تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الممتحنة [ وهي ] مدنية .

{ 1-9 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .

ذكر كثير من المفسرين ، [ رحمهم الله ] ، أن سبب نزول هذه الآيات الكريمات في قصة حاطب بن أبي بلتعة ، حين غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح ، فكتب حاطب إلى قريش{[1049]}  يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، ليتخذ بذلك يدا عندهم لا [ شكا و ] نفاقا ، وأرسله مع امرأة ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشأنه ، فأرسل إلى المرأة قبل وصولها وأخذ منها الكتاب .

وعاتب حاطبا ، فاعتذر رضي الله عنه بعذر قبله النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الآيات فيها النهي الشديد عن موالاة الكفار من المشركين وغيرهم ، وإلقاء المودة إليهم ، وأن ذلك مناف للإيمان ، ومخالف لملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، ومناقض للعقل الذي يوجب الحذر كل الحذر من العدو ، الذي لا يبقي من مجهوده في العداوة شيئا ، وينتهز الفرصة في إيصال الضرر إلى عدوه ، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } اعملوا بمقتضى إيمانكم ، من ولاية من قام بالإيمان ، ومعاداة من عاداه ، فإنه عدو لله ، وعدو للمؤمنين .

فلا تتخذوا عدو الله { وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } أي : تسارعون في مودتهم وفي السعي بأسبابها ، فإن المودة إذا حصلت ، تبعتها النصرة والموالاة ، فخرج العبد من الإيمان ، وصار من جملة أهل الكفران ، وانفصل عن أهل الإيمان .

وهذا المتخذ للكافر وليا ، عادم المروءة أيضا ، فإنه كيف يوالي أعدى أعدائه الذي لا يريد له إلا الشر ، ويخالف ربه ووليه الذي يريد به الخير ، ويأمره به ، ويحثه عليه ؟ ! ومما يدعو المؤمن أيضا إلى معاداة الكفار ، أنهم قد كفروا بما جاء المؤمنين من الحق ، ولا أعظم من هذه المخالفة والمشاقة ، فإنهم قد كفروا بأصل دينكم ، وزعموا أنكم ضلال على غير هدى .

والحال أنهم كفروا بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية ، ومن رد الحق فمحال أن يوجد له دليل أو حجة تدل على صحة قوله ، بل مجرد العلم بالحق{[1050]}  يدل على بطلان قول من رده وفساده .

ومن عداوتهم البليغة أنهم { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } أيها المؤمنون من دياركم ، ويشردونكم من أوطانكم ، ولا ذنب لكم في ذلك عندهم ، إلا أنكم تؤمنون بالله ربكم الذي يتعين على الخلق كلهم القيام بعبوديته ، لأنه رباهم ، وأنعم عليهم ، بالنعم الظاهرة والباطنة ، وهو الله تعالى .

فلما أعرضوا عن هذا الأمر ، الذي هو أوجب الواجبات ، وقمتم به ، عادوكم ، وأخرجوكم - من أجله - من دياركم ، فأي دين ، وأي مروءة وعقل ، يبقى مع العبد إذا والى الكفار الذين هذا وصفهم في كل زمان أو مكان ؟ " ولا يمنعهم منه إلا خوف ، أو مانع قوي .

{ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي } أي : إن كان خروجكم مقصودكم به الجهاد في سبيل الله ، لإعلاء كلمة الله ، وابتغاء مرضاة الله{[1051]}  فاعملوا بمقتضى هذا ، من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه ، فإن هذا هو الجهاد في سبيله{[1052]}  وهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى ربهم ويبتغون به رضاه .

{ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ } أي : كيف تسرون المودة للكافرين وتخفونها ، مع علمكم أن الله عالم بما تخفون وما تعلنون ؟ ! ، فهو وإن خفي على المؤمنين ، فلا يخفى على الله تعالى ، وسيجازي العباد بما يعلمه منهم من الخير والشر ، { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ } أي : موالاة الكافرين بعد ما حذركم الله منها { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } لأنه سلك مسلكا مخالفا للشرع وللعقل والمروءة الإنسانية .


