{ فيه آيات بينات } أي : أدلة واضحات ، وبراهين قاطعات على أنواع من العلوم الإلهية والمطالب العالية ، كالأدلة على توحيده ورحمته وحكمته وعظمته وجلاله وكمال علمه وسعة جوده ، وما مَنَّ به على أوليائه وأنبيائه ، فمن الآيات { مقام إبراهيم } يحتمل أن المراد به المقام المعروف وهو الحجر الذي كان يقوم عليه الخليل لبنيان الكعبة لما ارتفع البنيان ، وكان ملصقا في جدار الكعبة ، فلما كان عمر رضي الله عنه وضعه في مكانه الموجود فيه الآن ، والآية فيه قيل أثر قدمي إبراهيم ، قد أثرت في الصخرة وبقي ذلك الأثر إلى أوائل هذه الأمة ، وهذا من خوارق العادات ، وقيل إن الآية فيه ما أودعه الله في القلوب من تعظيمه وتكريمه وتشريفه واحترامه ، ويحتمل أن المراد بمقام إبراهيم أنه مفرد مضاف يراد به مقاماته في مواضع المناسك كلها ، فيكون على هذا جميع أجزاء الحج ومفرداته آيات بينات ، كالطواف والسعي ومواضعها ، والوقوف بعرفة ومزدلفة ، والرمي ، وسائر الشعائر ، والآية في ذلك ما جعله الله في القلوب من تعظيمها واحترامها وبذل نفائس النفوس والأموال في الوصول إليها وتحمل كل مشقة لأجلها ، وما في ضمنها من الأسرار البديعة والمعاني الرفيعة ، وما في أفعالها من الحكم والمصالح التي يعجز الخلق عن إحصاء بعضها ، ومن الآيات البينات فيها أن من دخله كان آمنا شرعا وقدرا ، فالشرع قد أمر الله رسوله إبراهيم ثم رسوله محمد باحترامه وتأمين من دخله ، وأن لا يهاج ، حتى إن التحريم في ذلك شمل صيودها وأشجارها ونباتها ، وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء أن من جنى جناية خارج الحرم ثم لجأ إليه أنه يأمن ولا يقام عليه الحد حتى يخرج منه ، وأما تأمينها قدرا فلأن الله تعالى بقضائه وقدره وضع في النفوس حتى نفوس المشركين به الكافرين بربهم احترامه ، حتى إن الواحد منهم مع شدة حميتهم ونعرتهم وعدم احتمالهم للضيم يجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم فلا يهيجه ، ومن جعله حرما أن كل من أراده بسوء فلا بد أن يعاقبه عقوبة عاجلة ، كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم ، وقد رأيت لابن القيم هاهنا كلاما حسنا أحببت إيراده لشدة الحاجة إليه قال فائدة : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } " حج البيت " مبتدأ وخبره في أحد المجرورين قبله ، والذي يقتضيه المعنى أن يكون في قوله : " على الناس " لأنه وجوب ، والوجوب يقتضي " على " ويجوز أن يكون في قوله : " ولله " لأنه متضمن الوجوب والاستحقاق ، ويرجح هذا التقدير أن الخبر محط الفائدة وموضعها ، وتقديمه في هذا الباب في نية التأخير ، فكان الأحسن أن يكون " ولله على الناس " . ويرجح الوجه الأول بأن يقال قوله : " حج البيت على الناس " أكثر استعمالا في باب الوجوب من أن يقال : " حج البيت لله " أي : حق واجب لله ، فتأمله . وعلى هذا ففي تقديم المجرور الأول وليس بخبر فائدتان : إحداهما : أنه اسم للموجب للحج ، فكان أحق بالتقديم من ذكر الوجوب ، فتضمنت الآية ثلاثة أمور مرتبة بحسب الوقائع : أحدها : الموجب لهذا الفرض فبدأ بذكره ، والثاني : مؤدي الواجب وهو المفترض عليه وهم الناس ، والثالث : النسبة ، والحق المتعلق به إيجابا وبهم وجوبا وأداء ، وهو الحج .
والفائدة الثانية : أن الاسم المجرور من حيث كان اسما لله سبحانه ، وجب الاهتمام بتقديمه تعظيما لحرمة هذا الواجب الذي أوجبه ، وتخويفا من تضييعه ، إذ ليس ما أوجبه الله سبحانه بمثابة ما يوجبه غيره .
وأما قوله : " مَنْ " فهي بدل ، وقد استهوى طائفة من الناس القول بأنها فاعل بالمصدر ، كأنه قال : أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلا ، وهذا القول يضعف من وجوه ، منها : أن الحج فرض عين ، ولو كان معنى الآية ما ذكره لأفهم فرض الكفاية ، لأنه إذا حج المستطيعون برئت ذمم غيرهم ، لأن المعنى يؤل إلى : ولله على الناس حج البيت مستطيعهم ، فإذا أدى المستطيعون الواجب لم يبق واجبا على غير المستطيعين ، وليس الأمر كذلك ، بل الحج فرض عين على كل أحد ، حج المستطيعون أو قعدوا ، ولكن الله سبحانه عذر غير المستطيع بعجزه عن أداء الواجب ، فلا يؤاخذه به ولا يطالبه بأدائه ، فإذا حج سقط الفرض عن نفسه ، وليس حج المستطيعين بمسقط الفرض عن العاجزين ، وإذا أردت زيادة إيضاح ، فإذا قلت : واجب على أهل هذه الناحية أن يجاهد منهم الطائفة المستطيعون للجهاد ، فإذا جاهدت تلك الطائفة انقطع تعلق الوجوب في غيرهم ، وإذا قلت واجب على الناس كلهم أن يجاهد منهم المستطيع ، كان الوجوب متعلقا بالجميع وعذر العاجز بعجزه ، ففي نظم الآية على هذا الوجه دون أن يقال : ولله حج البيت على المستطيعين ، هذه النكتة البديعة فتأملها .
