{ 2 ْ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ }
يقول تعالى { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ْ } أي : محرماته التي أمركم بتعظيمها ، وعدم فعلها ، والنهي يشمل النهي عن فعلها ، والنهي عن اعتقاد حلها ؛ فهو يشمل النهي ، عن فعل القبيح ، وعن اعتقاده .
ويدخل في ذلك النهي عن محرمات الإحرام ، ومحرمات الحرم . ويدخل في ذلك ما نص عليه بقوله : { وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ْ } أي : لا تنتهكوه بالقتال فيه وغيره من أنواع الظلم كما قال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ْ }
والجمهور من العلماء على أن القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى : { فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ْ } وغير ذلك من العمومات التي فيها الأمر بقتال الكفار مطلقا ، والوعيد في التخلف عن قتالهم مطلقا .
وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل الطائف في ذي القعدة ، وهو من الأشهر الحرم .
وقال آخرون : إن النهي عن القتال في الأشهر الحرم غير منسوخ لهذه الآية وغيرها ، مما فيه النهي عن ذلك بخصوصه ، وحملوا النصوص المطلقة الواردة على ذلك ، وقالوا : المطلق يحمل على المقيد .
وفصل بعضهم فقال : لا يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم ، وأما استدامته وتكميله إذا كان أوله في غيرها ، فإنه يجوز .
وحملوا قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف على ذلك ، لأن أول قتالهم في " حنين " في " شوال " . وكل هذا في القتال الذي ليس المقصود منه الدفع .
فأما قتال الدفع إذا ابتدأ الكفار المسلمين بالقتال ، فإنه يجوز للمسلمين القتال ، دفعا عن أنفسهم في الشهر الحرام وغيره بإجماع العلماء .
وقوله : { وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ ْ } أي : ولا تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت الله في حج أو عمرة ، أو غيرهما ، من نعم وغيرها ، فلا تصدوه عن الوصول إلى محله ، ولا تأخذوه بسرقة أو غيرها ، ولا تقصروا به ، أو تحملوه ما لا يطيق ، خوفا من تلفه قبل وصوله إلى محله ، بل عظموه وعظموا من جاء به . { وَلَا الْقَلَائِدَ ْ } هذا نوع خاص من أنواع الهدي ، وهو الهدي الذي يفتل له قلائد أو عرى ، فيجعل في أعناقه إظهارا لشعائر الله ، وحملا للناس على الاقتداء ، وتعليما لهم للسنة ، وليعرف أنه هدي فيحترم ، ولهذا كان تقليد الهدي من السنن والشعائر المسنونة .
{ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ْ } أي : قاصدين له { يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ْ } أي : من قصد هذا البيت الحرام ، وقصده فضل الله بالتجارة والمكاسب المباحة ، أو قصده رضوان الله بحجه وعمرته والطواف به ، والصلاة ، وغيرها من أنواع العبادات ، فلا تتعرضوا له بسوء ، ولا تهينوه ، بل أكرموه ، وعظموا الوافدين الزائرين لبيت ربكم .
ودخل في هذا الأمرُ الأمر بتأمين الطرق الموصلة إلى بيت الله وجعل القاصدين له مطمئنين مستريحين ، غير خائفين على أنفسهم من القتل فما دونه ، ولا على أموالهم من المكس والنهب ونحو ذلك .
وهذه الآية الكريمة مخصوصة بقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ْ } فالمشرك لا يُمَكَّن من الدخول إلى الحرم .
والتخصيص في هذه الآية بالنهي عن التعرض لمن قصد البيت ابتغاء فضل الله أو رضوانه -يدل على أن من قصده ليلحد فيه بالمعاصي ، فإن من تمام احترام الحرم صد من هذه حاله عن الإفساد ببيت الله ، كما قال تعالى : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ْ }
ولما نهاهم عن الصيد في حال الإحرام قال : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ْ } أي : إذا حللتم من الإحرام بالحج والعمرة ، وخرجتم من الحرم حل لكم الاصطياد ، وزال ذلك التحريم . والأمر بعد التحريم يرد الأشياء إلى ما كانت عليه من قبل .
{ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ْ } أي : لا يحملنكم بغض قوم وعداوتهم واعتداؤهم عليكم ، حيث صدوكم عن المسجد ، على الاعتداء عليهم ، طلبا للاشتفاء منهم ، فإن العبد عليه أن يلتزم أمر الله ، ويسلك طريق العدل ، ولو جُنِي عليه أو ظلم واعتدي عليه ، فلا يحل له أن يكذب على من كذب عليه ، أو يخون من خانه .
{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ْ } أي : ليعن بعضكم بعضا على البر . وهو : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ، من الأعمال الظاهرة والباطنة ، من حقوق الله وحقوق الآدميين .
والتقوى في هذا الموضع : اسم جامع لترك كل ما يكرهه الله ورسوله ، من الأعمال الظاهرة والباطنة . وكلُّ خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها ، أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها ، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه ، وبمعاونة غيره من إخوانه المؤمنين عليها ، بكل قول يبعث عليها وينشط لها ، وبكل فعل كذلك .
{ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ ْ } وهو التجرؤ على المعاصي التي يأثم صاحبها ، ويحرج . { وَالْعُدْوَانِ ْ } وهو التعدي على الخَلْق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، فكل معصية وظلم يجب على العبد كف نفسه عنه ، ثم إعانة غيره على تركه .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ْ } على من عصاه وتجرأ على محارمه ، فاحذروا المحارم لئلا يحل بكم عقابه العاجل والآجل .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } خطاب للمؤمنين حقاً أن لا يتعدوا حدود الله في أمر من الأمور ، والشعائر جمع شعيرة أي قد أشعر الله أنها حُّدة وطاعته فهي بمعنى معالم الله{[12]} ، واختلفت عبارة المفسرين في المقصود من الشعائر الذي بسببه نزل هذا العموم في الشعائر فقال السدي { شعائر الله } حرم الله ، وقال ابن عباس { شعائر الله } مناسك الحج . وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون وينحرون ويعظمون مشاعر الحج فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فقال الله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله } وقال ابن عباس أيضاً { شعائر الله } ما حد تحريمه في الإحرام . وقال عطاء بن أبي رباح ، { شعائر الله } جميع ما أمر به أو نهى عنه ، وهذا هو القول الراجح الذي تقدم .
وقال ابن الكلبي كان عامة العرب لا يعدون الصفا والمروة من الشعائر وكانت قريش لا تقف بعرفات فنهوا بهذه الآية ، وقوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي كما قال النبي عليه السلام ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وإنما أضيف إلى مضر لأنها كانت تختص بتحريمه . وتزيل فيه السلاح ، وتنزع الأسنة من الرماح ، وتسميه : ُمنصل الأسنة وتسميه : الأصم من حيث كان لا يسمع فيه صوت سلاح ، وكانت العرب مجمعة على ذي القعدة وذي الحجة والمحرم وكانت تطول عليها الحرمة وتمتنع من الغارات ثلاثة أشهر فلذلك اتخذت النسيء وهو أن يحل لها ذلك المتكلم نعيم بن ثعلبة وغيره المحرم يحرم بدله صفراً فنهى الله عن ذلك بهذه الآية وبقوله : { إنما النسيء زيادة في الكفر }{[13]} وجعل المحرم أول شهور السنة من حيث كان الحج والموسم غاية العام وثمرته فبذلك يكمل ثم يستأنف عام آخر ولذلك والله أعلم دوّن به عمر بن الخطاب الدواوين فمعنى قوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } أي لا تحلوه بقتال ولا غارة ولا تبديل فإن تبديله استحلال لحرمته . .
قال القاضي أبو محمد : والأظهر عندي أن الشهر الحرام أريد به رجب ليشتد أمره لأنه إنما كان مختصاً بقريش ثم فشا في مضر ، ومما يدل على هذا قول عوف بن الأحوص :
وشهر بني أمية والهدايا . . . إذا حبست مضرجها الدماء{[14]}
قال أبو عبيدة أراد رجباً لأنه شهر كانت مشايخ قريش تعظمه فنسبه إلى بني أمية ، ذكر هذا الأخفش في المفضليات وقد قال الطبري المراد في هذه الآية رجب مضر . .