[1049]:- في ب: إلى المشركين من أهل مكة.
[1050]:- كذا في ب، وفي أ: مجرد رد الحق.
[1051]:- في ب: وابتغاء رضاه.
[1052]:- في ب: هذا من أعظم الجهاد في سبيله.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

( 60 ) سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة .

تفسير سورة الممتحنة{[1]}

وهي مدنية بإجماع من المفسرين .

قوله عز وجل :

العدو اسم يقع للجمع والمفرد والمراد به هاهنا كفار قريش ، وهذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة{[11036]} ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية فوَّرى عن ذلك بخيبر ، فشاع في الناس أنه خارج إلى خيبر ، وأخبر هو جماعة من كبار أصحابه بقصده ، منهم حاطب بن أبي بلتعة فكتب حاطب إلى قوم من كفار مكة يخبرهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعث علياً والزبير وثالثاً هو المقداد ، وقيل أبو مرثد{[11037]} ، وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاح{[11038]} ، فإن بها ظعينة{[11039]} معها كتاب من حاطب إلى المشركين ، فانطلقوا حتى وجدوا المرأة واسمها سارة مولاة لقوم من قريش ، وقيل بل كانت امرأة من مزينة ولم تكن سارة ، فقالوا لها : أخرجي الكتاب . قالت : ما معي كتاب ، ففتشوا جميع رحلها فما وجدوا شيئاً ، فقال بعضهم : ما معها كتاب ، فقال علي : ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكذبي والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك . قالت : أعرضوا عني فحلته من قرون رأسها ، وقيل : أخرجته من حجزتها ، فجاؤوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم{[11040]} فقال لحاطب : من كتب هذا ؟ فقال : أنا يا رسول الله ولكن لا تعجل علي فوالله ما فعلت ذلك ارتداداً عن ديني ولا رغبة عنه ولكني كنت أمرأً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها فأحببت أن تكون لي عندهم يد يرعونني بها في قرابتي . فقال عمر بن الخطاب : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق حاطب إنه من أهل بدر وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر . فقال : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، ولا تقولوا لحاطب إلا خير » ، فنزلت الآية لهذا السبب{[11041]} ، وروي أن حاطباً كتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوكم في مثل الليل ، والسيل ، وأقسم بالله لو غزاكم وحده لنصر عليكم فكيف وهو في جمع كثير ، و { تلقون } في موضع الصفة ل { أولياء } ، وألقيت يتعدى بحرف الجر ، وبغير حرف جر ، فدخول الباء وزوالها سواء ، وهذا نظير قوله عز وجل : { وألقيت عليك محبة مني }{[11042]} [ طه : 39 ] وقوله تعالى : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب }{[11043]} [ آل عمران : 151 ] وروى ابن المعلى عن عاصم أنه قرأ : «وقد كفروا لما » بلام . . .

