تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَـٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} (100)

{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } أي : على سرير الملك ، ومجلس العزيز ، { وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } أي : أبوه ، وأمه وإخوته ، سجودا على وجه التعظيم والتبجيل والإكرام ، { وَقَالَ } لما رأى هذه الحال ، ورأى سجودهم له : { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ } حين رأي أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين ، فهذا وقوعها الذي آلت إليه ووصلت { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } فلم يجعلها أضغاث أحلام .

{ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي } إحسانا جسيما { إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ } وهذا من لطفه وحسن خطابه عليه السلام ، حيث ذكر حاله في السجن ، ولم يذكر حاله في الجب ، لتمام عفوه عن إخوته ، وأنه لا يذكر ذلك الذنب ، وأن إتيانكم من البادية من إحسان الله إلي .

فلم يقل : جاء بكم من الجوع والنصب ، ولا قال : " أحسن بكم " بل قال { أَحْسَنَ بِي } جعل الإحسان عائدا إليه ، فتبارك من يختص برحمته من يشاء من عباده ، ويهب لهم من لدنه رحمة إنه هو الوهاب . { مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } فلم يقل " نزغ الشيطان إخوتي " بل كأن الذنب والجهل ، صدر من الطرفين ، فالحمد لله الذي أخزى الشيطان ودحره ، وجمعنا بعد تلك الفرقة الشاقة .

{ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ } يوصل بره وإحسانه إلى العبد من حيث لا يشعر ، ويوصله إلى المنازل الرفيعة من أمور يكرهها ، { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } الذي يعلم ظواهر الأمور وبواطنها ، وسرائر العباد وضمائرهم ، { الْحَكِيمُ } في وضعه الأشياء مواضعها ، وسوقه الأمور إلى أوقاتها المقدرة لها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَـٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} (100)

و { العرش } : سرير الملك ، وكل ما عرش فهو عريش وعرش ، وخصصت اللغة العرش لسرير الملك ، و { خروا } معناه : تصوبوا إلى الأرض ، واختلف في هذا السجود ، فقيل : كان كالمعهود عندنا من وضع الوجه بالأرض ، وقيل : بل دون ذلك كالركوع البالغ ونحوه مما كان سيرة تحياتهم للملوك في ذلك الزمان ، وأجمع المفسرون أن ذلك السجود - على أي هيئة كان - فإنما كان تحية لا عبادة . قال قتادة : هذه كانت تحية الملوك عندهم . وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة . وقال الحسن : الضمير في { له } لله عز وجل .

قال القاضي أبو محمد : ورد على هذا القول{[6838]} .

وحكى الطبري : أن يعقوب لما بلغ مصر في جملته كلم يوسف فرعون في تلقيه فخرج إليه وخرج الملوك معه فلما دنا يوسف من يعقوب وكان يعقوب يمشي متوكئاً على يهوذا - قال : فنظر يعقوب إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا ، هذا فرعون مصر ، قال : لا هو ابنك ، قال : فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف يبدأ بالسلام ، فمنعه يعقوب من ذلك وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل ، فقال : السلام عليك يا مذهب الأحزان .

قال القاضي أبو محمد : ونحو هذا من القصص ، وفي هذا الوقت قال يوسف ليعقوب : إن فرعون قد أحسن إلينا فادخل عليه شاكراً ، فدخل عليه ، فقال فرعون : يا شيخ ما مصيرك إلى ما أرى ؟ قال : تتابع البلاء عليّ . قال : فما زالت قدمه حتى نزل الوحي : يا يعقوب ، أتشكوني إلى من لا يضرك ولا ينفعك ؟ قال : يا رب ذنب فاغفره . وقال أبو عمرو الشيباني : تقدم يوسف يعقوب في المشي في بعض تلك المواطن فهبط جبريل فقال له : أتتقدم أباك ؟ إن عقوبتك لذلك ألا يخرج من نسلك نبي .

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 100 )

المعنى : قال يوسف ليعقوب : هذا السجود الذي كان منكم ، هو ما آلت إليه رؤياي قديماً في الأحد عشر كوكباً وفي الشمس والقمر .

وقوله : { قد جعلها ربي حقاً } ابتداء تعديد نعم الله تعالى عليه ، وقوله : { وقد أحسن بي } ، أي أوقع وناط إحسانه بي . فهذا منحى في وصول الإحسان بالباء ، وقد يقال : أحسن إليَّ ، وأحسن فيّ ، ومنه قول عبد الله بن أبي ابن سلول : يا محمد أحسن في مواليّ ؛ وهذه المناحي مختلفة المعنى ، وأليقها بيوسف قوله : { بي } لأنه إحسان درج فيه دون أن يقصد هو الغاية التي صار إليها{[6839]} .