الوجه الثاني : أن إضافة المصدر إلى الفاعل إذا وجد أولى من إضافته إلى المفعول ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل منقول ، فلو كان من هو الفاعل لأضيف المصدر إليه فكان يقال : " ولله على الناس حج مَنْ استطاع " وحمله على باب " يعجبني ضرب زيد عمرا " وفيما يفصل فيه بين المصدر وفاعله المضاف إليه بالمفعول والظرف حمل على المكتوب المرجوح ، وهي قراءة ابن عامر ( قتل أولادهم شركائهم ) ، فلا يصار إليه . وإذا ثبت أن " من " بدل بعض من كل وجب أن يكون في الكلام ضمير يعود إلى " الناس " كأنه قيل : من استطاع منهم ، وحذف هذا الضمير في أكثر الكلام لا يحسن ، وحسنه هاهنا أمور منها : أن " من " واقعة على من لا يعقل ، كالاسم المبدل منه فارتبطت به ، ومنها : أنها موصولة بما هو أخص من الاسم الأول ، ولو كانت الصلة أعم لقبح حذف الضمير العائد ، ومثال ذلك إذا قلت : رأيت إخوتك من ذهب إلى السوق منهم ، كان قبيحا ، لأن الذاهب إلى السوق أعم من الإخوة ، وكذلك لو قلت : البس الثياب ما حسن وجمل ، يريد منها ، ولم يذكر الضمير كان أبعد في الجواز ، لأن لفظ ما حسن أعم من الثياب .
وباب البعض من الكل أن يكون أخص من المبدل منه ، فإذا كان أعم وأضفته إلى ضمير أو قيدته بضمير يعود إلى الأول ارتفع العموم وبقي الخصوص ، ومما حسن حذف المضاف في هذه أيضا مع ما تقدم طول الكلام بالصلة والموصول .
وأما المجرور من قوله " لله " فيحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون في موضع من سبيل ، كأنه نعت نكرة قدم عليها ، لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لسبيل ، والثاني : أن يكون متعلقا بسبيل ، فإن قلت : كيف يتعلق به وليس فيه معنى الفعل ؟ قيل : السبيل لما كان عبارة هاهنا عن الموصل إلى البيت من قوت وزاد ونحوهما ، كان فيه رائحة الفعل ، ولم يقصد به السبيل الذي هو الطريق ، فصلح تعلق المجرور به ، واقتضى حسن النظم وإعجاز اللفظ تقديم المجرور وإن كان موضعه التأخير ، لأنه ضمير يعود على البيت ، والبيت هو المقصود به الاعتناء ، وهم يقدمون في كلامهم ما هم به أهم وببيانه أعني هذا تقرير السهيلي ، وهذا بعيد جدا بل الصواب في متعلق الجار والمجرور وجه آخر أحسن من هذين ، ولا يليق بالآية سواه ، وهو الوجوب المفهوم من قوله " على الناس " أي : يجب لله على الناس الحج ، فهو حق واجب لله ، وأما تعليقه بالسبيل وجعله حالا منها ، ففي غاية البعد فتأمله ، ولا يكاد يخطر بالبال من الآية ، وهذا كما تقول : لله عليك الصلاة والزكاة والصيام .
ومن فوائد الآية وأسرارها أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويحرمه يذكره بلفظ الأمر والنهي ، وهو الأكثر ، وبلفظ الإيجاب والكتابة والتحريم نحو { كتب عليكم الصيام } { حرمت عليكم الميتة } { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } وفي الحج أتى بهذا اللفظ الدال على تأكد الوجوب من عشرة أوجه ، أحدها أنه قدم اسمه تعالى وأدخل عليه لام الاستحقاق والاختصاص ثم ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخلة عليها حرف على أبدل منه أهل الاستطاعة ، ثم نكر السبيل في سياق الشرط إيذانا بأنه يجب الحج على أي : سبيل تيسرت ، من قوت أو مال ، فعلق الوجوب بحصول ما يسمى سبيلا ، ثم أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر فقال { ومن كفر } أي : لعدم التزامه هذا الواجب وتركه ثم عظم الشأن وأكد الوعيد بإخباره ما يستغنى به عنه ، والله تعالى هو الغني الحميد ، ولا حاجة به إلى حج أحد ، وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من الإعلام بمقته له وسخطه عليه وإعراضه بوجهه عنه ما هو أعظم التهديد وأبلغه ، ثم أكد ذلك بذكر اسم " العالمين " عموما ، ولم يقل : فإن الله غني عنه ، لأنه إذا كان غنيا عن العالمين كلهم فله الغنى الكامل التام من كل وجه بكل اعتبار ، فكان أدل لعظم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه ، ثم أكد هذا المعنى بأداة " إن " الدالة على التأكيد ، فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكد هذا الفرض العظيم .
وتأمل سر البدل في الآية المقتضي لذكر الإسناد مرتين ، مرة بإسناده إلى عموم الناس ، ومرة بإسناده إلى خصوص المستطيعين ، وهذا من فوائد البدل تقوية المعنى وتأكيده بتكرر الإسناد ولهذا كان في نية تكرار العامل وإعادته .
ثم تأمل ما في الآية من الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال ، وكيف تضمن ذلك إيراد الكلام في صورتين وخلتين ، اعتناء به وتأكيد لشأنه ، ثم تأمل كيف افتتح هذا الإيجاب بذكر محاسن البيت وعظم شأنه بما تدعوا النفوس إلى قصده وحجه وان لم يطلب ذلك منها ، فقال : { إن أول بيت } إلخ ، فوصفه بخمس صفات : أحدها كونه أسبق بيوت العالم وضع في الأرض ، الثاني : أنه مبارك ، والبركة كثرة الخير ودوامه ، وليس في بيوت العالم أبرك منه ولا أكثر خيرا ولا أدوم ولا أنفع للخلائق ، الثالث : أنه هدى ، ووصفه بالمصدر نفسه مبالغة ، حتى كأنه نفس الهدى ، الرابع ما تضمن من الآيات البينات التي تزيد على أربعين آية ، الخامس : الأمن الحاصل لداخله ، وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده ما يبعث النفوس على حجه وإن شطت بالزائرين الديار وتناءت بهم الأقطار ، ثم أتبع ذلك بصريح الوجوب المؤكد بتلك التأكيدات ، وهذا يدل على الاعتناء منه سبحانه لهذا البيت العظيم ، والتنويه بذكره ، والتعظيم لشأنه ، والرفعة من قدره ، ولو لم يكن له شرف إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله { وطهر بيتي } لكفى بهذه الإضافة فضلا وشرفا ، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه ، وسلبت نفوسهم حباله وشوقا إلى رؤيته ، فهذه المثابة للمحبين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطرا أبدا ، كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حبا وإليه اشتياقا ، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم ، كما قيل :
أطوف به والنفس بعد مشوقة *** إليه وهل بعد الطواف تداني
وألثم منه الركن أطلب برد ما *** بقلبي من شوق ومن هيمان
فوالله ما ازداد إلا صبابة *** ولا القلب إلا كثرة الخفقان
فيا جنة المأوى ويا غاية المنى *** ويا منيتي من دون كل أمان
أبت غلبات الشوق إلا تقربا *** إليك فما لي بالبعاد يدان
وما كان صدى عنك صد ملالة *** ولي شاهد من مقلتي ولسان
دعوت اصطباري عنك بعدك والبكا *** فلبى البكا والصبر عنك عصاني
وقد زعموا أن المحب إذا نأى *** سيبلى هواه بعد طول زمان
ولو كان هذا الزعم حقا لكان ذا *** دواء الهوى في الناس كل زمان
بلى إنه يبلى والهوى على *** حاله لم يبله الملوان
وهذا محب قاده الشوق والهوى *** بغير زمام قائد وعنان
وقوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } أي : دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم ، وأن الله تعالى عَظَّمه وشرفه .
