ، كأنه قال : أبَعلي هذا المتقاعس بالرحا ، وجواب الشرطين في هذا القول كما ذكرناه في القول الأول ، وفي قوله تعالى { إذا حضر } مجاز لأن المعنى إذا تخوف وحضرت علاماته ، والخير في هذه الآية المال .

واختلف موجبوا الوصية في القدر الذي تجب منه( {[1639]} ) ، فقال الزهري وغيره : تجب فيما قل وفيما كثر ، وقال النخعي : تجب في خمسمائة درهم فصاعداً ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة : في ألف فصاعداً .

واختلف العلماء في هذه الآية ، فقال فريق : محكمة ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين ، وفي القرابة غير الوارثة( {[1640]} ) ، وقال ابن عباس والحسن وقتادة : الآية عامة( {[1641]} ) وتقرر الحكم بها برهة ونسخ منها كل من يرث بآية الفرائض ، وفي هذه العبارة يدخل قول ابن عباس والحسن وغيرهما إنه نسخ منها الوالدان وثبت الأقربون الذين لا يرثون ، وبين أن آية الفرائض في سورة النساء ناسخة ، لهذا الحديث المتواتر : «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث »( {[1642]} ) .

وقال ابن عمر وابن عباس أيضاً وابن زيد : الآية كلها منسوخة وبقيت الوصية ندباً ، ونحو هذا قول مالك رحمه الله ، وقال الربيع بن خثيم( {[1643]} ) وغيره : لا وصية لوارث ، وقال عزْوة( {[1644]} ) بن ثابت للربيع بن خثيم : أوصِ لي بمصحفك ، فنظر الربيع إلى ولده وقرأ : { وأولو الأرحام بعضَهم أولى ببعض في كتاب الله }( {[1645]} ) [ الأحزاب : 6 ] ، ونحو هذا صنع ابن عمر رضي الله عنه( {[1646]} ) .

وقال بعض أهل العلم : إن الناسخ لهذه الآية هي السنة المتواترة في الحديث المذكور قبل ، وقد تقدم توجيه نسخ السنة للكتاب في تفسير قوله تعالى { ما ننسخ من آية }( {[1647]} ) [ البقرة : 106 ] .

وقال قوم من العلماء : الوصية للقرابة أولى ، فإن كانت لأجنبي ، ولا تجوز لغيرهم مع تركهم .

وقال الناس حين مات أبو العالية( {[1648]} ) : عجباً له أعتقته امرأة من رياح وأوصى بماله لبني هاشم .

وقال الشعبي : «لم يكن ذلك له ولا كرامة » .

وقال طاوس : «إذا أوصى لغير قرابة ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله » وقاله جابر بن زيد .

وقال الحسن وجابر بن زيد أيضاً وعبد الملك بن يعلى : يبقى ثلث الوصية حيث جلعها ، ويرد ثلثاها إلى قرابته .

وقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء : الوصية ماضية حيث جعلها الميت ، والأقربون : جمع أقرب ، و { بالمعروف } معناه بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة ولا تنزير( {[1649]} ) للوصية ، و { حقاً } مصدر مؤكد( {[1650]} ) ، وخص المتقون بالذكر تشريفاً للرتبة ليتبادر الناس إليها .