وذكر يوسف عليه السلام إخراجه من السجن ، وترك إخراجه من الجب لوجهين .

أحدهما : أن في ذكر إخراجه من الجب تجديد فعل إخوته وخزيهم بذلك وتقليع نفوسهم وتحريك تلك الغوائل وتخبيث النفوس{[6840]} .

والوجه الآخر : أنه خرج من الجب إلى الرق ، ومن السجن إلى الملك فالنعمة هنا أوضح{[6841]} .

وقوله : { وجاء بكم من البدو } يعم جمع الشمل والتنقل من الشقاوة إلى النعمة بسكنى الحاضرة ، وكان منزل يعقوب عليه السلام بأطراف الشام في بادية فلسطين وكان رب إبل وغنم وبادية{[6842]} .

و { نزغ } معناه : فعل فعلاً أفسد به ، ومنه قول النبي عليه السلام : «لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزغ الشيطان في يده »{[6843]} .

وإنما ذكر يوسف هذا القدر من أمر إخوته ليبين حسن موقع النعم ، لأن النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء فهي أحسن موقعاً .

وقوله : { لما يشاء } أي من الأمور أن يفعله ، واختلف الناس في كم كان بين رؤيا يوسف وبين ظهورها : فقالت فرقة أربعون سنة - هذا قول سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد ، وقال عبد الله بن شداد : ذلك آخر ما تبطىء الرؤيا - وقالت فرقة - منهم الحسن وجسر بن فرقد وفضيل بن عياض - ثمانون سنة . وقال ابن إسحاق : ثمانية عشر ، وقيل : اثنان وعشرون قاله النقاش - وقيل : ثلاثون ، وقيل : خمس وثلاثون - قاله قتادة - وقال السدي وابن جبير : ستة وثلاثون سنة . وقيل : إن يوسف عليه السلام عمر مائة وعشرين سنة . وقيل : إن يعقوب بقي عند يوسف نيفاً على عشرين سنة ثم توفي صلى الله عليه وسلم .

قال القاضي أبو محمد : ولا وجه في ترك تعريف يوسف أباه بحاله منذ خرج من السجن إلى العز إلا الوحي من الله تعالى لما أراد أن يمتحن به يعقوب وبنيه ، وأراد من صورة جمعهم - لا إله إلا هو - وقال النقاش : كان ذلك الوحي في الجب ، وهو قوله تعالى : { وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } [ يوسف : 15 ] وهذا محتمل .

ومما روي في أخبار يعقوب عليه السلام : قال الحسن : إنه لما ورده البشير لم يجد عنده شيئاً يثيبه به فقال له : والله ما أصبت عندنا شيئاً ، وما خبرنا منذ سبه ليال ، ولكن هون الله عليك سكرات الموت .

ومن أخباره : أنه لما اشتد بلاؤه وقال : يا رب أعميت بصري وغيبت عني يوسف ، أفما ترحمني ؟ فأوحى الله إليه : سوف أرحمك وأرد عليك ولدك وبصرك ، وما عاقبتك بذلك إلا أنك طبخت في منزلك حملاً فشمه جار لك ولم تساهمه بشيء ، فكان يعقوب بعد يدعوه إلى غدائه وعشائه . وحكى الطبري : أنه لما اجتمع شمله كلفه بنوه أن يدعو الله لهم حتى يأتي الوحي بأن الله قد غفر لهم . قال : فكان يعقوب يصلي ويوسف وراءه وهم وراء يوسف ، ويدعو لهم فلبث كذلك عشرين سنة ثم جاءه الوحي : إني قد غفرت لهم وأعطيتهم مواثيق النبوة بعدك . ومن أخباره : أنه لما حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف أن يدفنه بالشام ، فلما مات نفخ فيه المر وحمله إلى الشام ، ثم مات يوسف فدفن بمصر ، فلما خرج موسى - بعد ذلك - من أرض مصر احتمل عظام يوسف حتى دفنها بالشام مع آبائه .