ثم قال تعالى : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } يعني : الذي لَمَّا ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران ، حيث كان يقف عليه ويناوله ولده إسماعيل ، وقد كان ملتصقا{[5355]} بجدار البيت ، حتى أخّره عُمَر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، في إمارته إلى ناحية الشرق{[5356]} بحيث يتمكن الطُّوَّاف ، ولا يُشَوِّشون على المصلين عنده بعد الطواف ؛ لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] وقد قدمنا الأحاديث في ذلك ، فأغْنَى عن إعادته هاهنا ، ولله الحمد والمنة .
وقال العَوْفي عن ابن عباس في قوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } أي : فمنهُنَّ{[5357]} مقام إبراهيم والمَشْعَر .
وقال مجاهد : أثرُ قدميه في المقام آية بينة . وكذا روي عن عُمر بن عبد العزيز ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، ومُقَاتِل بن حَيّان ، وغيرهم .
ومَوْطئ إبراهيم في الصخر رَطْبةٌ *** على قدميه حافيًا غير ناعلِ
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد وعَمْرو الأوْدِي قالا حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : { مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ } قال : الحَرَم كله مقام إبراهيم . ولفظ عمرو : الحَجَر كله مقام إبراهيم .
وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : الحج مقام إبراهيم . هكذا رأيت في النسخة ، ولعله الحَجَر كله مقام إبراهيم ، وقد صرح بذلك مجاهد .
وقوله : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } يعني : حَرَمُ مكة إذا دخله الخائف يأمنُ من كل سوء ، وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية ، كما قال الحسن البصري وغيره : كان الرجل يَقْتُل فيَضَع في عُنُقِه صوفَة ويدخل{[5358]} الحرم فيلقاه ابن المقتول فلا يُهَيِّجْهُ حتى يخرج .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو يحيى التَّيْمِيّ ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } قال : من عاذ بالبيت أعاذه البيت ، ولكن لا يؤوى ولا يُطْعَم ولا يُسقى ، فإذا خرج أُخذ بذنبه .
وقال الله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] وقال تعالى : { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3 ، 4 ] وحتى إنه من جملة تحريمها حُرْمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره ، وحُرْمة قطع أشجارها وقَلْع ثمارها حَشيشها ، كما ثبتت الأحاديث والآثار{[5359]} في ذلك عن جماعة من الصحابة مرفوعا وموقوفًا .
ففي الصحيحين ، واللفظ لمسلم ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة : " لا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ ونية ، وإذَا استَنْفَرْتُمْ فَانْفِرُوا " ، وقال يوم الفتح فتح مكة : " إنَّ هَذَا الْبَلَدَ{[5360]} حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرْضَ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحرمَةِ الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يُعْضَد شَوْكُهُ ، ولا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ، ولا يَلْتَقطْ لُقَطتَه إلا من عَرَّفها ، ولا يُخْتَلى خَلاها{[5361]} فقال العباس : يا رسول الله ، إلا الإذْخَرَ ، فإنه لقَيْنهم ولبُيوتهم ، فقال : " إلا الإذْخَر " {[5362]} .
ولهما عن أبي هريرة ، مثله أو نحوه{[5363]} ولهما واللفظ لمسلم أيضًا عَن أبي شُرَيح العَدوي أنه قال لعَمْرو بن سعيد ، وهو يبعث البعوث إلى مكةَ : ائذَنْ لي أيها الأمير أن أُحدِّثك قَولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغَدَ من يوم الفتح سَمعَتْه أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به ، إنه حَمد الله وأثنى عليه ثم قال : " إنَّ مَكِّةَ حَرَّمَهَا اللهُ ولَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ ، فَلا يَحِلُّ لامرئ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَوْمِ الآخر أنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا ، ولا يَعْضد بِهَا شَجَرةً ، فَإنْ أحَد تَرخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا فَقُولُوا له : إنَّ اللهَ أذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ، وإنَّمَا أذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأمْسِ فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهدُ الغائِبَ " فقيل لأبي شُرَيح : ما قال لك عَمْرو ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح ، إن الحَرَم لا يُعيذ عاصيا ولا فَارا بِدَمٍ ولا فارا بخَزْيَة{[5364]} {[5365]} .
وعن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يَحِلُّ لأحَدِكُمْ أنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلاحَ " {[5366]} رواه مسلم .
وعن عبد الله بن عَدِيّ بن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، وهو واقف بالحَزْوَرَة في سوق مكة : " واللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أرْضِ اللهِ ، وأحَبُّ أرْضِ اللهِ إلَى اللهِ ، ولَوْلا أنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ " .
رواه الإمام أحمد ، وهذا لفظه ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة . وقال الترمذي : حسن صحيح{[5367]} وكذا صَحَّح من حديث ابن عباس نحوه{[5368]} وروى أحمد عن أبي هريرة ، نحوه{[5369]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا بِشْر بن آدم ابن بنت أزهر السمان{[5370]} حدثنا أبو عاصم ، عن زُرَيق بن مسلم{[5371]} الأعمى مولى بني مخزوم ، حدثني زياد بن أبي عياش ، عن يحيى بن جَعْدَةَ بن هُبَيْرَة ، في قوله تعالى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } قال : آمنا من النار .
وفي معنى هذا القول الحديثُ الذي رواه البيهقي : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عَبْدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد ، حدثنا محمد بن سليمان الواسطي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا ابن المُؤَمَّل ، عن ابن مُحَيْصِن ، عن عطاء ، عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ دَخَلَ فِي حَسَنةٍ وَخَرَجَ مِنْ سَيِّئَةٍ ، وَخَرَجَ مَغْفُورًا له " : ثم قال : تفرد به عبد الله بن المؤمل ، وليس بقوي{[5372]} .