قال القاضي أبو محمد : فوجه هذا التخصيص هو كما قد ذكرت أن الله تعالى شدد أمر هذا الشهر إذ كانت العرب غير مجمعة عليه ، وقال عكرمة : المراد في هذه الآية ذو القعدة من حيث كان أولها ، وقولنا فيها «أول » تقريب وتجوز أن الشهور دائرة فالأول إنما يترتب بحسب نازلة أو قرينة ما مختصة بقوم .
وقوله تعالى : { ولا الهدي ولا القلائد } أما الهدي فلا خلاف أنه ما أهدي من النعم إلى بيت الله وقصدت به القربة فأمر الله أن لا يستحل ويغار عليه{[15]} ، واختلف الناس في { القلائد } فحكى الطبري عن ابن عباس أن { القلائد } هي { الهدي } المقلد وأن { الهدي } إنما يسمى هدياً ما لم يقلد فكأنه قال ولا «الهدي » الذي يقلد والمقلد منه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الذي قال الطبري تحامل على ألفاظ ابن عباس وليس يلزم من كلام ابن عباس أن { الهدي } إنما يقال لما لم يقلد وإنما يقتضي أن الله نهى عن استحلال { الهدي } جملة ثم ذكر المقلد منه تأكيداً ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد ، وقال جمهور الناس : { الهدي } عام في أنواع ما أهدي قربه و { القلائد } ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم ، قال قتادة : كان الرجل في الجاهلية إذا خرج يريد الحج تقلد من الَّسُمر قلادة فلم يعرض له أحد بسوء إذ كانت تلك علامة إحرامه وحجه وقال عطاء وغيره : بل كان الناس إذا خرجوا من الحرم في حوائج لهم تقلدوا من شجر الحرم ومن لحائه فيدل لك على أنهم من أهل الحرم أو من حجاجه فيأمنون بذلك فنهى الله تعالى عن استحلال من تحرم بشيء من هذه المعاني .
وقال مجاهد وعطاء : بل الآية نهي للمؤمنين عن أن يستحلوا أخذ القلائد من شجر الحرم كما كان أهل الجاهلية يفعلون ، وقاله الربيع بن أنس عن مطرف بن الشخير وغيره ، وقوله تعالى : { ولا آمين البيت الحرام } معناه ولا تحلوهم فتغيروا عليهم ونهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يعمدوا للكفار القاصدين { البيت الحرام } على جهة التعبد والقربة وكل ما في هذه الآية من نهي عن مشرك أو مراعاة حرمة له بقلادة أو أَم البيت ونحوه فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }{[16]} .
وروي أن هذه الآية نزلت بسبب الحطم بن هند البكري أخي بني ضبيعة بن ثعلبة{[17]} وذلك أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه : «يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان فجاء الحطم فخلف خيلة خارجة من المدينة ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما عرض رسول الله عليه السلام ودعاه إلى الله قال : أنظر ولعلي أسلم وأرى في أمرك غلظة ولي من أشاوره . فخرج فقال النبي عليه السلام لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر »{[18]} ، فمر بسرح من سرح{[19]} المدينة فساقه وانطلق به وهو يقول :
قد لفها الليل بسواق حطم . . . ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم باتوا نياماً وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم *** خدلج الساقين خفاق القدم{[20]}
ثم أقبل الحطم من عام قابل حاجاً وساق هدياً فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه . وخف إليه ناس من أصحاب النبي عليه السلام ، فنزلت هذه الآية ، قال ابن جريج : هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم ، ونزلت الآية بسبب الحطم فذكر نحوه ، وقال ابن زيد : نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون ، فقال المسلمون يا رسول الله ، إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم ، فنزل القرآن { ولا آميّن البيت الحرام }{[21]} .