[6838]:هذا خطأ، والهاء راجعة إلى يوسف لقوله تعالى في أول السورة: {رأيتهم لي ساجدين}. قال النقاش
[6839]:الأصل في (أحسن) أن يتعدى ب (إلى) ، قال تعالى: {وأحسن كما أحسن الله إليك}، وقد يتعدى بالباء كقوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا}، وكذلك (أساء)، يقال: أساء إليه، وبه، قال الشاعر: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت وقد يكون (أحسن) ضمن معنى (لطف) فعدي بالباء.
[6840]:لمعنى يقول بعض الصوفية: "ذكر الجفا في وقت الصفا جفا". وفي هذا
[6841]:وقيل: ذكر إخراجه من السجن دون الجب لأن دخوله في السجن كان باختياره بقوله: {رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه} وكان ا لجب بإرادة الله، وقيل لأنه كان في السجن مع العصاة واللصوص، أما في الجب فكان مع الله، وقيل: لأن المنة في الخروج من السجن كانت أكثر، لأنه دخله بسبب أمرهم به، فكان الكرب فيه أكثر، أما الجب فقد ألقي فيه بدون ذنب، ولهذا كان كربه فيه أخف.
[6842]:وهو الموضع الذي عناه جميل بثينة بقوله: يقال: إن يعقوب خرج إلى مكان يسمى (بدا) وأنت التي حببت شغبا إلى بدا إلي، وأوطاني بلاد سواهما وليعقوب بهذا الموضع مسجد تحت جبل هناك. (ذكر ذلك القرطبي وأبو حيان في البحر المحيط).
[6843]:أخرجه البخاري في كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من حمل علينا السلاح فليس منا، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار)، فالرواية هنا بالياء في (يشير) وهي على النفي المراد به النهي، وهي أيضا بالعين المهملة في (ينزع)، والمعنى: يرمي به في يده ويحقق ضربته، ومن رواه (ينزغ) بالمعجمة فمعناه الإغراء، أي: يزين له الشيطان تحقيق الضربة. والرواية في (مسلم) بالعين المهملة. (راجع شرح النووي).
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَـٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} (100)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ورفع} يوسف {أبويه على العرش}، يعني على السرير... {وخروا له سجدا}... قال أبو صالح: هذه سجدة التحية، لا سجدة العبادة، {وقال} يوسف: {يا أبت هذا} السجود {تأويل}، يعني تحقيق {رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا}، يعني صدقا... {وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو}، كانوا أهل عمود مواشي، {من بعد أن نزغ}، يعني: أزاغ {الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء}، حين أخرجه من السجن ومن البئر، وجمع بينه وبين أهل بيته بعد التفريق، فنزع من قلبه نزغ الشيطان على إخوته بلطفه، {إنه هو العليم الحكيم}...

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

{وخروا له سجدا} [يوسف: 100]. 541- ابن العربي: قال المخزومي: سمعت مالكا يقول: كان يعظم بعضهم بعضا بالسجود...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"وَرَفَعَ أبَوَيْهِ على العَرْشِ" يعني: على السرير...

وقوله: "وخَرّوا لَهُ سُجّدا "يقول: وخرّ يعقوبُ وولده وأمه ليوسف سجدا...

قال ابن زيد في قوله: "وَخَرّوا لَهُ سُجّدا" قال: قال ذلك السجود لشرفه، كما سجدت الملائكة لاَدم لشرفه ليس بسجود عبادة...

وقوله: "يا أبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبّي حَقّا" يقول جلّ ثناؤه: قال يوسف لأبيه: يا أبت هذا السجود الذي سجدت أنت وأمي وإخوتي لي "تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ" يقول: ما آلت إليه رؤياي التي كنت رأيتها. وهي رؤياه التي كان رآها قبل صنيع إخوته ما صنعوا، أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدون. "قَدْ جَعَلَها رَبّي حَقّا" يقول: قد حققها ربي لمجيء تأويلها على الصحة...

وقوله: "وَقَدْ أحْسَنَ بِي إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ البَدْوِ" يقول جلّ ثناؤه مخبرا عن قيل يوسف: وقد أحسن الله بي في إخراجه إياي من السجن الذي كنت فيه محبوسا، وفي مجيئه بكم من البدو...

والبدو مصدر من قول القائل: بدا فلان: إذا صار بالبادية يبدو بدوا...

وقوله: "مِنْ بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشّيْطانُ بَيْنِي وبينَ إخْوَتي" يعني: من بعد أن أفسد ما بيني وبينهم وجهل بعضنا على بعض...