وقوله : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } هذه آية وُجُوب الحج عند الجمهور . وقيل : بل هي قوله : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [ البقرة : 196 ] والأول أظهر .
وقد وَرَدَت الأحاديثُ المتعددة بأنه أحدُ أركان الإسلام ودعائمه وقواعده ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا ، وإنما يجب على المكلَّف في العُمْر مَرّة واحدة بالنص والإجماع .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا الربيع بن مسلم القُرَشيّ ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فَحُجُّوا " . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت ، حتى قالها ثلاثًا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَوْ قُلْتُ : نَعَمْ ، لَوَجَبَتْ ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ " . ثم قال : " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، وإذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ " . ورواه مسلم ، عن زُهَير بن حرب ، عن يزيد بن هارون ، به نحوه{[5373]} .
وقد روى سُفْيان بن حسين ، وسليمان بن كثير ، وعبد الجليل بن حُمَيد ، ومحمد بن أبي حفصة ، عن الزهري ، عن أبي سنَان الدؤلي - واسمه يزيد بن أمية - عن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يَأيُّهَا النَّاسُ ، إنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُم الحَجَّ " . فقام الأقرع بن حابس فقال : يا رسول الله ، أفي كل عام ؟ قال : " لَوْ قُلْتُهَا ، لَوَجَبَتْ ، ولَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهَا ، وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْمَلُوا بِهَا ؛ الحَجُّ مَرَّةً ، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ " .
رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، والحاكم من حديث الزهري ، به . ورواه شريك ، عن سِمَاك ، عن عِكرمة ، عن ابن عباس ، بنحوه . وروي من حديث أسامة يزيد{[5374]} .
[ و ]{[5375]} قال الإمام أحمد : حدثنا منصور بن وَرْدَان ، عن علي بن عبد الأعلى ، عن أبيه ، عن أبي البَخْتَرِيّ ، عن علِيّ قال : لما نزلت : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } قالوا : يا رسول الله ، في كل عام ؟ فسكت ، قالوا : يا رسول الله ، في كل عام ؟ قال : " لا ولَوْ قُلْتُ : نَعَمْ ، لَوَجَبَتْ " . فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } [ المائدة : 101 ] .
وكذا رواه الترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم ، من حديث منصور بن وَرْدان ، به : ثم قال{[5376]} الترمذي : حسن غريب . وفيما قال نظر ؛ لأن البخاري قال : لم يسمع أبو البَخْتَرِيّ من عليّ{[5377]} .
وقال ابن ماجة : حدثنا محمد بن عبد الله بن نُمَيْر ، حدثنا محمد بن أبي عُبَيدة ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس بن مالك قال : قالوا : يا رسول الله ، الحج في كل عام ؟ قال : " لَوْ قُلْتُ : نعم ، لوجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَقُومُوا{[5378]} بِهَا ، ولَوْ لَمْ تَقُومُوا بِهَا لَعُذِّبتُمْ " {[5379]} .
وفي الصحيحين من حديث ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن جابر ، عن{[5380]} سُراقة بن مالك قال : يا رسول الله ، مُتْعَتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد ؟ قال : " لا بَلْ لِلأبَدِ " . وفي رواية : " بل لأبَد أبَدٍ " {[5381]} .
وفي مسند الإمام أحمد ، وسنن أبي داود ، من حديث واقد بن أبي واقد الليثي ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في حجته : " هَذِه ثُمَّ ظُهُورَ الحُصْر " {[5382]} يعني : ثم الزَمْنَ ظُهور الحصر ، ولا تخرجن من البيوت .
وأما الاستطاعة فأقسام : تارة يكون الشخص مستطيعا بنفسه ، وتارة بغيره ، كما هو مقرر في كتب الأحكام .
قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عَبْدُ بن حميد ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا إبراهيم بن يزيد قال : سمعت محمَّد بن عَبَّاد بن جعفر يحدث عن ابن عمر قال : قام رجل إلى رسول الله{[5383]} صلى الله عليه وسلم فقال : مَن الحاجّ يا رسول الله ؟ قال : " الشَّعثُ التَّفِل " {[5384]} فقام آخر فقال : أيّ الحج أفضل يا رسول الله ؟ قال : " العَجُّ والثَّجُّ " ، فقام آخر فقال : ما السبيل يا رسول الله{[5385]} ؟ قال : " الزَّادُ والرَّاحِلَة " .
وهكذا رواه ابن ماجة من حديث إبراهيم بن يزيد وهو الخُوزي . قال الترمذي : ولا نعرفه{[5386]} إلا من حديثه ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه . كذا قال هاهنا . وقال في كتاب الحَجّ : هذا حديث حسن{[5387]} .
[ و ]{[5388]} لا يشك أن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات سوى الخوزي هذا ، وقد تكلموا فيه من أجل هذا الحديث .
لكن قد تابعه غيره ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله العامري ، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي ، عن محمد بن عباد بن جعفر قال : جلست إلى عبد الله بن عمر قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : ما السبيل ؟ قال : " الزَّادُ والرِّحْلَة " . وكذا رواه ابن مَرْدُويَه من رواية محمد بن عبد الله بن عُبَيد بن عمير ، به .
ثم قال ابن أبي حاتم : وقد روي عن ابن عباس ، وأنس ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، والربيع بن أنس ، وقتادة - نحو ذلك{[5389]} .
وقد روي هذا الحديث من طُرُق أخَر من حديث أنس ، وعبد الله بن عباس ، وابن مسعود ، وعائشة كُلها مرفوعة ، ولكن في أسانيدها مقال{[5390]} كما هو مقرر في كتاب الأحكام ، والله أعلم .
وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه بجمع طرق هذا الحديث . ورواه الحاكم من حديث قَتَادَة{[5391]} عن حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } فقيل{[5392]} ما السبيل{[5393]} ؟ قال : " الزَّاد والرَّاحِلَة " . ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه{[5394]} .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن يُونس ، عن الحسن قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } قالوا : يا رسول الله ، ما السبيل ؟ قال : " الزَّادُ والرَّاحِلَةُ " {[5395]} .
ورواه وَكِيع في تفسيره ، عن سفيان ، عن يونس ، به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا الثوري ، عن إسماعيل - وهو أبو إسرائيل الملائي - عن فُضَيْل - يعني ابن عمرو - عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تَعَجَّلُوا إلى الحَجِّ - يعني الفريضة - فإنَّ أحَدَكُمْ لا يَدْرِي مَا يَعْرضُ لَهُ " {[5396]} .