[1630]:- الجملة مستأنفة، وهي ظاهرة الارتباط بما قبلها لأن من أشرف على أن يقتص منه فقد حضره الموت أي أسبابه. ولا ضرورة تدعو إلى أنّ [كُتِبَ] أصله العطف على ما قبله، وأن الواو حذفت لطول الكلام واتصاله.
[1631]:- وفي بعضها يكون العامل في الرفع هو الابتداء.
[1632]:- أي لأنه مصدر وموصول، ولا يتقدم معمول الموصول عليه عند جمهور النحاة، ويأتي مقابله عند أبي الحسن الأخفش وهو الإعراب الثالث.
[1633]:- أعرب ابن عطية رحمه الله هذه الآية الكريمة بثلاثة إعرابات كلها متجهة عنده. الأول: أن (كتب) عامل في (إذا) على أنها ظرف، وفي (الوصية) على أنها مفعول لم يسم فاعله. الثاني: أن يكون تقدير الآية كُتب عليكم الإيصاء إذا حضر أحدكم الموت فنائب الفاعل هو الإيصاء الذي دلت عليه الوصية. و(إذا) معمولة لهذا الإيصاء المقدر، و(الوصية) ترتفع بالابتداء. الثالث: أن تكون (الوصية) مرتفعة بكتب على أنها مفعول لم يسم فاعله، و(إذا) معمولة للوصية على مذهب الأخفش، فإنه يجيز تقديم المعمول على الموصول بشرطين. والأول أوجه هذه الآراء.
[1634]:- في كلامه تناقض كما قاله مفسر الأندلس (ح)، لأنه قال: العامل في (إذا) (كُتِبَ)، وإذا كانت كذلك فقد تمحضت للظرفية، ثم قال: وجواب الشرطين إلخ، وإذا كانت شرطية فالعامل فيها الجواب أو الفعل بعدها، ولا يجوز أن يعمل فيها ما قبلها إلا على من يجيز تقديم جواب الشرط عليه، ولا يُتأول عليه كلام ابن عطية لأنه قال: الجواب مقدر، والمقدر غير الملفوظ به.
[1635]:- فيه ما سبق من البحث وليس جائزا أن يكون الشيء شرطا وغير شرط في وقت واحد. ثم إن كل شرط يقتضي جوابا على حدته، والشيء الواحد لا يكون جوابا لشرطين.
[1636]:- في بعض النسخ: الصالحات. وفي بعضها: الحسنات. والذي في كتاب سيبويه: مَنْ يفعل الحسنات الله يشكرها والشرّ بالشّر عند الله مثلان وهو المعروف والمحفوظ، وزعم الأصمعي أن الرواية: من يفْعَلِ الخَيْــرَ فالرَّحـمن يشكُره ................................ والشاهد في حذف الفاء من الجملة الاسمية للضرورة. والبيت قيل: لعبد الرحمن بن حسان ابن ثابت، وقيل لكعب بن مالك وقبله: فإنّمــا هذهِ الدّنيَــا وزَهْرتهــا كالزَّادِ لا بدَّ يوماً أنَّه فـــاني
[1637]:- أي بالصفات كما في قول الشاعر: أبَعْلِـي هذا بالرَّحــا المتقاعسُ ؟
[1638]:- هو نعيم بن الحارث بن يزيد السعدي، قال هذا لما مرت به امرأة كان قد تزوجها ولم يدخل بها، مرت به وهو يطحن فقالت محتقرة له: أَبَعْلِــي هذا... الخ، والمتقاعس الذي يخرج صدره ويدخل ظهره، وذلك شكل من يطحن بالرحا.
[1639]:- القدر الذي تجب فيه الوصية يختلف باختلاف الأعراف، واختلاف الأعراف باختلاف الأعصار، فقد يكون المبلغ كثيرا في عصر وقليلا في عصر آخر، وهذا سبب اختلاف العلماء في الحد الذي تجب فيه الوصية.
[1640]:- اختلف – الآية محكمة أم منسوخة ؟ فذهب بعض العلماء إلى أنها محكمة، وهي وإن كان ظاهرها العموم فهي خاصة بمن لا يرث. وذهب كثير من الناس إلى أنها منسوخة بآية المواريث مع قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث). وذهب فريق من الناس إلى أنه نسخ الوجوب وبقي الندب، ومن هذا الفريق الإمام مالك، والإمام الشافعي رحمهما الله تعالى، وهذه هي الأقوال التي عرضها ابن عطية رحمه الله. فمن ورّثته آيات الميراث فلا وصية له، ومن لم تورثه بقي نص الوصية شاملا له، على الوجوب أو الندب قولان – والظاهر الثاني.
[1641]:- أي فيمن يرث وفيمن لا يرث.
[1642]:- رواه أصحاب السنن، وغيرهم – وقد صححه بعض أهل الحديث، وروي من غير وجه، وقد نص الإمام الشافعي رحمه الله في الرسالة على أن هذا المتن متواتر، وأنه نقل كافة عن كافة، وذلك أقوى من نقل واحد، ومضى عليه إجماع المسلمين.
[1643]:- بالتصغير كما قاله الإمام النووي رحمه الله، وضبطه صاحب الخلاصة بفتح المعجمة والمثلثة بينهما ياء ساكنة وهو أبو زيد الثوري الكوفي، قال له ابن مسعود رضي الله عنه: لو رآك النبي صلى الله عليه وسلم لأحبك، توفي سنة 64هـ.
[1644]:- هو ابن ثابت بن أبي زيد الأنصاري البصري، وهو بسكون الزاي كما في الخلاصة.
[1645]:- من الآية (75) من سورة (الأنفال).
[1646]:- روى شيخ المفسرين الإمام الطبري رحمه الله، عن نافع: أن ابن عمر لم يوص، وقال: أما مالي فالله أعلم ما كنت أصنع فيه في الحياة، وأما رباعي فما أحب أن يشرك ولدي فيها أحد.
[1647]:- وهو أن الكل حكم الله تعالى ووحيه وإن اختلفت الأسماء.
[1648]:- هو رفيع بن مهران الرياحي البصري، مخضرم، صلى خلف عمر، ودخل على أبي بكر رضي الله عنهما، ومات سنة 90 هـ. وإنما أوصى لبني هاشم لصحبته ابن عباس وتعليمه إياه. وإلحاقه بدرجة العلماء في الدنيا والآخرة، فنظر إلى هذه الناحية المعنوية، وهي أولى من الناحية المادية إذ معتقته غايتها أنها ألحقته بأحرار الدنيا فكفاها ثواب عتقها، والله أعلم.
[1649]:- أي تقليل للوصية، كمن أوصى بدرهم وهو غني ثري فهذا ليس من الوصية بالمعروف.
[1650]:- أي لمضمون الجملة، فمعناه: حتى ذلك حقا، ويجوز أن يكون مصدرا من معنى كتب، كقعدت جلوسا.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{كُتِبَ عَلَيۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَيۡرًا ٱلۡوَصِيَّةُ لِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِينَ} (180)