وقوله تعالى : { يخرجون } في موضع الحال من الضمير في { كفروا } والمعنى : يخرجون الرسول ويخرجونكم ، وهي حال موصوفة ، فلذلك ساق الفعل مستقبلاً والإخراج قد مر ، وتضييق الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إخراج إذ كان مؤدياً إلى الخروج ، وقوله تعالى : { إن تؤمنوا } مفعول من أجله أي اخرجوا لأجل أن آمنتم بربكم ، وقوله تعالى : { إن كنتم } شرط جوابه متقدم في معنى ما قبله ، وجاز ذلك لما لم يظهر عمل الشرط ، والتقدير : «إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي ، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء » و { جهاداً } نصب على المصدر وكذلك { ابتغاء } ، ويجوز أن يكون ذلك مفعولاً من أجله ، و «المرضاة » مصدر كالرضى ، و { تسرون } بدل من { تلقون } ، ويجوز أن تكون في موضع خبر ابتداء ، كأنه قال أنتم { تسرون } ، ويصح أن تكون فعلاً مرسلاً ابتدئ به القول والإلقاء بالمودة معنى ما ، والإسرار بها معنى زائد على الإلقاء ، فيترجح بهذا أن { تسرون } فعل ابتدئ به القول أي تفعلون ذلك وأنا أعلم ، وقوله تعالى : { أعلم } يحتمل أن يكون أفعل ، ويحتمل أن يكون فعلاً ، لأنك تقول عملت بكذا فتدخل الباء وقوله تعالى : { وأنا أعلم } الآية ، جملة في موضع الحال ، وقرأ أهل المدينة «وأنا » بإشباع الألف في الإدراج ، وقرأ غيرهم «وأنا » بطرح الألف في الإدراج ، والضمير في { يفعله } عائد على الاتخاذ المذكور ، ويجوز أن تكون { سواء } مفعولاً ب { ضل } وذلك على بعد ، وذلك على تعدي { ضل } ، ويجوز أن يكون ظرفاً على غير التعدي لأنه يجيء بالوجهين والأول أحسن في المعنى ، والسواء الوسط وذلك لأنه تتساوى نسبته إلى أطراف الشيء والسبيل هنا شرع الله وطريق دينه .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[11036]:هو حاطب بن أبي بلتعة اللخمي، صحابي جليل، شهد الوقائع كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أشد الرماة، وكانت له تجارة واسعة، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه إلى المقوقس حاكم مصر، كان أحد فرسان قريش وشعرائها، مات في المدينة.(الإصابة).
[11037]:المقداد بن عمرو بن ثعلبة، البهراني، ثم الكنجي، ثم الزهري، تبناه الأسود بن عبد يغوث الزهري فنسب إليه فقيل: المقداد بن الأسود، صحابي مشهور، من السابقين، لم يكن ببدر فارسا غيره، مات سنة ثلاث وثلاثين، وأما أبو مرثد فهو كناز بن الحصين بن يربوع الغنوي، أبو مرثد- بفتح الميم وثاء بعد الراء الساكنة، صحابي بدري مشهور بكنيته، مات سنة اثنتي عشرة للهجرة(تقريب التهذيب)، وأما علي والزبير فغنيان عن التعريف.
[11038]:مكان بين مكة والمدينة، على بعد اثني عشر ميلا من المدينة.
[11039]:الظعينة: المرأة في الهودج.
[11040]:قيل: كان في الكتاب ما يأتي:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأضفره الله بكم، وأنجز له موعده فيكم، فإن الله وليه وناصره".
[11041]:أخرجه أحمد، والحميدي، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وأبو عوانة، وابن حبان، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي وأبو نعيم معا في الدلائل، عن علي رضي الله عنه.(الدر المنثور).
[11042]:من الآية (39) من سورة (طه).
[11043]:من الآية (151) من سورة (آل عمران).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

عرفت هذه السورة في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف ب( سورة الممتحنة ) . قال القرطبي : والمشهور على الألسنة النطق في كلمة { الممتحنة } بكسر الحاء وهو الذي جزم به السهيلي .

ووجه التسمية أنها جاءت فيها آية امتحان إيمان النساء اللاتي يأتين من مكة مهاجرات إلى المدينة وهي آية { يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } إلى قوله { بعصم الكوافر } . فوصف الناس تلك الآية بالممتحنة لأنها شرعت الامتحان . وأضيفت السورة إلى تلك الآية .

وقال السهيلي : أسند الامتحان إلى السورة مجازا كما قيل لسورة براءة الفاضحة . يعني أن ذلك الوصف مجاز عقلي .

وروي بفتح الحاء على اسم المفعول قال ابن حجر : وهو المشهور أي المرأة الممتحنة على أن التعريف تعريف العهد والمعهود أول امرأة امتحنت في إيمانها ، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط امرأة عبد الرحمان بن عوف . كما سميت سورة قد سمع الله ( سورة المجادلة ) بكسر الدال .

ولك أن تجعل التعريف تعريف الجنس ، أي النساء الممتحنة .

قال في الإتقان : وتسمى { سورة الامتحان } ، { وسورة المودة } ، وعزا ذلك إلى كتاب جمال القراء لعلي السخاوي ولم يذكر سنده .

وهذه السورة مدنية بالاتفاق .

واتفق أهل العدد على عد آيها ثلاث عشرة آية . وآياتها طوال .

واتفقوا على أن الآية الأولى نزلت في شأن كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين من أهل مكة .

روى البخاري من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار يبلغ به إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قصة كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ثم قال : قال عمرو بن دينار : نزلت فيه { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } قال سفيان : هذا في حديث الناس لا أدري في الحديث أو قول عمرو . حفظته من عمرو وما تركت منه حرفا اه .