وقال أحمد أيضًا : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الحسن بن عمرو الفُقَيْمي ، عن مِهْرَان بن أبي صفوان{[5397]} عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أرَادَ الحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ " .
ورواه أبو داود ، عن مسدد ، عن أبي معاوية الضرير ، به{[5398]} .
وقد روى ابن جُبَير ، عن ابن عباس في قوله : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } قال : من مَلَك ثلاثمائة دِرْهم فقد استطاع إليه سبيلا .
وعن عِكْرمة مولاه أنه قال : السبيل الصِّحَّة .
وروى وَكِيعُ بن الجَرّاح ، عن أبي جَنَاب{[5399]} - يعني الكلبي - عن الضحاك بن مُزاحِم ، عن ابن عباس قال : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } قال : الزاد والبعير .
وقوله : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : أي ومن جَحَد فريضة الحج فقد كفر ، والله غني عنه{[5400]} .
وقال سَعيد بن منصور ، عن سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن عِكْرِمة قال : لما نزلت : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } قالت اليهود : فنحن مسلمون . قال الله ، عز وجل{[5401]} فاخْصَمْهُمْ فَحَجَّهُمْ - يعني فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَى الْمسلمِينَ حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاع إِلَيْه سَبِيلا " فقالوا : لم يكتب علينا ، وأبَوْا أن يحجوا . قال الله : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }{[5402]} .
وروى ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، نَحْوَه .
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، أخبرنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم وشَاذ {[5403]} بن فياض قالا أخبرنا هلال أبو هاشم الخُراساني ، أخبرنا أبو إسحاق الهمداني ، عن الحارث ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَلَمْ يَحُجَّ بَيْتَ اللهِ ، فَلا يَضُرُّهُ مَاتَ يَهُودِيّا أوْ نَصْرانِيّا ، ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ قَالَ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } .
ورواه ابن جرير من حديث مسلم بن إبراهيم ، به .
وهكذا رواه ابنُ أبي حاتم عن أبي زُرْعة الرازي : حدثنا هلال بن فياض ، حدثنا هلال أبو هاشم الخراساني ، فذكره بإسناده مثله . ورواه الترمذي عن محمد بن يحيى القُطَعي ، عن مسلم بن إبراهيم ، عن هلال بن عبد الله مولى رَبيعة بن عَمْرو بن مسلم الباهلي ، به ، وقال : [ هذا ]{[5404]} حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده{[5405]} مقال ، وهلال مجهول ، والحارث يضعف في الحديث{[5406]} .
وقال البخاري : هلال هذا منكر الحديث . وقال ابن عَدِيّ : هذا الحديث ليس بمحفوظ .
وقد روى أبو بكر الإسماعيلي الحافظ من حديث [ أبي ]{[5407]} عمرو الأوزاعي ، حدثني إسماعيل بن عبيد الله{[5408]} بن أبي المهاجر ، حدثني عبد الرحمن بن غَنْم أنه سمع عمر بن الخطاب يقول : من أطاق الحج فلم يحج ، فسواء عليه يهوديا مات أو نصرانيا .
وهذا إسناد صحيح إلى عمر{[5409]} رضي الله عنه ، وروى سَعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال : قال عمر بن الخطاب : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جَدةٌ فلم{[5410]} يحج ، فيضربوا عليهم الجِزْية ، ما هم بمسلمين . ما هم بمسلمين{[5411]} .
{ فيه ءايات بينات مقام إبراهيم ومن دخله وكان ءامنا }
جملة { فيه آيات بيِّنات } استئناف ثناء على هذا البيت بما حفّ به من المناقب والمزايا فغيّر الأسلوب للاهتمام ولذلك لم تجعل الجملة حالاً ، فتعطف على الحالين قبلها ، لأنّ مباركاً وهدى وصفان ذاتيّان له ، وحالان مقارنان ، والآيات عوارض عرضت في أوقات متفاوتة ، أو هي حال ثالثة ولم تعطف بالواو لأنّها جملة وما قبلها مفردان ولئلاّ يتوهم أن الواو فيها واو الحال ، فتكون في صورتها جارية على غير صورة الأفصح في مثلها من عدم الاقتران بالواو ، على ما حقَّقه الشَّيخ عبد القاهر ، فلو قرنت بواو العطف لالتبست بواو الحال ، فكرهت في السمع ، فيكون هذا من القطع لدفع اللبس ، أو نقول هي حال ولم تعطف على الأحوال الأخرى لأنّها جملة ، فاستغنت بالضّمير عن رابط العطف .
ووصف الآيات ببيِّناتٍ لظهورها في علم المخاطبين . وجماع هذه الآيات هي ما يسّره الله لسكّان الحرم وزائريه من طرق الخير ، وما دفع عنهم من الأضرار ، على حالة اتّفق عليها سائر العرب ، وقمعوا بها أنفسهم وشهواتهم ، مع تكالبهم على إرضاء نفوسهم .
وأعظمها الأمن ، الّذي وطن عليه نفوس جميع العرب في الجاهلية مع عدم تديّنهم ، فكان الرجل يلاقي قاتل أبيه في الحرم فلا يناله بسوء ، وتَواضُعُ مثل هذا بين مختلف القبائل ، ذات اختلاف الأنساب والعوائد والأديان ، آية على أنّ الله تعالى وقَر ذلك في نفوسهم . وكذلك تأمين وحْشِه مع افتتان العرب بحبّ الصّيد . ومنها ما شاع بين العرب من قصم كلّ من رامه بسوء ، وما انصرافُ الأحباش عنه بعد امتلاكهم جميع اليمن وتهامة إلا آية من آيات الله فيه . ومنها انبثاق الماء فيه لإسماعيل حين إشرافه على الهلاك . وافتداء الله تعالى إيّاه بذبح عظيم حين أراد أبوه إبراهيم عليْه السّلام قربانه . ومنها ما شاع بين العرب وتوارثوا خبره أباً عن جدّ من نزول الحجر الأسود من السَّماء على أبي قبيس بمرأى إبراهيم ، ولعلَّه حجر كوكبي . ومنها تيسير الرزق لساكنيه مع قُحولة أرضه ، وملوحة مائه .