وقوله: "إنّ رَبّي لَطِيفٌ لَما يَشاءُ" يقول: إن ربي ذو لطف وصنع لما يشاء، ومن لطفه وصنعه أنه أخرجني من السجن وجاء بأهلي من البدو بعد الذي كان بيني وبينهم من بُعد الدار وبعد ما كنت فيه من العبودة والرقّ والإسار... عن قتادة، قوله: "إنّ رَبّي لَطِيفٌ لِمَا يَشاءُ" لطف بيوسف وصنع له حتى أخرجه من السجن، وجاء بأهله من البدو، ونزع من قلبه نزغ الشيطان وتحريشه على إخوته.

وقوله: "إنّهُ هُوَ العَلِيمُ" بمصالح خلقه، وغير ذلك لا يخفى عليه مبادي الأمور وعواقبها. "الحَكيمُ" في تدبيره.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) قال بعضهم: نزغ أي فرق؛ بعدما فرق بيني وبين إخوتي...

(إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ) لطيف هو اسم لشيئين:

أحدهما: اسم البر والعطف. يقال: فلان لطيف أي بار عاطف.

الثاني: يقال: لطيف أي عليم بما يلطف من الأشياء... أو يقال: لطيف أي يعلم المستور من الأمور الخفية على الخلق كما يعلم الظاهرة منها والبادية، لا يخفى عليه شيء (فإنه يعلم السر وأخفى) [طه: 7]...

(إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) بما كان، ويكون، وما ظهر، وما بطن، وما يسر، وما يعلن، وبكل شيء عليم: بعواقب الأمور وبدايتها (الحكيم) حكم بعلم ووضع كل شيء موضعه...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو} فإن قيل فلم اقتصر من ذكر ما بُلي به على شكر إخراجه من السجن دون الجب وكانت حاله في الجب أخطر؟ قيل عنه ثلاثة أجوبة:

أحدها: أنه كان في السجن مع الخوف من المعرة [ما] لم يكن في الجب فكان ما في نفسه من بلواه أعظم فلذلك خصه بالذكر والشكر.

الثاني: أنه قال ذلك شكراً لله عز وجل على نقله من البلوى إلى النعماء، وهو إنما انتقل إلى الملك من السجن لا من الجب، فصار أخص بالذكر والشكر إذ صار بخروجه من السجن ملكاً، وبخروجه من الجب عبداً.

الثالث: أنه لما عفا عن إخوته بقوله: {لا تثريب عليكم اليوم} أعرض عن ذكر الجب لما فيه من التعريض بالتوبيخ...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

أوقف كُلاًّ بمحلِّة؛ فَرَفَعَ أبويه على السرير، وتَرَك الإخوةَ نازلين بأماكنهم. قوله: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدَاً}: كان ذلك سجودَ تحيةٍ، فكذلك كانت عادتهم. ودَخَلَ الأَبَوان في السجود -في حقِّ الظاهر- لأنَّ قوله {وَخَرُّوا} إخبارٌ عن الجميع، ولأنه كان عن رؤياه قد قال: {أني رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبَاً والشَّمْسَ وَالقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] وقال ها هنا: {هَذَا تَأْوِيلُ رُءيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقَاً}. قوله جلّ ذكره: {أَحْسَنَ بي إِذْ أخرجني مِنَ السِّجِنْ وَجَاءَ بكُم مِّن البَدوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بيني وَبَيْن إخوتي إِنَّ رَبِىّ لَطِيفٌ لِّمَا يشاء إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ}. شهد إحسانه فَشَكَرَه.. كذلك مَنْ شهد النعمة شَكَرَ، ومَنْ شهد المُنْعِمَ حمده. وذَكَرَ حديثَ السجن- دون البئر- لطول مدة السجن وقلة مدة البئر، وقيل لأن فيه تذكيراً بِجُرْمِ الإخوة وكانوا يخجلون. وقيل لأن {السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ} وقيل لأن كان في البئر مرفوقاً به والمبتدئ يُرفَقُ به وفي السجن فَقَدَ ذلك الرِّفق لقوة حاله؛ فالضعيف مرفوقٌ به والقويُّ مُشَدَّدٌ عليه في الحال،

{وَجَآءَ بِكُم مِّنَ البَدْوِ} إشارة إلى أنه كما سُرَّ برؤية أبويه سُرَّ بإخوته- وإنْ كانوا أهل الجفاء، لأنَّ الأُخُوَّةَ سَبَقتْ الجفوة.

{مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بيني وَبَيْنَ إخوتي} أظهر لهم أمرهم بما يشبه العذر، فقال كان الذي جرى منهم من نزعات الشيطان، ثم لم يرض بهذا حتى قال {بيني وبين إخوتي} يعني إن وَجَدَ الشيطان سبيلاً إليهم، فقد وجد أيضاً إليَّ حيث قال: {بيني وَبَيْنَ إخوتي}. ثم نطق عن عين التوحيد فقال: {إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ} فبلطفه عصمهم حتى لم يقتلوني...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وإنما ذكر يوسف هذا القدر من أمر إخوته ليبين حسن موقع النعم، لأن النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء فهي أحسن موقعاً...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما ذكر الأمن الذي هو ملاك العافية التي بها لذة العيش، أتبعه الرفعة التي بها كمال النعيم، فقال: {ورفع أبويه} أي بعدما استقرت بهم الدار بدخول مصر مستويين 119 {على العرش} أي السرير الرفيع؛ قال الرماني: أصله الرفع. {وخروا} أي انحطوا {له سجداً} الأبوان والإخوة تحقيقاً لرؤياه ممن هو غالب على كل أمر، والسجود -وأصله: الخضوع والتذلل- كان مباحاً في تلك الأزمنة {وقال} أي يوسف عليه الصلاة والسلام {ياأبت} ملذذاً له بالخطاب بالأبوة {هذا} أي الذي وقع من السجود {تأويل رؤياي} التي رأيتها، ودل على قصر الزمن الذي رآها فيه بالجار فقال: {من قبل} ثم استأنف قوله: {قد جعلها ربي} أي الذي رباني بما أوصلني إليها {حقاً} أي بمطابقة الواقع لتأويلها، وتأويل ما أخبرتني به أنت تحقق أيضاً من اجتبائي وتعليمي وإتمام النعمة عليّ؛ والتأويل: تفسير بما يؤول إليه معنى الكلام...

{وقد أحسن} أي أوقع إحسانه {بي} تصديقاً لما بشرتني به من إتمام النعمة، وتعدية {أحسن} بالباء أدل على القرب من المحسن من التعدية ب "إلى "وعبر بقوله: {إذ أخرجني من السجن} معرضاً عن لفظ "الجب" حذراً من إيحاش إخوته مع أن اللفظ يحتمله احتمالاً خفياً {وجاء بكم} وقيل: إنهم كانوا أهل عمد وأصحاب مواش، يتنقلون في المياه والمناجع، فلذلك قال: {من البدو} من أطراف بادية فلسطين، وذلك من أكبر النعم... والبدو: بسيط من الأرض يرى فيه الشخص من بعيد، وأصله من الظهور، وأنس إخوته أيضاً بقوله مثبتاً الجار لأن مجيئهم في بعض أزمان البعد: {من بعد أن نزغ} عبر بالماضي ليفهم أنه انقضى {الشيطان} أي أفسد البعيد المحترق بوسوسته التي هي كالنخس {بيني وبين إخوتي} حيث قسم النزغ بينه وبينهم ولم يفضل أحداً من الفريقين فيه، ولم يثبت الجار إشارة إلى عموم الإفساد للبنين، كل ذلك إشارة إلى تحقق ما بشر به يعقوب عليه الصلاة والسلام من إتمام النعمة وكمال العلم والحكمة؛ ثم علل الإحسان إليهم أجمعين بقوله: {إن ربي} أي المحسن إليّ على وجوه فيها خفاء {لطيف} -أي يعلم دقائق المصالح وغوامضها، ثم يسلك- في إيصالها إلى المستصلح -سبيل الرفق دون العنف، فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك فهو اللطيف- قاله الرازي في اللوامع.

وهو سبحانه فاعل اللطف في تدبيره ورحمته {لما يشاء} لا يعسر عليه أمر؛ ثم علل هذه العلة بقوله: {إنه هو} أي وحده {العليم} أي البليغ العلم للدقائق والجلائل {الحكيم} أي البليغ الإتقان لما يصنعه طبق ما ختم به يعقوب عليه الصلاة والسلام بشراه في أول السورة، أي هو منفرد بالاتصاف بذلك لا يدانيه أحد في علم ليتعرض إلى أبطال ما يقيمه من الأسباب، ولا في حكمة ليتوقع الخلل في شيء منها.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} إحسانا جسيما {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} وهذا من لطفه وحسن خطابه عليه السلام، حيث ذكر حاله في السجن، ولم يذكر حاله في الجب، لتمام عفوه عن إخوته، وأنه لا يذكر ذلك الذنب، وأن إتيانكم من البادية من إحسان الله إلي. فلم يقل: جاء بكم من الجوع والنصب، ولا قال:"أحسن بكم" بل قال {أَحْسَنَ بِي} جعل الإحسان عائدا إليه... {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} الذي يعلم ظواهر الأمور وبواطنها، وسرائر العباد وضمائرهم، {الْحَكِيمُ} في وضعه الأشياء مواضعها، وسوقه الأمور إلى أوقاتها...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