استئناف ابتدائي لبيان حكم المال بعد موت صاحبه ، فإنه لم يسبق له تشريع ولم يفتتح ب { يا أيها الذين آمنوا } لأن الوصية كانت معروفة قبل الإسلام فلم يكن شرعها إحداث شيء غير معروف ، لذلك لا يحتاج فيها إلى مزيد تنبيه لتلقي الحكم ، ومناسبة ذكره أنه تغيير لما كانوا عليه في أول الإسلام من بقايا عوائد الجاهلية في أموال الأموات فإنهم كانوا كثيراً ما يمنعون القريب من الإرث بتوهم أنه يتمنى موت قريبه ليرثه ، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض ، ولما كان هذا مما يفضي بهم إلى الإحن وبها تختل الحالة الاجتماعية بإلقاء العداوة بين الأقارب كما قال طَرَفة :

وظُلْم ذوي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً *** على المَرْءِ من وَقْع الحُسَامِ المُهَنَّدِ

كان تغييرها إلى حال العَدل فيها من أهم مقاصد الإسلام كما بيَّنا تفصيله فيما تقدم في آية : { كتب عليكم القصاص في القتلى } [ البقرة : 178 ] . أما مناسبة ذكره عقب حكم القصاص فهو جريان ذكر موت القتيل وموت القاتل قصاصاً .

والقول في { كتب } تقدم في الآية السابقة وهو ظاهر في الوجوب قريب من النص فيه . وتجريدُه من علامة التأنيث مع كون مرفوعه مؤنثاً لفظاً لاجتماع مسوغين للتجريد وهما كون التأنيث غير حقيقي وللفصل بينه وبين الفعل بفاصل ، وقد زعم الشيخ الرضي أن اجتماع هذين المسوغين يرجح تجريد الفعل عن علامة التأنيث والدرك عليه .