وقوله : { مقام إبراهيم } أصل المقام أنّه مَفْعَل من القيام ، والقيام يطلق على المعنى الشَّائع وهو ضدّ القعُود ، ويطلق على خصوص القيام للصّلاة والدعاء ، فعلى الوجه الثَّاني فرفع مقام على أنّه خبر لضمير محذوف يعود على { للذى ببكّة } ، أي هو مقام إبراهيم ، أي البيتُ الَّذى ببكّة . وحذْفُ المسند إليه هنا جاء على الحذف الَّذي سمَّاه علماء المعاني ، التَّابعين لاصطلاح السكاكي ، بالحذف للاستعمال الجاري على تركه ، وذلك في الرفع على المدح ، أو الذم ، أو الترحّم ، بعد أن يجري على المسند إليه من الأوصاف قبل ذلك ما يبيّن المراد منه كقول أبي الطمحان القيني :
فإنّ بني لأمِ بن عمرو أرومة *** سَمَتْ فوق صعب لا تُنالُ مراقبه
نجوم سماءٍ كلّما انْقَضَّ كوكبٌ *** بَدَا كوكب تأْوِي إليه كواكبــه
هذا هو الوجه في موقع قوله تعالى : { مقام إبراهيم } .
وقد عبّر عن المسجد الحرام بأنّه مقام إبراهيم أي محلّ قيامه للصلاة والطواف قال تعالى : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } [ البقرة : 125 ] ويدل لذلك قول زيد بن عَمرو بن نُفَيل :
عُذْتُ بما عاذَ به إبْرَاهِمْ *** مستقبلَ الكَعْبَةِ وهو قائم
وعلى الوجه الأول يكون المراد الحجر الَّذى فيه أثر قَدَمي إبراهيم عليه السّلام في الصّخرة التي ارتقى عليها ليرفع جدران الكعبة ، وبذلك فسر الزجّاج وتبعه على ذلك الزمخشري ، وأجاب الزمخشري عمَّا يعترض به من لزوم تبيين الجمع بالمفرد بأنّ هذا المفرد في قوّة جماعة من الآيات لأنّ أثر القدم في الصّخرة آية ، وغوصَه فيها إلى الكعبين آية وإلانة بعض الصّخر دون بعض آية ، وأنا أقول : إنَّه آيات لدلالته على نبوّة إبراهيم بمعجزة له وعلى علممِ الله وقدرته ، وإنّ بقاء ذلك الأثر مع تلاشي آثار كثيرة في طيلة القرون آية أيضاً .
وقوله : { ومن دخله كان آمناً } عطف على مَزايا البيت وفضائله من الأمن فيه على العموم ، وامتنان بما تقرّر في ماضِي العصور ، فهو خبر لفظاً مستعمل في الامتنان ، فإنّ الأمن فيه قد تقرّر واطّرد ، وهذا الامتنان كما امتنّ الله على النَّاس بأنَّه خلق لهم أسماعاً وأبصَاراً فإنّ ذلك لا ينقض بمن ولد أكمه أو عرض له ما أزال بعض ذلك .
قال ابن العربي : هذا خبر عمّا كان وليس فيه إثبات حكم وإنّما هو تنبيه على آيات ونعم متعددات ؛ أنّ الله سبحانه قد كان صرف القلوب عن القصد إلى معارضته ، وصرف الأيدي عن إذايتِه . وروي هذا عن الحسن . وإذا كان ذلك خبراً فهو خبر عمّا مضى قبل مجيء شريعة الإسلام حين لم يكن لهم في الجاهلية وازع فلا ينتقض بما وقع فيه من اختلال الأمن في القتال بين الحَجَّاج وابن الزبير وفي فتنة القرامطة . وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله تعالى : { وأخر متشابهات أوّل هذه السورة } [ آل عمران : 7 ] .
ومن العلماء من حمل قوله تعالى : { ومن دخله كان آمناً } أنَّه خبر مستعمل في الأمر بتأمين داخله من أن يُصاب بأذى ، وروي عن ابن عبَّاس ، وابن عمر ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وطاوس ، والشعبي .
وقد اختلف الصائرون إلى هذا المعنى في محمل العمل بهذا الأمر ؛ فقال جماعة : هذا حكمٌ نُسخ يعنون نسختْه الأدلّة الَّتي دلّت على أنّ الحرم لا يُعيذ عاصياً . روى البخاري ، عن أبي شُريح الكعبي ، أنَّه قال لعَمْرِو بن سعيد وهو يبعث البُعوث إلى مكّة أي لحرب ابن الزبير : ائذن لي أيُّهَا الأمير أحدثْك قولاً قام به رسول الله الغدَ من يوم الفتح ، سمعتْه أُذناي ووعاه قلبي وأبصرتْه عيناي حين تكلَّم به : إنَّه حمد الله وأثنى عليه ثُمّ قال : « إنّ مكَّة حرَّمها الله ولم يحرّمها النَّاس ؛ لا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ، ولا يعضد بها شجرة . فإنْ أحَد تَرَخَّص لقتال رسول الله فيها فقولوا له : إنّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنَّما أذِن لي فيها ساعة من نهار وقد عَادَتْ حُرْمَتُها اليَومَ كحرمتها بالأمس وليبلّغ الشاهدُ الغائبَ » . قال : فقال لي عَمْرو : أنا أعلمَ بذلك منكَ يا أبا شُرَيح إنّ الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فارّاً بدَم ولا فارّا بخَرْبة ( الخَربة بفتح الخاء وسكون الراء الجناية والبلية الَّتي تكون على النَّاس ) وبما ثبت أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم أمر بأن يُقْتل ابن خَطل وهو متعلِّق بأستار الكعبة يوم الفتح .
وقد قال مالك ، والشَّافعى : إنّ من أصاب جناية في الحرم أو خارجه ثُمّ عاذ بالحرم يقام عليه الحدّ في الحرم ويقاد منه .
وقال أبو حنيفة ، وأصحابه الأربعة : لا يقتصّ في الحرم من اللاجىء إليه من خارجه ما دام فيه ؛ ولكنَّه لا يبايَع ولا يؤاكَلُ ولا يجالَسُ إلى أن يخرج من الحرم .
ويروون ذلك عن ابن عبَّاس ، وابنِ عُمر ، ومَنْ ذكرناه معهما آنفا .
وفي أحكام ابن الفرس أن عبد الله بن عمر قال : « من كان خائفاً من الاحتيال عليه فليس بآمن ولا تجوز إذايته بالامتناع من مكالمته » .
وقال فريق : هو حكم محكم غير منسوخ ، فقال فريق منهم : قوله : { ومن دخله } يفهم منه أنَّه أتى ما يوجب العقوبة خارجَ الحرم فإذا جنى في الحرم أقيد منه ، وهذا قول الجمهور منهم ، ولعلّ مستندهُم قوله تعالى : { والحرمات قصاص } [ البقرة : 194 ] أو استندوا إلى أدلّة من القياس ، وقال شذوذ : لا يقام الحدّ في الحرم ، ولو كان الجاني جنى في الحرم وهؤلاء طردوا دليلهم .