وفي صحيح مسلم وليس في حديث أبي بكر وزهير من الخمسة الذين روى عنهم مسلم يروون عن سفيان بن عيينة ذكر الآية . وجعلها إسحاق أي بن إبراهيم أحد من روى عنهم مسلم هذا الحديث في روايته من تلاوة سفيان اه . ولم يتعرض مسلم لرواية عمرو الناقد وابن أبي عمر عن سفيان فلعلهما لم يذكرا شيئا في ذلك .

واختلفوا في آن كتابة إليهم أكان عند تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للحديبية وهو قول قتادة ودرج عليه ابن عطية وهو مقتضى رواية الحارث عن علي بن أبي طالب عند الطبري ، قال : لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي مكة أفشى في الناس أنه يريد خيبر وأسر إلى ناس من أصحابه منهم حاطب بن أبي بلتعة أنه يريد مكة . فكتب حاطب إلى أهل مكة . . . إلى آخره ، فإن قوله : أفشى ، أنه يريد خيبر يدل على أن إرادته مكة إنما هي إرادة عمر الحديبية لا غزو مكة لأن خيبر فتحت قبل فتح مكة . ويؤيد هذا ما رواه الطبري أن المرأة التي أرسل معها حاطب كتابه كان مجيئها المدينة بعد غزوة بدر بسنتين : وقال ابن عطية : نزلت هذه السورة سنة ست .

وقال جماعة : كان كتاب حاطب إلى أهل مكة عند تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة ، وهو ظاهر صنيع جمهور أهل السير وصنيع البخاري في كتاب المغازي من صحيحه في ترتيبه للغزوات ، ودرج عليه معظم المفسرين .

ومعظم الروايات ليس فيها تعيين ما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم من تجهزه إلى مكة أهو لأجل العمرة أم لأجل الفتح فإن كان الأصح الأول وهو الذي نختاره كانت السورة جميعها نازلة في مدة متقاربة فإن امتحان أم كلثوم بنت عقبة كان عقب صلح الحديبية . ويكون نزول السورة مرتبا على ترتيب آياتها وهو الأصل في السور .

وعلى القول الثاني يكون صدور السورة نازلا بعد آيات الامتحان وما بعدها حتى قال بعضهم : إن أول السورة نزل بمكة بعد الفتح ، وهذا قول غريب لا ينبغي التعويل عليه .

وهذه السورة قد عدت الثانية والتسعين في تعداد نزول السور . عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة العقود وقبل سورة النساء .

أغراض هذه السورة

اشتملت من الأغراض على تحذير المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياء مع أنهم كفروا بالدين الحق وأخروجهم من بلادهم .

وإعلامهم بأن اتخاذهم أولياء ضلال وأنهم لو تمكنوا من المؤمنين لأساؤوا إليهم بالفعل والقول ، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصر القرابة لا يعتد به تجاه العداوة في الدين ، وضرب لهم مثلا في ذلك قطيعة إبراهيم لأبيه وقومه .

وأردف ذلك باستئناس المؤمنين برجاء أن تحصل مودة بينهم وبين الذين أمرهم الله بمعاداتهم أي هذه معاداة غير دائمة .

وأردف بالرخصة في حسن معاملة الكفرة الذين لم يقاتلوا المسلمين قتال عداوة في دين ولا أخرجوهم من ديارهم . وهذه الأحكام إلى نهاية الآية التاسعة .

وحكم المؤمنات اللاء يأتين مهاجرات واختبار صدق إيمانهن وأن يحفظن من الرجوع إلى دار الشرك ويعوض أزواجهن المشركون ما أعطوهن من المهور ويقع التراد كذلك مع المشركين .

ومبايعة المؤمنات المهاجرات ليعرف التزامهن لأحكام الشريعة الإسلامية . وهي الآية الثانية عشرة .

وتحريم تزوج المسلمين المشركات وهذا في الآيتين العاشرة والحادية عشرة .

والنهي عن موالاة اليهود وأنهم أشبهوا المشركين وهي الآية الثالثة عشرة .

{ يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي } .

اتفق المفسرون وثبت في « صحيح الأحاديث » أن هذه الآية نزلت في قضية الكتاب الذي كتب به حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العُزّى من قريش . وكان حاطب من المهاجرين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل بدر .

