تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَلَآ إِنَّهُمۡ يَثۡنُونَ صُدُورَهُمۡ لِيَسۡتَخۡفُواْ مِنۡهُۚ أَلَا حِينَ يَسۡتَغۡشُونَ ثِيَابَهُمۡ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (5)

{ 5 } { أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }

يخبر تعالى عن جهل المشركين ، وشدة ضلالهم ، أنهم { يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } أي : يميلونها { لِيَسْتَخْفُوا } من الله ، فتقع صدورهم حاجبة لعلم الله بأحوالهم ، وبصره لهيئاتهم .

قال تعالى -مبينا خطأهم في هذا الظن- { أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } أي : يتغطون بها ، يعلمهم في تلك الحال ، التي هي من أخفى الأشياء .

بل { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } من الأقوال والأفعال { وَمَا يُعْلِنُونَ } منها ، بل ما هو أبلغ من ذلك ، وهو : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بما فيها من الإرادات ، والوساوس ، والأفكار ، التي لم ينطقوا بها ، سرا ولا جهرا ، فكيف تخفى عليه حالكم ، إذا ثنيتم صدوركم لتستخفوا منه .

ويحتمل أن المعنى في هذا أن الله يذكر إعراض المكذبين للرسول الغافلين عن دعوته ، أنهم -من شدة إعراضهم- يثنون صدورهم ، أي : يحدودبون حين يرون الرسول صلى الله عليه وسلم لئلا يراهم ويسمعهم دعوته ، ويعظهم بما ينفعهم ، فهل فوق هذا الإعراض شيء ؟ "

ثم توعدهم بعلمه تعالى بجميع أحوالهم ، وأنهم لا يخفون عليه ، وسيجازيهم بصنيعهم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَلَآ إِنَّهُمۡ يَثۡنُونَ صُدُورَهُمۡ لِيَسۡتَخۡفُواْ مِنۡهُۚ أَلَا حِينَ يَسۡتَغۡشُونَ ثِيَابَهُمۡ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (5)

قال ابن عباس : كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم ، وحال وقاعهم ، فأنزل الله هذه الآية . رواه البخاري من حديث ابن جُرَيْج ، عن محمد بن عباد بن جعفر ؛ أن ابن عباس قرأ : " أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني{[14478]} صُدُورهُم " ، فقلت : يا أبا عباس ، ما تثنوني{[14479]} صدورهم ؟ قال : الرجل كان يجامع امرأته فيستحيي - أو : يتخلى فيستحيي فنزلت : " أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني{[14480]} صُدُورهُم " .

وفي لفظ آخر له : قال ابن عباس : أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا ، فيفضوا إلى السماء ، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء ، فنزل ذلك فيهم .

ثم قال : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو قال : قرأ{[14481]} ابن عباس " أَلا إِنِّهُمْ يَثْنوني صُدُورهُم لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتغْشُونَ ثِيَابَهُم " .

قال البخاري : وقال غيره ، عن ابن عباس : { يَسْتَغْشُونَ } يغطون رءوسهم{[14482]} وقال ابن عباس في رواية أخرى في تفسير هذه الآية : يعني به الشك في الله ، وعمل السيئات ، وكذا روي عن مجاهد ، والحسن ، وغيرهم : أي أنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئًا أو عملوه ، يظنون أنهم يستخفون من الله بذلك ، فأعلمهم الله تعالى أنهم{[14483]} حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل ، { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } {[14484]} من القول : { وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : يعلم ما تكن صدورهم من النيات والضمائر والسرائر . وما أحسن ما قال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة :

فَلا تَكْتُمُنَّ الله ما في نفوسكم *** ليخفى ، فمهما يُكتم{[14485]} الله يَعْلم

يُؤخَر فيوضَع في كتاب فَيُدخَر*** ليوم حساب ، أو يُعَجل فَيُنْقمِ{[14486]}-{[14487]}

فقد اعترف هذا الشاعر الجاهلي بوجود الصانع وعلمه بالجزئيات ، وبالمعاد وبالجزاء ، وبكتابة الأعمال في الصحف ليوم القيامة .

وقال عبد الله بن شداد : كان أحدهم إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى{[14488]} صدره ، وغطى رأسه فأنزل الله ذلك .

وعود الضمير{[14489]} على الله أولى ؛ لقوله : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } .

وقرأ ابن عباس : " أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني{[14490]} صُدُورُهُم " ، برفع الصدور على الفاعلية ، وهو قريب المعنى .