وقد ألممنا بذلك عند قوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتَّى يقاتلوكم فيه } [ البقرة : 191 ] .
وقد جعل الزجّاج جملة { ومن دخله كان آمناً } آية ثانية من الآيات البيّنات فهى بيان ل { آيات } ، وتبعه الزمخشري ، وقال : يجوز أن يطلق لفظ الجمع على المثنّى كقوله تعالى : { فقد صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] . ( وإنَّما جاز بيان المفرد بجملة لأنّ هذه الجملة في معنى المفرد إذ التَّقدير : مقامُ إبراهيم وأمْنُ مَن دخَله . ولم ينظر ذلك بما استعمل من كلام العرب حتَّى يُقَرّب هذا الوجه . وعندي في نظيره قول الحرث بن حلزة :
مَنْ لنا عنده من الخيْر آيا *** تٌ ثلاثٌ في كلهنّ القضاء
آيةٌ شارق الشقيقة إذ جـا *** ءَت مَعَدّ لِكلّ حيّ لــواء
ثُمّ حُجْرا أعني ابن أم قَطامٍ *** وله فارسية خضــراء
وفككنا غُلّ امرىء القيس عنه ** بعد ما طال حَبسه والعَناء
فجعل ( وفككنا ) هي الآية الرابعة باتِّفاق الشرّاح إذ التقدير : وفَكُّنا غُل امرىء القيس .
وجوّز الزمخشري أن يكون آيات باقياً على معنى الجمع وقد بُيّن بآيتين وتركت الثَّالثة كقول جرير :
كانَتْ حنيفةُ أثلاثا فثُلْثهُمُ *** من العبيدِ وثُلث من مواليها
أي ولم يذكر الثلث الثالث وهو تنظير ضعيف لأنّ بيت جرير ظهر منه الثُلث الثالث ، فَهُم الصميم ، بخلاف الآية فإنّ بقية الآيات لم يُعرف . ويجوز أن نجعل قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت } إلخ متضمّناً الثالثة من الآيات البيّنات .
{ وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين } .
حُكم أعقب به الامتنان : لما في هذا الحكم من التَّنويه بشأن البيت فلذلك حسن عطفه . والتَّقدير : مباركاً وهدى ، وواجباً حجّه . فهو عطف على الأحوال .
والحجّ تقدّم عند قوله تعالى : { الحجّ أشهر معلومات } في سورة [ البقرة : 197 ] ، وفيه لغتان فتح الحاء وكسرها ولم يقرأ في جميع مواقعه في القرآن بكسر الحاء إلاّ في هذه الآية : قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر بكسر الحاء .
ويتّجه أن تكون هذه الآية هي الَّتي فرض بها الحجّ على المسلمين ، وقد استدلّ بها علماؤنا على فرضية الحجّ ، فما كان يقع من حجّ النّبيء والمسلمين ، قبل نزولها ، فإنَّما كان تقرّباً إلى الله ، واستصحاباً للحنيفية .
وقد ثبت أنّ النّبيء حجّ مرّتين بمكّة قبل الهجرة ووقف مع النَّاس . فأمَّا إيجاب الحجّ في الشَّريعة الإسلاميَّة فلا دليل على وقوعه إلاّ هذه الآية وقد تمالأ علماء الإسلام على الاستدلال بها على وجوب الحجّ ، فلا يعد ما وقع من الحجّ قبل نزولها ، وبعد البعثة إلاّ تحنّثاً وتقرّباً ، وقد صحّ أنَّها نزلت سنة ثلاث من الهجرة ، عقب غزوة أحدُ ، فيكون الحجّ فرض يومئذ . وذكر القرطبي الاختلاف في وقت فرضية الحجّ على ثلاثة أقوال : فقيل : سنة خمس ، وقيل : سنة سبع ، وقيل : سنة تسع ، ولم يعز الأقوال إلى أصحابها ، سوى أنَّه ذكر عن ابن هشام ، عن أبي عبيد الواقدي أنَّه فرض عام الخندق ، بعد انصراف الأحزاب ، وكان انصرافهم آخر سنة خمس . قال ابن إسحاق : وولى تلك الحجَّة المشركون . وفي مقدّمات ابن رشد ما يقتضي أنّ الشافعي يقول : إنّ الحجّ وجب سنة تسع ، وأظهر من هذه الأقوال قول رابع تمالأ عليه الفقهاء وهو أنّ دليل وجوب الحجّ قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } . وقد استدلّ الشَّافعي بها على أنّ وجوبه على التَّراخي ، فيكون وجوبه على المسلمين قد تقرَّر سنة ثلاث ، وأصبح المسلمون منذ يومئذ مُحْصَرين عن أداء هذه الفريضة إلى أن فتح الله مكّة ووقعت حجّة سنة تسع .
وفي هذه الآية من صيَغ الوجوب صِيغتان : لام الاستحقاق ، وحرف ( على ) الدال على تقرّر حقّ في ذمة المجرور بها . وقد تعسّر أو تعذّر قيام المسلمين بأداء الحجّ عقب نزولها ، لأنّ المشركين كانوا لا يسمحون لهم بذلك ، فلعلّ حكمة إيجاب الحجّ يومئذ أن يكون المسلمون على استعداد لأداء الحجّ مهما تمكّنوا من ذلك ، ولتقوم الحجَّة على المشركين بأنَّهم يمنعون هذه العبادة ، ويصدّون عن المسجد الحرام ، ويمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه .
وقوله : { من استطاع إليه سبيلا } بدل من النَّاس لتقييد حال الوجوب ، وجوّز الكسائي أن يكون فاعل حَجّ ، وردّ بأنَّه يصير الكلام : لله على سائر النَّاس أن يحجّ المستطيع منهم ، ولا معنى لتكليف جميع النَّاس بفعل بعضهم ، والحقّ أنّ هذا الردّ لا يتّجه لأنّ العرب تتفنَّن في الكلام لعلم السامع بأنّ فرض ذلك على النَّاس فرض مجمل يبيِّنه فاعل حَجّ ، وليس هو كقولك : استطَاع الصّوم ، أو استطاع حمل الثقل ، ومعنى { استطاع سبيلاً } وجد سبيلاً وتمكّن منه ، والكلام بأواخره . والسَّبيل هنا مجاز فيما يتمكّن به المكلّف من الحجّ .