وحاصل القصة مأخوذة مما في « صحيح الآثار » ومشهور السيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد تجهّز قاصداً مكة . قيل لأجل العمرة عام الحديبية ، وهو الأصح ، وقيل لأجل فتح مكة وهو لا يستقيم ، فقدمتْ أيامئذٍ من مكة إلى المدينة امرأة تسمّى سارة مولاةٌ لأبي عَمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف وكانت على دين الشرك فقَالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة وقد ذهب الموالي ( تعني من قُتل من مواليها يوم بدر ) . وقد اشتدت بي الحاجة فقدمتُ عليكم لتعطوني وتكسوني فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب على إعطائها ، فكسوها وأعطوها وحملوها ، وجاءها حاطب بن أبي بلتعة فأعطاها كتاباً لتبلغه إلى من كتب إليهم من أهل مكة يخبرهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج إليهم ، وآجرها على إبلاغه فخرجت ، وأوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فبعث عليّاً والزبير والمقدادَ وأبا مرثد الغَنوي ، وكانوا فرساناً . وقال : انطلقوا حتى تأتوا رَوضة خَاخخٍ ، فإنّ بها ظعينة ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها وخلّوا سبيلها . فخرجوا تتعادى بهم خيلهم حتى بلغوا روضة خاخ فإذا هم بالمرأة . فقالوا : أخرجي الكتاب ، فقالت : ما معي كتاب ، فقالوا : لتخرجنَّ الكتاب أو لَنُلْقِيّنَ الثّياب ( يعنون أنهم يجردونها ) فأخرجته من عقاصها ، وفي رواية من حُجْزتها .

فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا حاطب ما هذا ؟ قال : لا تعجل عليَّ يا رسول الله . فإني كنت امرأ ملصقاً في قريش وكان لمن كان معك من المهاجرين قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يداً يحمُون بها قرابتي ( يريد أمه وإخوته ) ، ولم أفعله كُفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضىً بالكفر بعد الإِسلام . فقال النبي صلى الله عليه وسلم صَدقَ . فقال عمر : دعني يا رسول الله أضربْ عنق هذا المنافق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنه قد شهد بدراً وما يُدريك لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " وقال : لا تقولوا لحاطب إلاّ خيراً فأنزل الله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } الآيات .

والظاهر أن المرأة جاءت متجسسة إذ ورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمِّن يوم الفتح أربعةً منهم هذه المرأة لكن هذا يعارضه ما جاء في رواية القصة من قول النبي صلى الله عليه وسلم " خذوا منها الكتاب وخَلُّوا سبيلها " .

وقد وجه الخطاب بالنهي إلى جميع المؤمنين تحذيراً من إتيان مثل فعل حاطب .

والعدوّ : ذو العداوة ، وهو فعول بمعنى فاعل من : عدا يعدو ، مثل عفوّ . وأصله مصدر على وزن فعول مثل قَبول ونحوه من مصادر قليلة . ولكونه على زنة المصادر عومل معاملة المصدر فاستوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والمثنى والجمع . قال تعالى : { فإنهم عدو لي } [ الشعراء : 77 ] ، وتقدم عند قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم } في سورة [ النساء : 92 ] .

والمعنى : لا تتخذوا أعدائي وأعداءكم أولياء . والمراد العداوة في الدين فإن المؤمنين لم يبدأوهم بالعداوة وإنما أبدى المشركون عداوة المؤمنين انتصاراً لشركهم فعدُّوا من خرجوا عن الشرك أعداء لهم . وقد كان مشركو العرب متفاوتين في مناواة المسلمين فإن خزاعة كانوا مشركين وكانوا موالين النبي . فمعنى إضافة عدوّ إلى ياء التكلم على تقدير : عدوّ ديني ، أو رسولي .

والاتخاذ : افتعال من الأخذ صيغ الافتعال للمبالغة في الأخذ المجازي فأطلق على التلبس والملازمة . وقد تقدم في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا خذوا حذركم } في سورة [ النساء : 71 ] . ولذلك لزمه ذكر حال بعد مفعوله لتدل على تعيين جانب المعاملة من خير أو شر . فعومل هذا الفعل معاملة صيَّر . واعتبرت الحال التي بعده بمنزلة المفعول الثاني للزوم ذكرها وهل المفعول الثاني من باب ظن وأخواته إلا حال في المعنى ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { أتتخذ أصناماً إلهة } في سورة [ الأنعام : 74 ] .

