وخندق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، على المدينة ، فحصروا المدينة ، واشتد الأمر ، وبلغت القلوب الحناجر ، حتى بلغ الظن من كثير من الناس كل مبلغ ، لما رأوا من الأسباب المستحكمة ، والشدائد الشديدة ، فلم يزل الحصار على المدينة ، مدة طويلة ، والأمر كما وصف اللّه : { وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ } أي : الظنون السيئة ، أن اللّه لا ينصر دينه ، ولا يتم كلمته .
وقوله : { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ } أي : الأحزاب { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ } تقدم عن حذيفة أنهم بنو قريظة ، { وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } أي : من شدة الخوف والفزع ، { وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } .
قال ابن جرير : ظن بعض مَنْ كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدائرة على المؤمنين ، وأن الله سيفعل ذلك{[23239]} .
وقال محمد بن إسحاق في قوله : { وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } : ظن المؤمنون{[23240]} كل ظن ، ونجم النفاق حتى قال مُعَتّب{[23241]} بن قشير - أخو بني عمرو بن عوف - : كان محمد يَعِدُنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط .
وقال الحسن في قوله : { وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ } : ظنون مختلفة ، ظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يستأصلون ، {[23242]} وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق ، وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون .
وقال{[23243]} ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عاصم الأنصاري ، حدثنا أبو عامر( ح ) وحدثنا أبي ، حدثنا أبو عامر العقدي ، حدثنا الزبير - يعني : ابن عبد الله ، مولى عثمان بن عفان - عن ُرَتْيج بن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن أبي سعيد قال : قلنا يوم الخندق : يا رسول الله ، هل من شيء نقول ، فقد بلغت القلوب الحناجر ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " نعم ، قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن رَوْعاتنا " . قال : فضرب وجوه أعدائه بالريح ، فهزمهم بالريح .
وكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل ، عن أبي عامر العقدي{[23244]} .
{ إذ } هذه لا بد من الأولى في قوله : { إذ جاءتكم } [ الأحزاب : 9 ] ، وقوله تعالى : { من فوقكم } يريد أهل نجد مع عيينة بن حصن ، { ومن أسفل منكم } يريد مكة وسائر تهامة ، قاله مجاهد وقيل «من فوق وأسفل » هنا إنما يراد به ما يختص ببقعة المدينة ، أي نزلت طائفة في أعلى المدينة وطائفة في أسفلها ، وهذه عبارة عن الحصر ، و { زاغت } معناه مالت عن مواضعها ، وذلك فعل الواله الفزع المختبل ، وأدغم الأعمش { إذ زاغت } وبين الذال الجمهور وكل حسن ، { وبلغت القلوب الحناجر } عبارة عما يجده الهلع من ثوران نفسه وتفرقها شعاعاً ويجد كأن حشوته وقلبه يصعد لينفصل ، فليس بلوغ القلوب الحناجر حقيقة بالنقلة بل يشير لذلك وتجيش فيستعار لها بلوغ الحناجر ، وروى أبو سعيد الخدري أن المؤمنين قالوا يوم الخندق : يا رسول الله بلغت القلوب الحناجر فهل من شيء نقوله ، قال : «نعم ، قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا » ، فقالوها فضرب الله تعالى وجوه الكفار بالريح فهزمهم{[9467]} .
وقوله { وتظنون بالله الظنونا } أي تكادون تضطربون وتقولون ما هذا الخلف للموعد ، وهذه عبارة عن خواطر خطرت للمؤمنين لا يمكن للبشر دفعها وأما المنافقون فجلحوا{[9468]} ونطقوا ، وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر وشيبة والأعمش وطلحة «الظنونا » بالألف في الوصل والوقف ، وذلك اتباع لخط المصحف ، وعلته تعديل رؤوس الآي وطرد هذه العلة أن يلازم الوقف ، وقد روي عن أبي عمرو أنه كان لا يصل ، فكان لا يوافق خط المصحف وقياس الفواصل ، وقرأ أبو عمرو أيضاً وحمزة في الوصل والوقف «الظنون » بغير ألف وهذا هو الأصل ، وقرأ ابن كثير والكسائي وعاصم وأبو عمرو بالألف في الوقف وبحذفها في الوصل ، وعللوا الوقف بتساوي رؤوس الآي على نحو فعل العرب في القوافي من الزيادة والنقص .
{ إذ جاءوكم } بدل من { إذ جاءتكم جنود } [ الأحزاب : 9 ] بدلَ مفصَّل من مجمل . والمراد ب ( فوق ) و { أسفل } فوق جهة المدينة وأسفلها .
و { وإذا زاغت الأبصار } عطف على البدل وهو من جملة التفصيل ، والتعريف في { الأبصار والقلوب والحناجر للعهد ، أي : أبصار المسلمين وقلوبهم وحناجرهم ، أو تجعل اللام فيها عوضاً عن المضافات إليها ، أي : زاغت أبصاركم وبلغت قلوبكم حناجركم .
والزَيغ : الميل عن الاستواء إلى الانحراف . فزيغ البصر أن لا يرى ما يتوجه إليه ، أو أن يريد التوجه إلى صوب فيقع إلى صوب آخر من شدة الرعب والانذعار .