وللعلماء في تفسير السبيل أقوال اختلفت ألفاظها ، واتَّحدت أغراضها ، فلا ينبغي بقاء الخلاف بينهم لأجلها مثبتاً في كتب التَّفسير وغيرها ، فسبيل القريب من البيت الحرام سهل جداً ، وسبيل البعيد الراحلة والزاد ، ولذلك قال مالك : السبيل القدرة والنَّاس على قدر طاقتهم وسيرهم وجلدهم .
واختلف فيمن لا زاد له ويستطيع الاحْتِرَاف في طريقه : فقال مالك : إذا كان ذلك لا يزري فليسافر ويكتسب في طريقه ، وقال بمثله ابن الزبير ، والشعبي ، وعكرمة . وعن مالك كراهية السفر في البحر للحجّ إلا لمن لا يجد طريقاً غيره كأهل الأندلس ، واحتجّ بأنّ الله تعالى قال : { يأتوك رجالاً وعلى كُلّ ضامر } [ الحج : 27 ] ولم أجد للبحر ذكراً . قال الشيخ ابن عطية : هذا تأنيس من مالك وليست الآية بالَّتي تقتضي سقوط سفر البحر . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ناس من أمَّتِي عُرِضوا عليّ غُزاة في سبيل الله يركبون ثَبَج هذا البحر » وهل الجهادِ إلاّ عبادة كالحجّ ، وكره مالك للمرأة السَّفر في البحر لأنَّه كشفة لها ، وكلّ هذا إذا كانت السَّلامة هي الغالب وإلا لم يجز الإلقاء إلى التهلكة ، وحال سفر البحر اليوم أسلم من سفر البرّ إلاّ في أحوال عارضة في الحروب إذا شملت البحارَ .
وظاهر قوله تعالى : { من استطاع إليه سبيلا } أنّ الخطاب بالحجّ والاستطاعة للمرءِ في عمله لا في عمل غيره ، ولذلك قال مالك : لا تصحّ النِّيابة في الحجّ في الحياة لعذر ، فالعاجز يسقط عنه الحجّ عنده ولم ير فيه إلاّ أنّ للرجل أن يوصي بأن يُحَجّ عنه بعد موته حجّ التَّطوع ، وقال الشَّافعي ، وأحمد ، وإسحاق بن راهويه : إذا كان له عذر مانع من الحجّ وكان له من يطيعه لو أمره بأن يحجّ عنه ، أو كان له مال يستأجر به من يحجّ عنه ، صار قادراً في الجملة ، فيلزمه الحجّ ، واحتجّ بحديث ابن عبَّاس : أنّ امرأة من خثعم سألت النّبيء صلى الله عليه وسلم يوم حجَّة الوداع فقالت : إنّ فريضة الله على عباده في الحجّ أدركتْ أبي شيخاً كبيراً لا يثبُت على الراحلة أفيُجْزِىء أن أحجّ عنه ؟ قال : نعم ، حُجِّي عنه أرَأيْتِ لو كان على أبيكِ دَيْن أكُنْتِ قاضيتَهُ ؟ قالت : نعم ، قال : فَدَيْن الله أحقّ أن يقضى . وأجاب عنه المالكية بأنّ الحديث لم يدلّ على الوجوب بل أجابها بما فيه حثّ على طاعة أبيها ، وطاعة ربِّها .
وقال عليّ بن أبي طالب ، وسفيان الثوري ، وأبو حنيفة ، وابن المبارك . لا تجزىء إلاّ إنابة الأجرة دون إنابة الطَّاعة .
وظاهر الآية أنَّه إذا تحقّقت الاسْتطاعة وجب الحجّ على المستطيع على الفور ، وذلك يندرج تحت مسألة اقتضاءِ الأمر الفورَ أو عدممِ اقتضائِه إيّاه ، وقد اختلف علماء الإسلام في أنّ الحجّ واجب على الفور أو على التَّراخي . فذهب إلى أنَّه على الفور البغداديون من المالكية : ابنُ القصار ، وإسماعيل بن حَماد ، وغيرهما ، وتأوّلوه من قول مالك ، وهو الصّحيح من مذهب أبي حنيفة ، وهو قول أحمد بن حنبل ، وداوود الظاهري . وذهب جمهور العلماء إلى أنّه على التَّراخي وهو الصحيح من مذهب مالك ورواية ابن نافع وأشهب عنه وهو قول الشَّافعي وأبي يوسف .
واحتجّ الشّافعي بأنّ الحجّ فرض قبل حجّ النّبيء صلى الله عليه وسلم بسنين ، فلو كان على الفور لما أخّره لعُذْر لبيّنه أي لأنَّه قدوة للنَّاس . وقال جماعة : إذا بلغ المرء الستِّين وجب عليه الفور بالحجّ إن كان مستطيعاً خشية الموت ، وحكاه ابن خويزَ مَنْدادَ عن ابن القاسم .
ومعنى الفور أن يوقعه المكلّف في الحجَّة الَّتي يحين وقتها أولاً عند استكمال شرط الاستطاعة .
وقوله : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } ظاهره أنَّه مقابل قوله { من استطاع إليه سبيلاً } فيكون المراد بمن كفر من لم يحجّ مع الاستطاعة ، ولذلك قال جمع من المحقّقين : إنّ الإخبار عنه بالكفر هنا تغليظ لأمر ترك الحجّ . والمراد كفر النعمة . ويجوز أيضاً أن يراد تشويه صنعه بأنَّه كصنيع من لا يؤمن بالله ورسله وفضيلة حَرمه . وقال قوم : أراد ومن كفر بفرض الحجّ ، وقال قوم بظاهره : إنّ ترك الحجّ مع القدرة عليه كفر . ونسب للحسن . ولم يلتزم جماعة من المفسِّرين أنّ يكون العطف للمقابلة وجعلوها جملة مستقلّة . كالتذييل ، بيّن بها عدم اكتراث الله بمن كفر به .
وعندي أنَّه يجوز أن يكون المراد بمن كفر من كفر بالإسلام ، وذلك تعريض بالمشركين من أهل مكّة بأنَّه لا اعتداد بحجّهم عند الله وإنَّما يريد الله أن يحجّ المؤمنون به والموحّدون له .
وفي قوله : { غني عن العالمين } رمز إلى نزعه ولاية الحرم من أيديهم : لأنَّه لمّا فرضَ الحجّ وهُم يصدّون عنه ، وأعلمنا أنَّه غني عن النَّاس ، فهو لا يعجزه من يصدّ النَّاس عن مراده تعالى .