وجملة { تلقون إليهم بالمودة } في موضع الحال من ضمير { لا تتخذوا } ، أو في موضع الصفة ل { أولياء } أو بيان لمعنى اتخاذهم أولياء .

ويجوز أن تكون جملة في موضع الحال من ضمير { لا تتخذوا } لأن جعلها حالاً يتوصل منه إلى التعجيب من إلقائهم إليهم بالمودة .

والإِلقاء حقيقته رمي ما في اليد على الأرض . واستعير لإيقاع الشيء بدون تدبر في موقعه ، أي تصرفون إليهم مودتكم بغير تأمل . قال تعالى : { فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون } في سورة [ النحل : 86 ] .

والباء في { بالمودة } لتأكيد اتصال الفعل بمفعوله . وأصل الكلام : تلقون إليهم المودة ، كقوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [ البقرة : 195 ] وقوله : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] وذلك تصوير لقوة مودتهم لهم .

وزيد في تصوير هذه الحالة بجملة الحال التي بعدها وهي { وقد كفروا بما جاءكم من الحق } وهي حال من ضمير { إليهم } أو من { عدوي } .

« وما جاءكم من الحق » هو القرآن والدين فذكر بطريق الموصولية ليشمل كل ما أتاهم به الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الإِيجاز مع ما في الصلة من الإِيذان بتشنيع كفرهم بأنه كفر بما ليس من شأنه أن يكفر به طلاب الهدي فإن الحق محبوب مرغوب .

وتعدية جاء إلى ضمير المخاطبين وهم الذين آمنوا لأنهم الذين انتفعوا بذلك الحق وتقبلوه فكأنه جاء إليهم لا إلى غيرهم وإلاّ فإنه جاء لدعوة الذين آمنوا والمشركين فقبله الذين آمنوا ونبذه المشركون .

وفيه إيماء إلى أن كفر الكافرين به ناشىء عن حسدهم الذين آمنوا قبلهم .

وفي ذلك أيضاً إلهاب لقلوب المؤمنين ليحذروا من موالاة المشركين .

وجملة { يخرجون الرسول وإياكم } حال من ضمير { كفروا } ، أي لم يكتفوا بكفرهم بما جاء من الحق فتلبسوا معه بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم وإخراجكم من بلدكم لأنْ تؤمنوا بالله ربكم ، أي هو اعتداء حملهم عليه أنكم آمنتم بالله ربكم . وأن ذلك لا عذر لهم فيه لأن إيمانكم لا يضيرهم . ولذلك أجري على اسم الجلالة وصف ربِّكم على حدّ قوله تعالى : { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد } [ الكافرون : 1 3 ] ثم قال : { لكم دينكم ولي دين } [ الكافرون : 6 ] .

وحكيت هذه الحالة بصيغة المضارع لتصوير الحالة لأن الجملة لما وقعت حالاً من ضمير { وقد كفروا } كان إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في تلك الحالة عملاً فظيعاً ، فأريد استحضار صورة ذلك الإِخراج العظيم فظاعة اعتلالهم له .

والإِخراج أريد به : الحمل على الخروج بإتيان أسباب الخروج من تضييق على المسلمين وأذى لهم .

وأسند الإِخراج إلى ضمير العدوّ كلهم لأن جميعهم كانوا راضين بما يصدر من بعضهم من أذى المسلمين . وربما أغْرَوا به سفهاءهم ، ولذلك فالإِخراج مجاز في أسبابه ، وإسناده إلى المشركين إسناد حقيقي .

وهذه الصفات بمجموعها لا تنطبق إلا على المشركين من أهل مكة ومجموعها هو علة النهي عن موادتهم .

وجيء بصيغة المضارع في قوله تعالى : { أن تؤمنوا } ، لإِفادة استمرار إيمان المؤمنين وفيه إيماء إلى الثناء على المؤمنين بثباتهم على دينهم ، وأنهم لم يصدهم عنه ما سبَّب لهم الخروج من بلادهم .

