ولهذا قال : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } أي : عاليًا به ، مستعليًا بخلقك الذي من الله عليك به ، وحاصل خلقه العظيم ، ما فسرته به أم المؤمنين ، [ عائشة -رضي الله عنها- ] لمن سألها عنه ، فقالت : " كان خلقه القرآن " ، وذلك نحو قوله تعالى له : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } [ الآية ] ، { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمْؤُمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق ، [ والآيات ] الحاثات على الخلق العظيم{[1188]} فكان له منها أكملها وأجلها ، وهو في كل خصلة منها ، في الذروة العليا ، فكان صلى الله عليه وسلم سهلًا لينا ، قريبًا من الناس ، مجيبًا لدعوة من دعاه ، قاضيًا لحاجة من استقضاه ، جابرًا لقلب من سأله ، لا يحرمه ولا يرده خائبًا ، وإذا أراد أصحابه منه أمرًا وافقهم عليه ، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور ، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم ، بل يشاورهم ويؤامرهم ، وكان يقبل من محسنهم ، ويعفو عن مسيئهم ، ولم يكن يعاشر جليسًا له إلا أتمَّ عشرةٍ وأحسنَها ، فكان لا يعبس في وجهه ، ولا يغلظ عليه في مقاله ، ولا يطوي عنه بشره ، ولا يمسك عليه فلتات لسانه ، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة ، بل يحسن إلى عشيره غاية الإحسان ، ويحتمله غاية الاحتمال صلى الله عليه وسلم .
فلما أنزله الله في أعلى المنازل من جميع الوجوه ، وكان أعداؤه ينسبون إليه أنه مجنون مفتون .
{ وإنك لعلى خلق عظيم } هذا ثناء على خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت عائشة رضي الله عنها : " كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن " تعني التأدب بآدابه وامتثال أوامره . وعبر ابن عباس عن الخلق بالدين والشرع ، وذلك رأس الخلق ، وتفصيل ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع كل فضيلة ، وحاز كل خصلة جميلة ، فمن ذلك شرف النسب ، ووفور العقل ، وصحة الفهم ، وكثرة العلم ، وشدة الحياء ، وكثرة العبادة ، والسخاء والصدق والشجاعة والصبر والشكر ، والمروءة والتودد والاقتصاد والزهد ، والتواضع والشفقة والعدل والعفو وكظم الغيظ ، وصلة الرحم وحسن المعاشرة ، وحسن التدبير وفصاحة اللسان وقوة الحواس وحسن الصورة ، وغير ذلك حسبما ورد في أخباره وسيره صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ، وقال الجنيد سمى خلقه عظيما ، لأنه لم تكن له همة سوى الله عز وجل .
قوله : { وإنك لعلى خلق عظيم } وهذه شهادة كريمة عليا من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه ذو خلق عظيم . لقد كان ( عليه الصلاة والسلام ) تتجلى فيه كل المحاسن من الآداب وكريم الصفات والخصال ، من حياء ومروءة وشجاعة وسخاء وتضحية ، وإيثار وبر ورحمة ولين ونظافة ، فضلا عما يرسخ في أعماقه من طهارة السريرة وسلامة النية ، فكان أخشع الناس قلبا وأصدقهم طوية ، إلى غير ذلك من عظيم الخلال مما لا يتسع لذكره المجال .
وفي حقيقة خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، روى الإمام أحمد عن السيدة عائشة أنها سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : " كان خلقه القرآن " .
وثبت في الصحيحين عن أنس قال : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط . ولا قال لشيء فعلته لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته . وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا ، ولا مسست خزّا ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شممت مسكا ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت : ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادما له قط ولا امرأة ، ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا خيّر بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثما ، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم لله عز وجل .
وروى الإمام أحمد أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.