[14478]:- في ت ، أ : "تثنون".
[14479]:- في ت ، أ : "تثنون".
[14480]:- في ت ، أ : "يثنون".
[14481]:- في ت : "قال".
[14482]:- صحيح البخاري برقم (4681 - 4683).
[14483]:- في ت ، أ : "أنه".
[14484]:- في ت ، أ : "يسرونه".
[14485]:- في ت : "تكتم".
[14486]:- في ت : "فينتقم".
[14487]:- البيت في تفسير الطبري (15/233).
[14488]:- في ت ، أ : "ثنى عنه".
[14489]:- في ت ، أ : "الضمير أولا".
[14490]:- في ت ، أ : "يثنوني".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَلَآ إِنَّهُمۡ يَثۡنُونَ صُدُورَهُمۡ لِيَسۡتَخۡفُواْ مِنۡهُۚ أَلَا حِينَ يَسۡتَغۡشُونَ ثِيَابَهُمۡ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (5)

قيل : إن هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر{[6251]} ، وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعداً منه وكراهة للقائه ، وهم يظنون أن ذلك يخفى عليه وعلى الله عز وجل فنزلت الآية في ذلك .

و { صدورهم } منصوبة على هذا ب { يثنون } . وقيل : هي استعارة للغل والحقد الذي كانوا ينطوون عليه كما تقول : فلان يطوي كشحه على عداوته ، ويثني صدره عيلها .

فمعنى الآية : ألا إنهم يسرون العداوة ويتكتمون بها لتخفى في ظنهم عن الله ، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون .

وقرأ سعيد بن جبير «يُثنُون » بضم الياء والنون من أثنى ، وقرأ ابن عباس «ليثنوه » ، وقرأ ابن عباس أيضاً ومجاهد وابن يعمر{[6252]} وابن بزي ونصر بن عاصم والجحدري وابن إسحاق وابن رزين{[6253]} ، وعلي بن الحسين وأبو جعفر محمد بن علي ويزيد بن علي وجعفر بن محمد وأبو الأسود{[6254]} والضحاك . «تثنوني صدورُهم » برفع الصدور وهي تحتمل المعنيين المتقدمين في { يثنون } وزنها تفوعل على بناء مبالغة لتكرار الأمر ، كما تقول اعشوشبت الأرض واحلولت الدنيا ونحو ذلك{[6255]} . وحكى الطبري عن ابن عباس على هذه القراءة أن هذه الآية نزلت في أن قوماً كانوا لا يأتون النساء والحدث إلا ويتغشون ثيابهم كراهية أن يفضوا بفروجهم إلى السماء . وقرأ ابن عباس - فيما روى ابن عيينة - «تثنو » بتقديم الثاء على النون وبغير نون بعد الواو{[6256]} ، وقال أبو حاتم هذه القراءة غلط لا تتجه{[6257]} ، وقرأ نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق «ينثوي » بتقديم النون على الثاء ، وقرأ عروة وابن أبي أبزى والأعشى «تثنَون » بثاء مثلثة بعدها نون مفتوحة بعدها واو مكسورة ، وقرأ أيضاً هما{[6258]} ومجاهد فيما روي عنه «تثنان » بهمزة بدل الواو وهاتان مشتقة من الثن وهي العشب المثني بسهولة{[6259]} ، فشبه صدورهم به إذ هي مجيبة إلى هذا الانطواء على المكر والخدع : وأصل «تثنون »{[6260]} تثنونن سكنت النون المكسورة ونقلت حركتها إلى الواو التي قبلها وأدغمت في النون التي بعدها ، وأما «تثنان » فأصلها تثنان مثل تحمار ثم قالوا : اثنانت كما قالوا احمار وابياض{[6261]} ، والضمير في { منه } عائد على الله تعالى ، هذا هو الأفصح الأجزل في المعنى وعلى بعض التأويلات يمكن أن يعود على محمد صلى الله عليه وسلم ، و { يستغشون } معناه يجعلونها أغشية وأغطية ومنه قول الخنساء : [ البسيط ]

أرعى النجوم وما كلّفت رعيتها*** وتارة اتَغَشَّى فضل أطماري{[6262]}

وقرأ ابن عباس «على حين يستغشون » ومن هذا الاستعمال قول النابغة : [ الطويل ]

على حين عاتبت المشيب على الصبا*** وقلت ألمّا أصحُ والشيبُ وازع{[6263]}

و { ذات الصدور } : ما فيها ، والذات تتصرف في الكلام على وجوه هذا أحدهما كقول العرب : الذئب مغبوط بذي بطنه{[6264]} أي بالذي فيه من النفخ وكقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه : إنما هو ذو بطن بنت خارجة ، والذات التي هي حقيقة الشيء ونفسه قلقة في هذا الموضع ؛ ويحتمل أن يفرق بين ذي بطنه وبين الذات وإنما يجمع بينهما المعنى .