ومعنى حضور الموت حضورُ أسبابه وعلاماتِه الدالة على أن الموت المتخيل للناس قد حضر عند المريض ونحوه ليصيره ميتاً قال تأبط شراً

* والمَوْت خَزْيَانُ يَنْظُرُ *

فإن حضور الشيء حلوله ونزوله وهو ضد الغيبة ، فليس إطلاق حضر هنا من قبيل إطلاق الفعل على مقاربة الفعل نحو قد قامت الصلاة ولا على معنى إرادة الفعل كما في { إذا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] ، { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } [ المائدة : 98 ] ، ولكنه إسناد مجازي إلى الموت لأنه حضور أسبابه ، وأما الحضور فمستعار للعرو والظهور ، ثم إن إطلاق الموت على أسبابه شائع قال رُويشد بن كثير الطائي :

وقُلْ لَهُمْ بادروا بالعَفْو والتَمِسُوا *** قَوْلاً يُبَرِّؤُكُم إنِّي أَنا المَوْت

والخير المالُ وقيل الكثير منه ، والجمهور على أن الوصية مشروعة في المال قليله وكثيره ، وروي عن عليّ وعائشة وابن عباس أن الوصية لا تجب إلاّ في المال الكثير .

كانت عادة العرب في الجاهلية أن الميت إذا كان له ولد أو أولاد ذكور استأثروا بماله كله ، وإن لم يكن له ولد ذكَر استأثَر بماله أقربُ الذكور له من أب أو عم أو ابن عم الأدنَيْنَ فالأَدْنَين ، وكان صاحب المال ربما أوصى ببعض ماله أو بجميعه لبعض أولاده أو قرابته أو أصدقائه ، فلما استقر المسلمون بدار الهجرة واختصوا بجماعتهم شرع الله لهم تشريك بعض القرابة في أموالهم ممن كانوا قد يهملون توريثه من البنات والأخوات والوالدين في حال وجود البنين ولذلك لم يُذكَر الأبناء في هذه الآية .

وعُبر بفعل ( ترك ) وهو ماض عن معنى المستقبل أي إن يترك ، للتنبيه على اقتراب المستقبل من المضي إذا أوشك أن يصير ماضياً ، والمعنى : إن أَوحشَك أن يَتْرُك خيراً أو شارف أن يترك خيراً ، كما قدّروه في قوله تعالى : { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم } [ النساء : 9 ] في سورة النساء وقوله تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : 96 ] في سورة يونس أي حتى يقاربوا رؤية العذاب .

والوصية فَعِيلةٌ من وصَّى فهو المُوصَّى بها فوقع الحذف والإيصال ليتأتى بناء فَعيلة بمعنى مفعولة ؛ لأن زنة فعيلة لا تبنى من القاصر . والوصية الأمر بفعل شيءٍ أو تركه مما فيه نفع للمأمور أو للآمر في مغيب الآمر في حياته أو فيما بعد موته ، وشاع إطلاقها على أمر بشيء يصلح بعد موت الموصي وفي حديث العرباض بن سارية قال : « وعَظَنا رسولُ الله موعظةً وَجِلَتْ منها القلوبُ وذَرَفَتْ منها العيون فقلْنا يا رسول الله كأنها موعظة مُوَدِّع فأَوْصِنا إلخ » .

والتعريف في الوصية تعريفُ الجنس أي كتب عليكم ما هو معروف عندكم بالوصية للوالدين والأقربين ، فقوله : { للوالدين } متعلق بالوصية معمول له ؛ لأن اسم المصدر يعمل عمل المصدر ولا يحتاج إلى تأويله بأَنْ والفعلِ ، والوصيةُ مرفوع نائب عن الفاعل لفعل { كتب } ، و { إذا } ظرف .

