تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الممتحنة [ وهي ] مدنية .

{ 1-9 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .

ذكر كثير من المفسرين ، [ رحمهم الله ] ، أن سبب نزول هذه الآيات الكريمات في قصة حاطب بن أبي بلتعة ، حين غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح ، فكتب حاطب إلى قريش{[1049]}  يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، ليتخذ بذلك يدا عندهم لا [ شكا و ] نفاقا ، وأرسله مع امرأة ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشأنه ، فأرسل إلى المرأة قبل وصولها وأخذ منها الكتاب .

وعاتب حاطبا ، فاعتذر رضي الله عنه بعذر قبله النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الآيات فيها النهي الشديد عن موالاة الكفار من المشركين وغيرهم ، وإلقاء المودة إليهم ، وأن ذلك مناف للإيمان ، ومخالف لملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، ومناقض للعقل الذي يوجب الحذر كل الحذر من العدو ، الذي لا يبقي من مجهوده في العداوة شيئا ، وينتهز الفرصة في إيصال الضرر إلى عدوه ، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } اعملوا بمقتضى إيمانكم ، من ولاية من قام بالإيمان ، ومعاداة من عاداه ، فإنه عدو لله ، وعدو للمؤمنين .

فلا تتخذوا عدو الله { وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } أي : تسارعون في مودتهم وفي السعي بأسبابها ، فإن المودة إذا حصلت ، تبعتها النصرة والموالاة ، فخرج العبد من الإيمان ، وصار من جملة أهل الكفران ، وانفصل عن أهل الإيمان .

وهذا المتخذ للكافر وليا ، عادم المروءة أيضا ، فإنه كيف يوالي أعدى أعدائه الذي لا يريد له إلا الشر ، ويخالف ربه ووليه الذي يريد به الخير ، ويأمره به ، ويحثه عليه ؟ ! ومما يدعو المؤمن أيضا إلى معاداة الكفار ، أنهم قد كفروا بما جاء المؤمنين من الحق ، ولا أعظم من هذه المخالفة والمشاقة ، فإنهم قد كفروا بأصل دينكم ، وزعموا أنكم ضلال على غير هدى .

والحال أنهم كفروا بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية ، ومن رد الحق فمحال أن يوجد له دليل أو حجة تدل على صحة قوله ، بل مجرد العلم بالحق{[1050]}  يدل على بطلان قول من رده وفساده .

ومن عداوتهم البليغة أنهم { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } أيها المؤمنون من دياركم ، ويشردونكم من أوطانكم ، ولا ذنب لكم في ذلك عندهم ، إلا أنكم تؤمنون بالله ربكم الذي يتعين على الخلق كلهم القيام بعبوديته ، لأنه رباهم ، وأنعم عليهم ، بالنعم الظاهرة والباطنة ، وهو الله تعالى .

فلما أعرضوا عن هذا الأمر ، الذي هو أوجب الواجبات ، وقمتم به ، عادوكم ، وأخرجوكم - من أجله - من دياركم ، فأي دين ، وأي مروءة وعقل ، يبقى مع العبد إذا والى الكفار الذين هذا وصفهم في كل زمان أو مكان ؟ " ولا يمنعهم منه إلا خوف ، أو مانع قوي .

{ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي } أي : إن كان خروجكم مقصودكم به الجهاد في سبيل الله ، لإعلاء كلمة الله ، وابتغاء مرضاة الله{[1051]}  فاعملوا بمقتضى هذا ، من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه ، فإن هذا هو الجهاد في سبيله{[1052]}  وهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى ربهم ويبتغون به رضاه .

{ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ } أي : كيف تسرون المودة للكافرين وتخفونها ، مع علمكم أن الله عالم بما تخفون وما تعلنون ؟ ! ، فهو وإن خفي على المؤمنين ، فلا يخفى على الله تعالى ، وسيجازي العباد بما يعلمه منهم من الخير والشر ، { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ } أي : موالاة الكافرين بعد ما حذركم الله منها { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } لأنه سلك مسلكا مخالفا للشرع وللعقل والمروءة الإنسانية .


[1049]:- في ب: إلى المشركين من أهل مكة.
[1050]:- كذا في ب، وفي أ: مجرد رد الحق.
[1051]:- في ب: وابتغاء رضاه.
[1052]:- في ب: هذا من أعظم الجهاد في سبيله.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَٰدٗا فِي سَبِيلِي وَٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِيۚ تُسِرُّونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَآ أَخۡفَيۡتُمۡ وَمَآ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن يَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الممتحنة مدنية وآيها ثلاث عشرة آية .

بسم الله الرحمن الرحيم :{ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، فإنه لما علم أن رسول صلى الله عليه وسلم يغزو أهل مكة كتب إليهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم وأرسل كتابه مع سارة مولاة بني المطلب ، فنزل جبريل عليه السلام فأعلم رسول الله ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وعمارا وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها وخلوها ، فإن أبت فاضربوا عنقها فأدركوها ثمة فجحدت فهموا بالرجوع ، فسل علي رضي الله تعالى عنه السيف فأخرجته من عقاصها ، فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا وقال ما حملك عليه فقال يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولكني كنت امرأ ملصقا في قريش وليس لي فيهم من يحمي أهلي ، فأردت أن آخذ عندهم يدا وقد علمت أن كتابي لا يغني عنهم شيئا فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذره تلقون إليهم بالمودة تفضون إليهم المودة بالمكاتبة والباء مزيدة ، أو إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة ، والجملة حال من فاعل لا تتخذوا أو صفة لأولياء جرت على غير من هي له ولا حاجة فيها إلى إبراز الضمير لأنه مشروط في الإسم دون الفعل { وقد كفروا بما جاءكم من الحق }حال من فاعل أحد الفعلين ، { يخرجون الرسول وإياكم }أي من مكة وهو حال من كفروا أو استئناف لبيانه ، { أن تؤمنوا بالله ربكم }بأن تؤمنوا به وفيه تغليب المخاطب والالتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على ما يوجب الإيمان ، { إن كنتم خرجتم }عن أوطانكم { جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي } علة للخروج وعمدة للتعليق وجواب الشرط محذوف دل عليه لا تتخذوا ، { تسرون إليهم بالمودة }بدل من{ تلقون } أو استئناف معناه أي طائل لكم في إسرار المودة أو الإخبار بسبب المودة ، { وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم }أي منكم وقيل أعلم مضارع والباء مزيدة وما موصولة أو مصدرية ، { ومن يفعله منكم } أي من يفعل الاتخاذ { فقد ضل سواء السبيل } أخطأه .