وقوله : { إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي } شرط ذُيّل به النهي من قوله : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } . وهذا مقام يستعمل في مثله الشرطُ بمنزلة التتميم لما قبله دون قصد تعليق ما قبله بمضمون فعل الشرط ، أي لا يقصد أنه إذا انتفى فعل الشرط انتفى ما عُلق عَليه كما هو الشأن في الشروط بل يقصد تأكيد الكلام الذي قبله بمضمون فعل الشرط فيكون كالتعليل لِما قبله ، وإنما يؤتى به في صورة الشرط مع ثقة المتكلم بحصول مضمون فعل الشرط بحيث لا يُتوقع من السامع أن يحصل منه غيرُ مضمون فعل الشرط فتكون صيغة الشرط مراداً بها التحذير بطريق المجاز المرسل في المركَّب لأن معنى الشرط يلزمه التردد غالباً . ولهذا يؤتى بمثل هذا الشرط إذا كان المتكلم واثقاً بحصول مضمونه متحققاً صحة ما يقوله قبل الشرط .

كما ذكر في « الكشاف » في قوله تعالى : { إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا إن كنا أول المؤمنين } في سورة [ الشعراء : 51 ] ، في قراءة من قرأ إن كنا أول المؤمنين بكسر همزة ( إنْ ) وهي قراءة شاذة فتكون ( إن ) شرطية مع أنهم متحققون أنهم أول المؤمنين فطمعوا في مغفرة خطاياهم لتحققهم أنهم أول المؤمنين ، فيكون الشرط في مثله بمنزلة التعليل وتكون أداة الشرط مثل ( إذْ ) أو لام التعليل .

وقد يَأتِي بمثل هذا الشرط مَن يُظهر وجوب العمل على مقتضى ما حصل من فعل الشرط وأن لا يخالَف مقتضاه كقوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } [ الأنفال : 41 ] إلى قوله : { إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا } [ الأنفال : 41 ] ، أي فإيمانكم ويقينكم مما أنزلنا يوجبان أن ترضوا بصرف الغنيمة للأصناف المعيّنة من عند الله . ومنه كثير في القرآن إذا تتبعتَ مواقعه .

ويغلب أن يكون فعل الشرط في مثله فعل كون إيذاناً بأن الشرط محقق الحصول .

وما وقع في هذه السورة من هذا القبيل فالمقصود استقرار النهي عن اتخاذ عدوّ الله أولياء وعقب بفرض شرطه موثوق بأن الذين نهوا متلبسون بمضمون فعل الشرط بلا ريب ، فكان ذكر الشرط مما يزيد تأكيد الانكفاف .

ولذلك يجَاء بمثل هذا الشرط في آخر الكلام إذ هو يشبه التتميم والتذييل ، وهذا من دقائق الاستعمال في الكلام البليغ .

قال في « الكشاف » في قوله تعالى : { إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها } في سورة [ الفرقان : 42 ] و ( لولا ) في مثل هذا الكلام جارٍ من حيث المعنى لا من حيث الصنعة مَجرى التقييد للحكم المطلق . وقال هنا { إن كنتم خرجتم } متعلق ب { لا تتخذوا } وقول النحويين في مثله على أنه شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه . اه . يعني أن فرقاً بين كلام النحويين وبين ما اختاره هُو مِنْ جَعْله متعلقاً ب { لا تتخذوا } فإنه جعل جواب الشرط غير منوي . قلت : فينبغي أن يعد كلامه من فروق استعمال الشروط مثل فروق الخبر وفروق الحال المبوب لكليهما في كتاب « دلائل الإِعجاز » . وكلام النحاة جرى على غالب أحوال الشروط التي تتأخر عن جوابها نحو : اقبَل شفاعة فلان إنْ شَفِع عندك ، وينبغي أن يتطلب لتقديم ما يدل على الجواب المحذوف إذَا حذف نكتة في غير ما جرى على استعمال الشرط بمنزلة التذييل والتتميم .

