{ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا }
وهذا من فضل الله وإحسانه على عباده المؤمنين وعدهم أنهم إذا اجتنبوا كبائر المنهيات غفر لهم جميع الذنوب والسيئات وأدخلهم مدخلا كريما كثير الخير وهو الجنة المشتملة على ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
ويدخل في اجتناب الكبائر فعل الفرائض التي يكون تاركها مرتكبا كبيرة ، كالصلوات الخمس ، والجمعة ، وصوم رمضان ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر " .
وأحسن ما حُدت به الكبائر ، أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا ، أو وعيد في الآخرة ، أو نفي إيمان ، أو ترتيب لعنة ، أو غضب عليه .
{ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } كبائر الذنوب التي نهاكم الله ورسوله عنها ، وقرئ كبير على إرادة الجنس . { نكفر عنكم سيئاتكم } نغفر لكم صغائركم ونمحها عنكم .
واختلف في الكبائر ، والأقرب أن الكبير كل ذنب رتب الشارع عليه حدا أو صرح بالوعيد فيه . وقيل ما علم حرمته بقاطع . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " أنها سبع : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والربا ، والفرار من الزحف ، وعقوق الوالدين " . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ( الكبائر إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ) . وقيل أراد ههنا أنواع الشرك لقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقيل صغر الذنوب وكبرها بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها ، فأكبر الكبائر الشرك وأصغر الصغائر حديث النفس وبينهما وسائط يصدق عليها الأمران ، فمن عن له أمران منها ودعت نفسه إليها بحيث لا يتمالك فكفها عن أكبرها كفر عنه ما ارتكبه لما استحق من الثواب على اجتناب الأكبر . ولعل هذا مما يتفاوت باعتبار الأشخاص والأحوال ، ألا ترى أنه تعالى عاتب نبيه عليه الصلاة والسلام في كثير من خطواته التي لم تعد على غيره خطيئة فضلا عن أن يؤاخذه عليها . { وندخلكم مدخلا كريما } الجنة وما وعد من الثواب ، أو إدخالا مع كرامة . وقرأ نافع هنا وفي الحج بفتح الميم وهو أيضا يحتمل المكان والمصدر .
{ تجتنبوا } معناه : تدعون جانباً ، وقرأ ابن مسعود وابن جبير «إن تجتنبوا كبير » وقرأ المفضل عن عاصم «يكفّر » و «يدخلكم » على علامة الغائب ، وقرأ الباقون بالنون والقراءتان حسنتان ، وقرأ ابن عباس «عنكم من سيئاتكم » بزيادة «من » وقرأ السبعة سوى نافع «مُدخلاً » بضم الميم ، وقرأ نافع : «مدخلاً » بالفتح وقد رواه أيضاً أبو بكر عن عاصم ها هنا وفي الحج ، ولم يختلف في سورة بني إسرائيل في { مدخل ومخرج صدق }{[3978]} أنهما بضم الميم ، قال أبو علي : «مَدخلاً » بالفتح يحتمل أن يكون مصدراً ، والعامل فيه فعل يدل عليه الظاهر ، التقدير : ويدخلكم فتدخلون مدخلاً ، ويحتمل أن يكون مكاناً ، فيعمل فيه الفعل الظاهر ، وكذلك يحتمل «مُدخلاً » بضم الميم للوجهين ، وإذا لم يعمل الفعل الظاهر فمعموله الثاني محذوف ، تقديره : ويدخلكم الجنة ، واختلف أهل العلم في «الكبائر » فقال علي بن أبي طالب : ( هي سبع ، الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا والفرار يوم الزحف والتعرب بعد الهجرة ){[3979]} . وقال عبيد بن عمير : الكبائر سبع في كل واحدة منها آية في كتاب الله عز وجل .
قال القاضي أبو محمد : وذكر كقول علي ، وجعل الآية في التعرب قوله تعالى : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى }{[3980]} ، ووقع في البخاري في كتاب الحدود في باب رمي المحصنات «اتقوا السبع الموبقات ، الإشراك بالله ، والسحر ، وقتل النفس ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات »{[3981]} .
وقال عبد الله بن عمر : هي تسع «الإشراك بالله ، والقتل ، والفرار ، والقذف ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وإلحاد في المسجد الحرام ، والذي يستسحر ، وبكاء الوالدين من العقوق »{[3982]} قال عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي : هي في جميع ما نهى عنه من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها وهي { إن تجتنبوا } وقال عبد الله بن مسعود : هي أربع أيضاً الإشراك بالله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ، وروي أيضاً عن ابن مسعود : هي ثلاث : القنوط ، واليأس ، والأمن المتقدمة ، وقال ابن عباس أيضاً وغيره : «الكبائر » كل ما ورد عليه وعيد بنار أو عذاب أو لعنة أو ما أشبه ذلك{[3983]} ، وقالت فرقة من الأصوليين : هي في هذا الموضع أنواع الشرك التي لا تصلح معها الأعمال ، وقال رجل لابن عباس : أخبرني عن الكبائر السبع ، فقال : هي إلى السبعين أقرب ، وقال ابن عباس : كل ما نهى الله عنه فهو كبير{[3984]} ، فهنا يدخل الزنا ، وشرب الخمر ، والزور ، والغيبة ، وغير ذلك مما قد نص عليه في أحاديث لم يقصد الحصر للكبائر بها ، بل ذكر بعضها مثالاً ، وعلى هذا القول أئمة الكلام : القاضي ، وأبو المعالي ، وغيرهما : قالوا : وإنما قيل : صغيرة بالإضافة إلى أكبر منها وهي في نفسها كبيرة من حيث المعصي بالجميع واحد ، وهذه الآية يتعاضد معها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الوضوء من مسلم ، عن عثمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
«ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ، ما لم يأت كبيرة ، وذلك الدهر كله »{[3985]} .
واختلف العلماء في هذه المسألة فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث يرون أن الرجل إذا اجتنب الكبائر وامتثل الفرائض ، كفرت صغائره كالنظر وشبهه قطعاً بظاهر هذه الآية وظاهر الحديث ، وأما الأصوليون فقالوا : لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ، وإنما يحمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء ، والمشيئة ثابتة ، ودل على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض بتكفير صغائره قطعاً لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بأنه لا تباعة فيه ، وذلك نقض لعرى الشريعة ، ومحمل الكبائر عند الأصوليين في هذه الآية أجناس الكفر ، والآية التي قيدت الحكم فترد إليها هذه المطلقات كلها : قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }{[3986]} و { كريماً } يقتضي كرم الفضيلة ونفي العيوب ، كما تقول : ثوب كريم ، وكريم المحتد ، وهذه آية رجاء ، روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : خمس آيات من سورة النساء هي أحب إليّ من الدنيا جميعاً ، قوله : { إن تجتنبوا } الآية ، وقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [ النساء : 48 و 116 ] وقوله : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم } [ النساء : 110 ] وقوله أيضاً : { يضاعفها } [ النساء : 40 ] وقوله : { والذين آمنوا بالله ورسله } الآية{[3987]} .