[6251]:- ثنى الشيء ثنيا: عطفه ورد بعضه على بعض، ويقال: ثنى صدره على كذا: طواه عليه وستره. (المعجم الوسيط).
[6252]:- اسمه يحيى بن يعمر بفتح الياء والميم وسكون العين بينهما، أبو سليمان العدواني البصري، تابعي جليل، عرض على عمر، وابن عباس، وأبي الأسود الدؤلي، وعرض عليه أبو عمرو بن العلاء، توفي سنة 90هـ- (طبقات ابن الجزري).
[6253]:-هو مسعود بن مالك، (ويقال: ابن عبد الله) أبو رزين الكوفي، روى عن ابن مسعود، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وروى عنه الأعمش (طبقات ابن الجزري)
[6254]:- هو ظالم بن عمرو بن سفيان أبو الأسود الدؤلي، ثقة جليل، أول من وضع مسائل في علم النحو بإشارة من علي بن أبي طالب، أخذ القراءة عرضا عن عثمان بن عفان، وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنهما، وروى القراءة عنه أبنه أبو حرب، ويحيى بن يعمر، توفي بالبصرة سنة 69هـ. (المصدر السابق).
[6255]:- كقولهم: "اخلولقت السماء للمطر"، إذا قويت أمارة ذلك، و"اغدودن الشعر" إذا طال واسترخى، وأنشد أبو علي لحسان: وقامت تُرائيك مغدودنا إذا ما تنوء به آدها ومنه قول الشاعر: لو كنت تعطي حين تسأل سامحت لك النفس واحلولاك كل خليل
[6256]:-قال أبو حيان في "البحر": على وزن ترعوي.
[6257]:- إنما قال ذلك لأنه لاحظ الواو في هذه الفعل، لا يقال: ثنوته فانثوى، كما يقال: رعوته فارعوى، أي: كففته فانكف. قاله في "البحر المحيط".
[6258]:-تأمل قوله: "هما"، والمتقدم ذكرهم ثلاثة هم: عروة، وابن أبزى، والأعمش، ولعله أراد الأخيرين فقط.
[6259]:-قال أبو الفتح في المحتسب: وتشنون وتثنئن من لفظ الثن ومعناه، وهو ما هش وضعف من الكلأ، وأنشد أبو زيد، ورويناه عنه: يأيها الفصيّل المعنّي إنك ريّان فصمت عني يكفي اللقوح أكلة من ثن والأبيات في (اللسان- ثنن)، وشرح ابن عطية للثنّ يلتقي مع هذا المعنى فهو العشب المثني بسهولة، وقد جاءت الكلمة في بعض النسخ: "العسيب" بدلا من "العشب"، وهي بعيدة في معناها عن المراد.
[6260]:- يعني على قراءة عروة، وابن أبزى، والأعمش.
[6261]:- قال أبو الفتح: "أصله (تثنان) فحركت الألف لسكونها وسكون النون الأولى، فانقلبت همزة، وعليه قول دكين: راكدة مخلاته ومحلبه وجله حتى ابيأض ملببه يريد: ابياض فحرك الألف فهمزها، والملبب: موضع اللّبّة، وهو وسط الصدر". ثم قال أبو الفتح: "ذهب أبو إسحاق إلى أن "تثنئنّ" أصلها: "تثنون" فهمزت الواو لانكسارها، ومذهب أبي إسحاق هذا مردود".
[6262]:- أنشد صاحب اللسان هذا البيت في (رعى) قال: ورعى النجوم رعيا وراعاها: راقبها وانتظر مغيبها، قالت الخنساء: أرعى النجوم..البيت. واستغشى بثوبه وتغشّى: تغطّى، والأطمار: جمع طمر وهو الثوب الخلق، ومنه الحديث (رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبرّه).
[6263]:-البيت من قصيدة للنابغة يمدح فيها النعمان، ويعتذر إليه مما وشت به بنو قريع، ومعنى (على) هنا: (في)، لأنه في البيت السابق يقول: فكفكفت مني عبرة فرددتها على النحر منها مستهل ودامع فهي مثل (على) في قوله تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها}، والمعنى: كفكفت الدمع في وقت عتابي لنفسي عند مشيبها، وقد جعل العتاب للمشيب على سبيل المجاز، و(على الصبا) متعلق بـ(عاتبتُ)، أي: عاتبته على فعل التصابي الذي لا يليق به، وقد تقدم الاستشهاد بالبيت عند تفسير قوله تعالى: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} الآية (119) من سورة (المائدة).
[6264]:-ويروى: "الذئب يغبط بغير بطنة"، و"ذو بطنة": ما في بطنه، ويقال: ذو البطن: اسم للغائط، يقال: ألقى ذا بطنه إذا أحدث، قال أبو عبيد: وذلك أنه ليس يظن به أبدا الجوع، إنما يظن به البطنة لأنه يعدو على الناس والماشية، قال الشاعر: ومن يسكن البحرين يعظم طحاله ويغبط ما في بطنه وهو جائع وقال غيره: إنما قيل فيه ذلك لأنه عظيم الجفرة أبدا لا يبين عليه الضمور وإن جهده الجوع، وقال الشاعر: *لكا لذئب مغبوط الحشا وهو جائع* (مجمع) الأمثال للميداني. ج1 ص 387- الحياة. بيروت).