قال القاضي أبو محمد : فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج فهو معكم ، وكل ما كان منها في الكفار فهو منسوخ ، وقرأ ابن مسعود وأصحابه «ولا آمي البيت » بالإضافة إلى البيت وقوله تعالى : { يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً } قال فيه جمهور المفسرين معناه يبتغون الفضل في الأرباح في التجارة ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم ، وقال قوم إنما الفضل والرضوان في الآية في معنى واحد وهو رضا الله وفضله بالرحمة والجزاء ، فمن العرب من كان يعتقد جزاء بعد الموت ، وأكثرهم إنما كانوا يرجون الجزاء والرضوان في الدنيا والكسب وكثرة الأولاد ويتقربون رجاء الزيادة في هذه المعاني وقرأ الأعمش «ورُضواناً » بضم الراء .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم لتنبسط النفوس ويتداخل الناس ويردون{[22]} الموسم فيسمعون القرآن ويدخل الإيمان في قلوبهم ، وتقوم عندهم الحجة كالذي كان ، وهذه الآية نزلت عام الفتح ونسخ الله تعالى ذلك كله بعد عام سنة تسع إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة براءة .
جاءت إباحة الصيد عقب التشدد في َحرم البشر حسنًة في فصاحة القول{[4419]} ، وقوله تعالى : { فاصطادوا } صيغة أمر ومعناه الإباحة بإجماع من الناس ، واختلف العلماء في صيغة ( أفعل ) إذا وردت ولم يقترن بها بيان واضح في أحد المحتملات ، فقال الفقهاء : هي على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك ، وقال المتكلمون هي على الوقف حتى تطلق القرينة ولن يعرى أمر من قرينة ، وقال قوم هي على الإباحة حتى يدل الدليل ، وقال قوم : هي على الندب حتى يدل الدليل ، وقول الفقهاء أحوطها وقول المتكلمين أقيسها وغير ذلك ضعيف . ولفظة أفعل قد تجيء للوجوب كقوله { أقيموا الصلاة } ، وقد تجيء للندب كقوله : { وافعلوا الخير } [ الحج : 77 ] وقد تجيء للإباحة كقوله { فاصطادوا } { وابتغوا من فضل الله } { فانتشروا في الأرض } [ الجمعة : 10 ] ، ويحتمل الابتغاء من فضل الله أن يكون ندباً ، وقد تجيء للوعيد كقوله { اعملوا ما شئتم } [ فصلت : 40 ] وقد تجيء للتعجيز كقوله { كونوا حجارة }{[4420]} .
وقرأ أبو واقد والجراح ونبيح والحسن بن عمران «فاصطادوا » بكسر الفاء وهي قراءة مشكلة ومن توجيهها أن يكون راعَى كسر ألف الوصل إذا بدأت فقلت : اصطادوا فكسر الفاء مراعاةً وتذكراً لكسرة ألف الوصل{[4421]} ، وقوله تعالى : { ولا يجرمنكم } معناه ولا يكسبنكم ، وجرم الرجل معناه : كسب ، ويتعدى إلى مفعولين كما يتعدى كسب ، وفي الحديث : وتكسب المعدوم ، قال أبو علي : وأجرم بالألف عرفه الكسب في الخطايا والذنوب ، وقال الكسائي :جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد أي كسب وقال قوم { يجرمنكم } معناه يحق لكم كما أن { لا جرم أن لهم النار }{[4422]} معناه حق لهم أن لهم النار وقال ابن عباس { يجرمنكم } معناه يحملنكم .
قال القاضي أبو محمد : وهذه كلها أقوال تتقارب بالمعنى فالتفسير الذي يخص اللفظة هو معنى الكسب ومنه قول الشاعر : [ أبو خراش الهذلي ] :
جريمةُ ناهض في رأس نيق . . . ترى لعظام ما جمعت صليبا{[4423]}
معناه كاسب قوت ناهض ، ويقال فلان جريمة قومه إذا كان الكاسب لهم ، وقرأ ابن مسعود وغيره «يُجرمنكم » بضم الياء والمعنى أيضاً لا يكسبنكم وأما قول الشاعر :
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة . . . جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا{[4424]}
فمعناه كسبت فزارة بعدها الغضب وقد فسر بغير هذا مما هو قريب منه وقوله تعالى : { شنآن قوم } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «شَنْآن » متحركة النون ، وقرأ ابن عامر «شنآن » ساكنة النون ، واختلف عن عاصم ونافع ، يقال شنئت الرجل شَنْأً بفتح الشين وشنآناً بفتح النون وشنآناً بسكون النون والفتح أكثر كل ذلك إذا أبغضته ، قال سيبويه : كل ما كان من المصادر على فعلان بفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن وإنما عدي شنئت من حيث كان أبغضت{[4425]} كما عدي الرفث ب «إلى » من حيث كان بمعنى الإفضاء .