و { المعروف } الفعل الذي تألفه العقول ولا تنكره النفوس فهو الشيء المحبوب المرضي سمي معروفاً لأنه لكثرة تداوله والتأنُّس به صار معروفاً بين الناس ، وضِدّه يسمى المنكر وسيأتي عند قوله تعالى : { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } [ آل عمران : 110 ] في سورة آل عمران .

والمراد بالمعروف هنا العدل الذي لا مضارة فيه ولا يحدث منه تحاسد بين الأقارب بأن ينظر الموصي في ترجيح من هو الأولى بأن يوصي إليه لقوة قرابة أو شدة حاجة ، فإنه إن توخي ذلك استحسن فعله الناس ولم يلوموه ، ومن المعروف في الوصية ألا تكون للأضرار يوارث أو زوج أو قريب وسيجيء عند قوله تعالى : { فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً } [ البقرة : 182 ] .

والباء في { بالمعروف } للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال من الوصية .

وقد شمل قوله { بالمعروف } تقدير ما يوصي به وتمييز من يوصي له ووكل ذلك إلى نظر الموصي فهو مؤتمن على ترجيح من هو أهل للترجيح في العطاء كما أشار إليه قوله تعالى : { على المتقين } .

وقوله { حقاً } مصدر مؤكد ل { كتب } لأنه بمعناه و { على المتقين } صفة أي حقاً كائناً على المتقين ، ولك أن تجعله معمول { حقاً } ولا مانع من أن يعمل المصدر المؤكد في شيء ولا يخرجه ذلك عن كونه مؤكداً بما زاده على معنى فعله ؛ لأن التأكيد حاصل بإعادة مدلول الفعل ، نعم إذا أوجب ذلك المعمول له تقييداً يجعله نوعاً أو عدداً فحينئذٍ يخرج عن التأكيد .

وخص هذا الحق بالمتقين ترغيباً في الرضى به ؛ لأن ما كان من شأن المتقي فهو أمر نفيس فليس في الآية دليل على أن هذا الوجوب على المتقين دون غيرهم من العصاة ، بل معناه أن هذا الحكم هو من التقوى وأن غيره معصية ، وقال ابن عطية : خص المتقون بالذكر تشريفاً للرتبة ليتبارى الناس إليها .

وخص الوالدين والأقربين لأنهم مظنة النسيان من الموصي ، لأنهم كانوا يورثون الأولاد أو يوصون لسادة القبيلة .

وقدم الوالدين للدلالة على أنهما أرجح في التبدية بالوصية ، وكانوا قد يوصون بإيثار بعض أولادهم على بعض أو يوصون بكيفية توزيع أموالهم على أولادهم ، ومن أشهر الوصايا في ذلك وصية نزار بن معد بن عدنان إذ أوصى لابنه مضر بالحمراء ، ولابنه ربيعة بالفرس ، ولابنه أنمار بالحمار ، ولابنه إياد بالخادم ، وجعل القسمة في ذلك للأفعى الجُرهمي ، وقد قيل إن العرب كانوا يوصون للأباعد طلباً للفخر ويتركون الأقربين في الفقر وقد يكون ذلك لأجل العداوة والشنآن .

وهذه الآية صريحة في إيجاب الوصية ، لأن قوله : { كتب عليكم } صريح في ذلك وجمهور العلماء على أنها ثبت بها حكم وجوب الإيصاء للوالدين والأقربين ، وقد وُقت الوجوب بوقت حضور الموت ويلحق به وقت توقع الموت ، ولم يعين المقدار الموصى به وقد حرضت السنة على إعداد الوصية من وقت الصحة بقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما حق امرىء له مال يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيته مكتوبة عنده " أي لأنه قد يفجأه الموت .