والحناجر : جمع حَنْجَرة بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الجيم : منتهى الحُلقوم وهي رأس الغلصمة . وبلوغ القلوب الحناجر تمثيل لشدة اضطراب القلوب من الفزع والهلع حتى كأنها لاضطرابها تتجاوز مقارّها وترتفع طالبة الخروج من الصدور فإذا بلغت الحناجر لم تستطع تجاوزها من الضيق ؛ فشبهت هيئة قلب الهلوع المرعُود بهيئة قلببٍ تجاوز موضعه وذهب متصاعداً طالباً الخروج ، فالمشبه القلبُ نفسه باعتبار اختلاف الهيئتين . وليس الكلام على الحقيقة ، فإن القلوب لا تتجاوز مكانها ، وقريبٌ منه قولهم : تنفّس الصُعَداء ، وبلغت الروح التراقيَ .
وجملة { وتظنون بالله الظنونا } يجوز أن تكون عطفاً على جملة { زاغت الأبصار } ويجوز أن يكون الواو للحال وجيء بالفعل المضارع للدلالة على تجدد تلك الظنون بتجدد أسبابها كناية عن طول مدة هذا البلاء .
وفي صيغة المضارع معنى التعجيب من ظنونهم لإدماج العتاب بالامتنان فإن شدة الهلع الذي أزاغ الأبصار وجعل القلوب بمثل حالة أن تبلغ الحناجر ، دل على أنهم أشفقوا من أن يهزموا لِمَا رأوا من قوة الأحزاب وضيق الحصار أو خافوا طول مدة الحرب وفناء الأنفس ، أو أشفقوا من أن تكون من الهزيمة جراءة للمشركين على المسلمين ، أو نحو ذلك من أنواع الظنون وتفاوت درجات أهلها .
والمؤمن وإن كان يثق بوعد ربه لكنه لا يأمن غضبه من جراء تقصيره ، ويخشى أن يكون النصر مرجَّأ إلى زمن آخر ، فإن ما في علم الله وحكمته لا يحاط به .
وحذف مفعولا { تظنون } بدون وجود دليل يدل على تقديرهما فهو حذف لتنزيل الفعل منزلة اللازم ، ويسمى هذا الحذف عند النحاة الحذف اقتصاراً ، أي : للاقتصار على نسبة فعل الظن لفاعله ، والمقصود من هذا التنزيل أن تذهب نفس السامع كل مذهب ممكن ، وهو حذف مستعمل كثيراً في الكلام الفصيح وعلى جوازه أكثر النحويين ومنه قوله تعالى : { أعنده علم الغيب فهو يَرى } [ النجم : 35 ] وقوله : { وظننتم ظن السوء } [ الفتح : 12 ] ، وقول المثل : من يسمع يَخل ، ومنعه سيبويه والأخفش .
وضُمِّن { تظنّون } معنى تُلحقون ، فعدي بالباء فالباء للملابسة . قال سيبويه : قولهم : ظننت به ، معناه : جعلته موضع ظنّي . وليست الباء هنا بمنزلتها في { كفى بالله حسيباً } [ النساء : 6 ] ، أي : ليست زائدة ، ومجرورها معمول للفعل قبلها كأنك قلت : ظننت في الدار ، ومثله : شككت فيه ، أي : فالباء عنده بمعنى ( في ) .
والوجه أنها للملابسة كقول دريد بن الصِّمَّة :
فقلت لهم : ظُنوا بألفي مدجج *** سراتهم في الفارسي المسرد
وسيأتي تفصيل ذلك عند قوله تعالى { فما ظنكم برب العالمين } في سورة الصافات ( 87 ) .
وانتصب { الظنونا } على المفعول المطلق المبين للعدد ، وهو جمع ظن . وتعريفه باللام تعريف الجنس ، وجمعه للدلالة على أنواع من الظن كما في قول النابغة :
أبيتك عارياً خلقاً ثيابي *** على خوف تظن بي الظنون
وكتب { الظنونا } في الإمام بألف بعد النون ، زيدت هذه الألف في النطق للرعاية على الفواصل في الوقوف ، لأن الفواصل مثل الأسْجاع تعتبر موقوفاً عليها لأن المتكلم أرادها كذلك . فهذه السورة بنيت على فاصلة الألف مثل القصائد المقصورة ، كما زيدت الألف في قوله تعالى { وأطعنا الرسولا } [ الأحزاب : 66 ] وقوله : { فأضلونا السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] .
وعن أبي علي في « الحجة » : من أثبت الألف في الوصل لأنها في المصحف كذلك وهو رأس آية ورؤوس الآيات تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع ، فأما في طرح الألف في الوصل فإنه ذهب إلى أن ذلك في القوافي وليس رؤوس الآي بقوافٍ .
فأما القراء فقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بإثبات الألف في الوصل والوقف . وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم والكسائي بحذف الألف في الوصل وإثباتها في الوقف . وقرأ أبو عمرو وحمزة ويعقوب بحذف الألف في الوصل والوقف ، وقرأ خلف بإثبات الألف بعد النون في الوقف وحذفها في الوصل . وهذا اختلاف من قبيل الاختلاف في وجوه الأداء لا في لفظ القرآن . وهي كلها فصيحة مستعملة والأحسن الوقف عليها لأن الفواصل كالأسجاع والأسجاع كالقوافي .