العرش: سرير للقعود فيكون مرتفعاً على سوق، وفيه سعة تمكن الجالس من الاتّكاء. والسجود: وضع الجبهة على الأرض تعظيماً للذات أو لصورتها أو لذِكرها... والخرور: الهوي والسقوط من علو إلى الأرض. والذين خروا سُجداً هم أبواه وإخوته كما يدل له قوله: {هذا تأويل رؤياي}...

و {سجدا} حال مبيّنة لأن الخرور يقع بكيفيات كثيرة... ومعنى؟قد جعلها ربي حقا؟ أنها كانت من الأخبار الرمزية التي يكاشِف بها العقل الحوادث المغيبة عن الحس، أي ولم يجعلها باطلاً من أضغاث الأحلام الناشئة عن غلبة الأخلاط الغذائية أو الانحرافات الدماغية.

ومعنى {أحسن بي} أحسن إليّ. يقال: أحسن به وأحسن إليه، من غير تضمين معنى فعل آخر. وقيل: هو بتضمين أحسن معنى لطف. وباء {بي} للملابسة أي جعل إحسانه ملابساً لي، وخصّ من إحسان الله إليه دون مطلق الحضور للامتيار أو الزيادة إحسانين هما يوم أخرجه من السجن ومجيء عشيرته من البادية. فإن {إذْ} ظرف زمان لفعل {أحسن} فهي بإضافتها إلى ذلك الفعل اقتضت وقوع إحسان غير معدود، فإن ذلك الوقت كان زمنَ ثبوت براءته من الإثم الذي رمته به امرأة العزيز وتلك منة، وزمنَ خلاصه من السجن فإن السجن عذاب النفس بالانفصال عن الأصدقاء والأحبّة، وبخلطة من لا يشاكلونه، وبشْغله عن خلوة نفسه بتلقي الآداب الإلهية، وكان أيضاً زمن إقبال الملك عليه. وأما مجيء أهله فزوال ألم نفساني بوحشته في الانفراد عن قرابته وشوقه إلى لقائهم، فأفصح بذكر خروجه من السجن، ومجيء أهله من البدوِ إلى حيث هو مكين قويّ. وأشار إلى مصائبه السابقة من الإبقاء في الجبّ، ومشاهدة مكر إخوته به بقوله: {من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي}، فكلمة {بعد} اقتضت أن ذلك شيء انقضى أثره. وقد ألم به إجمالاً اقتصاراً على شكر النعمة وإعراضاً عن التذكير بتلك الحوادث المكدرة للصلة بينه وبين إخوته فمرّ بها مرّ الكرام وباعدها عنهم بقدر الإمكان إذ ناطها بنزغ الشيطان. والمجيء في قوله: {وجاء بكم من البدو} نعمة، فأسنده إلى الله تعالى وهو مجيئهم بقصد الاستيطان حيث هو. والبَدْو: ضد الحضر، سمي بَدواً لأن سكانه بادُون، أي ظَاهرون لكل واردٍ، إذ لا تحجبهم جدران ولا تغلق عليهم أبواب. وذكر {من البدو} إظهار لتمام النعمة، لأن انتقال أهل البادية إلى المدينة ارتقاء في الحضارة. والنزغ: مجاز في إدخال الفساد في النفس. شُبه بنزغ الراكب الدابّة وهو نخسها. وتقدم عند قوله تعالى: {وإما ينزغنّك من الشيطان نزغ} في سورة الأعراف (200). وجملة إن ربي لطيف لما يشاء} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لقصد الاهتمام بها وتعليم مضمونها. واللطف: تدبير الملائم. وهو يتعدّى باللام على تقدير لطيف لأجل ما يشاء اللطف به، ويتعدى بالباء قال تعالى: {الله لطيف بعباده} [الشورى: 19]. وقد تقدم تحقيق معنى اللطف عند قوله تعالى: {وهو اللطيف الخبير} في سورة الأنعام (103). وجملة {إنه هو العليم الحكيم} مستأنفة أيضاً أو تعليل لجملة {إن ربي لطيف لما يشاء}. وحرف التوكيد للاهتمام، وتوسيط ضمير الفصل للتقوية...