والآية تشعر بتفويض تعيين المقدار الموصى به إلى ما يراه الموصي ، وأمره بالعدل بقوله { بالمعروف } فتقرر حكم الإيصاء في صدر الإسلام لغير الأبناء من القرابة زيادة على ما يأخذه الأبناء ، ثم إن آية المواريت التي في سورة النساء نسخت هذه الآية نسخاً مجملاً فبينت ميراث كل قريب معين فلم يبق حقه موقوفاً على إيصَاء الميت له بل صار حقه ثابتاً معيناً رَضي الميت أم كره ، فيكون تقرر حكم الوصية في أول الأمر استئناساً لمشروعية فرائض الميراث ، ولذلك صدر الله تعالى آية الفرائض بقوله : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] فجعلها وصية نفسه سبحانه إبطالاً للمنة التي كانت للموصي .

وبالفرائض نسخ وجوب الوصية الذي اقتضته هذه الآية وبقيت الوصية مندوبة بناء على أن الوجوب إذا نسخ بقي الندب وإلى هذا ذهب جمهور أهل النظر من العلماء ، الحسن وقتادة والنخعي والشعبي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد وجابر بن زيد ، ففي البخاري في تفسير سورة النساء عن جابر بن عبد الله قال : عادني النبي وأبو بكر في بني سَلِمَة ماشِيْين فوجدني النبي لا أعقل فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عليَّ فأفقت فقلت : ما تأمرني أن أَصنع في مالي يا رسول الله فنزلت : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] الآية اهـ . فدل على أن آخر عهد بمشْروعية الوصايا سؤال جابر بن عبد الله ، وفي البخاري عن ابن عباس كان المال وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب الخ .

وقيل نسخت مشروعية الوصية فصارت ممنوعة قاله إبراهيم بن خُثَيْم وهو شذوذ وخلاف لما اشتهر في السنة إلاّ أن يريد بأَنها صارت ممنوعة للوارث .

وقيل : الآية مُحكَمَة لم تُنسخ والمقصود بها من أول الأمر الوصية لغير الوارث من الوالدين والأقربين مثل الأبوين الكافرين والعبْدين والأقارِب الذين لا ميراث لهم وبهذا قال الضحاك والحسن في رواية وطاووس واختاره الطبري ، والأصح هو الأول .

ثم القائلون ببقاء حكم الوصية بعد النسخ منهم من قال : إنها بقيت مفروضة للأقربين الذين لا يرثون وهذا قول الحسن وطاووس والضحاك والطبري لأنهم قالوا : هي غير منسوخة ، وقال به ممن قال إنها منسوخة ابنُ عباس ومسروق ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد ، ومنهم من قال : بقيت مندوبة للأقربين وغيرهم وهذا قول الجمهور إلاّ أنه إذا كان أقاربه في حاجة ولم يوص لهم فبئس ما صنع ولا تبطل الوصية ، وقيل تختص بالقرابة فلو أوصى لغيرهم بطلت وترد على أقاربه قاله جابر بن زيد والشعبي وإسحاقُ بن راهويه والحسن البصري ، والذي عليه قول من تعتمد أقوالهم أن الوصية لغير الوارث إذا لم يخش بتركها ضياع حق أحد عند الموصِي مطلوبة ، وأنها مترددة بين الوجوب والسنة المؤكدة لحديث " لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر له مال يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيته مكتوبة عند رأسه " ، إذا كان هذا الحديث قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعد مشروعية الفرائض فإن كان قبلَ ذلك كان بياناً لآية الوصية وتحريضاً عليها ، ولم يزل المسلمون يرون الوصية في المال حقاً شرعياً ، وفي « صحيح البخاري » عن طلحة بن مصَرِّف قال : سألت عبدَ الله بن أبي أَوْفَى هل كان النبي أوصى فقال : لا ، فقلت : كيف كُتبتْ على الناس الوصيةُ ولم يوص ؟ قال : أوصى بكتاب الله اهـ ، يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان لا يورث فكذلك لا يوصي بماله ولكنه أوصى بما يعود على المسلمين بالتمسك بكتاب الإسلام ، وقد كان من عادة المسلمين أن يقولوا للمريض إذا خيف عليه الموت أن يقولوا له أَوْصِ .