وأداة الشرط في مثله تشبه { إنْ } الوصلية و ( لو ) الوصلية ، ولذلك قال في « الكشاف » هنا : إن جملة { إن كنتم خرجتم } متعلقة ب { لا تتخذوا } يعني تعلقَ الحال بعاملها ، أي والحال حالُ خروجكم في سبيل الله وابتغائكم مَرضاتَه بناء على أن شرط { إن } . و ( لو ) الوصليّتين يعتبر حالاً . ولا يعكر عليه أن شرطهما يقترن بواو الحال لأن ابن جنّي والزمخشري سوّغا خلوَّ الحال في مثله عن الواو والاستعمال يشهد لهما .

والمعنى : لا يقع منكم اتخاذ عدوي وعدوكم أولياء ومودّتهم ، مع أنهم كفروا بما جاءكم من الحق ، وأخرجوكم لأجل إيمانكم . إن كنتم خرجتم من بلادكم جهاداً في سبيلي وابتغاءَ مرضاتي ، فكيف تُوالون من أخرجوكم وكان إخراجهم إياكم لأجلي وأنا ربكم .

والمراد بالخروج في قوله : { إن كنتم خرجتم } الخروج من مكة مهاجَرة إلى المدينة . فالخطاب خاص بالمهاجرين على طريقة تخصيص العموم في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } روعي في هذا التخصيص قرينة سبب نزول الآية على حادث حاطب بن أبي بلتعة .

و { جهاداً } ، و { ابتغاءَ مرضاتي } مصدران منصوبان على المفعول لأجله .

{ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أعلنتم } .

يجوز أن تكون الجملة بياناً لجملة { تلقون إليهم بالمودة } ، أو بدل اشتمال منها فإن الإسرار إليهم بالمودة مما اشتمل عليه الإِلقاء إليهم بالمودة . والخبر مستعمل في التوبيخ والتعجيب ، فالتوبيخ مستفاد من إيقاع الخبر عقب النهي المتقدم ، والتعجيب مستفاد من تعقيبه بجملة { وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } ، أي كيف تظنون أن إسراركم إليهم يخفى علينا ولا نطلع عليه رسولنا .

والإِسرار : التحدث والإِخبار سراً .

ومفعول { تسرون } يجوز أن يكون محذوفاً يدل عليه السياق ، أي تخبرونهم أحوال المسلمين سراً .

وجيء بصيغة المضارع لتصوير حالة الإِسرار إليه تفظيعاً لها .

والباء في { بالمودة } للسببية ، أي تخبرونهم سراً بسبب المودة أي بسبب طلب المودة لهم كما هو في قضية كتاب حاطب .

ويجوز أن يكون { بالمودة } في محل المفعول لفعل { تسرون } والباءُ زائدةً لتأكيد المفعولية كالباء في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] .

وجملةُ { وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } في موضع الحال من ضمير { تسرون } أو مُعترضةٌ ، والواو اعتراضية .

وهذا مناط التعجيب من فعل المعرَّض به وهو حَاطب بن أبي بلتعة . وتقديم الإِخفاء لأنه المناسب لقوله : { وأنا أعلم } . ولموافقته للقصة .

و { أعلم } اسم تفضيل والمفضل عليه معلوم من قوله : { تسرون إليهم } فالتقدير : أعلم منهم ومنكم بما أخفيتم وما أعلنتم .

والباء متعلقة باسم التفضيل وهي بمعنى المصاحبة .

{ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } .

عطف على جملة النهي في قوله تعالى : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } ، عُطف على النهي التوعدُ على عدم الانتهاء بأن من لم ينته عما نُهي عنه هو ضالّ عن الهُدَى .

وضمير الغيبة في { يفعله } عائد إلى الاتخاذ المفهوم من فعل { لا تتخذوا عدوي } أي ومن يفعل ذلك بعد هذا النهي والتحذير فهو قد ضلّ عن سواء السبيل .

و { سواء السبيل } مستعار لأعمال الصلاح والهُدَى لشبهها بالطريق المستوي الذي يَبلُغ من سلكه إلى بغيته ويقع من انحرف عنه في هلكة . والمراد به هنا ضلّ عن الإِسلام وضلّ عن الرشد .

و { مَن } شرطية الفعل بعدها مستقبل وهو وعيد للذين يفعلون مثل ما فعل حاطب بعد أن بلغهم النهي والتحذير والتوبيخ والتفظيع لعمله .