قال القاضي أبو محمد : فأما من قرأ «شَنآن » بفتح النون فالأظهر فيه أنه مصدر كأنه قال لا يكسبنكم بغض قوم من أجل أن صدوكم عدواناً عليهم وظلماً لهم والمصادر على هذا الوزن كثيرة كالنزوان والغليان والطوفان والجريان وغيره ، ويحتمل «الشنآن » بفتح النون أن يكون وصفاً فيجيء المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدواناً ومما جاء على هذا الوزن صفة قولهم : حمار قطوان إذا لم يكن سهل السير وقولهم عدو وصمان أي ثقيل كعدو الشيخ ونحوه إلى غير هذا مما ليس في الكثرة كالمصادر ، ومنه ما أنشده أبو زيد :
وقبلك ما هاب الرجال ظلامتي . . . وفقأت عين الأشوس الأبيان{[4426]}
بفتح الباء وأما من قرأ «شنْآن » بسكون النون فيحتمل أن يكون مصدراً وقد جاء المصدر على هذا الوزن في قولهم لويته دينه لياناً ، وقول الأحوص :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وإن لام فيه ذو الشنان وفندا{[4427]}
إنما هو تخفيف من «شنآن » الذي هو مصدر بسكون النون لأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الساكن هذا هو التخفيف القياسي قال أبو علي : من زعم أن فعلان إذا أسكنت عينه لم يك مصدراً فقد أخطأ ، وتحتمل القراءة بسكون النون أن يكون وصفاً فقد حكي : رجل شنآن وامرأة شنآنة وقياس هذا أنه من فعل غير متعد وقد يشتق من لفظ واحد فعل متعد وفعل واقف ، فيكون المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدواناً . وإذا قدرت اللفظة مصدراً فهو مصدر مضاف إلى المفعول ، ومما جاء وصفاً على فعلان ما حكاه سيبويه من قولهم خمصان ومن ذلك قولهم ندمان .
قال القاضي أبو محمد : ومنه رحمان وهذه الآية نزلت عام الفتح حين أراد المؤمنون أن يستطيلوا على قريش وألفافها من القبائل المتظاهرين على صد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية وذلك سنة ست من الهجرة فحصلت بذلك بغضة في قلوب المؤمنين وحسيكة{[4428]} للكفار فقيل للمؤمنين عام الفتح وهو سنة ثمان لا يحملنكم ذلك البغض أو أولئك البغضاء من أجل أن صدوكم على أن تعتدوا عليهم إذ لله فيهم إرادة خير ، وفي علمه أن منهم من يؤمن كالذي كان . وحكى المهدوي عن قوم أنها نزلت عام الحديبية لأنه لما ُصد المسلمون عن البيت مر بهم قوم من أهل نجد يريدون البيت فقالوا نصد هؤلاء كما ُصددنا فنزلت الآية ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «إن صدوكم » بكسر الهمزة وقرأ الباقون «أن صدوكم » بفتح الهمزة إشارة إلى الصد الذي وقع وهذه قراءة الجمهور وهي أمكن في المعنى وكسر الهمزة معناه أن وقع مثل ذلك في المستقبل .
وقرأ ابن مسعود «أن يصدوكم » وهذه تؤيد قراءة أبي عمرو وابن كثير .
ثم أمر الله تعالى الجميع بالتعاون { على البر والتقوى } قال قوم : هما لفظان بمعنى وكرر باختلاف اللفظ تأكيداً ومبالغة إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا تسامح ما والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز ثم نهى تعالى عن التعاون على الإثم وهو الحكم اللاحق عن الجرائم وعن العدوان وهو ظلم الناس ، ثم أمر بالتقوى وتوعد توعداً مجملاً بشدة العقاب ، وروي أن هذه الآية نزلت نهياً عن الطلب بدخول الجاهلية إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك ، قاله مجاهد . وقد قتل بذلك حليف لأبي سفيان من هذيل . .