وقد اتفق علماء الإسلام على أن الوصية لا تكون لوارث لما رواه أصحاب « السنن » عن عمر بن خارجة وما رواه أبو داود والترمذي عن أبي أُمَامَة كلاهما يقول سمعت النبي قال : " إن الله أعطى كل ذي حق حقه أَلاَ لا وصية لوارث " وذلك في حجة الوداع ، فخُص بذلك عمومُ الوالدين وعمومُ الأقربين وهذا التخصيص نسخ ، لأنه وقع بعد العمل بالعام وهو وإن كان خبر آحاد فقد اعتُبر من قبيل المتواتر ، لأنه سمعه الكافة وتلقاه علماء الأمة بالقبول .

والجمهور على أن الوصية بأكثر من الثلث باطلة للحديث المشهور عن سعد بن أبي وقاص أنه مرض فعاده النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في أن يوصي بجميع ماله فمنعه إلى أن قال له " الثلثُ والثلثُ كثير إِنَّك أَنْ تَدَعَ ورثَتك أَغنياءَ خيرٌ من أَنْ تَدَعَهم عالةً يَتكفَّفُون الناسَ " وقال أبو حنيفة : إن لم يكن للموصي ورثة ولو عصبة دون بيت المال جاز للموصي أن يوصي بجميع ماله ومضَى ذلك أخذاً بالإيماء إلى العلة في قوله " إِنك أن تدع ورثَتك أغنياء خير " الخ . وقال : إن بيت المال جامعٌ لا عاصب وَرُوي أيضاً عن علي وابن عباس ومسروق وإسحاق بن راهويه ، واختُلف في إمضائها للوارث إذا أجازها بقية الورثة ومذهب العلماء من أهل الأمصار أنها إذا أجازها الوارث مضت .

هذا وقد اتفق المسلمون على أن الله تعالى عين كيفية قسمة تركة الميت بآية المواريث ، وأن آية الوصية المذكورة هنا صارت بعد ذلك غيرَ مراد منها ظاهرها ، فالقائلون بأنها محكمة قالوا : بقيت الوصية لغير الوارث والوصيةُ للوارث بما زاد على نصيبه من الميراث فلا نسخ بين الآيتين .

والقائلون بالنسخ يقول منهم مَنْ يرون الوصية لم تزل مفروضة لغير الوارث : إِن آية المواريث نسَخَت الاختيار في الموصَى له والإطلاق في المقدار الموصَى به ، ومَن يرى منهم الوصية قد نسخ وجوبها وصارت مندوبة يقولون : إن آية المواريث نَسَخت هذه الآية كلها فأصبحت الوصية المشروعة بهذه الآية منسوخة بآية المواريث للإِجماع على أن آية المواريث نَسخت عموم الوَالدين والأقربين الوَارثين ، ونسخت الإطلاق الذي في لفظ ( الوصية ) والتخصيصُ بعد العمل بالعام ، والتقييدُ بعدَ العمل بالمطلق كلاهما نَسْخٌ ، وإن كان لفظ آية المواريث لا يدل على ما يناقض آية الوصية ، لاحتمالها أن يكون الميراث بعد إعطاء الوصايا أو عند عدم الوصية بل ظاهرها ذلك لقوله : { من بعد وصية } [ النساء : 11 ] ، وإن كان الحديثان الواردان في ذلك آحاداً لا يصلحان لنسخ القرآن عند من لا يرون نسخ القرآن بخبر الآحاد ، فقد ثبت حكم جديد للوصية وهو الندب أو الوجوب على الخلاف في غير الوارث وفي الثلث بدليل الإجماع المستند للأحاديث وفعل الصحابة ، ولمَّا ثبت حكم جديد للوصية فهو حكم غير مأخوذ من الآية المنسوخة بل هو حكم مستند للإِجماع ، هذا تقرير أصل استنباط العلماء في هذه المسألة وفيه ما يدفع عن الناظر إشكالات كثيرة للمفسرين والفقهاء في تقرير كيفية النسخ .